روزنامةُ الأسبوع ـ بروفيسوراتُ البَاديَة!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 7356 - 2022 / 8 / 30 - 04:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الاثنين
في الدَّقيقة 10.28 من مقابلته مع «قناة فرنسا 24»، بالأربعاء 17 أغسطس 2022م، أفاد سعادة اللواء (م) فضل الله برمة ناصر، الرَّئيس المكلف لـ «حزب الأمَّة القومي»، قائلاً: «نجحنا في إقناع أخواننا العسكريِّين بنقل السُّلطة إلى القوى السِّياسيَّة، وطمأنَّاهم، في نفس الوقت، على أنَّهم، عن طريق العدالة الانتقاليَّة، لن يصيبهم أيُّ مكروه»!
إنتهى حديث برمة ناصر. على أن هنالك مسألة يلزم تناولها من خلال الإجابة على جملة أسئلة مهمَّة كالآتي:
(1) إلى مَن يعود ضمير المتكلِّمين المتَّصل في قول سعادة اللواء: «أقنَعنا» ـ «طمأنَّا»: هل إلى رئاسة «حزب الأمَّة القومي»؟! أم إلى «المجلس المركزي للحرية والتَّغيير»؟!
(2) ما هو تعريف «العدالة الانتقاليَّة» المفهومي لدى سعادة اللواء: أهي آليَّة لتصفية تركة الماضي المثقلة بالانتهاكات؟! أم هي وسيلة لإبرام صفقات يتمُّ بها إعفاء المنتهكين من مسؤوليَّاتهم، وتيسير إفلاتهم من العقاب impunity؟!
وإلى ذلك التمس، بوجه خاص، تداخلاً من صديقي المستنير الصَّادق سمل في مناقشة هذه المسألة، أيَّاً كانت الاجابات المحتملة على الأسئلة أعلاه!

الثُّلاثاء
لو كنت ضمن الـ 15 شخصيَّة التي يُقال إنَّها مرشَّحة للتَّنافس على منصب «رئيس الوزراء» الانتقالي، لسحبت ترشيحي دون تردُّد، فور علمي بأن هذه التَّرشيحات ستقدَّم، حسبما تناقلت الأنباء، إلى قائد الجَّيش، الذي هو قائد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، والذي هو رئيس «مجلس السَّيادة» بوضع اليد، والذي لا يملك، مع ذلك كله، وبأيٍّ من الصِّفات الثلاث، أن يختار «صاحب النَّصيب»، وإلا فالاختيار، في هذه الحالة، وبصرف النَّظر عمَّا سيُقال في تبريره، هو محض «تعيين» لـ «الوزير الأوَّل»، على النَّمط الفرنسي، في «نظام رئاسي انقلابي»، والتَّاريخ لا يرحم .. فهل تسمعني يا عزيزي فلان الفلاني؟!

الأربعاء
أوردت الأخبار، خلال الأيَّام الماضية، أن اجتماعاً قد انعقد بالأربعاء 17 أغسطس الجَّاري، بين الآليَّة الثُّلاثيَّة وما يُعرف بمجموعة «الوفاق الوطني»، لدعم مبادرات «كلِّ» الأطراف، بعد عجنها في مبادرة واحدة أسمتها الآليَّة الثُّلاثيَّة بـ «التَّوافق الشَّامل بين الفرقاء كافَّة»، وعبَّرت عن أنه لا سبيل، بغيرها، للخروج من الأزمة! في هذا الاطار برز المشروع الذي تتبنَّاه مجموعة «الوفاق الوطني»، بإسناد لا يخفى من الآليَّة الثُّلاثيَّة، لدمج أربع مبادرات في عصيدة «سمك ـ لبن ـ تمر هندي» واحدة، بما لا يستطيع حتَّى الشَّيطان الرَّجيم إقناع الفرقاء «كافَّة» بالاتِّفاق عليه! هذه المبادرات هي «مبادرة الآليَّة الثُّلاثيَّة ـ مبادرة الطَّيِّب الجِّد ـ الإعلان السِّياسي لمجلس الحريَّة والتَّغيير المركزي ـ الإعلان السِّياسي لمجموعة الميثاق»! وتقترح الأخيرة، بعد إنجاز هذه العصيدة، دعوة «الجَّميع» إلى «منبر حوار سوداني ــ سوداني»، ونضيف، من جانبنا، أنه لن يتبقَّى، بعد ذلك، سوى جلب المخلوع من «مستشفاه» ليخاطب هذا المنبر، باعتباره «حوار وثبة» جديد!

الخميس
أتوقَّع، لدى الإقدام على إجراء الانتخابات المزمعة في نهاية المرحلة الانتقاليَّة، أن يطالب الثُّوَّار الشَّباب، ومعهم، غالباً، آخرون، كالعمَّال، والمهنيِّين، والنِّساء، وآخرين، مثلاً، بتخصيص دوائر إضافيَّة لهم، باعتبارهم «القوى الحديثة» الأكثر فاعليَّة في نشر الوعي، بل وباعتبارهم، على وجه الخصوص، الفئات والشَّرائح الطَّبقيَّة والنوعيَّة الأكثر جسارة، وتضحية، وتأثيراً، وحسماً في مسار ثورة ديسمبر 2018م، وفي الإطاحة بالسُّلطة الإسلامويَّة البائدة، والمستحقِّين، من ثمَّ، للتَّمثيل المخصوص ضمن أيَّة هيئة تشريعيَّة/‏رقابيَّة. ومع أن المتوقَّع بحسب خبرة متراكمة، أن تحظى هذه المطالبة بموافقة الكثير من القوى التَّقليديَّة، للوهلة الأولى، إلا أن المتوقَّع، أيضاً، وبحسب ذات الخبرة، أن تصطدم هذه الموافقة، في أقرب منعطف، بنكوص نفس هذه القوى، وتَّنصُّلها عنها، وفق نهج قديم مرذول!
توفَّرت تلك الخبرة المرتبكة، بالأمس القريب، من بين ملابسات ثورة أكتوبر 1964م، وانتفاضة إبريل 1985م اللتين أطاحتا بنظامي عبُّود والنِّميري الشُّموليَّيْن. فالكثير من الأحداث شهدت بأن ميلاد «القوى الحديثة»، كإرهاص تاريخي ببزوغ فجر الاستنارة الباكر، عبر كلِّ وقائع المجابهة مع الاستعمار، وبناء الدَّولة الوطنيَّة المستقلَّة، سواء في حركة الخرِّيجين، مثلاً، أو الاتِّحادات والجَّمعيَّات الفئويَّة، أو من خلال عمليَّات الإنتاج الاقتصادي الحديث، أو تسيير دولاب الإدارة، أو خلافه، جاء إمَّا سابقاً على ميلاد الأحزاب، أحياناً، أو متزامناً معه، أحياناً أخرى، أو بانفصال عنه، أغلب الأحيان. لذا، عند وضع «قانون سوكومارسون»، كأوَّل قانون للانتخابات في البلاد، بين يدي الحكم الذَّاتي، عام 1953م، كان منطقيَّاً تضمينه التَّعبير عن ذلك الدَّفع الحداثي. غير أن أقصى مسعى جادٍّ على هذا الصَّعيد لم يتجاوز، وقتها، تخصيص 5 دوائر لخرِّيجي المدارس الثَّانويَّة! ورغم ضآلة ذلك التَّمثيل، فإن حكومة القوى التَّقليديَّة ما لبثت، في الانتخابات التَّالية عام 1956م، أن ألغته! لكن، بمجرَّد أن تغيَّر ميزان القوَّة في انتخابات 1965م، بُعَيْدَ انتصار ثورة أكتوبر، فإن العمل بتلك الدَّوائر سرعان ما استُعيد، مع زيادة عددها إلى 15 بدلاً من 5، وتخصيصها لخرِّيجي الجَّامعات بدلاً من المدارس الثَّانويَّة. سوى أن اكتساح الحزب الشِّيوعي لتلك الدَّوائر عمل، رغم محدوديَّتها، على بثِّ الرُّعب في نفوس القوى التَّقليديَّة، بقيادة الأخوان المسلمين، ودفعها إلى التآمر لحلِّ الحزب، وطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة التَّأسيسيَّة، في إثر مسرحيَّة شوقي، طالب معهد المعلمين العالي المشهور، ثمَّ سرعان ما ألغيت دوائر الخرِّيجين ذاتها في الانتخابات التَّالية عام 1967م!
أما الخطَّة الأكثر اعترافاً بدور «القوى الحديثة» في المشاركة البرلمانيَّة، فقد كادت ترد، للمفارقة، ضمن النِّظام الانتخابي الذي اجترحه النِّظام المايوي (1969م ـ 1985م)، بعنوان «تحالف قوى الشَّـعب العاملة: العمَّال ـ المزارعون ـ المثقَّفون ـ الرَّأسماليَّة الوطنيَّة ـ الضُّبَّاط والجُّنود»، لولا العوار الأساسي القائم في كون ذلك النِّظام الانتخابي، على ديموقراطيَّته المفترضة، جرى تطبيقه تحت سلطة نميري الشُّموليَّة المطلقة!
وهكذا، لدى انفجار انتفاضة إبريل 1985م التي أطاحت بتلك السُّلطة، وإجراء انتخابات 1986م النِّيابيَّة، كان نموذج «الخرِّيجين»، في حدِّ ذاته، أضيق من أن يستوعب القوى الفاعلة في مناطق الإنتاج الحديث، وقطاعات التَّنمية كافَّة، مثلما كان نموذج «تحالف قوى الشَّعب العاملة» نفسه مشلولاً تماماً، منذ ما قبل ذلك، بقيود التَّغوُّل السُّلطوي المايوي على النشاط المستقل، بحيث لم يكن من الممكن تجاوز ذلك الواقع الشُّمولي، والقفز من فوقه إلى ديموقراطيَّة الممارسة، مباشرة، خلال ما لا يزيد عن العام الواحد! غير أن قوَّة المطلب، وتوازن القوى، في ذلك الوقت، أرغما الأحزاب التَّقليديَّة، ومن ورائها مجلس سوار الدَّهب العسكري الانتقالي، على العودة لـ «تمرير» خيار «الخرِّيجين»، وإن كان مع العمـل على تجـييره ضـدَّ مصـالح القوى الحـديثة! فرغم كثرة الخلافات، لدى بدايـة عام المرحـلة الانتقاليَّة (1985م ـ 1986م)، بين النقابيِّين، من جهة، والاحزاب، من جهة أخرى، إلا أنه لم يكن ثمَّة خلاف يذكر، في الظَّاهر، حول «مبدأ» مشاركة «القوى الحديثة» في السُّلطة. لذا، عند إعداد قانون الانتخابات، شكّل مجلس الوزراء، برئاسة الجزولي دفع الله، لجنة وزاريَّة عَهَدَ إليها باستطلاع آراء القوى المختلفة، فحصرت موضوعات تلك الآراء، وعلى رأسها ماهيَّة «القوى الحديثة»، وكيفيَّة تمثيلها. وعلى مدى أربعة أشهر اجتمعت اللجنة بكل الأحزاب، والنقابات، والتَّنظيمات، ورفعت تقريرها إلى مجلس الوزراء الذي ناقشه، وأجازه، ثم رفعه إلى المجلس العسكري لتحديد موعد لاجتماع مشترك بينهما لإصدار القانون. لكن مجلس الوزراء فوجئ، لدهشته، بأن المجلس العسكري قرَّر، بدلاً من ذلك، تكوين لجنة سياسيَّة أخرى، من داخله، تقوم بإجراء «المزيد!» من استطلاعات الرأي بين الأحزاب، والنقابات، دون أن يفصح عن دوافعه الحقيقيَّة لذلك، أو منطقه من ورائه!
إذاً، بقدر ما يصحُّ توقُّع ألا تتخلَّى «القوى الحديثة» عن حقِّها بالمشاركة في اتِّخاذ القرار السِّياسي، تشريعاً ورقابة، يصحُّ، أيضاً، توقُّع ألَّا يتخلَّى تحالف القوى التَّقليديَّة عن مناوأته لذلك الحق! لذا، فإن ألزم ما يلزم «القوى الحديثة» هو ألا تركن لتلك الخطَّة القديمة التي أثبتت عدم جدواها، حيث لا تبلغ، في كلِّ مرَّة، وفي أنجح احتمالاتها، أبعد من تخصيص «دوائر للخرِّيجين»، وأن تتحوَّل، منذ الآن، نحو خطَّة أقوى مضاءً، لا للمجلس التَّشريعي الانتقالي، فحسب، بل ولبرلمان النِّظام الدِّيموقراطي الذي يعقب المرحلة الانتقاليَّة، تتمثَّل في المطالبة بتكوينه من غرفتين two chambers، إحداهما لـ «الدَّوائر الجُّغرافيَّة»، والأخرى لـ «دوائر القوى الحديثة»، بحيث لا تتَّخذ القرارات إلا بالتَّصويت عليها في الغرفتين/المجلسين، الأمر الذي يستلزم حملة ضارية، لا للتَّوافق، فقط، بشأن قانون جديد للانتخابات، وإنما لمناقشة هذه المسألة، بالذَّات، وإقرارها، داخل «المؤتمر الدُّستوري» المزمع عقده خـلال المرحلة الانتقاليَّة.
ولمعرفة الفرق بين نظامي الغرفة الواحدة والغرفتين، فإن الأوَّل هو النِّظام التَّشريعي/الرَّقابي الواحد المعتاد، حيث لا ضرورة لتعدُّد الغرف/المجالس. ومن الدُّول العربيَّة التي تتَّبع هذا النِّظام: مصر، والعراق، ولبنان، وتونس؛ وفي المستوى العالمي: السُّويد، وإيطاليا، واليابان، وتركيا، وأوكرانيا. ويتمُّ إنشاء المجلس الواحد إمَّا بتأسيسه على هذا النَّحو من البداية، أو بإلغاء أحد المجلسين إنْ تبيَّن، بعد تأسيسهما، ألَّا ضرورة لوجودهما معاً، أو عبر دمج الغرفتين في واحدة كما هو الحال في السُّويد مثلاً. وتتلخَّص ميزة البرلمان ذي الغرفة الواحدة في قلَّة تكاليفه، وبساطة إجراءاته، وسهولة إصداره للتَّشريعات وسائر القرارات. لكن الضَّعف الأساسي فيه، فضلاً عن احتمال تجاوز التَّمثيل، بمستوى كافٍ، لقطاعات مهمَّة من المجتمع، فيكمن في الإغواء الذي قد يتملَّك «الكُتلة الأكبر» داخله، بحيث تنحو إلى التَّعويل على «أغلبيَّتها الميكانيكيَّة» في تمرير التَّشـريعات والقرارات، خاصَّـة مع هيمنتها على السُّـلطة التَّنفيذيَّة!
أمَّا نظام الغرفتين/ المجلسين، أو ما يُعرف، أيضاً، بـ «النِّظام الثُّنائي»، فيكون، عادة، في الدُّول التي تقتضي الضَّرورة أن تُمثَّل في برلماناتها مستويات متنوِّعة لقطاعات اجتماعيَّة، أو مصالح طبقيَّة، أو إثتيَّة، أو جهويَّة متعدِّدة. ويتطلَّب تمرير أيِّ قرار تشريعي، أو رقابي، وفق هذا النِّظام، موافقة متزامنة من أغلبيَّة الغرفتين/المجلسين، الأعلى والأدنى، بنسب متساوية يطلق عليها «الثُّنائيَّة المثاليَّة». ويلاحَظ، ابتداءً من 2015م، أن أقلَّ من نصف برلمانات العالم تتَّبع هذا النِّظام، كالولايات المتَّحدة، والمملكة المتَّحدة، ونيوزيلندا، والدنمارك، على سبيل المثال.

الجُّمعة
في مقام الرَّدِّ على كتاب د. النُّور حمد «العقل الرَّعوي»، وفي طبعة أنيقة ضمن سلسلة كتاباته النَّقديَّة «كاتب الشُونة ـ رقم/17»، أصدر صديقي عبد الله علي ابراهيم كتابه «العقل الرَّعوي ـ لن أكون راعياً في المرَّة القادمة»، عن «دار المصوَّرات للطِّباعة والنَّشر» بالخرطوم، في 184 صفحة من القطع الصَّغير، حملت 25 عنواناً في الذَّبِّ عمَّا يرى من أقباس «العقل الرَّعوي»، وفي دحض آراء من يشينونه!
وجرياً على أسلوبٍ حسنٍ لديه في تضمين عرضه لآرائه شذرات، هنا وهناك، من معارف طريفة في الغالب، أورد عبد الله، بصفحة 55 من الكتاب، معلومة لم أكن قد وقفت على جليَّتها من قبل، وتتعلَّق باستثقال الطَّاغية النِّميري، في ما يبدو، لإسم «أم ضبَّان!»، سابقاً، مِمَّا حدا به لأن يجعله «أم ضوَّاً بان»، حيث ظنَّ، ورهطه، أنهم بلغوا سحر البيان، «وما علموا أنهم ما تبرَّعوا بغير جهلهم ببلاغة الاسم، وحيثيَّاته الاجتماعيَّة»، أو كما قال! وفي شرح الأمر، استند عبد الله، غالباً، إلى محمَّد عبد الله التريح الذي وصفه بـ «المؤرِّخ الحافظ من أولاد فحل الصَّغير من نوراب الكبابيش»، ومِمَّن يلقِّبهم العارفون بـ «بروفيسورات البادية»، قائلاً إن «الرَّاعي الرَّشيد»، في عُرف تلك البيئة، هو الذي يتخيَّر لبهائمه «القشَّة العضيَّة»، أي «البكر غير الرَّديدة التي أثقل عليها الرُّعاة قبله»، فيقولون، مجازاً، إنه يبلغ بمراحه «القش ابو نوناي»، أي الذي يتزاحم عليه «الذباب» وغيره من الحشرات، لنداوته، وطراوته، وطزاجة رحيقه، وفي ذلك يكمن السِّرُّ في تسمية «أم ضبَّان»!
وبعد، أرجو أن أتمكَّن من العودة، قريباً، لمناقشة بعض الآراء الواردة في الكتاب، لكن، حتَّى ذلك الحين، لا يفوتني أن أسوق أجزل امتناني لصديقي الحبيب مرَّتين، مرَّة على مثل هذه المعارف الثَّريَّة، ومرَّة أخرى على ما خصَّني به من إهداء كتابه، إهداءً لطيفاً، إلى شخصي المتواضع .. لا عدمته!

السَبت
احترت في الحديث الذي أدلى به المحامي هاشم أبو بكر الجَّعلي لصحيفة «الانتباهة»، بالخميس 25 أغسطس، فقد بدا كمماحكة حزبيَّة، أكثر منه رأياً قانونيَّاً متماسكاً، وفق الملاحظات السِّت الآتية:
(1) جزم الجَّعلي بأن «البشير لن يخضع للجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ولن يدلي بكلمة واحدة أمامها»!
وبالطبع لا يمكن أن يكون في هذا الحديث توقير لإشراقات تطوُّر القانون الدَّولي العام، وبالأخص القانون الجَّنائي الدَّولي، وإنَّما محض تعبير عن استقواء سياسي، أو، بالأحرى، مناهضة حزبيَّة، بالحقِّ أو بالباطل! فالجَّنائيَّة الدَّوليَّة ليست منظَّمة صهيونيَّة، ولا مؤسَّسة عنصريَّة، ولا أداة استكباريَّة، كما كان يصنِّفها النظام البائد، وإنَّما هي حقُّ مستحقٌّ لنضالات مختلف الشُّعوب حول العالم، والسُّودان أحدها، في سياق تعزيز التَّطوُّر الذي شهدته حقوق الانسان، والقانون الانساني الدَّولي، خلال القرون التي تلت عصر «الدَّولة الوطنيَّة»، في ما بعد مؤتمر وستفاليا لسنة 1648م، وحتَّى يوم النَّاس هذا، لأجل تأسيس محكمة دوليَّة دائمة، وليست مؤقَّتة Ad Hock Tribunal، بعد كلِّ الفظائع التي خبرتها هذه الشُّعوب، وعشرات الملايين من الضَّحايا المدنيين في مئات الحروب والنزاعات المسلَّحة، العالميَّة والمحليَّة.
(2) أكَّد على «عدم أحقيَّة هذه المحكمة في مباشرة التَّحقيق مع أيِّ سوداني»!
وعطفاً على النُّقطة السَّابقة، فمن يطالع هذا القول الحزبي الفج، منسوباً إلى رجل قانون يُفترض فيه أن من أوجب واجباته ألا يغبِّش وعي النَّاس، يتبادر إلى ذهنه أن ثمَّة استثناء للإنسان «السُّوداني» من قواعد القانون الجَّنائي الدَّولي، بموجب تشريع خاص في إطار العلاقات الدَّوليَّة الجَّماعيَّة أو الثُّنائيَّة!
(3) قال «إن القضاء السُّوداني يمتلك من النَّزاهة ما يكفي لمحاكمة موكله»، وأن هذا القضاء «يشتمل (الآن!) على جرائم الحرب، والجَّرائم ضدَّ الانسانيَّة، بعكس ما كان عليه في السَّابق، مِمَّا يمكِّنه من محاكمة أيِّ متَّهم»!
لنترك مسألة «النَّزاهة» جانباً، فهي محلُّ خلاف، أمس واليوم، ولندلف، مباشرة، إلى مسألة جوهريَّة بالنِّسبة لتطبيق القوانين الجَّنائيَّة، ونطرح السُّؤال التَّالي: هل تجوز محاكمة شخص على فعل لم يكن، عند ارتكابه، مقيَّداً بتشريع؟! وهل إذا تمَّ هذا التشريع لاحقاً، يصحُّ أخذ الشَّخص به بأثر رجعي؟! الإجابة، في الحالين، بالنَّفي! وإذن، حين ننتقل للنَّظر في هذا الفهم، على ضوء حديث الجعلي، لا بُدَّ أن نضع في اعتبارنا أن الجَّرائم التي يُتَّهم البشير بارتكابها، هي جرائم دوليَّة وقعت بين عامي 2003م ــ 2004م، عندما لم تكن مضمَّنة، كجرائم، في التَّشريع السُّوداني، وأنها دخلت في القانون الجَّنائي السُّوداني، فقط، عام 2009م؛ ومن ثمَّ لا يجوز تطبيقها بأثر رجعي! فقول الجَّعلي، إذن، بأن التَّشريع السُّوداني يتضمَّن (الآن!) الجَّرائم الدَّوليَّة، لا يُفترض أن يعني أن القضاء السُّوداني أصبح مختصَّاً، فجأة، بمحاكمة البشير على أفعال ارتكبها قبل زهاء العشرين سنة!
(4) أشار إلى «أن المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة مخوَّل لها تولي محاكمة الجَّرائم الدَّوليَّة فقط في حال ثبت أن الدَّولة المعيَّنة غير راغبة، أو غير قادرة على هذه المحاكمة؛ غير أن البشير، الآن، تمَّت محاكمته، وهو محبوس بسلطة النِّيابة»!
هذه، مع كامل الاحترام، «سفسطائيَّة» نموذجيَّة، حيث أن:
أ/ صحيح، تماماً، أن الجَّنائيَّة الدَّوليَّة لا تتدخَّل إلا إذا كانت الدَّولة المعنيَّة غير راغبة، أو غير قادرة على محاكمة الجُّناة؛ لكن الحقيقة التي تفاداها المحامي الجَّعلي هي أن البشير ظلَّ يقاوم محاكمته أمام الجَّنائيَّة الدَّوليَّة طوال ما يناهز العقدين من الزَّمن؛
ب/ والمحاكمة الوحيدة التي تمَّت له منذ الاطاحة به، قبل ثلاث سنوات، لا علاقة لها بالجَّرائم الدَّوليَّة موضوع اتِّهامه في الجَّنائيَّة الدَّوليَّةّ، أو طلب تسليمه لها، فلا معنى، إذن، للاستناد إلى مثل هذه الحُجَّة لمواصلة تمكينه من الافلات من العقاب impunity!
ج/ لم يثبت، في أيِّ وقت قبل ثورة ديسمبر 2018م، أن دولة السُّودان «راغبة» في، و«قادرة» على تطبيق العدالة الجَّنائيَّة بالنِّسبة للبشير، وبقيَّة المتَّهمين، في ما يتَّصل بجرائم دارفور؛ والادِّعاء بغير ذلك محض مغالطة غليظة!
د/ الاجراءات في مواجهة أيِّ متَّهم، كحبسه بسلطة النِّيابة، قد تتَّخذ الطَّابع الشَّكلاني الذي يهدف، لا إلى إنفاذ القانون في مواجهته، وإنَّما على العكس، إلى حمايته (!) وقد تحسَّب «نظام روما لسنة 1998م Rome Statute» لهذا النَّوع من الاجراءات فلا يُعتدُّ بها!
(5) سألته الصَّحفيَّة المحاورة عن إمكانيَّة «المحكمة الهجين»، فوصفها بـ «ازدواج الاختصاص» قائلاً: «نحن بصفتنا محامين» ــ ويقصد بصفتنا محامين إسلاميِّين ــ «لن نسمح بازدواجيَّة القضاء في بلد واحد»!
نكوين «محكمة هجين» مفردة في أيِّ بلد لا يعني «ازدواجيَّة القضاء» فيه، وإنما هو إجراء استثنائي يُتَّخذ لظروف محدَّدة! اللهم إلا إذا كان المحامي الجَّعلي يبحث، فقط، إن بالحقِّ أو بالباطل، عن كلِّ ما يمكِّن البشير من الاستفادة من «قضاء يُرجَّح أن يكون في صالحه»!
(6) أخيراً، تحدَّث المحامي الجَّعلي عن أن رغبة المدَّعي العام الدَّولي في التَّحقيق مع البشير «لم يتم التَّشاور حولها معهم، أو يبلَّغوا بها كـ «هيئة دفاع!» عن البشير»!
ما يلفت في هذه الإجابة، بوجه خاص، هو أن المحامي الجَّعلي يعتقد أن مشاركته، وزملاءه، في الاجراءات ضدَّ البشير كـ «هيئة دفاع!»، ينبغي أن تكون «معروفة، ومفهومة»، في كلِّ الأوقات، ولدى كلِّ الجِّهات، بما فيها المحكمة نفسها، ضربة لازب without saying، الأمر الذي يحتاج منه لمراجعة نظام تمثيل الدِّفاع أمام المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة!

الأحد
قبل أسبوعين تعرَّضت الطائرة الإثيوبيَّة المتَّجهة من الخرطوم إلى أديس أبابا، لحادث مرعب كاد يسبِّب سقوطها، وتحطُّمها، ومصرع جميع ركَّابها، وربَّما تدمير وحرق أجزاء من المطار، وذلك عندما أخذت الطائرة تتَّخذ وضعيَّة الهبوط، بينما طيَّاراها الاثنان مستغرقان في نوم عميق، وباب كابينتهما مغلق من الدَّاخل، وبرج المراقبة عاجز عن التَّواصل معهما، أو مع الطَّيَّار الآلي!
وحتَّى تكشف الشَّركة ملابسات نوم طيَّارَيْها، وكيفيَّة هبوط طائرتها، في النِّهاية، بسلام، نعرض لحادثة نوم أخرى، كانت بطلتها مسافرة استغرقت في نوم عميق داخل الطَّائرة الكنديَّة التي كانت تستقلها عائدة إلى بلدها، فلم تشعر بالهبوط في تورنتو، كما لم ينتبه أفراد الطاقم إلى وجودها! ولم يمكنها الاستغاثة بهاتفها المحمول لنفاذ شحنه! ولم تستطع إعادة شحنه لأن محرك الطَّائرة كان مطفأ! وهكذا وجدت نفسها عالقة في الظلمة الدَّامسة، والبرد القارس، فأصيبت بالرعب! غير أنها، أخيراً، وجدت مصباحاً يدويَّاً، فأرسلت إشارات لفتت انتباه موظف بالمطار، فأنزلت، ونقلت إلى بيتها، لكنها ظلت مرعوبة لوقت طويل! أمَّا الشَّركة فما زالت تبحث في كيفيَّة إغفال الطاقم مسافرة نائمة، كما وأنَّها ما زالت تفضِّل عدم التَّعليق على الحادثة!

***