عام على سقوط رئيس وارتقاء آخر


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 10:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في الثامن من كانون الأول لعام 2024 سقط حكم بشار الأسد غير مأسوف عليه، وبسقوطه سقطت معه منظومة حكم كاملة بقيمها واجراءاتها وعلاقاتها وتحالفاتها، يمكن اختصارها بعبارة واحدة "منظومة الاجرام والفساد". وإذا كان من غير المهم اليوم البحث في تفاصيل حدث السقوط الذي في الأغلب الأعم، سوف يبقى لغزا إلى حين ان تكشف عنه الجهات الصانعة له، مع ذلك مثير للدهشة التساؤل كيف لعدد قليل من منتسبي الجماعات الجهادية المتهمة دوليا بالإرهاب (نحو 30 ألفا) ان تهزم جيشا جرارا (أربع عشرة فرقة منها سبع فرق مدرعة) وقوى امنية يزيد عدد منتسبيها مجتمعة عن الثلاث مئة ألف خلال احدى عشر يوما، بخسائر في الأرواح محدودة جدا (أقل من400 شخص)؟!
كما قلت لن نهتم بالجواب عن السؤال السابق، ولا نملك، في الحقيقة، أية معطيات دقيقة تساعد في الإجابة عنه (فقط معطيات وصفية تحليلية عامة) بل سوف نركز الاهتمام على رصد مجريات الحكم الجديد بقيادة الرئيس أخمد الشرع (أبو محمد الجولاني كما كان يسمى عندما كان زعيم هيئة تحرير الشام المصنفة دوليا بالإرهابية) خلال عامه الأول.
كان لافتا بعد سقوط حكم بشار الأسد سرعة الاحتضان الدولي للحكم الجديد، فخلال أقل من عام استطاع الحكام الجدد إعادة سورية إلى الحضن العربي والدولي، وتصفير مشكلاتها مع اغلب دول العالم، وخصوصا تلك التي لها تأثير كبير على ما يجري في المنطقة. وليس مستبعدا في وقت قريب مناسب ان تصفر أيضا المشكلات بين سورية وإيران كما صفرت مع روسيا. وبطبيعة الحال كان من نتيجة هذا الاحتضان الدولي للحكام الجدد ان تم تنظيف صفحتهم وصفحات فصائلهم من صفة الإرهاب سواء بقرارات من الدول المعنية او بقرار من مجلس الأمن الدولي. وكان من نتيجته أيضا، وهذا مهم جدا، الغاء العقوبات التي كانت مفروضة على سورية من قبل اغلب الدول التي كانت قد فرضتها، وكذلك من مجلس الأمن، وما تبقى منها (قانون قيصر) فهو في طريق الازالة. هذه النجاحات للحكام الجدد، وبغض النظر عن الأثمان المدفوعة، أو المطلوب دفعها مستقبلا، فهي تسجل لهم. سورية اليوم دولة طبيعية او تكاد في المجتمع العربي والدولي.
من جانب آخر فإن واقع الحال في الداخل السوري لم يواكب هذه التحولات الإيجابية الخارجية بل على العكس بدى استمرارا لما كان عليه في عهد بشار الأسد، وفاقه سوءا في بعض جوانبه، أعني تعويم الخطاب الطائفي واستثماره في السياسة. بداية تجاهلت هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها نضالات وتضحيات جميع القوى المعارضة للنظام السابق واستأثرت بالحكم من خلال حكومتها في ادلب. وبالنظر إلى ضيق أفقها السياسي وتشددها الايديولوجي وقلة خبرتها في الحكم اتخذت جملة من الإجراءات من قبيل حل الجيش السوري السابق وجميع الأجهزة الأمنية والجنائية والشرطية واغلاق المؤسسات التي كانت مرتبطة بها حتى شمل ذلك المستشفيات والمستوصفات العسكرية والشرطية ساهمت جميعها في خلق تناقضات جديدة في المجتمع. ولم تكتف بذلك بل باشرت بفصل اعداد كبيرة من العاملين في أجهزة الدولة ومؤسساتها بدون أي مبرر قانوني. لقد كان لهذه الإجراءات منعكسان سلبيان: المنعكس الأول تمثل في خلق عداوات جديدة للحكام الجدد كان يمكن تلافيها، أو التخفيف من حدتها. والمنعكس الثاني الذي صب الزيت على نار المنعكس الأول وهو حرمان عشرات الألاف من الأسر من مصادر عيشها المتمثلة في الرواتب والأجور التي كانت تحصل عليها من عملها السابق وتعيل بها اسرها.
ورغم الآلام والمعاناة التي تسببت بها حكومة الشرع الأولى لكثير من السوريين بقي الأمل معلقا على حكومته الثانية لكن هي الأخرى، للأسف، لم تغير كثيرا في حياة السوريين نحو الأفضل، بل على العكس تسببت سياساتها وممارساتها بتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب السوري أكثر مما هو ممزق، وحفرت بأخطائها (وربما عن قصد بعض فصائلها وأجهزتها) خنادق عميقة مع بعض مكونات الشعب السوري يصعب ردمها. ما حصل من جرائم ضد العلويين في الساحل السوري، وضد الدروز في جبل العرب وضد المسيحيين بصفتهم هويات فرعية من قتل وتشريد وخطف وحصار كاد يقضي على الهوية الوطنية السورية لديهم، بل دفع بعضهم لطلب الحماية الدولية والمطالبة بحق تقرير المصير وانشاء كيان شبه دولتي خاص بهم.
ومما يزيد من تعقيد المشهد الوطني في الداخل ويرفع من مستوى التوتر في العلاقات بين مكوناته الهوياتية اعتماد الطائفية معيارا للوظيفة العامة. فمنذ البداية شرع الحكام الجدد باحتكار الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية للهوية الطائفية الكبرى، ليشرعوا بعد ذلك بتعميمها على دوائر وأجهزة الدولة الأخرى ومؤسساتها بدرجات مختلفة. ففي بعض أجهزة الدولة ومؤسساتها وضع من تبقى فيها من عاملين وموظفين ينتمون بالولادة إلى هوية طائفية معينة بين خيارين أحلاهما مر: أما الاستقالة او العمل في منافذ حدودية في محافظات أخرى. ومن بدعهم الإدارية الفريدة وضع شيخ في كل جهاز من أجهزة الدولة أو مؤسساتها له الكلمة العليا في قيامها بعملها.
ليس هذا ما ناضل الشعب السوري من أجله، وقدم على طريقه مئات الألاف من الضحايا وملايين المشردين عن أماكن سكنهم ومصادر عيشهم. لقد حلم السوريون بنظام ديمقراطي علماني لامركزي يقطع مع تاريخ الاستبداد الممتد في سورية، لتفاجأوا بالعمل على إعادة انتاج نظام استبداد آخر لكن هذه المرة تحت رايات أيديلوجية دينية.
يتساءل اليوم كثير من السوريين: هل سورية مقبلة على نظام حكم إسلامي متشدد؟ وهل الظروف الإقليمية والدولية تسمح بذلك؟ وفي الجواب عن هذين السؤالين وغيرهما يمكن القول مبدئيا ان سورية بتنوعها الهوياتي وبوجود مستوى جيد من التعليم والانفتاح والتسامح والاعتدال عداك عن مصالح فئات مدينية واسعة (صناعيين وتجار وبيروقراطيين ومثقفين) لن تسمح بذلك. وبالفعل بدأت الاعتراضات تظهر حتى من أبناء الهوية الكبرى، فهم لا يقبلون ككثير من السوريين بنظام حكم يستند أساسا إلى قاع اجتماعي ريفي في غالبه الأعم تحت راية أيديولوجية طائفية سافرة.
اما بخصوص الظروف الدولية فثمة حساسية زائدة تجاه الإسلام الجهادي المتطرف، وهي لن تسمح له ببناء نظام مستقر على شاكلته يتحكم بالجغرافية السورية التي تشكل عقدة مصالح دولية متشابكة. وعلى ما يبدو ثمة مساع دولية في الطريق لتجريم الإسلام السياسي ككل بما في ذلك جماعات الاخوان المسلمين.
على ما يبدوا بدأ يدرك بعض حكام دمشق الجدد هذه الظروف والوقائع ويعدون بمرحلة انتقالية تتجاوز ما يسمونه بأخطاء بداية الحكم. لقد بدأوا بأنشاء جيش محترف ليحل محل جيش الفصائل بالتعاون مع تركيا والسعودية، وذادوا الأجور والرواتب مما كان له أثر جيد على مستوى المعيشة، وادخلوا تحسينات مهمة على عمل الدوائر الحكومية الخدمية المختلفة، وسمحوا بهوامش للحرية وممارسة النشاط السياسي والمدني مقبولة نسبيا. ومع توقع انتشار وتعمق مثل هذه الإجراءات الإيجابية على حياة السوريين فلا بد من قطع الطريق امام تأثير الهويات ما قبل الوطنية على بناء الدولة الوطنية، وهذا يكون بالتركيز على اعلاء شأن الهوية الوطنية السورية الجامعة من خلال الانفتاح على مختلف قوى المجتمع السياسي والمدني ومشاركته في بناء الدولة الجديدة. وعلى هذا الطريق سوف يكون لعقد مؤتمر وطني سوري جامع للبحث والنظر في كيفية تطبيق بيان جنيف واحد أحد المدرجات الرئيسة لقرار مجلس الأمن 2254 الخيار الأفضل والأقل كلفة للقطع مع تاريخ سورية الاستبدادي الممتد وتحقيق حلم السوريين بنظام سياسي ومجتمعي يعلي من قيم الحرية والمسؤولية والقانون والتشاركية والديمقراطية.