من أجل هدف إستراتيجي أعلى ومحركات لتحقيقه


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6737 - 2020 / 11 / 19 - 15:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ان الدولة التي لا تضع هدفا إستراتيجيا أعلى معروف لدى الشعب، ويتجند الجميع لتحقيقه تبقى دولة جامدة، وستعيش على هامش التاريخ، فمثلا الهدف الإستراتيجي لأمريكا هو الحفاظ على الزعامة العالمية، وما يسمونه المشروع الأمبرطوري، لكن إن كان الهدف معروف، فليس بالضرورة أن نكشف عن مختلف التكتيكات لتحقيقه، والتي تحتاج للسرية في بعض الأحيان، والتي تتغير أيضا حسب التطورات والظروف والأوضاع المتجددة والعراقيل التي نصادفها لتحقيق الهدف الإستراتيجي الأعلى.
أن الجزائر مثلا في العقود الأولى للإستقلال كان هدفها الإستراتيجي الخروج من التخلف واللحاق بركب الدول المتقدمة وإعطاء نموذج ناجح للعالم الثالث، وقد كان محرك تحقيق هذا الهدف آنذاك هي فكرة الوطنية القوية التي كان يتحلى بها الجزائري الذي طرد الإستعمار، وأراد بناء جزائر قوية كما كان يحلم بها شهدائها الأبرار الذين كانوا يرون جزائر على الأقل في نفس مستوى فرنسا على كل الأصعدة، وان لم يكن كذلك فكيف نفسر مواجهة الجزائري لعدة تحديات آنذاك لم يكن يتصور الفرنسي انه يمكن تجاوزها مثل تسييره للمؤسسات ومنها الإذاعة والتلفزيون وتحدي الدخول المدرسي في سبتمبر1962 ثم تسيير قطاع النفط بعد تأميمه في 1971 رغم ضعف الإمكانيات والإطارات، لكن الإرادة الوطنية كانت محرك فعال لكل ذلك، إلا أن تلك الإرادة ضعفت تدريجيا في نفسية الجزائري بمرور الزمن بسبب عدة عوامل، فأنطبق على الجزائر طرح مالك بن نبي القائل بأن الحضارة تبدأ بفكرة دافعة ممكن مثلا أن تكون الدين أو الوطنية او فكرة أخرى يؤمن بها الإنسان إلى حد التضحية بنفسه والقيام بواجباته أكثر من الحصول على حقوقة، فيحدث التراكم، لكن تضعف تلك الفكرة نسبيا في مرحلة معينة، فيحدث جمود قبل وقوع إنهيار نهائي، فتسقط تلك الحضارة، لتعود إلى نقطة الصفر، ويرى بن نبي أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل إعادة بناء ما يسميها بالدورة الحضارية التي تدوم لقرون، لكن لم تدم تلك الدورة بالنسبة للجزائري إلا بضعة سنوات، فضعف ذلك المحرك، فجزائراليوم لاتمتلك هدفا إستراتيجيا واضحا يتجند له الجميع، ولا نعلم ما هو المحرك الدافع الواجب لشعبها كي يوظف بفعالية.
كي نوضح الفكرة أحسن نعطي أمثلة حول بعض المحركات الذاتية للأمم، فمثلا في السبعينيات طبقت الجزائر بقيادة بومدين ووزيره للصناعة بلعيد عبدالسلام نظرية الصناعة المصنعة للإقتصادي الفرنسي دوبرنيس، وهو ما يعني إقامة صناعات محددة التي بدورها تؤدي حتما إلى تنمية صناعات أخرى، لأن تلك الصناعة ذاتها تحتاج إنجاز منشآت، ومن خلال ذلك تكون تلك الصناعة محركة لكل العملية التنموية، فبغض النظر عن النقاش التي أثارتها نظرية الصناعة المصنعة إلا أنها حققت بعض الإنجازات في حينهان لكنها توقفت بعد التخلي عن المشروع التنموي للرئيس بومدين الذي كان مشروعا طموحا، فبغض النظر عن نقاط ضعفه أو فشله مثل البطالة المقنعة التي أضعفت التراكم والأرباح التي يمكن إستثمارها في توسع صناعي أكبر، لكن يبدو أن الفقر والبطالة والرغبة في تحقيق عدالة إجتماعية والخوف من إنفجار إجتماعي يمكن أن يهدد الإستقرار الضروري لكل عملية بناء قد فرض تلك السياسات آنذاك، إلا أن الجزائر أنجزت عدة صناعات، ووصلت إلى درجة تصديرها لعدة سلع ومنتجات حتى إلى أوروبا دون أن ننسى مشروع طريق الوحدة الأفريقية الذي كان وسيلة لتسويق الإنتاج الجزائري إلى الأسواق الأفريقية، فمهما كان موقفنا من سياسات بومدين، فيجب أن نعترف له بأنه الرئيس الوحيد منذ1962 الذي حاول بمشروع واضح إخراج الجزائر من إقتصاد ريعي مبني على النفط إلى إقتصاد منتج، خاصة أنه أبعد موارد النفط من ميزانية التسيير، وخصصها للإستثمار في القطاعات الإستراتيجية الكبرى، خاصة الصناعية منها، ولو أنه من نقاط ضعف مشروعه الصناعي هو الإعتماد على التكنولوجيات العالية جدا، مما جعل تلك الصناعات تدفع الجزائر إلى تبعية تكنولوجية بدل حدوث العكس، مما جعل المصنع تحت رحمة التقني الأجنبي الذي يتحكم في أبسط قطعة في الآلة العالية التكنولوجية.
ونعطي مثال آخر عن الهدف الإستراتيجي والمحرك، وهو تركيا، فكي نفهم التطور التركي في العقود الأخيرة علينا أن نفهم بأن ذلك لم يتحقق إلا بعد تسطير حزب العدالة والتنمية هدفا إستراتيجيا واضحا، وهو دخول الإتحاد الأوروبي، حيث لقيت دعما، خاصة من أمريكا، وهو الأمر الذي جعل تركيا تحقق مكاسب ديمقراطية في البداية، وكذلك إقتصادية، لأنه كما هو معروف بأن دخول الإتحاد الأوروبي يفرض عليك تحقيق عدة شروط وتوفيرها، فعملت على تحقيق جزء كبير منها، مما سمح لها بتحقيق قفزات معتبرة على الصعيدين السياسي والإقتصادي، بل أستغل أردوغان تحقيق هدف دخول الإتحاد الأوروبي لإبعاد الجيش عن السياسة في تركيا وبدعم من الجيش ذاته الذي كان حتى هو كان له نفس الهدف الإستراتيجي لحزب العدالة والتنمية، كما لا ننسى الإستراتجية التي وضعها منظر السياسة التركية أحمد داوود أوغلو، ومن أهمها إعادة النفوذ الناعم لتركيا على ما اسماه عمقها الإستراتيجي، وهي أراضي الأمبرطورية العثمانية السابقة، فقد كان تحقيق هذا الهدف محركا لجزء كبير من الشعب التركي، خاصة المحافظين منهم الذين يحلمون بعودة أمجاد الأمبرطورية العثمانية، لكن السبب الرئيسي لنجاح المشروع هي فكرة صفر أعداء التي سمحت لتركيا عقد شراكات إستراتيجية مع كل جيرانها بما فيها خصومها السابقين كسوريا مثلا، وكذلك كل دول العالم، وهو ما سمح لها غزو سلعها وإستثماراتها لأسواق هذه الدول التي استفادت تركيا من شراكاتها الإستراتيجية معها إضافة إلى إستفادة سياحتها من هذه الدول بعد ما ألغت الفيزا، بل سمحت لمواطني بعض الدول دخول تركيا دون جواز سفر وببطاقة التعريف الوطنية فقط لبلدانهم دون أن ننسى طبعا الحريات الإقتصادية التي اعتمدتها تركيا، مما سمح بتوسع الإستثمارات الداخلية والخارجية بقوة، وكل ذلك بناء على مبدأ آدم سميث " دعه يعمل، دعه يمر".
لم نتحدث عن تركيا رغبة منا في إتباع نموذجها، فالجزائر يستحيل عليها أن تطلب عضوية الإتحاد الأوروبي بحكم أنها دولة أفريقية، لكن هذا يجرنا للحديث عن إجابتي على سؤال وجه إلي كثيرا عن الهدف من المادة الدستورية الجديدة التي تخص تدخل الجيش في الخارج للحفاظ على السلم والأمن والإستقرار في العالم، فكانت إجابتي دائما على النحو التالي ، حيث قلت عدة مرات: أن مأساة بعض السياسيين عندنا هو عدم معرفتهم ببعض الرهانات الدولية، وما يرسمه صناع القرار من أهداف استراتيجية التي عادة ما تغيب عن عامة الشعب، كما هو أمر مؤسف عندما يستخدم بعض السياسيين قضايا لأهداف شعبوية انتخابية لا غير، وهو ما يؤثر سلباً على السياسة الخارجية للدولة، وقلت إنه قبل كل شيء يجب أن نضع في الأذهان أن المشاركة في عمليات حفظ السلام قد قامت بها الجزائر من قبل دون أن يثير ذلك أية نقاشات أو تحفظات، مثل مشاركتها بوحدات لحفظ السلام في كمبوديا في التسعينات في إطار مهام الأمم المتحدة، كما أن الجزائر عانت من تهديدات إرهابية على حدودها من دون أن تتمكن من التحرك لمواجهتها، وهو ما يجب إيجاد حل لذلك مستقبلاً، كما أضفت أيضا بأن العالم اليوم في طريق تشكيل نظام دولي جديد، ومن غير المستبعد وجود تفكير في إنشاء جيش عالمي ضمن إطار بعض الاقتراحات المقدمة لإصلاح هيئة الأمم المتحدة، بهدف التكفل بحفظ الأمن والسلام، وعليه فالجزائر مدعوة لأن تكون مستعدة من الآن كي تتمكن من التموقع عالمياً داخل هذا الجيش الدولي الذي هو في طريق التشكل.
كما أنه من ضمن الإصلاحات المقترحة على الأمم المتحدة، هو توسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن إلى القارة الأفريقية وأميركا اللاتينية التي ليس لها أعضاء دائمين فيه عكس آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وعادة ما تعود هذه الفكرة، فمنذ إيام فقط تم عرضها في الأمم المتحدة، لكن رفضتها دول بإستخدامها حق الفيتو، وهو ما سيخدم الجزائر وعدة دول ليست مستعدة اليوم لاعسكريا ولا إقتصاديا للترشح إلى هذه العضوية، ومن المحتمل جدا أن ترشح مستقبلا الجزائر ودول أفريقية أخرى كبيرة لها وزن إلى هذه العضوية إذا تمكنت من توفير شروط ضرورية لذلك، فمن الشروط لتلك العضوية المشاركة الفعالة في عمليات حفظ السلام العالمي، إضافة إلى امتلاك قوة عسكرية واقتصادية وتأثير إقليمي كبير، فمثلا عندما طلبت اليابان في التسعينيات بحقها في العضوية الدائمة في مجلس الأمن أضطرت إلى إصدار قانون يسمح لها المشاركة بقواتها في مهام حفظ السلام خارج الحدود، لكن عارضت كل من الصين وروسيا المطلب الياباني آنذاك، أفلا يمكن أن تكون هذه المادة الدستورية الجديدة في الجزائر تندرج في سياق التحضير لكل هذه الاحتمالات المستقبلية، كما أن تطبيقها مشروط بقبول ثلثي أعضاء البرلمان. فعلى السياسي أن يكون براغماتياً، ويعرف يقرأ مختلف الرهانات، ويفهمها، ويضع المصالح والأهداف الإستراتيجية للدولة في حسابه، وان يكف عن الشعبوية ودغدغة العواطف، مما يضر بتلك المصالح والأهداف.
ان حديثنا عن ذلك هو إمكانية أن يكون ذلك هدفا إستراتيجيا أعلى للجزائر، وممكن أن يدفع الكثير من أبناء شعبنا إلى التجند لتحقيقه، لأنه يحتاج جيش وإقتصاد قوي وإستقرار، لكن يمكن أن يقول البعض أين هو المحرك هنا، فكما قلت سابقا عن جزء من الشعب التركي الذي حركته تحقيق حلم إعادة أمجاد الأمبرطورية العثمانية، فإن جزء كبير جدا من الجزائريين بإمكانهم السماح في قوتهم اليومي إلا بهدف إعطاْء الجزائر الإعتزاز والإفتخاروالمكانة العالمية، فإكتساب الجزائر عضوية دائمة في مجلس الأمن لايحولها فقط إلى قوة أقليمية، وممكن دولية، بل سيجعل الجزائري يفتخر بذلك، ويعطيه الإعتزاز بالنفس، فكلنا نتذكر كيف كان إعتزاز الجزائري بالرئيس بومدين إلا لأنه خطب أمام الكبار في هيئة الأمم المتحدة بصفته زعيما لدول العالم الثالث، فهذه الأمور تحرك كثيرا الجزائري أكثر من أشياء أخرى حتى ولو كانت معنوية في نظر البعض، طبعا لا ننسى أن تحقيق ذلك يشترط قوة عسكرية وإقتصادية وسياسية، وهو ما سيعود بالإيجاب حتى على الحياة اليومية للمواطن، خاصة إقتصاديا وإجتماعيا، كما أن تحقيق ذلك ستعيد الثقة بقوة بين السلطة والشعب، كما نضع في ذهننا أن بإمكان الجيوش أن تكون محركة للتقدم العلمي والتكنولوجي والإقتصادي، وهو ما يظهر بجلاء مثلا في أمريكا، فكل التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تحقق فيها كان سببه تقوية الجيش الأمريكي الذي كان محرك كل المركب العسكري- الإقتصادي الأمريكي، فمثلا الأنترنات لولا حاجة الجيش له لما عرف هذا التقدم الكبير حيث كان يعرفه الجيش بعقود قبل إنتقاله إلى الحياة المدنية اليوم، لكن هذا يتحق لو تم الإهتمام بإستقلالية الإنتاج العسكري والإهتمام بالصناعات العسكرية وتكنولوجياتها.
لكن هذا غير كاف لبناء الجزائر، فنحن نحتاج إلى محركات أخرى نفسية ومنفعية، وهي التي ذكرتها عدة مرات في مقالات وكتابات سابقة، ومنها الحريات الإقتصادية والسياسية والأكاديمية وإطلاق حرية المبادرات، فلنترك الإنسان يستثمر بكل حرية سواء بشكل فردي أو بمؤسسات جماعية متنافسة بناء على الآية القرآنية وهو "لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، أي التدافع او ما نسميه بالتنافس الإيجابي، ونعتقد هذا هو ما طبقته الرأسمالية في أمريكا مثلا، لكن لايمكن نجاح ذلك عندنا إلا إذا وجهنا الإنسان وأصحاب الأموال إلى الإستثمارات المنتجة، وليس الإستيراد الذي حطم الإقتصاد الوطني، ولايسمح بالإستيراد إلا للمنتجات التي لانستطيع إنتاجها بحكم تطورها التكنولوجي العالي إنتظارا لتصنيعها فيما بعد عندنا، فترك الحريات بكل أشكالها، ومنها الإقتصادية، سيحول الجزائر إلى ورشات إنتاج صناعي وفلاحي، إضافة إلى لعب الدولة دورها في الإستثمار في قطاعات كبرى، فبدل توجيه موارد النفط إلى الإستيراد، نفضل توجيهها إلى الإستثمار في قطاعات إستراتيجية كبرى لايمكن للأفراد القيام بها، فكلما ازداد الإنتاج، كلما انخفضت حاجتنا إلى تصدير النفط الذي سيوجه إلى صناعاتنا، وستستقل الجزائر إقتصاديا عن النفط، وننهي إلى الأبد الإقتصاد الريعي المدمر لنا، وسنؤسس بذلك لرأسمالية وطنية منتجة محليا بدل رأسمالية تابعة وخادمة للمراكز الرأسمالية على حساب إقتصادياتنا، طبعا هذا يشترط أيضا جلب الإستثمارات الأجنبية لإثارة التنافس الإقتصادي ولجلب التكنولوجيا الذي سيعود بالمنفعة على كل المجتمع حتى ولو أستهدف صاحبه تحقيق منافع ومصالح خاصة، فبذلك تتحول الدولة إلى مجرد مسير فقط في إطار القانون دون أي تدخل منها إلا في حالات تجاوز القوانين والآليات وأبرزها منع اللجوء إلى إستيراد ما ننتجه داخليا، فكل الدول التي تقدمت إقتصاديا وصناعيا مارست حماية إقتصادية لمرحلة محددة من أجل تشجيع إنتاجها الوطني حتى يكبر، لكن كلما كبر هذا الإنتاج، سيحتاج إلى أسواق، وهو ما يتطلب التفكير في الأسواق الأفريقية، وكذلك سوق مغاربية مشتركة، فالبرجوازيات الوطنية المغاربية متفقة على ضرورة توسيع السوق ما دام الأسواق الأوروبية والغربية مغلقة في وجهها، ولا يتأتى ذلك إلى بالتفكير بتوحيد السوق المغاربية الذي سيكون خطوة لتحقيق وحدة مغاربية شاملة بضغط من هذه البرجوازيات الوطنية كما تحققت الوحدات القومية في أوروبا بضغط برجوازياتها في القرنين 18 و19 بهدف توسيع السوق لمنتجاتها.
أما المحرك الثاني، فهو تحويل العلم إلى مقياس للترقية الإجتماعية وتحقيق الامتيازات في المجتمع، وليس السلطة ومقاييس أخرى، فعلينا التفكير في وضع الميكانيزمات الملائمة لتطبيق هذا المبدأ الذي سيتحول محفزا على طلب العلم والبحث العلمي الجاد والتنافس من أجل الإبداع العلمي والتكنولوجي لأنه هو الطريق الرئيسي للصعود الاجتماعي، وهو المبدأ الذي سيجعل الطفل يلد وهمه وهم والديه النجاح في التعليم الذي سيسمح له بولوج عالم الباحثين العلميين، لعله سيفتح له الطريق ليصبح مخترعا ومبدعا علميا، مما سيدر عليه إمتيازات عدة، وتجعله من الطبقة العليا في المجتمع، وبذلك نكون قد وضعنا بذور التقدم بدل هذا التكالب المدمر من أجل الثروة والسلطة.
فإن لم نسارع إلى إعادة النظر في نظامنا السياسي والإجتماعي بتطعيمه بميكانيزمات جديدة تسمح بإعادة الإعتبار لقيمة العلم والبحث العلمي وممارسيه والقائمين عليه، فإننا سنضيع قرونا وقرونا على أمتنا.
ففي الحقيقة أن مختلف شرائح المجتمع لا تقف ضد طبقة العلماء إذا لم تنفصل عنها، ولأن هذه الشرائح أيضا واعية بأن أحد أسباب مآسيها هو التخلف العلمي لبلداننا، ولا يمكن تحسين أوضاعها إلا بالتقدم العلمي الذي لا يمكن أن يكون إلا بجعل الإبداع العلمي والمعرفة وسيلة لصعود الإجتماعي.
فليس من الصعب إعطاء إمتيازات للمخترعين والمبدعين في المجالات العلمية كما أعطيت لبعض رجالات السلطة، بل يمكن حتى خلق رتبة أو وسام مواطنة عالية نسميها "المواطن الممتاز" أو أي تسمية أخرى لكل من ينجز إختراعا وإبداعا علميا يخدم مجتمعنا ويطوره، ولهذا سيكون كل مواطن همه تحقيق هذه الرتبة المفتوحة للجميع، وتتكافأ فيها الفرص، ولايمكن لأي كان أن يغش فيها لأن إختراعاته وإكتشافاته وإبداعاته هي التي تتكلم، فإننا في أمس الحاجة اليوم إلى من يرقيها ويطورها ويبنيها بعقله وعلمه وإختراعاته وإبداعاته العلمية، وهل من الصعب وضع ميكانيزمات لجلب كبار الباحثين العالميين وتحويلها إلى قبلة لهم، نعتقد أن تحقيق ذلك ليس صعبا كما يوهموننا البعض، ونعرف أن فكرة كهذه سيضع الفاشلون المقتاتون والمستفيدون من النظام الإجتماعي والسياسي الحالي كل العراقيل في وجهها، وسيصفونها بالطوباوية وصعوبة التنفيذ، لكن هي في الحقيقة لا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية وثورة في الذهنيات والتفكير في ميكانيزمات جديدة لتطبيق هذا المبدأ ومجموعة قوانين ومراسيم تنفيذية لها، والتي ستلقى الدعم من كل المجتمع لأنه يعلم أن تحسين حياته وترقيته وتطوير بلده لا تتم إلا بالبحث العلمي الجاد المرتبط بحاجاتنا التنموية الإقتصادية والإجتماعية.
ان قيامنا بذلك لايكفي فقط لتحقيق تقدمنا، بل نكون قد وضعنا أرضية صلبة للبناء الديمقراطي في الجزائر لأن التقدم الصناعي وقوى الإنتاج بصفتها البنية التحتية، ستؤدي حتما إلى تغيير البنية الفوقية المتمثلة في شكل الدولة والقيم والثقافة والذهنيات حسب المفهوم الماركسي للتغيير الإجتماعي، وهو الذي ثبت فعاليته في أوروبا القرن19 بعد ثورتها الصناعية، كما ستؤدي إلى ثورة علمية وتعليمية وثقافية إضافة إلى الرفاهية الإجتماعية التي هي شرط لجعل المواطن يستقل عن حاجاته لريع الدولة أو رجال المال التي تشتري أصواته، فالرفاهية ستجعله يقوم بإختيارات سليمة في الإنتخابات بدل الإختيار على أساس هوياتي وعصبيات دينية ولسانية وجهوية وقبلية وغيرها.