مستقبل العلاقات الجزائرية-الفرنسية بعد إعادة إنتخاب ماكرون


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 7244 - 2022 / 5 / 10 - 17:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تتحكم في العلاقات الجزائرية-الفرنسية منذ 1962 عدة عوامل أساسية ومنها ملف الذاكرة بحكم الماضي الإستعماري والمصالح الجيو- إستراتيجية كأداة نفوذ عسكري وسياسي بحكم أن الجزائر مدخل إلى القارة ألأفريقية، خاصة أفريقيا جنوب الصحراء أو غرب أفريقيا التي هي الحديقة الخلفية لفرنسا، وهو ما يظهر بجلاء اليوم في المالي، وكذلك إمكانية أن تكون الجزائر عمقا إستراتيجيا لفرنسا في حالة إندلاع حرب عالمية نووية في أوروبا الضيقة المساحة، وقد ظهر ذلك بجلاء أثناء الحرب العالمية الثانية أين أكتشفت فرنسا أهمية الجزائر لها، خاصة الصحراء، فقد كان ذلك في حرب كلاسيكية، وهو ما سيزيد هذه الأهمية في حرب نووية، ويعد العامل الإقتصادي عاملا جد مؤثر في هذه العلاقات حيث تعمل فرنسا جاهدة على إبقاء الجزائر مرتبطة بفرنسا إقتصاديا كما كان في العهد الإستعماري، لكن بشكل ناعم، وسنشرح فيما بعد هذا الهدف الفرنسي المتمثل في إبقاء السوق الجزائرية حكرا للسلع الفرنسية، وكذلك كمصدر للمواد الأولية، خاصة المحروقات دون أن ننسى بجعلها منطقة للإستثمارات في الصناعات الإستخراجية، وعلى رأسها المحروقات، فهذه هي نفس أهداف الإستعمار الأوروبي في القرن19، وأضافت للجزائر مهمة أخرى في ذلك في عهد الرئيس بوتفليقة، وهي إنقاذها لكل مؤسسة فرنسية مفلسة بإعطائها أسواق وإستثمارات مقابل دعم فرنسي لبقاء بوتفليقة على رأس السلطة، كما للمهاجرين الجزائريين تأثير في هذه السياسة بحكم عددهم الكبير في فرنسا، لكن للأسف الجزائر عاجزة على توظيف هؤلاء المهاجرين لصالحها بحكم عدم قدرتهم على تنظيم أنفسهم والعمل كلوبيات مؤثرة لخدمة الجزائر بالتأثير على السلطة في فرنسا كما تفعل اللوبيات الصهيونية مثلا في عدة دول كبرى، بل بالعكس أصبح المهاجرون أداة ضغط فرنسية على الجزائر بتهديدها بطردهم وإعادتهم إليها، مما سيزيد عدد البطالين، ويضخم أكثر الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في الجزائر، فلنضع في الإعتبار بأن الكثير من العائلات الجزائرية تعيش من منح التقاعد لأبائها المهاجرين في فرنسا في العقود الماضية، كما يمكن للجزائر أن تضغط، وتحقق مكاسب من فرنسا بصفتها معبرا للمهاجرين الأفارقة إليها، لكن للأسف الجزائر عاجزة على توظيف موقعها الجغرافي بصفته قوة ثابتة لخدمة مصالحها، ويمكن أن يقول البعض بأن أول الأهداف للسياسة الفرنسية في الجزائر هي ثقافية بالحفاظ على اللغة الفرنسية وثقافتها، فأنا لا أذهب هذا المنحى لأن ما يعتبر هدفا ثقافيا فرنسيا في الجزائر هي مجرد أداة تستند عليها فرنسا لخدمة مصالحها الإقتصادية التي يأتي على رأس أهداف هذه السياسة الفرنسية’، فطبعا تستخدم فرنسا ثقافتها، ومنها منظمة الفرنكفونية كأداة لخلق موالين لها لخدمة مصالحها الأخرى، فهي مجرد القوة الناعمة التي شرحها بشكل موسع الأمريكي جوزيف ناي في كتابه "القوة الناعمة" كأداة سياسية لخدمة المصالح الأمريكية في العالم بواسطة الثقافة والفنون والسنيما وغيرها، ففرنسا لاتختلف في ذلك عن أمريكا ولا حتى مصر بمسلسلاتها وثقافتها في عهد عبدالناصرن كما لا تختلف عن تركيا أردوغان اليوم ولا عن توظيف السعودية للوهابية لتحقيق عملاء لها في دول مسلمة عديدة، فهذه الدول التي تستخدم الثقافة والفنون لخلق عملاء يخدمون مصالحها لا يمكن أن يكون لها تأثير إلا في دول غير متجذرة في هويتها الثقافية الأصيلة، ومنها الجزائر التي أخذ السلطة فيها بعد1962 أناس متـاثرين بالثقافيتن المصرية أو المشرقية، وكذلك طرف آخر متأثر بالثقافة الفرنسية، فهذان الطرفان اللذان يظهران كأنهم متخاصمين، فهم في الحقيقة متفقين على نهب الريع من جهة وتحطيم الثقافة الجزائرية وهويتها الأصيلة، فلهذا السبب فشلت الجزائر في سياساتها الثقافية، وعجزت على توظيف ثقافتها كقوة ناعمة، وكذلك حتى ثورتها التي تآكل تأثيرها الخارجي بمرور الزمن، فهذا ما يجب تداركه اليوم بالعودة إلى الهوية الثقافية الجزائرية الأصيلة (الأمازيغية العربية المسلمة) ليس فقط لبناء الأمة الجزائرية وتمتين وحدتها، بل أيضا للتخلص من هذا العدد الكبير من العملاء والموالين لقوى خارجية سواء داخل السلطة أو خارجها، فهناك موالون لفرنسا، وكذلك للسعودية وتركيا ومصر وغيرها، فهؤلاء كلهم سيتحولون إلى أدوات في يد هذه الدول والقوى في حالة أي إنفلات أمني أو فوضى في الجزائر كما وقع في ليبيا التي تعاني من هؤلاء الموالين لقوى أجنبية وعاجزة على إعادة الإستقرار، وعاشت لبنان نفس الأمر لحد وصولها إلى الإفلاس اليوم .
لكن إن كانت الثقافة أداة ووسيلة فرنسية لتحقيق أهدافها الإقتصادية والجيوإستراتيجية في الجزائر، فقد ظهر مع ماكرون عامل آخر مهم جدا لا يجب أن نغفل عنه، وهو توظيف ملف الذاكرة كأداة لتحقيق نفس هذه الأهداف، وتستغل في ذلك حاجة السلطة في الجزائر إلى إكتساب شعبية بملف الذاكرة وجعل فرنسا تعترف بجرائمها، وتعتذر عن ذلك، وهو الأمر الذي سيزيد من شعبية السلطة، خاصة أن فرنسا تدرك الضغط الشعبي على السلطة في ملف الذاكرة، وتستغل ذلك بذكاء لخدمة مصالحها، مما يتطب سياسة إعلامية جزائرية توعي الشعب بإستغلال فرنسا لذلك كي يخفف هذا الضغط ، فلا تقع الجزائر، وتخضع لما نسميه رغبة ماكرون في مقايضة تقديمه تنازلات في ملف الذاكرة مقابل تحقيق إمتيازات إقتصادية وجيوستراتيجية هائلة لفرنسا في الجزائر وعلى حساب مستقبلها، هذا ما سنوضحه الآن بالتفصيل.
من الصعب جدا تصور كيف سيتناول ماكرون ملف الذاكرة في عهدته الثانية لعدة أسباب، ومنها الخطأ الذي أرتكبه كل المتتبعين دون إستثناء بما فيهم صناع القرار في الجزائر في توقعاتهم حول هذا الملف بعد إنتخابه رئيسا لأول مرة، فكلنا نعلم أن ماكرون قبل توليه الرئاسة، وبالضبط أثناء حملته الإنتخابية قد جرم الإستعمار الفرنسي صراحة عند زيارته للجزائر، بل أعاد نفس الكلام في عدة دول أفريقية قد زارها في شهوره الأولى لتوليه المنصب، فكان دائما يشير إلى برغماتيته، وهو ما لا ينفيه أي كان بحكم شغله وظائف بنكية أين المصالح الإقتصادية والمالية هي الطاغية عليه، كما كان يردد أنه من جيل الشباب، فهو لاعلاقة له لا بالإستعمار ولا بحرب التحرير الجزائرية، وهو ما يعني أنه بإمكانه طي ملف الذاكرة مع الجزائر، بل إمكانية الذهاب حتى إلى درجة تجريمه للإستعمار رسميا، وهو على رأس الدولة الفرنسية، خاصة أنه برغماتي، أي إمكانية تضحيته بمسائل يراها رمزية لصالح مسائل إقتصادية وجيوستراتيجية يعتبرها أنها جوهرية بالنسبة لفرنسا.
لعل كل هذه العوامل هي التي جعلت الكثير، ومنهم الرئيس تبون يعلق أمالا كثيرة على تحقيق تقدم كبير في ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا الذي يعد عامل مؤثر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية بسبب الضغط الشعبي في هذا الملف في الجزائر الذي لا يمكن إهماله، لكن وقع ما لم يكن في الحسبان تماما مع ماكرون بإنقلابه 180 درجة، فأنتقل من النقيض إلى النقيض في هذا الملف في غضون سنوات لدرجة وصوله إلى حد نفي وجود حتى الأمة الجزائرية التي لم يقل بها حتى أبشع الكولونياليين بعد1962، فتوترت العلاقات بشكل كبير بين الدولتين الجزائرية والفرنسية، هذا ما يفسر لنا صعوبة تصور مستقبل هذا الملف مع ماكرون الذي أشرنا له في البداية، إضافة إلى تحولات كبرى على صعيد العلاقات الدولية مثل إمكانية توسع الحرب الروسية-الأوكرانية بكل تأثيراتها سواء على الجزائر أو فرنسا، خاصة في قضية المحروقات، وعلى رأسها الغاز الذي تحتاجه فرنسا مقابل القمح الذي يمكن أن يدفع الجزائر للجوء إلى فرنسا لتعويض إنخفاض إنتاجه في كل من روسيا وأوكرانيا.
لكن يمكن أن يبرر البعض عندنا مواقف ماكرون الأخيرة برغبته في إحتواء اليمين المتطرف الذي تزايدت قوته، وذلك بمجاراته حتى يتمكن من إضعافه، إضافة إلى تفسير هذه المواقف بوجود لوبيات قوية داخل النظام الفرنسي ذاته تعرقله في التقدم في ملف الذاكرة وتقديم تنازلات للجزائر، ونعتقد أن الرئيس تبون قد لمح لذلك في عدة تصريحات له، ومنها بتصريحه في لقاء صحفي دوري أين أشار إلى شكاوي ماكرون من هذا اللوبي الذي وصل إلى حد تهديده بالقتل، ولعل هذه التفسيرات هي التي تجعل البعض عندنا لازالوا يعلقون أمالا على ماكرون في هذا الملف.
لكن فلنتصور أن هذه التفسيرات صحيحة، فمن حقنا أن نتساءل كي نعرف كيف سيتصرف ماكرون في هذا الملف مستقبلا الذي يتحكم فيه، ويؤثر عليه بشكل كبير هذا اليمين المتطرف، فهل هذا الأخير ضعف أم تزايدت قوته؟، فحسب الإحصائيات ونسب الإنتخابات الرئاسية الأخيرة فقد تزايد وتقوى بشكل كبير، فمعناه سيواصل ماكرون نفس سياساته السابقة لإحتوائه ومسايرته في خطاباته التي لن تكون لصالح الجزائر، وكل ذلك بهدف إكتساب هذا الوعاء الإنتخابي الكبير الذي صوت لمارين لوبان في الرئاسيات السابقة، فهناك رغبة من ماكرون في الحفاظ مستقبلا على نفوذ حزبه "الجمهورية إلى الأمام" الذي غير تسميته اليوم إلى "حزب النهضة"، كما أن هناك عامل آخر يمكن ان يكون لصالح الجزائر، ونحن على مقربة من إنتخابات نيابية في فرنسا أين نلاحظ محاولات اليسار تشكيل إئتلاف بقيادة جون لوك ميلونشو زعيم حزب "فرنسا الأبية"، وفي حالة فوزه بهذه الإنتخابات، سيسمح لميلونشو أن يكون رئيسا للحكومة، وهو ما يمكن أن يؤثر في سياسات ماكرون الذي سيضطر إلى أخذ هذا اليسار بعين الإعتبار، لكن دائما سيكون لليمين المتطرف دور وتأثير في هذه السياسات، وسيشمل حتى اليسار ذاته، فالإنتخابات والشعبوية هي التي تتحكم اليوم للأسف الشديد بشكل كبير في أغلب الملفات، ومنها ملف الذاكرة.
فما نخشاه هو حدوث نفس الأمر عندنا بسبب قرب الإنتخابات الرئاسية، هذا ما يجرنا إلى طرح مسألة خطيرة يتبناها ماكرون، وهي مقايضة الذاكرة بمصالح جيوإستراتيجية وإقتصادية، أي تقديم تنازلات فرنسية في ملف الذاكرة مقابل حصولها على مصالح جيوإستراتيجية، وخاصة إقتصادية كإبقاء السوق الجزائرية حكرا للسلع الفرنسية، كما ستواصل الجزائر دورها الذي كان في عهد الرئيس السابق بوتفليقة، وهو مساعدة فرنسا في حل أزماتها الإجتماعية والإقتصادية مثل إنقاذ شركاتها المفلسة بفتح إستثمارات وأسواق لها في الجزائر وغيرها من المصالح المتشعبة.
فما نخشاه هو طغيان الشعبوية الإنتخابية مع شعب لا يعي الكثير منه الرهانات السياسية والجيوإستراتيجية والإقتصادية، ويصفق للكثير من القضايا الرمزية على حساب مصالح جوهرية إن ضحينا بها ستكون كارثة على الجزائر مستقبلا، ولا يعلم هؤلاء أن الحصول على تنازلات فرنسية في ملف الذاكرة يمكن أن تصل إلى حد تجريم رسمي فرنسي للإستعمار ذاته، لكن مقابل حصول فرنسا على مكاسب جيوإستراتيجية وإقتصادية كبيرة جدا في الجزائر، وهي مصالح وإمتيازات لاتختلف تماما عن ما يمكن تسميته بالإستعمار الجديد.
يجب علينا لتوضيح ذلك أن ننطلق من بديهيات، وهي أن الإستعمار الأوروبي في القرن 19 كان نتيجة أزمة دورية حادة في النظام الرأسمالي الأوروبي، حيث تضخم الإنتاج بشكل كبير نتيجة الثورة الصناعية، ولم تجد منافذ لتسويق هذه السلع، كما أستنزفت المواد الأولية، مما أدى إلى غضب إجتماعي حاد سواء في فرنسا أو أنجلترا، فأضطرت هذه الدول إلى إستعمار بلدان ضعيفة للحصول على مواد أولية وتسويق منتجاتها والبحث عن مناطق للإستثمار وإعطاء ممتلكات لهؤلاء الغاضبين في المستعمرات، وهو نفس ما طرحه البريطاني هوبسن في كتابه "الإستعمار" في1902، والذي أخذ منه لنين فكرة كتابه "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" في1917، وعلى أساسه دعا شعوب الشرق إلى الثورة على الإستعمار في1919، لأنه فهم أن العالم الرأسمالي كان يعيش من مستعمراته التي ربط إقتصادياتها به، ويتغذى منها، مما يتطلب فك هذا الإرتباط، والدليل القاطع على صحة هذا الطرح هو أن هناك بلدان لم تتعرض قط للإستعمار كشبه الجزيرة العربية لأنها صحراء قاحلة وسوقها ضئيل جدا بسبب قلة عدد السكان، وهذا طبعا قبل إكتشاف النفط، ونسجل نفس الملاحظة على اليمن حيث بقي شماله مستقلا، ولم تطأه أرجل الإستعمار لأنه لافائدة منه عكس جنوبه الذي أحتلته بريطانيا في 1838 بسبب ميناء عدن الذي يعد موقعا إستراتيجيا بتحكمه في مضيق باب المندب، فالصراع حول المواقع الإستراتيجية عاملا آخر أيضا من عوامل الإستعمار، لكنه كأداة للسيطرة على الثروات والأسواق. أن ما دفعنا إلى التفصيل في هذا الأمر هو تخوفنا من حصول الجزائر على تنازلات في مسائل الذاكرة مقابل إعطاء فرنسا نفس ما كانت تحصل عليه أثناء إستعمارها لنا، لكن بشكل ناعم، ويبدو أن هذا ما سعى إليه دوغول في مفاوضاته مع جبهة التحرير الوطني التاريخية، لكنه فشل في الأخير، خاصة أنه وجد في بدايات إسترجاع إستقلالنا إرادة فولاذية في عدم إعطاء فرنسا أي فرصة لما سمي آنذاك ب"الإستعمار الجديد".
هذا يجرنا إلى توضيح أمر هام جدا، ففي عهد الرئيس بومدين لم نسمع منه أي مطلب بتجريم الإستعمار، لأننا كنا نعتبرها بديهية، فالإستعمار ذاته جريمة، وهل هناك من بإمكانه نفي مجازر هذا الإستعمار وتدميره للمداشر والقرى والبيئة وغيرها، لكن ما كان يركز عليه بومدين هو حديثه عن الجريمة الإستعمارية الإقتصادية بإشارته الدائمة إلى نظام إقتصادي عالمي مجحف أنشأه هذا الإستعمار في غياب شعوبنا، وهو التقسيدم الدولي للعمل في القرن19 أين حطمت محاصيلنا الزراعية الغذائية، واستبدلت بصناعة الكروم في الجزائر، وكذلك القطن في مصر والقهوة في البرازيل على سبيل المثال لا الحصر، ومنع عنا القيام بالتصنيع حتى بعد إسترجاع إستقلالنا كي نبقى مجرد مصدرين للمواد الأولية، ومنها المحروقات مقابل إبقاء أسواقنا مفتوحة لسلع مصانع الدول الرأسمالية، وهو ما أشار إليه بومدين عدة مرات، لأنه كان يعلم جوهر الإستعمار وأهدافه الحقيقية، فبودنا لو نعود اليوم إلى هذا الطرح من أجل تصنيع بلداننا وفك إرتباطنا نهائيا بالرأسمالية العالمية المنتجة للإستعمار ذاته، والتي تعد عاملا رئيسيا في إبقاء تخلفنا، لكن أنقلب الوضع بتراجعنا في المجال الصناعي، وتخلينا عن مشروع تنموي فعال، فبدأ يظهر مصطلح ومطلب جديد لم نكن نتحدث عنه من قبل، وهو تجريم الإستعمار، وذلك أثناء عهد حكم الرئيس بوتفليقة، وأعطي له مفهوما لا معنى له في الحقيقة، وتم إهمال تام للجريمة الإستعمارية الإقتصادية التي هي جوهر المشكلة، فتحول المطالبة بتجريم الإستعمار إلى مجرد سجل تجاري تجاري يلعب به على أذقان الشعوب متجاهلين جوهر الإستعمار كي لانطالب بنظام إقتصادي عالمي جديد عادل مكان هذا النظام المجحف الذي أسسه هذا الإستعمار ذاته الذي يريد الحفاظ عليه بمنع تصنيع دولنا وإبقائها مجرد مصدر للمواد الأولية والمحروقات، وكذلك مجرد أسواق مفتوحة لسلع هذه الدول الإستعمارية السابقة، وهو ما يفسر لنا جزء كبير من إستمرار تخلفنا وتبعيتنا الإقتصادية رغم طردنا لهذا الإستعمار.
ولهذا نعتقد أن مستقبل ملف الذاكرة ستتحكم فيه هذه العوامل كلها، ومن المحتمل جدا أن يواصل ماكرون نفس السياسة إلا إذا تنازلت له الجزائر في المجال الإقتصادي والجيوإستراتيجي من جهة وتم إضعاف اليمين المتطرف، وستتلخص هذه السياسة في مواصلته تطبيق تقرير بنجامين ستورا حرفيا أين يلاحظ تقديم تنازلات ضئيلة لامعنى لها للجزائر ومرافقة ذلك بإعطائه مزايا ومكافآت للحركى والأقدام السوداء، كما بودنا تسجيل ملاحظة مهمة، وهي أن ماكرون يبدو أنه يجهل التاريخ تماما، خاصة تاريخ ثورتنا التحريرية، وإلا فكيف نفسر إحيائه للأقدام السوداء يوم 26جانفي الماضي معتقدا أنه يوم أحداث روديزلي(شارع العربي بن مهيدي اليوم) في 26 مارس 1962أين أطلق الجيش الفرنسي الرصاص على مظاهرات لغلاة المعمرين، وقتل منهم البعض، ونسي أو تناسى عمدا أن 26 جانفي هو تاريخ حادثة المتاريس التي أقامها غلاة المعمرين ما بين24 و29 جانفي 1960 بهدف إسقاط دوغول والإنقلاب عليه، لأنه في نظرهم بدأ في التخلي عن ما يعتبرونه "الجزائر الفرنسية"، فهل ماكرون يجهل بالتاريخ أم أنها رسالة ضغط للجزائر بأنه مؤيد لغلاة المعمرين المطالبين بإبقاء الجزائر فرنسية؟، وهو ما يعني في الأخير ليس فقط نفيه الأمة الجزائرية، بل نفي قيام الدولة الوطنية الذي ما هو إلا إستفزاز خطير منه ضد الجزائر، لكن لم ترد عليه السلطات الجزائرية آنذاك، وأهملته، وواجهت بنفس الصمت إستفزاز آخر هو حديثة عن ما أسماه في 26جانفي الماضي ب"جريمة وهران" التي أرتكبها حسبه جزائريون ضد أوروبيين يوم 5جويلية1962، وطالب بإعتذار الجزائر عن ذلك، فهذا الكلام إما ينم عن جهل بالتاريخ أو محاولة إستفزازية، لأن ما وقع في الحقيقة هو مجرد أحداث صغيرة لم يمس فيها أي أوروبي الذين حمتهم جبهة وجيش التحرير الوطنيين بقيادة مسؤولها في وهران بختي نميش، وغرابة الأمر أنه يطالب بالإعتذار متجاهلا كل جرائم الإستعمار الفرنسي الذي قتل أكثر من ست ملايين جزائري، ودمر المداشر والقرى طيلة 132 سنة، وفجر قنابل نووية في الصحراء عددها 57 تفجير وغيرها من جرائمه ضد الإنسانية التي يندى لها الجبين، وتناسى ماكرون أن ما سماه "جريمة وهران" هي رد فعل على هذه الجرائم، ومنها بالخصوص مقتل منظمة الجيش السري عشرات الأطفال في ساحة الطحطاحة بوهران في 28 فيفري1962، فهؤلاء هم الذين كانوا وراء هذه الأحداث التي ضخمها الإعلام الإستعماري ومؤرخيه، ونعتقد ان عدم رد الجزائر على كل هذه الإستفزازات المتعددة يعود لإدراكها أن ماكرون كان يقوم بإستفزازات في ملف الذاكرة عمدا كي يعيد فتح المفاوضات من جديد التي توقفت وتجمدت مطبقا في ذلك دبلومسية إشعال النار لتحريك الوضع الراكد والجامد وإيجاد ذريعة لإحياء الملفات التي جمدت المفاوضات حولها، وقد أدرك ماكرون ذلك عندما صرح تبون في تصريح له أن هذا العام هو عام الإقتصاد لا غير، ومعناه لامكان لأي مفاوضات في مسألة الذاكرة، وكان هدف ماكرون دائما من هذه المفاوضات هو إعادة طرح فكرة تقديم تنازلات فرنسية في ملف الذاكرة مقابل حصول فرنسا على إمتيازات جيوإستراتيجة وإقتصادية في الجزائر، فإن قبلت الجزائر بذلك، فهو خطأ فادح لن تغفره الأجيال القادمة بعد ما تجد نفسها مرتبطة إقتصاديا بفرنسا كما كانت الجزائر في العهد الإستعماري بعد ما يفرح ويغتبط جيل اليوم بما يمكن إعتباره إنتصار على فرنسا في مجال الذاكرة، والذي هو في الحقيقة مجرد إنتصار وهمي، هذا إن لم نقل أنها هزيمة نكراء لا تغتفر حيث أعادنا بذلك الإستعمارمن النافذة بعد ما أخرجناه من الباب.