صعود اليمين المتطرف وعودة فكرة إعادة بناء الأمبرطوريات


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7219 - 2022 / 4 / 15 - 21:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

سبق لنا منذ سنتين أن حذرنا من عودة اليمين المتطرف بقوة بحكم ما سينتجه وباء كورونا من أزمات إقتصادية حادة على الصعيد العالمي بغض النظر عن الأزمات الدورية للرأسمالية بكل إنعكاساتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وقد أنطلقنا في طرحنا من فكرة مفادها أنه كلما أحتدمت ازمة إقتصادية بشكل حاد، سينتشر اليمين المتطرف بشكل كبير، وقد شبهت ما سيقع بتساؤل عنوان إحدى هذه المقالات التي خصصتها لليمين المتطرف سواء في أوروبا أو في منطقتنا ب"هل سيتكرر عالم ثلاثينيات القرن العشرين؟"(الحوار المتمدن عدد6535 يوم12أبريل2020)، وهي إيماءة منا إلى بروز النازية والفاشية كنتيجة للأزمة الإقتصادية العالمية الحادة جدا في 1929، فقد بدأت نبوءتنا تتحقق بصعود قوي لليمين المتطرف في فرنسا في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة وإمكانية فوزه بالرئاسيات، لكن حتى ولو لم تفز مارين لوبان، فإنه سيأتي اليوم أن يفوز هذا اليمين المتطرف في رئاسيات مقبلة، ويأخذ السلطة في عدة دول غربية وفي منطقتنا مادام أن الأزمات الإقتصادية والإجتماعية في تفاقم كبير ليس فقط بسبب الأزمات الدورية للرأسمالية، بل أيضا بسبب أنانية الطبقة الرأسمالية السائدة عالميا والمروجة لسياسات متوحشة نابعة من صلب الرأسمالية التي تخدم أقليات التي تزداد غنى على حساب أغلبية الإنسانية التي تزداد فقرا ومعرضة للإستغلال البشع.
لا يتنامي اليمين المتطرف في فرنسا فقط، بل في العالم كله، وكثيرا ما يستفيد من ضعف اليسار، فمثلا قد استفادت مارين لوبان كثيرا من تفتت اليسار الفرنسي الأكثر إنسانية والذي يمكن أن يزرع السلام والعدل، لكن لا نفهم تقديمه عدة مرشحين شتت أصواته، فهل أنتظرنا يوما أن تنتقل الحياة السياسية في فرنسا مثلا من تنافس بين اليمين واليسار إلى تنافس بين وسط ويمين متطرف، فقد حدث ذلك منذ صعود جاك شيراك ضد جون ماري لوبان في 2002 ثم ماكرون مع مارين لوبان التي انشقت عن والدها كون ماري لوبان في الرئاسيات السابقة ووصولهما مرة أخرى إلى الدور الثاني في رئاسيات 2022 بنسب متقاربة جدا بينهما.
يحق لنا أن نتساءل اليوم ألا توجد إستراتيجية فرنسية عند صناع القرار الحقيقيين فيها والموجودين في عمق الدولة تستهدف إيصال اليمن المتطرف إلى دفة الحكم بهدف تكليفه بمهمة إعادة بناء الأمبرطورية الفرنسية التي انتهت في عهد دوغول تحت ضربات الثورة التحريرية الجزائرية التي انتصرت عليه في عام 1962؟، فهل من المعقول أن ينفي ماكرون وجود الأمة الجزائرية، ويكرم منذ شهور الأقدام السوداء وغلاة المعمرين الذين هم أسلاف اليمين المتطرف في ذكرى قيامهم في الجزائر بتمرد على دوغول لإسقاطه بين 24 و29 جانفي 1960 معتقدين أنه يقدم تنازلات للثورة الجزائرية؟، فهل ماكرون يلمح بهذا التكريم إلى نوع من الحنين والدعم لأنصار إبقاء الجزائر فرنسية التي يعدونها جوهرة الأمبرطورية الفرنسية؟، فهل ماكرون يدغدغ بذلك عواطف بعض صناع القرار الفعليين في فرنسا المختفين وراء الستار بأنه يمكن الإعتماد عليه لإحياء الأمبرطورية الفرنسية من جديد في عالم أصبح الحديث عن إعادة بنا الأمبرطوريات موضع دراسات إستراتيجية منذ نهاية الحرب الباردة في 1989 بداية بالترويج للأمبرطورية الأميركية ووصول المحافظون الجدد إلى دفة الحكم في أمريكا مع جورج بوش الإبن، فأدخلوا العالم في حروب دموية لم يتصورها أي كان مستغلين أحداث 11سبتمبر2001 لبناء تلك الأمبرطورية بشكل دموي، تم ذلك في وقت لم يتصور فيه أحد مهاجمة وغزو عسكري لدول مستقلة مثل العراق، ولولا صمود العالم والعراقيين في وجه هؤلاء المحافظين الجدد لواصل هؤلاء إحتلال سوريا وإيران ودول أخرى بقوة السلاح، فهل هناك من كان يتصور أن بوتين سيهاجم عسكريا أوكرانيا بهذا الشكل مستبعدا كل المفاوضات والحلول الدبلومسية، وممكن سيهاجم دولا أحرى مستقبلا سواء في وسط أوروبا وشرقها أو في آسيا الوسطى، ويحركه في ذلك فكرة إعادة بناء الأمبرطورية الروسية التي نظر لها بشكل كبير، ووضع خطة إستعادتها مستشاره ألكسندر دوغين؟.
لعل البعض لايعلم أن هذا الفكر الأمبرطوري موجود أيضا لدى تركيا أردوغان، فما عليكم إلا قراءة متأنية لكتاب مستشاره ووزير خارجيته السابق أحمد داوود أوغلو "العمق الإستراتيجي-موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية-" أين يتحدث صراحة على فكرة إستعادة الأمبرطورية العثمانية، ويتحسر على تجاهل الحكام العثمانيين لفكرة الإستعمار التي أنتشرت في القرن19 كما فعلت فرنسا وبريطانيا وغيرها من القوى الإستعمارية آنذاك، وقد تناسى داوود أوغلو أن الإستعمار الأوروبي الحديث كان نتاج الثورة الصناعية والرأسمالية التي دخلت في أزمة دورية حادة منذ سنواتها الأولى، فأضطرت إلى حلها بإستعمار عدة بلدان بحثا عن أسواق لفائض إنتاجها ومواد أولية ومناطق للإستثمار كما يقول البريطاني هوبسن في كتابه "في الإستعمار" في 1902، والذي أخذ عنه لنين فكرة كتابه "الإستعمار اعلى مراحل الرأسمالية"، وما يدل على صحة هذا الطرح هو عدم تعرض عدة بلدان إلى الإستعمار لأنه ليس لها لا موقع إستراتيجي ولاثروات أو سوق مثل ليبيريا أو شبه الجزيرة العربية قبل إكتشاف النفط فيها أو اليمن الشمالي على عكس جنوب اليمن الذي أحتلته بريطانيا بسبب وجود ميناء عدن الإستراتيجي في أراضيه، لكن لايدرك أوغلو أن الدولة العثمانية لم تكن يتحكم فيها الطبقة الرأسمالية لأنها لم تدخل مرحلة الرأسمالية الصناعية، ولم تكن أصلا مركزا رأسماليا مثل بريطانيا أو فرنسا كي ينتج لديها فكرة الإستعمار لحل أزمتها الإقتصادية الحادة، بل كانت ضمن أطراف المركز الرأسمالي وبرجوازيتها تابعة لهذه المراكز، ولم تعرف ثورة صناعية مثل هذه المراكز الرأسمالية الأخرى.
هذا ما يجرنا إلى القول أنه كلما دخلت الرأسمالية في أزمات حادة حلت أزماتها تلك بطرق متعددة حسب حدة وقوة الأزمة ومدى تهديدها لمصالحها مثل إمكانية قيام ثورة إجتماعية ضد النظام الرأسمالي، لكن يمكنها اليوم أن تحلها بالإستعمار من جديد كما فعلت في القرن19، خاصة أن الرأسمالية العالمية اليوم لها طبقة برجوازية عالمية سماها السويسري جون زيغلر ب"أاسياد العالم الجدد"، وهم يطمحون إلى بناء دولة رأسمالية عالمية يتحكمون فيها كما أنشأت البرجوازيات الوطنية في أوروبا، ووحدت دولها القومية بهدف توسيع سوق سلعها قبل ان تلجأ إلى إستعما ر بلدان أخرى وتشكيل أمبرطوريات إستعمارية لحل أزماتها الدورية الحادة، ويمكن أن يتم ذلك اليوم بزرع الفوضى في الدول الأطراف كي تجد مراكز الرأسمالية ذرائع لتدخلاتها، كما يمكن أن يتم ذلك بضم عادي لبلدان بعد تغييب الإضعاف التام للمؤسسات والمنظمات الدولية وقوانيها كما حدث لعصبة الأمم بعد غزو إيطاليا لإثيوبيا في 1936، خاصة بعد ما فتح بوتين الباب لذلك بدخوله أوكرانيا، وهو ما سيشجع عدة دول قوية للقيام بنفس الأمر تحت عدة دواعي مثل نقص الغاز والنفط أو الإستيلاء على مواقع إستراتيجية في إطار صراع عالمي أو حتى في إطار حرب عالمية قادمة، كما يمكنها أيضا تبرير ذلك بحماية نفسها من ضربات نووية بالإستيلاء على عمق إستراتيجي لمواجهة أي حرب نووية التي تحتاج إلى مساحات واسعة، فضيق المساحة في أوروبا يجعلها دائما عرضة لضربة نووية، ولهذا فهي ستحتاج إلى أعماق ومناطق بعيدة تلجأ إليها بقواتها لحمايتها من هذا الخطر النووي، فقد كان البحث عن هذه المناطق واضح وضوح الشمس أثناء الحرب العالمية الثانية أين سقطت دول أوروبية بسرعة فائقة بحكم ضيق المساحة، فما بالك في حالة تهديد حرب نووية.
ان وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا مثلا أو غيرها من دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط سيؤدي إلى دعم التيارات الدينية المتطرفة عندنا التي هي اليمين المتطرف عندنا، فتضخمها بشكل أو آخر كي تتخذها كذريعة لغزو بلدان جنوب المتوسط، أننا نلاحظ اليوم تعاطفا غريبا من بعض الإسلامويين في منطقتنا، وليس كلهم مع مارين لوبان المعادية للإسلام وللمسلمين في أوروبا، خاصة في فرنسا، فهذا اليمين المتطرف لن تختلف سياسته تجاه مسلمي اوروبا عن سياسات النازية الهتلرية ضد يهود أوربا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن20، فهذا ليس موقف غباء من قيادات هذه التنظيمات الدينية المتطرفة، بل مخطط منها لأن قادة هذه التنظيمات التي هي أيضا يمين متطرف عندنا تعلم جيدا بأنها ستلقى دعم اليمين المتطرف في أوروبا لها مؤقتا، وأن وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا مثلا، سيجعله يعمل على إيصال اليمين المتطرف عندنا إلى السلطة، والهدف من ذلك كله توظيف هذا اليمين المتطرف عندنا كذريعة لإشعال حرب حضارية دموية بين شمال وجنوب المتوسط يسمح لليمين المتطرف إعادة إحتلال بلداننا من جديد بأشكال متعددة في ظل ضعفنا الكبير.
كما علينا أن نسجل أن الحرب الروسية- الأوكرانية دفعت ألمانيا إلى إعادة تسليح نفسها، فلنتصور وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في ألمانيا أيضا، فمعناه دمار عالمي شامل، فلنشر بأن فرنسا الثلاثينيات عرفت حتى هي اليمين المتطرف وأفكارا نازية وفاشية متعاطفة مع هتلر، لكنها لم تكن قوية كما كانت في ألمانيا التي أوصلت النازية الهتلرية إلى السلطة بعد الأزمة الإقتصادية1929.