رُوزنامةُ الأسبوع ـ عَقَارِبُ قُنْدُهَار‎


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 7365 - 2022 / 9 / 8 - 16:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإثنين
طبيعي جدَّاً أن يسارع أهل المنابر الدِّيموقراطيَّة، والمنصَّات الثَّوريَّة، لتهنئة الصَّحفيِّين السُّودانيِّين بإعادتهم تأسيس نقابتهم المهنيَّة عبر الانتخاب الحرِّ لنقيبهم عبد المنعم ابو ادريس، ولمجلس نقابتهم، حيث كاد المهنِّئون يجمعون، بحق، على اعتبار أهمِّ دروس هذا الحدث، الذي ثقب الصَّحفيُّون به عين الشَّيطان، أنه تجربة ملهمة للآخرين كي يقْدْموا، بدورهم، على بناء مؤسَّساتهم النَّقابيَّة المستقلَّة، بعد غياب دام عشرات السَّنوات ظلَّت خلالها هذه النَّقابات محض أبواق وأدوات لحشد التَّأييد للنِّظام البائد ورئيسه! كما كانت لجان المقاومة محقَّة، تماماً، عندما وصفت هذه الانتخابات بأنها «أولى الخطوات العمليَّة للثَّورة». وبالفعل، جاء أوَّل غيث الاستجابة لهذه الدَّعوة عبر مبادرة تأسيس نقابة أساتذة جامعة النِّيلين، حيث ما كادت انتخابات الصَّحفيِّين تنتهي، حتَّى دعت هذه المبادرة جميع الأساتذة ومساعدي التَّدريس بجامعة النيلين للإسراع بملء استمارات العضويَّة، وطلبات المشاركة في اجتماع الجَّمعيَّة العموميَّة، لانتخاب اللجنة التَّمهيديَّة لهيئتهم النَّقابيَّة.
في هذا الاتِّجاه لا بُدَّ مِن تحذير المناضلين النَّقابيِّين عامَّة مِن إعطاء آذانهم للنَّاعبين الذين لا يكفُّون عن رمي هذه العمليَّة باللاشرعيَّة، وبأنها تتمُّ دون قانون يحكمها، إذ كفى بعقد الجَّمعيَّات العموميَّة الشَّرعيَّة، ومشاركة أغلبيَّة العاملين فيها، وإصدارهم القرارات الحاسمة على هذا الصَّعيد، قانوناً يمكِّن من ممارسة هذا الحقِّ الدِّيموقراطي، الأمر الذي يعترف به القانون الدَّولي. كما ينبغي ألا ننسى، مثلاً، في المستوى العملي، أن تأسيس «هيئة شؤون العمَّال 1945م» التي صارت، لاحقاً، «نقابة عمال السِّكَّة حديد1948م»، قد جاء سابقاً على قانون النَّقابات، مثلما جاء تأسيس «الاتِّحاد العام لنقابات عمال السُّودان 1949م»، سابقاً بزهاء العشرين سنة على صدور القانون الذي ينظِّم تسجيله خلال النِّصف الثَّاني من السِّتِّينات. ولو كان كبار القادة النَّقابيِّين الذين بادروا بالوقوف الصَّلب خلف تلك الانجازات قد امتثلوا للمزاعم التَّخذيليَّة بشأن وجوب أسبقيَّة صدور القانون على الممارسة الدِّيموقراطيَّة بإنشاء هذه الأجسام، أو ضيَّعوا الوقت في الانجرار وراء الجَّدل الفارغ حول القضايا التي لا معنى لها، لما كانت الحركة العماليَّة قد امتلكت، في أيِّ وقت، مثل هذه الكيانات الكفاحيَّة العظيمة!
ويكفي للرَّدِّ على مَن يثيرون التَّساؤل التَّشكيكي حول كيفيَّة التَّحقُّق من مشروعيَّة عقد الجَّمعيَّات العموميَّة ذاتها التي تنشئ هذه الكيانات، أن نشير إلى الإجراءات الدِّيموقراطيَّة التي تصاحب التَّحضير، ولا بُدَّ، لهذه الجَّمعيَّات، بغرض انتخاب اللجان التَّمهيديَّة، مِن ملء لاستمارات طلبات العضويَّة، والتَّوقيع على البيانات الخاصَّة برفض الانقياد لنقابات السُّلطة البائدة، ورغبة طالبي العضويَّة في الانضمام إلى النقابات المستقلَّة، ورغبتهم، من ثمَّ، بالمشاركة في هذه الجَّمعيَّات العموميَّة.

الثُّلاثاء
تنتشر، منذ حين، نظريَّات تركِّز على مهاجمة الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين لوقوفهم ضد أمريكا، والغرب عموماً، ساعية لتصوير هذه القوى كحليفة لبلادنا، وللقول بأن الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين يغلقون، في نفس الوقت، أعينهم، ويصمُّون آذانهم، عن مواقف روسيا والصِّين المعاديتين لشعوبنا، كما لو آن هؤلاء الشِّيوعيِّين متحالفون معهما!
هذه نظريَّات غريبة، والأغرب منها مصادرها التي يصعب تصديق جهلها بمتغيِّرات الأوضاع السِّياسيَّة الدَّوليَّة في الوقت الرَّاهن، إلى حدِّ الخلط المريع بين روسيا الشِّيوعيَّة سابقاً، وروسيا الرَّأسماليَّة حاليَاً، وإلى حدِّ عدم الإدراك التراجيدي لموقف الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين الحقيقي مِن الصِّين حزباً وحكومة!
أمَّا في ما يتَّصل بالموقف النَّاقد لأمريكا بالذَّات، فإن عين الرِّضا عنها هي وحدها التي لا ترى عيباً في كونها لم تعيِّن سفيراً لها بالخرطوم طوال فترة حمدوك، بينما عيَّنته الآن تحت سلطة «الأمر الواقع» الانقلابيَّة! ولو كان المنطق وراء ذلك هو ارتباط ترفيع مستوى التَّمثيل الدِّبلوماسي بمسألة العقوبات، فإنه مردود عليه من زاويتين: الأولى هي أن مسألة العقوبات عولجت على أيَّام حمدوك، بينما التَّرفيع جرى في عقابيل انقلاب 25 أكتوبر! أمَّا من الزَّاوية الأخرى، فإن لأمريكا «سفيراً» في موسكو الآن، بل منذ ما قبل الحرب الرُّوسيَّة على أوكرانيا!
وحتَّى إذا غضضنا الطَّرف عن دلالة هتين المفارقتين بشأن مسألة التَّرفيع، فمِن الصَّعب غضُّ الطَّرف عن دلالة المسألة المتعلِّقة بإجراءات تقديم أوراق اعتماد السفير الأمريكي الجَّديد جون غود فري! ذلك أنه، على حين استقبل البرهان كلَّ السُّفراء الجُّدد إلى الخرطوم قبله، مرتدياً البزَّة المدنيَّة، تعمَّد أن يستقبل غود فري بالبزَّة العسكريَّة الكاملة! ولئن لم يكن لأحدٍ أن ينفي عن هذه المسألة الدِّبلوماسيَّة أيَّة رمزيَّة خاصَّة، فإنه ليس لأحد أن يتَّهم أمريكا بنقصان الحساسيَّة إزاء هذا النَّوع الخاصِّ مِن التَّرميزات السُّلوكيَّة على صعيد العلاقات الدَّوليَّة! فعلى حين كان سفيرها يتهيَّأ لتقديم أوراق اعتماده إلى قائد الانقلاب في الخرطوم، كانت الشَّوارع السُّودانيَّة تغلي ضدَّ نظام العسكر، مطالبة بمدنيَّة الحكم، فمن غير المحتمل ألا تكون مخابرات أمريكا على علم بما يخطِّط له الجَّنرال!وطالما كان ذلك كذلك، فالسُّؤال المنطقي هو لماذا «تهاونت» الإدارة الأمريكيَّة تجاه هذا الأمر؟! ولماذا صار «هيِّناً»، بينما هو بكل المعايير الدِّبلوماسيَّة «غيرُ هيِّن»؟!
الإجابة لدى جارد كوشنر، صهر الرَّئيس الأمريكي السَّابق ترامب، ومساعده، في كتابه الصَّادر حديثاً بعنوان «Breaking History»، والذي أضاء فيه بعض عتمة هذه المسألة، حيث أفاد بأن التَّفاوض مع شخصيَّات لجنة البشير الأمنيَّة قد جرى على قبول التَّطبيع مع إسرائيل، وتيسير إبرام «اتِّفاق ابراهام»، مقابل تعهُّد أمريكا بحماية هؤلاء من أيِّ اتِّهامات ربَّما تطالهم بشأن ما قد يكونوا ارتكبوه خلال النِّظام البائد؟! فهل يتبقَّى، بعد هذا، ما يمكن وصفه بأنه «غير هيِّن»!

الأربعاء
ما أن يعرج «الأفنديَّة»، خلال مؤانساتهم المسائيَّة، إلى حديث الاقتصاد، حتَّى يستغرقهم استحضار المصطلحات الأجنبيَّة، من خلال اندماجهم في سيرة «ساس يسوس»، ممزوجة بالصُّور الذِّهنيَّة للمشاريع الزِّراعيَّة المعطَّلة، والصِّناعات التَّحويليَّة المتوقِّفة، مع ارتفاع حرارة المناقشات بين الانحياز الأعمى إلى النَّظريَّات الغربيَّة في التَّطوُّر، من جهة، وبين التَّحسُّر الأعمى، هو الآخر، على الشُّروط المجحفة لصناديق الإقراض الإقليميَّة والدَّوليَّة، دون أن يفكِّروا، لحظة واحدة، في رفع الرؤوس، وتدقيق النَّظر، عساهم يرون أبعد قليلاً من أرانب أنوفهم، أو مواطئ أقدامهم! فعلى هذه المسافات تترامى آفاق ربَّما تلهم برؤى جديدة غير تلك التي أعيت منهم الأبصار، وعوَّدتهم على الانحباس بين جُدُرها الشَّائهة! من هذه الآفاق رؤى تتجاوز ضيق السَّائد، وخنقة المعتاد، لتنفتح على ما لا حصر له من الجَّديد الذي لا سبيل إليه برِّئات الكتب المعبَّأة بالجَّليد، ومفاصل الفكر المحتشد بالرُّطوبة الملحيَّة! فقد أقدم، مثلاً، رجل الأعمال الأفغاني أحمد شاه على إنشاء مزرعة في ولاية قندهار، بجنوب أفغانستان، لإنتاج .. «السُّم»! هذه المزرعة الأولى من نوعها تحتوي على 6000 عقرب و800 أفعى، مِمَّا لا يمكن جمعه في طقس غير هذا الحار الجَّاف! ويقول شاه: «جمعنا هذا الكمِّ الهائل .. بمساعدة النَّاس، وندفع لهم مقابل كل عقرب وحيَّة، وهكذا نستثمر فيها، وفي ذات الوقت نحافظ عليها من الانقراض»!
يُستحلب سمُّ العقارب مرة كلَّ 3 أشهر. ووفق تقدير شاه سيتضاعف العدد 3 مرات مستقبلاً. فعدد أنواع العقارب في العالم أكثر من 2000، منها 30 ــ40 نوعاً سامَّاً بما يكفي لقتل الإنسان، ويوجد، في أفغانستان وحدها، 22 نوعاً، بالإضافة إلى 13 نوعاً من الثَّعابين السَّامة، معظمها في الولايات الجَّنوبيَّة! ويصف شاه إنتاج مزرعته من السُّمِّ بـ «الجَّودة»، وفق المعايير الدَّوليَّة، وبفضل جفاف الطَّقس! ويقول إن ذلك «وفَّر فرص عمل لنحو 300 شخص، حيث يتَّجه المزيد من الشَّباب نحو هذا النَّوع من العمل»! ومن واقع خبرته يؤكِّد شاه أن «أنثى العقرب تلد ما بين 30 إلى 60 عقرباً، في يونيو ويوليو، عقب موسم تزاوجها في أبريل». وإلى جانب ذلك تعتمد مزرعة شاه على «ما يصطاده المتعاونون معها في رحلات صيدهم للعقارب، وعددهم بين 50 ــ 120 شخصاً، مقابل أجر أسبوعي يصل إلى 200 دولار أميركي».
إنتاج المزرعة يُصدَّر إلى الإمارات وإيران، حيث يُستخدم في الصِّناعات الدَّوائيَّة. وكان الطُّموح أن يصل التَّصدير إلى أوربَّا أيضاً، لولا المكابدات والعراقيل السِّياسيَّة والأمنيَّة مع القاعدة، وطالبان، وداعش، والعقوبات الأميركيَّة والأجنبيَّة التي فُرضت على أفغانستان، وأثَّرت على أوضاعها الاقتصاديَّة والمعيشيَّة بصورة ملموسة! وتنتج كلُّ ألف عقرب نحو جرام ونصف من السُّم. وتستغرق عمليَّة استخراجه ما بين 10 إلى 20 يوماً. ويبلغ سعر الجرام الواحد من سُمِّ العقارب 1000 دولار أمريكي، ومن سُمِّ الأفاعي 1500 دولار أميركي، ويتراجع الانتاج في فصل الشِّتاء، مِمَّا يؤثِّر على الأسعار عموماً. ويقول مسؤولو المزرعة إنهم جمعوا من سُمِّ العقارب والثَّعابين، خلال الأشهر السِّتَّة الماضية، ما يقرب من 400 جرام يطالبون الحكومة، الآن، بمساعدتهم على تصديرها!
هذا نموذج ملهم من بلد عالمثالثي، وإن كان غارقاً مثلنا، نحن السُّودانيِّين، ومثل سائر بلدان الفشل التَّاريخي، المسمَّاة بـ «النَّامية»، في ارتباكات الحروب، وفوضى العنف، وتخبُّط الخيارات، والاصطدام بالعالم، والتَّدخُّلات الأجنبيَّة! ولنا أن نتصوَّر القدر من النَّجاحات التي يمكن لهذه البلدان تحقيقها في ما لو انصرف تفكيرها نحو انتاج معينات مادِّيَّة للتَّنمية بخلاف تلك الأنماط المعتادة، أو ركَّزت، في رأس أولويَّاتها، على النَّبش عمَّا يساعدها في إنجاز التَّنمية داخل واقعها البيئي الذي لا يماثله أيُّ واقع آخر!
مثل هذا النَّشاط الاقتصادي ليس معتاداً في السُّودان، إلا أنه ليس منعدماً تماماً، أيضاً، فقد افترعته، مؤخَّراً، كوثر السَّماني، سيِّدة الأعمال التي تنشط في مجال جمع، وتجفيف، وتجارة العقارب «الميتة»، والتي يبلغ سعر الكيلو منها 7 دولارات! على أن الغرض من ورائها، وإن لم يكن غير بعيد، تماماً، عن صناعة العقاقير الطِّبِّيَّة، ليس متطابقاً مع الغرض من عقارب قندهار. وبما أن لله في خلقه شؤون، فعقارب قندهار يُستفاد من سمِّها طبِّيَّاً، أمَّا عقارب السُّودان فيستفاد من جلِّها كوجبات غذائيَّة شهيَّة على موائد الشَّرائح الطبقيَّة العليا من مجتمعات البلدان التي يتمُّ تصدير كميَّات كبيرة منها إليها، كالصِّين على سبيل المثال!
وتفيد كوثر بأن المشروع آية في البساطة، إذ يعتمد جمع العقارب السُّودانيَّة، بالأساس، على الأيدي العاملة في العديد من المناطق، كالقولد ودنقلا في الشَّمال، وكسلا في الشَّرق، والدَّمازين على النِّيل الأزرق. مع ذلك، وكالعادة، يكمن أغلب ما تعانيه من مشكلات في العوائق البيروقراطيَّة! فعلى الرُّغم من عدم وجود أيِّ قانون داخلي أو دولي يحول دون هذا النَّشاط، إلا أن السُّلطات الحكوميَّة، في الولايَّات كما في المركز، ما تنفكُّ تضع العراقيل أمامه، إذ ليس نادراً ما ترفض السَّماح بالتَّصدير، حتَّى بعد التَّأكُّد من سلامة كلِّ الإجراءات، وبعد أن تكون جميع الشُّحنات جاهزة، ومصدَّقاً بها، وفي آخر مراحل الإعداد للإرسال!
وترى كوثر، والحقُّ معها، أنه، إذا ما اعتُني بهذا النَّوع من النَّشاط الاقتصادي، وسُهِّلت متطلَّباته، وكُفَّت عنه التَّعقيدات الاجرائيَّة، والاستنزاف الضَّرائبي، فسيتطوَّر، حتماً، ويزدهر، ويسهم في رفد الخزينة العامَّة بالعملات الأجنبيَّة، ويشكِّل، عموماً، مورداً مهمَاً من موارد البلاد الاقتصاديَّة والتَّنمويَّة.

الخميس
رحم الله صديقي وأستاذي ميرغني حسن علي، شقَّ عليَّ نبأ رحيله عن الفانية، وما علمت به إلا متأخِّراً جدَّاً للأسف. وقد زاملته في جريدة «الضِّياء»، بديل «الميدان» بعد حلِّ الحزب، حيث كان سكرتيراً للتَّحرير. وكان، فضلاً عن علاقاتنا الأسريَّة في ستِّينات القرن الماضي، مِن أوائل مَن رعوا خطواتي الأولى في دروب الكتابة وفنون الصَّحافة، ويا طالما علَّمني أحرفاً في المهنة ما تزال، حتَّى الآن، بعض زادي، على قلته، مِمَّا يستوجب منِّي الاعتراف له بالفضل، وإزجاء أجزل آيات الشُّكر، فقد جاء يوم شكره. اللهمَّ إنَّا لا نزكِّيه عليك، لكنَّا نشهد بأنه عاش فقيراً، ومات فقيراً، وكانت غاية ما يتمنَّى أن يُبعث في زمرة المساكين، فاغفر له، يا ربُّ، واسكنه جنانك العُلى، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

الجُّمعة
في الحلقة السَّادسة من مقالته «الشُّعراءُ المُدَجَّنون»، ضمن سلسلة «ظواهر سلبيَّة في مسيرة الشُّعراء»، بدوريَّة «ديوان العرب»، بتاريخ السَّبت 12 أغسطس 2017م، استشهد فراس حج محمَّد بما كان جهاد فاضل قد ختم به مقالته «الجواهريُّ ودرويشٌ واسترداد القصائد»، قائلاً: «إنّ الانتصار على (الضَّعف الفنِّيِّ) قابل للتَّحقيق، ولكنّ المشكلة تكمن في (الشِّعر السِّياسيِّ) على الأرجح، فهذا هو الَّذي يورث النَّدم، ويدفع إلى التَّفكير بالاسترداد»، فهل سينجح الشّعراء في الاعتذار عن تلك القصائد الّتي بدوا فيها مدجَّنين سياسيَّاً ليمدحوا حاكماً ما، ويهجوه بعد ذلك، لا سيَّما وأنّ العلاقة بين الشَّاعر والحاكم لم تكن، يوماً، سويَّة، وإن جمعتهما علاقة ودٍّ، إلَّا أنَّها لن تدوم طويلاً؟! فكم شاعراً سينجو من هذا الفخِّ الّذي يقتل الشِّعر والشَّاعر؟! وهل مقدَّر على الشُّعراء أن يعيشوا خارج أوطانهم، ليظلّوا أحراراً، كالشَّاعر أحمد مطر الّذي طُرد، منذ عقود، من الكويت، بسبب أشعاره السَّاخرة؟! وهل مقدَّر على الشَّاعر أن يموت في غربته وهو متشبِّث بحرِّيَّته، ليظلَّ محلِّقا يستعلي على كلِّ سلطة، رافضاً التَّدجين، حتَّى لا يقدِّم دمه على مذبح الحرِّيَّة المسنون؟! وهل مقدَّر على الشّعراء أن يتعرَّضوا للمحاكمات الجَّائرة، فيُسجنون، ويُطردون من وظائفهم، ويُحاصرون ماديَّا ومعنويَّا، وتُسحب دواوينهم من الأسواق، وتُمنع من دخول بعض الدُّول، ومن المشاركة في المعارض الدَّوليَّة للكتب؟! علينا إذن، والحالة كما نرى، أن نستذكر الشُّعراء الشُّهداء، شهداءُ المواقف النِّضاليَّة الشِّعريَّة الكبرى، هؤلاء هم الشُّعراء الحقيقيُّون، وليسوا المدجَّنين، الخانعين، الّذين صاحبتهم هذه الصِّفة، وإن اعتذروا عن قصائد ارتكبوها في لحظة ضعف»!

السَّبت
لم يفُتْ فراسةَ النَّاس الثَّوريَّة المنتبهة أن تلتقطُ، فوراً، «ما ورائيَّات» النَّوايا في إعلان مدير الشُرطة عن اعتزامه، بوجه خاصٍّ، تأسيس إدارة باسم «الشُّرطة المجتمعيَّة»! فقد سارعت الأذهان المنتبهة للرَّبط، جيِّداً، بين «شرطة النِّظام العام» وبين الاسم الذي أطلق عليها، رسميَّاً، في أخريات أيَّامها، وهو «شرطة أمن المجتمع»، من جهة، وبين الإدارة الجَّديدة المراد إنشاؤها لـ «الشُّرطة المجتمعيَّة» من جهة أخرى! وحتَّى الذين انتقدوا الاعتراض على هذه الإدارة الجَّديدة لم يستطيعوا أن يفرِّقوا، تماماً، بينها وبين «شرطة النِّظام العام»، فطفقوا «يجرحون» و«يداوون» في ذات الجملة الواحدة! فقد كتب، مثلاً، د. حسن التِّجاني بصحيفة «الانتباهة»، بتاريخ 24 أغسطس المنصرم، تحت عنوان «بين الشُّرطة المجتمعيَّة والنِّظام العام كالذي بين الشَّكِّ والظَّنِّ!»، قائلاً: إن ثمَّة «خيطاً رفيعاً جدَّاً بين الشُّرطة المجتمعيَّة والنِّظام العام، لكنه (في نفس الوقت) خيط غليظ ومتين جداً»! فإن لم يكن في هذا تناقض، فكيف يكون التَّناقض إذن؟! والحقيقة أنه ليس بين الاثنين خيطٌ، لا رفيعٌ ولا غليظ، حيث لا وجود، في الأصل، لأيِّ خيط على الاطلاق! بل إننا، بالعودة إلى إعادة تسمية «النِّظام العام» بـ «أمن المجتمع»، في إطار النِّظام البائد، نجد أن الرَّغبة في المطابقة بينهما كامنة، بشكل صميم، في صلب ذلك الإجراء! وبما أن المطلوب من كلتي المؤسَّستين تطبيق نفس «القانون» على نفس «الحالات»، فإنه يلزمنا تعريف «القانون» بأنه جملة «القواعد» التي تفرضها «الدَّولة» لضبط سلوك الناس وفق ما تقرِّره سلطة الطَّبقة السَّائدة اقتصاديّاً، وسياسيّاً، واجتماعيَّاً. بعبارةٍ أخرى، ومع كون «القانون»، في المجتمع الطبقي، يمثل، افتراضاً فقط، أرفع المُثل والقيم الحاكمة للعلاقات بين أفراده، من جهة، ولعلاقاتهم مع مؤسساته من جهة أخرى، فإن مضمونه يعكس، فقط، جِمَاع الرُّؤى الرَّامية لحماية مصالح الطَّبقات، والفئات، والشَّرائح السَّائدة اقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، أي كتلة الأقليَّة في المجتمع. ومع ذلك فإن «الدَّولة»، التي هي توأم هذا «القانون»، تحتاج، في سبيل إنفاذه، إلى ترسانة من أجهزة القمع، وتدابير الإكراه. وبالنتيجة فإن أداة «القانون» التي تتمظهر، عادةً، كقوة خارجيَّة تقف فوق الجميع، وعلى الحياد من المصالح الطبقيَّة المتعارضة، هي مجرَّد أداة قسر «طبقيَّة» تجبر الأغلبيّة على التزام سلوكياتٍ بعينها، وألوان محدَّدة من النَّشاط، بما يتَّسق مع مصالح وأخلاقيَّات هذه الطَّبفات السَّائدة. وهكذا، فإن مفهوم «القانون»، بهذه الدلالة، غالباً ما يلتبس، إذ على حين يدَّعي الإحاطة بقيم ومثل المجتمع كله، فإنما يعبّر، في حقيقته، وبشكلٍ قامع، عن أفق التصوُّرات القيميَّة والمعرفيَّة المحدودة لجزء صغير من هذا المجتمع!
«القانون»، إذن، بهذه الكيفيّة، مؤسَّسة اجتماعيَّة، شكل تاريخي يضبط حياة الناس، ويتحدَّد بـ «أسلوب الانتاج» في المجتمع المعيَّن، وطابع العلاقات بين مختلف طبقاته. وهكذا لا يُعقل تصوّر «القانون» بدون «الدَّولة» في التَّاريخ، والعكس صحيح؛ إنهما توأم سياميٌّ تصعب رؤيتهما إلا من خلال الصِّلة العميقة التي تربطهما بمعارف أخرى كـ «الاقتصاد السِّياسي»، و«علم الاجتماع»، و«العلوم السِّياسيَّة»، و«علم الانثروبولوجيا»، و«الفلسفة»، وما إليها.
ومفهوم «النِّظام العام» نفسه لا يقلُّ التباساً عن مفهوم «القانون» حين يتبعه في مدار التعبير، ليس عن منظومة القيم التي يُفترض، نظريَّاً، وبمعايير المثال الإنساني الأعلى الذي يتشكّل تاريخيّاً، بتراكميّة تلقائيّة، في مستوى البنية الفوقية للمجتمع super -structure ، أن تكون مشتركةً بين كافة الطبقات والفئات والشَّرائح الاجتماعيَّة، وإنما عن منظومة التصوّرات القمعيَّة الخاصَّة بالطَّبقة السَّائدة، حماية لمصالحها في السُّلطة والثَّروة. فعادة ما يجري تصوير «النِّظام العام/ الأمن المجتمعي»، من قبل السُّلطة السِّياسيَّة، ومؤيِّدوها، كما لو كان نسقاَ متجانساً من قواعد السُّلوك الأخلاقي الرَّاقي الذي تتوفر فيه عناصر «الحق والخير والجمال»، وينبع من ثقافة الجَّماعة كلها، ويحظى، لهذا السَّبب، بإجماعها التِّلقائي، كما تحظى بهذا الاجماع، أيضاً، أدوات تطبيق هذا «النِّظام/ الأمن»، من شرطة، ونيابات، ومحاكم! غير أن هذا المفهوم سرعان ما يتَّضح التباسه حين يضحى نفاذه مدخولاً بدلالة «القانون» القمعيَّة مقطوعة الصِّلة بأبسط معاني «التلقائية الأخلاقيَّة»!

الأحد
من أبدع ما كُتب حول شعر الحقيبة، لفتُ عبد الله حميدة الأنظار إلى العبارات والألفاظ الأفرنجيَّة في بعض قصائدها، دليلاً على إلمام شعرائها بمصادر ثقافيَّة خارج بيئتهم، وتسلُّل التَّأثير الثَّقافي، والمعرفي، واللغوي، عموماً، من بيئة المستعمر الاوربِّي إلى معارف شعوب المستعمرات، آنذاك، والسُّودان من بينها، وتلك، بلا شكٍّ، ظاهرة إنسانيَّة طيِّبة. وكأحد الشَّواهد السَّاطعة على ذلك، انتخب حميدة، من قصيدة «جناين الشَّاطي»، قول الخليل: «حيِّي زهرة روما/ وأبكي يا مغروم»! وقوله في موضع آخر منها: «شوف وريدها الماثل/ زي زجاجة روم»! وفي موضع ثالث: «الصِّدير الطَّامح/ زي خليج الرُّوم»! هكذا تشكَّلت ثقافة «الرُّوم» في ذهنيَّة الخليل، لتنعكس، بمثل هذه التِّلقائيَّة والسَّلاسة، على شعريَّته. فهو يعرف مدينة «روما» عاصمة ايطاليا، ويعرف «خليج الرُّوم» الذي يتألَّف من مضيقي «البسفور» و«الدردنيل»، من اطراف «بحر الرُّوم» الذي هو البحر الابيض المتوسط، مستخدماً «الجِّناس التَّام» في لفظ «روم»، مرَّة بمعناها الجُّغرافي، ومرَّة أخرى بمعنى أبعد ما يكون عن ذلك، حيث الإشارة في عبارة «زجاجة روم» إلى خمر «الرَّم Rum»، ما يقفز إلى الذِّهن بالسُّؤال عمَّا إذا لم يكن الخليل قد اطَّلع، في مكتبة الكليَّة القديمة، على رواية «جزيرة الكنز Treasure Island» للكاتب روبرت لويس ستيفنسون، وضمنها على عبارة القرصان لونق جون سيلفر الشَّهيرة، والتي كان التَّلاميذ يحفظونها، ويحلو لهم أن يردِّدوها: “!Yo ho ho/And a bottle of rum”
انتخب حميدة، كذلك، في معرض تأكيده على الظَّاهرة، باستعارة سيِّد عبد العزيز كلمة «البسفور» في قصيدة «صباح النُّور»، قائلاً: «أنا دمعي بحور/ مجرى البسفور»! وبمقارنته عيون حبيبته، في قصيدته «ما معيون»، بهيبة الشَّخصيَّات الأوربيَّة التَّاريخيَّة: «لحاظا تخيف قايد المليون/ وترهب عنتر ونابليون»! وبوصفه جمالها وقد فاقت «ماتريد»، ملكة جمال اليونان وقتها: «سيدة وجمالا فريد/ خلقوها زي ماتريد»!
استشهد حميدة، أيضاً، بود الرَّضي في مدح من يفوق مقامه، عنده، مقام العظماء: «ظلموك لو قاسوك بنابليون»! كما استشهد بقوله، في قصيدته «بت ملوك النيل»، يصف جمال الفتيات السُّودانيَّات: «ماخدات في الجَّمال جائزة نوبيل»، مومئاً إلى الجَّائزة العلميَّة العالميَّة الرَّفيعة: «Nobel Prize»!

***