عرقلة حركة التاريخ بغطاء ديني


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6884 - 2021 / 4 / 30 - 17:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

عرفت كل الأديان عبر التاريخ صراعا بين محافظين متزمتين وإصلاحيين متفتحين، فلا يمكن لنا فهم تاريخ الإسلام مثلا دون العودة إلى هذا الصراع بين المحافظين والإصلاحيين، وهو صراع يدور في حقيقته حول تأويل لنصوص دينية وفهمها، ولاعلاقة له إطلاقا بمدى التمسك بالدين أو معاداته، ويتحكم في هذا التأويل عدة عوامل، ومنها الثقافة والتثاقف أي الإحتكاك بالثقافة العالمية والإنتماء الطبقي والتأثيرات الإيديولوجية، وكذلك الصراع بين البدو والحضر من جهة وبين المدينة والريف من جهة أخرى، فإن كان الغرب اليوم قد تجاوز نسبيا ذلك، وأصبح الصراع على أساس مصالح طبقية، ولهذا نقول هذا يميني وهذا يساري، إلا أن في العالم الإسلامي لانرى هذا الصراع بجلاء، فمثلا بلد مثل إيران، وهي دولة دينية، فالصراع فيها يدور حول تأويل الدين بين محافظين وإصلاحيين، ونجد نفس الأمر في كل المجتمعات المسلمة.
لكن ما يؤسف له هو أن يصف المحافظون دائما الإصلاحيين والمجددين بأنهم كفار ومعادين للدين في الكثير من الأحيان، لكنه هو صراع حول تأويل الدين، وليس حول الدين ذاته الذي هو واضح في أركانه وأخلاقه، هذا بغض النظر إن كان ما وصلنا منه صحيح أم تم تحريفه عبر التاريخ، وألبس بأمور لاعلاقة لها بالدين الأصيل كما أتى به ألأنبياء والرسل، ويقول المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "دين ضد الدين" أن كل دين يتم إختطافه بعد وفاة نبيه من المستبدين والإستغلاليين بمساعدة كهنة ورجال دين يبررون لهم ممارساتهم بتأويلات دينية تخدم مصالحهم، ويرى بناء على ذلك بأن الإسلام قد ألحق به تحريف كبير بعد وصول الأمويين إلى السلطة، ثم تمت تغطية الدين الأصيل بتراث غطت على حقيقته، ويدعو شريعتي علماء إجتماع الدين إلى إزالة كل ما ألحق به عبر العصور كي نستخرج ما يسميه جوهره الأصلي، ويذهب الليبي صادق النيهوم نفس المنحى في الكثير من كتبه ومنها كتابه "إسلام ضد الإسلام"، بل غاص في كشف الكثير مما ألصق بالممارسات الدينية للمسلمين اليوم، ويردها إلى الإسرائيليات، كما نجد الكثير من الباحثين ذهبوا نفس المنحى، فمثلا المغربي رشيد إيلال والكثير ممن يسمونهم ب"القرآنيين" الذين يعتبرون القرآن فقط هو النص الديني الوحيد الذي يجب الأخذ به، فيقول إيلال بأن القرآن قد أستبدل بالبخاري، ثم يثبت أن البخاري مجرد شخصية وهمية لا وجود لها أصلا ولا لصحيحه، لكننا نحن لا نناقش كل هذه الطروحات في مقالتنا لأن ذلك يحتاج إلى مقالات اخرى، بل ما يهمنا هو وجود إختلاف كبير جدا في موقف الدين من القضايا الدنيوية، ولهذا فهذه الإختلافات هي ليست مسألة دين، بل هي مسألة تأويل للنصوص الدينية تتحكم فيها عدة عوامل، ومنها الثقافة والتثاقف والإنتماء الطبقي والإجتماعي وغيرها كما ذكرناها آنفا، ولهذا فلما كل هذا التكفير بغطاء ديني لكل من له رؤية مجددة له، وتتماشى مع العصر، والذي هو في الحقيقة مجرد عرقلة يائسة لحركة التاريخ التي تسير وتتقدم إلى الأمام، وبإمكاننا أن نعطي آلاف الأمثلة لأمور كانت محرمة من محافظين الذين كفروا كل من أخذ بها لتظهر فيما بعد أنها ليست كذلك، بل سيأخذ بها هؤلاء المحافظين أنفسهم فيما بعد.
فلنبدأ بإختراع المطبعة على يد غوتنبرغ في 1450، والتي تعرضت للتحريم حتى في أوروبا من طرف رجال الدين لأنهم في الحقيقة خشوا على نفوذهم الذي اهتز تحت أٍرجلهم بإنتشار الأفكار والمعارف حتى وصلت اليوم إلى الأنترنات الذي يعد أيضا مرحلة مفصلية في تاريخ المعرفة الإنسانية، كما كان رجال الدين في أوروبا يحرمون الحديث بمختلف اللغات الأوروبية معتبرين إياها لهجات لاترقى إلى مجال اللغة، وأن لغة الجنة هي اللاتينية، لكن أخفوا بأن اللاتينية لم تكن لغة الأنجيل أصلا، لأن لغة سيدنا عيسى هي الآرامية، وليست اللاتينية التي هي لغة الرومان، لكن أصبحت اليوم هذه اللغات الأوروبية التي حرمتها الكنيسة لغات عالمية.
كما عرفت أوروبا صراع حاد بين البروتستانتية الإصلاحية والكاثوليكية المحافظة أدت إلى حرب دينية دامت 30سنة، وذلك لأن البروتستانت لهم تأويل للنصوص الدينية المسيحية مختلف عن الكاثوليكية والبروتستنانتية، فهم ترجموا الكتاب المقدس إلى لغاتهم المحلية، كما يرون أنه يحق للمسيحي أن يؤول نص الكتاب المقدس حسب فهمه دون حاجة إلى رجل دين، وأنه لاواسطة بينه وبين الله وغيرها من التأويلات التي كانت أحد العوامل الرئيسية لقيام النهضة الأوروبية.
كما عرف العالم الإسلامي نفس الصراع بين إصلاحيين ومحافظين لدرجة تكفير إصلاحيين كمحمد عبده وإعتبار بن باديس في الجزائر انه أبليسي، فمثلا بشأن المطبعة تم تحريمها في الدولة العثمانية لعقود، فبشان المرأة مثلا، فعندما دعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة وحقها في التعليم تم تكفيره وأحرق منزله، لكن سنجد أن ما طرحه في اواخر القرن19م قد أصبح يطبق بشكل عادي اليوم، ونعطي مثال، فمثلا القرضاوي يروي في مذكراته انه ذهب لإلقاء محاضرة في كلية للبنات في السعودية، فلم يجد أمامه الطالبات لأنهن كن وراء حجاب، فرفض إلقاء محاضرته، فلماذا أختلف القرضاوي مع السعوديين برغم أنهما ينطلق كلاهما من الدين؟، لما نجد المرأة محرم عليها سياقة السيارة في السعودية قبل أن يتم التخلي عن ذلك اليوم، وفي الوقت نفسه نجد المرأة يسمح لها حتى بنيابة رئيس الجمهورية في إيران، بل نجدها في الجيش الإيراني برغم أن كلا الدولتين تدعيان تطبيقهما الشريعة الإسلامية؟، لما الإختلاف في اللباس والرؤى بين الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية مثلا برغم إدعاءهما بأنهما ينطلقان من الإسلام؟
ونعطي امثلة أخرى فمثلا في الجزائر يروي أحمد طالب الإبراهيمي بأنهم نصحوا الرئيس بومدين بتنظيم النسل كي يتم توازن بين التنمية والنمو الديمغرافي، فقبل بومدين في قرارة ذاته ذلك لأن بومدين حداثيا، لكنه قال لهم هل تريدون إثارة رجال الدين ضده لأنهم يرون ذلك حرام، لكن بعد سنوات من وفاة بومدين قال لهم محمد الغزالي بحديث العزل، فشرع الجزائريون في تنظيم الأسرة في عهد بن جديد بعد ما كان حراما من قبل.
كما حاول الملك فيصل بن عبدالعزيز إدخال التلفزيون إلى السعودية في الستينيات، فواجه موجة من السخط من رجال الدين، وكادوا أن يكفروه عن ذلك، فعاني كثيرا، لكن نجد للسعودية اليوم فضائيات مؤثرة حتى على الصعيد الأقليمي، كما تعرف السعودية اليوم تقدما كبيرا في المجال الديني وصل إلى درجة التخلي عن الوهابية والكثير من الأحاديث التي حرمت أشياء من قبل، فكل هؤلاء كانوا يريدون إيقاف حركة التاريخ فقط.
فكل ما نراه اليوم من تشدد وتحريم وتكفير في العالم ألإسلامي ما هو في الحقيقة إلى محاولات يائسة لوقف حركة التاريخ، فهو نفس ما عرفته أوروبا من قبل، فلنقلها بصراحة، فأوروبا سبقتنا في حركة التاريخ، وسنرى بعد عقود أن ما يراه اليوم بعض المسلمين في مظاهر وسلوكات أوروبية وغربية أنه حرام وكفر بأنه سيصلونه حتى هم بعد سنوات او عقود، ويصبح أمرا عاديا عندنا، فالأمور تسير هكذا، فهي حركة التاريخ لا غير، فلما لا تكون هذه الحقيقة هي ما أراد أن يقولها رسول الله(ص) بحديثه " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر الضب لدخلتموه"، وأعتقد بأن المقصود بالذين من قبلنا هم الذين سبقونا في حركتهم التاريخية، وسيتم لحاق كل الشعوب بهم بعد عقود أو قرون.