كورونا وتغيير النظام العالمي


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6530 - 2020 / 4 / 6 - 09:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من الطبيعي في ظروف الحالات او الظواهر العامة، وخصوصا إذا كانت من ابعاد عالمية ان تكثر التحليلات والتنبؤات حول أسبابها وسياقاتها ومآلاتها، بحيث صار كثير من المحللين والكتاب يتحدثون عن بدء تأريخ جديد للتاريخ بقبل كورنا وبعد كورونا. شعرت بنوع من الخيبة ان جميع الكتابات التي اطلعت عليها حول ظاهرة كورونا، ومنها لكتاب لا تنقصهم الرصانة والحصافة ذهبت هذا المذهب بل وتسرع بعضهم بالقول بنهاية النظام الرأسمالي. في هذا السياق وبدفع من هذه الرؤية، في الأغلب الأعم، بدأت تظهر إلى السطح منعشات كثيرة لرواد الفكر الماركسي وأساطينه والتحدث بلسانهم عن أن حقبة الاشتراكية قد دنت ولا منقذ للبشرية غيرها. في هذه المقالة سوف اذهب في طريق مختلف، ليس بهدف أن أُعرَف كما قد يتصور البعض، بل لأبرهن على خطأ المسارات السابقة، وان ما تمر به الرأسمالية العالمية لا يعدو كونه طور من أطوار تطورها باتجاه مزيد من التقدم العلمي والتكنولوجي سوف يكون مسبوقا في مراحله الأولى بمزيد من التوحش وليس الأنسنة على الصعد الاجتماعية وربما الدولية.
بداية ينبغي الاعتراف بأن ظاهرة كورونا ليست بظاهرة عادية، وهي في أبعادها الكونية التي أخذتها خلال وقت قصير، سوف يكون لها تداعيات كثيرة على النظام العالمي، بعض هذه التداعيات بدأت بالظهور، وأخرى من المحتمل أن تحصل في السياق الجاري حاليا، إذا لم تقطعه وتوقفه إجراءات قد يتخذها النظام ذاته. من هذه التداعيات:
أولا؛ حصول وفيات كثيرة في جميع دول العالم بدرجات مختلفة، والظاهرة لا تزال في بدايات انتشارها المتسارع. فبحسب منظمة الصحة العالمية كانت إصابة المئة ألف الأولى بالوباء قد احتاجت إلى نحو 65 يوما، لكن اليوم وخلال 24 ساعة تحصل، ومن رجاحة العقل ان نتوقع حصول ذلك في ساعة او أقل في المدى المنظور.
ثانياً؛ ومع أن الظاهرة لا علاقة لها مباشرة بأليات اشتغال النظام الرأسمالي خصوصا الاقتصادية منها، لكن نتائجها الاقتصادية كانت مدمرة. يجري الحديث اليوم عن خسارة الاقتصاد العالمي لتريليونات عديدة من الدولارات بسبب البطء الشديد في دوران عجلة الاقتصاد العالمي نتيجة الإجراءات المتخذة للحد من انتشار كورونا. يمكن قياس ذلك مبدئيا بتراجع الطلب على الطاقة بنحو 40%، مما تسبب بانخفاض غير مسبوق بأسعار النفط العالمي إلى ما دون العشرين دولارا للبرميل، وبتراجع القيمة السوقية للأسهم في البورصات العالمية بنسبة وصلت إلى نحو 20 %.
ثالثاُ؛ ازدادت بصورة لافتة أعباء الخدمات الاجتماعية ليس فقط الصحية، بل المعاشية أيضا، فجميع الدول ضمنت أجور ورواتب العاملين لديها وهم بلا عمل يقومون به، كما ازدادت النفقات بلا مقابل لتأمين الغذاء والدواء مما سوف يتسبب بعجوزات كبيرة في ميزانيات جميع الدول تؤخر كثيرا من بدء مرحلة الانتعاش.
رابعا؛ بدأ يظهر نوع من التضامن بين الدول والمجتمعات كتعبير عن نزعات إنسانية كانت مستترة بسلوكيات رأسمالية غير إنسانية غالبة عليها. أخذت هذه النزعات الإنسانية أشكال مختلفة من قبيل تقديم المعونات والاستشارات الطبية، إلى تقديم المعونات الغذائية، إلى الدعوة لرفع العقوبات المفروضة على بعض الدول من قبل الدول الغربية، وليس آخرا الدعوة إلى مزيد الأنسنة في العلاقات الدولية. ربما ظاهرة الأنسنة هذه هي التي قادت البعض الى التنبؤ بنهاية النظام الرأسمالي وبزوغ عصر الاشتراكية الإنسانية كما يجري توصيفها اليوم.
هذه إذاً بعض النتائج الملموسة لظهارة كورونا على النظام الرأسمالي العالمي وعلى العلاقات الدولية وعلى مصائر البشر. لكن جميع هذه النتائج وما سوف يظهر غيرها في المدى المنظور، لا تشكل تهديدا جديا للنظام الرأسمالي، ولا تشكل قاعدة لبديله المطروح وهو النظام الاشتراكي. لتدعيم هذا الرأي نورد ما يلي:
أولا؛ ينبغي التذكير بأن كورونا ليست ظاهرة منفردة في التاريخ، فهناك ظواهر أخرى مشابهة عانت منها البشرين خلال الماضي القريب وهي لم تكن أقل خطورة من كورونا مثل وباء الحمى الاسبانية والسعودية والإيدز والأيبولا والملاريا وغيرها. لقد نجحت البشرية في تخطي هذه الجائحات بالرغم من الخسائر الكبيرة في الأرواح التي تسببت بها. لكن على خلاف كورونا فهي لم تتسبب بخسائر كبيرة على الصعيد الاقتصادي، بل على العكس كانت دافعا لمزيد من تطور فروع اقتصادية عديدة. ومع انها ايضاً كشفت عن نزعات إنسانية تضامنية بين الدول والشعوب، لكنها لم تهدد طبيعة النظام الرأسمالي القائم أساسا على الاستغلال.
ثانيا"؛ كما نجحت البشرية في تخطي الجائحات في السابق او الحد منها سوف تنجح بلا أدنى شك في تخطي جائحة كورونا، وربما في زمن أقل، وقد بدأت تظهر علامات ذلك في الصين البلد التي ظهرت فيه الجائحة أولا، ومن العلامات الأخرى على بدء تراجع وتيرة انتشار الفيروس في بعض الدول بعد بلوغ المنحني الدال عليه ذروته في دول أوروبية عديدة ومنها إيطاليا.
ثالثا؛ كانت التجارب السابقة في محاربة الجائحات تشير إلى ان دول معينة قد نجحت في الاستفادة منها على حساب دول أخرى، او على الأقل تحمل أثار سلبية أقل منها. في هذا المجال حملت دول الجنوب العبء الأكبر من الأثار السلبية، في حين خصت دول الشمال نفسها بالآثار الإيجابية مثل تطوير الصناعات الدوائية والتقنيات الإنتاجية المختلفة.
المختلف في جائحة كورونا هو أن دول الشمال المتقدمة هي التي تعاني أكثر من غيرها من الأثار السلبية للجائحة، ولن يكون بمقدورها تحميلها للجنوب، لكن الدول القوية والاقتصادات الكبيرة من بينها سوف تعمل على تحميل بعضها بعضا إضافة إلى زميلاتها الأصغر العبء الأكبر من تكاليف الانتعاش بعد القضاء على كورونا، مما سوف يؤدي إلى حصول توترات عالية بينها لا ترقى إلى مستوى المجابه العسكرية. مثل هذه التوترات كانت قد بدأت قبل كورونا مع صعود اليمين الانعزالي إلى السلطة في أمريكا وهي سوف تستمر مع كورونا. في هذا السياق ليس مستبعدا ان يؤدي توازن القوى، وخطورة المجابهة العسكرية إلى نوع من التفاهمات بين دول الشمال القوية والكبيرة على ضبط المنافسة على الموارد وعلى الأسواق. وكبداية بدأت بعض المؤشرات تظهر في مجال سوق الطاقة من خلال الدعوة إلى ضبط السوق وتوازن الأسعار من قبل أمريكا وروسيا والسعودية.
رابعا"؛ يذهب بعض من كتب عن ظاهرة كورونا إلى تشبيه نتائجها الاقتصادية الكارثية بالكساد العالمي الكبير الذي حصل في نهاية ثلاثينات القرن الماضي وكان سببا رئيسا في ظهور النازية والفاشية وحصول الحرب العالمية الثانية، وبالقياس يرى هذا البعض حتمية الحرب العالمية الثالثة خصوصا بين القطبين الكبيرين الصين وامريكا.
من جهتنا نحن نرى ان النتائج الاقتصادية المترتبة على كورونا لن تصل إلى مستوى الكساد الاقتصادي العالمي الشامل، لسبب بسيط أن القاعدة التقنية والعلمية للاقتصاد المعاصر مختلفة، إضافة إلى ان المستوى السياسي يدرك خطورة توتير العلاقات بين الدول إلى مستوى المجابه العسكرية، التي سوف تكون نووية بلا أدنى شك، وبالتالي سوف تكون فانية ربما للحياة على هذا الكوكب الفريد، وتدرك أيضا حجم التداخل والتشارك بين اقتصاداتها، وان تحميل دول الجنوب عبء مرحلة الانتعاش غير كاف بسبب من ضخامة اقتصاديات الشمال، لذلك كله نرجح ما ذهبنا إليه سابقا من القول بأرجحية احتمال الجلوس إلى طاولة واحدة للتفاهم او حتى التنسيق للخروج من الأزمة.
خامساً؛ على الصعيد الداخلي في كل بلد، وخصوصا في البدان الرأسمالية التقليدية سوف تكون أثار أزمة كورونا مختلفة بالنسبة لمختلف فئات الشعب، كما سوف يختلف عبء الخروج منها الذي سوف تتحمله هذه الفئات. هنا بلا شك سوف تتحمل قوى الشعب العاملة العبء الأكبر سواء من ناحية الأثار السلبية، او من ناحية تكاليف الخروج من الأزمة على الصعيد الاقتصادي. ولضبط العلاقات بين قوى الشعب العامل والقوى البرجوازية المسيطرة من المرجح ان تزدادا البرجوازية توحشا، وإذا لم تنفع أليات الديمقراطية لضبط هذا التوحش، ليس مستبعدا ان تلجأ إلى أليات وطرق أخرى شبيهة بما هو موجود في الصين أو حتى أكثر تشددا وخشونة. وما يعزز هذا المسار هو ضرورة الخروج من الأزمة إلى مرحلة الانتعاش الذي سوف تصر عيه البرجوازيات المحلية بأقصر وقت ممكن نتيجة المنافسة مع مثيلاتها في الدول الأخرى على الموارد وعلى الأسواق.
سادسا؛ من الاستنتاجات الرئيسة التي توصل إليها ماركس خلال دراسته التحليلية النقدية للتشكيلة الرأسمالية وأليات اشتغالها (رأس المال) استنتاج يفيد بان الرأسمالية لن تصل إلى أزمة بنيوية تؤدي إلى تجاوزها إلى غيرها (إلى الاشتراكية) إلا إذا عجزت عن زيادة إنتاجية العمل، ما دون ذلك فالأزمات التي تعاني منها الرأسمالية على اختلافها هي أزمات تطورية يتم تجاوزها بمزيد من تطوير إنتاجية العمل، أي بمزيد من تطوير قوى الإنتاج، وفي القلب منها تطوير وسائل الإنتاج. في عصره وجد ماركس أن مزيدا من التراكم الرأسمالي يؤدي إلى نمو الطبقة العاملة، مع الاحتفاظ بفائض نسبي من قوة العمل، هذه المقولة لم تعد صحيحة اليوم. الصحيح اليوم مزيد من التراكم الرأسمالي يؤدي إلى فائض مطلق في قوة العمل، وربما إلى فائض سكاني. تطور وسائل الإنتاج تؤدي باستمرار إلى زيادة إنتاجية العمل مما يؤدي إلى الاستغناء بصورة مطردة عن قوة العمل الحي. يترتب على هذا المسار الموضوعي المتسارع نتيجتين موضوعيتين: الأولى غزارة في الإنتاج، والثانية تقلص في الطلب نتيجة الاستغناء عن قوة العمل الحي (ضيق السوق). النتيجتان تؤديان إلى تفاعل متعاكس لا يمكن ازالته إلا بتغيير الرأسمالية أو تغيير طبيعتها. لتوضيح ما ذهبت إليه أسوق القصة الظريفة الاتية: اصطحب مدير شركة عملاقة لتصنيع السيارات رئيس نقابة العمال فيها بجولة معه على خطوط الإنتاج التي كانت كلها مؤتمتة. قال مدير الشركة ممازحا نقيب العمال كيف وجدت هؤلاء الأعضاء الجدد في نقابتك؟ فرد عليه النقيب بجدية: إنهم منضبطون جدا في شغلهم لكن لديهم مشكلة صغيرة إنهم لا يستطيعون شراء السيارات وقيادتها والاستمتاع بها.
في الختام وفي ضوء ما ذهبنا إليه وعلى أساسه يمكن الاستنتاج بأن الرأسمالية سوف تدخل في أزمة بنيوية تستدعي تجاوزها بسبب تطور قوى الإنتاج، وليس بسبب غيره كما قال ماركس، وفهم قوله جيدا كل من كاوتسكي وروزا لوكسمبرغ، في حين أساء فهمه لينين. في سياق هذه العملية، ومع كل تطور في قوى الإنتاج سوف يتغير زمن الإنتاج، بحيث يقل وقت العمل (وقت الإنتاج) ويزداد وقت الراحة(وقت الاستمتاع بالحياة)، وسوف يتغير النظام الذي يضبط هذه العلاقات ومنظومته القيمية. وسوف يتغير الانسان ذاته أيضا، فتنمو فيه طباعه الإنسانية على حساب طباعه البشرية. هل هذا هو النظام الاشتراكي؟ ربما. وهل هو مرئي في الأفق" بالبصيرة نعم. لكن ألا يمكن أن تكون هذه العملية عكوسة؟ نعم ممكن في حالة واحدة، أن ترتد البشرية إلى همجيتها بأن تدمرها صدفة همجية على شكل كبسة زر نووي مثلا؟ أو حتى بيولوجي من نوع خارج السيطرة.