الحلقة الواحدة والثلاثون: حراك الشعب السوري من الأمل بالتغيير إلى الكارثة


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6445 - 2019 / 12 / 23 - 14:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

5-المواقف السياسية لأطراف الأزمة مع اقتراب نهاية عامها التاسع
مع اقتراب نهاية العام التاسع من عمر الأزمة السورية، وقد شارفت المعركة ضد قوى الارهاب والتطرف على نهايتها، وتغير المشهد العسكري كثيرا على الأرض، من المتوقع، والحالة هذه، أن يزداد الاهتمام بالحل السياسي، وان تصير مواقف جميع الأطراف المعنية بها اكثر وضوحاً. في هذا المبحث يتم النظر في اهم العقد المتبقية على طريق الحل السياسي، وفي مواقف الأطراف المعنية من الحلول الممكنة للخروج من الأزمة التي صارت الحاضر الدائم على جدول اعمال جميع اللقاءات المحلية والعربية الدولية.
5-1- عقدة إدلب وموقف تركيا.
نجحت روسيا، من خلال تدخلها العسكري الحاسم في الأزمة السورية، أن تحيد لاعبين كثر فيها، لتبقي فقط على تركيا وإيران، لما للدولتين من تأثير في الأزمة، من خلال نفوذ كل منهما على الطرف الذي يدعمه.
ونجحت روسا أيضا في ابتكار ما يسمى مناطق خفض التصعيد، وجعلت ثلاثي مسار استانا يتبناه، مع ان الهدف منه كان واضحا منذ البداية، وهو تجميد الجبهات، لكي يتفرغ الجيش السوري وحلفائه لجبهة واحدة، وهذا ما حصل. في البداية كان لا بد من هزيمة داعش فهي كانت الأخطر على الوضع العسكري الاستراتيجي للنظام، وكان مقبولا دوليا أيضا الصراع ضدها. وما إن استعاد الجيش السوري تقريبا جميع المساحات التي كانت تسيطر عليها داعش حتى بدأ يتوجه نحو جبهة ادلب، ونجح باستعادة مناطق كثيرة من المجموعات الارهابية في جنوب شرق المحافظة، ليتوقف عند مطار أبو الضهور.
في هذه الأثناء صارت جبهة غوطة دمشق أكثر خطورة من خلال القصف اليومي على مدينة دمشق، فتوجه الجيش السوري وحلفائه إليها ليستعيدها بسرعة قياسية. في هذه الأثناء كانت قد نضجت الظروف السياسية الدولية لاستعادة محافظة درعا والقنيطرة، فتوجه إليهما وتم استعادتهما أيضا في وقت قياسي. ومن الطبيعي بعد هذه الانتصارات الحاسمة للجيش السوري في شرق سورية وجنوبها ضد داعش والمجموعات الارهابية الأخرى، ان يتوجه لإنهاء الوضع الشاذ بين حمص وحماه، وتحقق له ذلك أيضا في زمن قياسي. وما إن فرغ من استعادة ريف حماه الجنوبي وصار الطريق الدولي سالكا بين حمص وحماه حتى استأنف حشده على جبهة ادلب.
لقد حشد الجيش على جبهة ادلب قوات غير مسبوقة، ومما سمح له بذلك تفرغ قواته التي كانت مشغولة في الجبهات الأخرى، ظانا أن الوضع لن يكون مختلفا عن بقية مناطق خفض التصعيد التي استعاد السيطرة عليها، ويريد استعادتها بسرعة قياسية أيضاً. ونظرا لانتشار الجيش السوري في غرب محافظة ادلب، وفي جنوبها وشرقها، وفي الشمال الغربي منها فكان يستطيع عمليا الهجوم من أربع جبهات في وقت واحد. لكن فجأة توقفت القوات في مناطق تحشدها، فتركيا الطرف الضامن ضمن مسار استانا كانت معارضة بقوة لاجتياح ادلب، وانها لن تقبل باستعادتها عسكريا، بل ضمن اتفاق سياسي. بالطبع من الناحية العسكرية كان باستطاعة الجيش السوري استعادة ادلب، وخلال زمن قياسي أيضا، وكان مستبعدا ان تتدخل تركيا عسكريا لمنعه، لكن الحليف الروسي الذي صار مقررا في جميع مسارات الصراع في سورية السياسية والعسكرية، فله حسابات أخرى. إنه يريد بقاء تركيا إلى جانبه، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة السورية، بل وبقضايا دولية أخرى، روسيا طرف رئيس فيها، خصوصا بعد التوتر السياسي، والجفاء، الذي حصل بين تركيا و امريكا بخصوص تباين مواقفهما تجاه الكرد السوريين.
ولتركيا أيضا حيثياتها، فهي تدرك جيدا ان موقفها السياسي تجاه الأزمة السورية سوف يضعف كثيرا في حال خسرت ورقة ادلب. وعلى هذا الأساس بنت ذرائع عديدة منها وجود كثافة سكانية كبيرة في ادلب، ساهم النظام بقسط فيها من خلال ترحيل المسلحين وعائلاتهم من المناطق التي استعاد السيطرة عليها في جنوب ووسط سورية، الذين رفضوا التسوية معه، وهي لا تستطيع تحمل نزوح مكثف لهؤلاء. أضف إلى ذلك يوجد نحو عشرين الف مسلح أجنبي، بحسب مصادر الأمم المتحدة( رئيس مفوضية حقوق الانسان)، وبحسب مصادر أمريكية( المسؤول الأمريكي عن الملف السوري)، وقسم منهم بصحبة عائلاتهم، وترفض دولهم السماح لهم بالعودة إليها، ومنهم نحو ألف ارهابي من جنسيات اوربية مختلفة. لذلك كانت تركيا تتشدد تجاه ادلب وتحاول استخدامها كورقة سياسية تجاه قضايا اخرى في سورية، وخصوصا تجاه الكرد السوريين. فهي تريد ربط تواجد المسلحين في ادلب بتواجد القوات الكردية شرق الفرات، وان الحل الذي تطالب به ينبغي ان يشمل المنطقتين بحسب رأيها.
على المقلب الأخر يريد النظام السوري استعادة ادلب بالكامل لما لها من أهمية كبيرة في حربه ضد الارهاب هذا من جهة، ولموقعها الاستراتيجي الحاكم على طرق المواصلات بين الساحل وحلب، وبين حماه وحلب، ومن المعلوم ان فتح هذه الطرق مهم جدا في معركة اعادة اعمار حلب، وتنشيط الحياة الاقتصادية فيها. وفي هذا المقلب أيضا تصطف ايران وروسيا، التي تمارس ضغوطا متزايدة على تركيا لتغيير موقفها من عقدة ادلب. تحت تأثير هذه الضغوط اقترحت تركيا على روسيا المنطقة العازلة، فوافقت روسيا وهي تدرك جيدا انها لن تستطيع الايفاء بالتزاماتها، وهذا ما حصل فعلاً. وفي اخر لقاء بين بوتين وأردوغان، سحب بوتين في وجه اردوغان اتفاقية اضنا لعام 1998 الموقعة بين المسؤولين الأمنيين في كلا البلدين، سورية وتركيا، في عهد حافظ الأسد ، والتي تسمح لتركيا بملاحقة مقاتلي pkk داخل الأراضي السورية لعمق خمسة كيلومترات فقط. ومما زاد في حجج روسيا أن جبهة النصرة سيطرت بالكامل على محافظة ادلب مع حلفائها، وطردت الجماعات المشكلة مباشرة من المخابرات التركية من المحافظة. في ضوء الوقائع الجديدة، عقدت الدول الضامنة لمسار استانا مؤتمرا لهم، على مستوى الرؤساء، في سوتشي، وعلى جدول اعماله الوضع في ادلب كقضية أولى رئيسة.
يستشف من تصريحات المسؤولين الروس أن تركيا قد اخذت وقتها، ولم تنفذ ما تعهدت بتنفيذه في إدلب، وان اتفاق خفض التصعيد في إدلب هو بالأساس اتفاق مؤقت، ولا بد من عودة ادلب إلى سيطرة النظام السوري، وإن قرار المعركة ضد الارهاب في إدلب لا يجوز أن يكون محط مساومة. واكثر من ذلك فإن الروس بحسب بعض المصادر قد اعلموا الأتراك بأن مساعيهم لضم جبهة النصر إلى ما يسمى بالجيش الوطني السوري الذي تشكله في شمال حلب غير مقبولة. بناء عليه فإن كل المعطيات تشير إلى ان معركة ادلب باتت قريبة، خصوصا وأن تزرع تركيا بعدم تشكيل اللجنة الدستورية، والبدء بالحل السياسي، لم يعد في محله. فبحسب انباء متطابقة من طهران وموسكو، واوساط المعارضة في الخارج، فإن ثلاثي استانا قد توافق على قوام حصة المعارضة في اللجنة الدستورية، وان بيدرسون المفوض الأممي الجديد إلى سورية قد حصل على دعم موسكو وطهران لنجاح مهمته. ولم تكن امريكا بعيدة عن كل هذه المساعي، بل إن قرار الانسحاب من سورية، يمكن وضعه في سياق خدمة الحل السياسي والتسريع به. خلاصة القول أن شتاء 2019/2020 سوف يكون حارا في ادلب، إذا لم تنفذ تركيا التزاماتها الجديدة بموجب قرارات مؤتمر سوتشي لرؤساء الدول الثلاث الضامنة، لإزالة عقبة كبيرة تعيق انطلاق الحل السياسي، لتبرد بعد ذلك كل الجبهات، ولتصير كل الطرق سالكة للحل السياسي، الذي بات مصلحة دولية بقدر ما هو مصلحة وطنية.
5-2 "عقدة" شرق الفرات وموقف الكرد السوريين
من المعلوم ان قوات سورية الديمقراطية باتت تسيطر على كامل الجغرافية السورية شرق نهر الفرات نتيجة لحربها ضد داعش التي هزمتها أخيرا في آخر جيب لها في الباغوز بالقرب من الحدود السورية العراقية في جنوب محافظة دير الزور، وصار لديها جيشا يقدر قوامه بنحو سبعين ألف مقاتل ومقاتلة مجهزين بأحدث الأسلحة الأمريكية. لقد كان النصر الذي حققته قوات سورية الديمقراطية على داعش مكلفا، إذ تجاوز عدد الشهداء الأحد عشر ألف شهيد، وأكثر من ثلاث وعشرين ألف جريح بحسب ما صرح به قائد هذه القوات مظلوم عبدي في الاحتفال الذي أقيم في حقل العمر شرق دير الزور لإعلان النصر على داعش. اذكر هذه الوقائع للقول بان قسد او الادارة الذاتية التي تم إنشاؤها في شمال شرق سورية من حقها ان تطالب في أية عملية سياسية بتحقيق مطالبها في إطار وحدة سورية أرضا وشعباً، ومن يعتقد بأنها سوف ترضى بما يدعوها النظام إليه من مصالحة على الطريقة التي يطبقها في المناطق التي استعاد السيطرة عليها فهو واهم وغير حكيم.
من المعلوم ان النظام كان قد سحب كل قواته من شرق الفرات عندما بدأت قوات ما يسمى بالجيش الحر بشن هجوم عليها، لتأتي بعد ذلك داعش وتطرد الجيش الحر، وتبدأ معركة شرسة ضد القوات الكردية التي كانت قد شكلت حديثا لصد هجومها على مناطق تواجدهم في شمال شرق سورية، واستطاعت هذه القوات الكردية ان تصد هجوم داعش في منطقة ما يسمى بلسان البطة في شمال شرق سورية، لتطردها لاحقا من اغلب مناطق محافظة الحسكة. في تلك الأثناء لم تقدم لهم قوات التحالف الدولي أية مساعدة، ولم يقدم لها النظام أيضا سوى مساعدات غير حاسمة خصوصا على صعيد تزويدهم ببعض المعدات العسكرية. لكن عندما بدأت داعش هجومها على شمال الرقة وتحديدا على عين العرب( كوباني) تدخلت قوات التحالف الدولي بقوة للمساعدة في صد الهجوم ودحره، ومنذ تلك المعركة تواصل دعم قوات التحالف الدولي بقيادة امريكا لقوات قسد حتى الانتصار النهائي عليها في معركة الباغوز. ما نود قوله هو أن القوات الكردية لم تستدعي قوات التحالف، بل هي التي فرضت وجودها، وبالتالي فإن مطالبتها بفك علاقاتها بهذه القوات وتحديدا بأمريكا كشرط للحوار السياسي معها هو مطلب في غير محله. وإذا كان من حق النظام ان يستعين بروسيا وإيران لمساعدته في حربه على الارهاب، فمن حق السوريين شرق الفرات وفي مقدمتهم الكرد السوريين أن يدافعوا عن انفسهم وأن يقبلوا أية مساعدة تقدم لهم من أية جهة دولية جاءت، في وقت تخلى فيه النظام عن واجباته تجاههم.
من جهة أخرى، ومن مصلحة الكرد السوريين قبل غيرهم النظر في طرح مطالبهم كوجهات نظر للحوار والتفاوض وليس كخطوط حمراء كما وردت على لسان العديد من القادة السياسيين والعسكريين الكرد، فحل القضية الكردية غير ممكن إلا في إطار الحل الوطني الشامل، وعلى أساس الحفاظ على وحدة سورية أرضا وشعبا وسيادة الدولة على كامل الراضي السورية. وفي هذا السياق من غير الحكمة القيام بتصريحات او تقديم مطالب لجهات دولية توجه رسائل سياسية خاطئة لجميع أطراف الانقسام الوطني السوري، وبصورة خاصة تجاه النظام الذي يمكن أن يوظفها في خدمة اغراضه لتأليب الرأي العام السوري عليهم. من ذلك ما طالبت به السيدة إلهام احمد، الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي لمجلس سورية الديمقراطية، في واشنطن من ضرورة بقاء القوات الأمريكية في سورية، او مطالبتها فرنسها بمنطقة حظر جوي، او مطالبة النظام بالاعتراف بالإدارة الذاتية في شمال شرق سورية كشرط للحوار معه. في هذا السياق جاءت تصريحات القائد العسكري لقوات سورية الديمقراطية مظلوم عبدي في مقابلة حصرية لمونيتور في 10 آذار 2019، التي طالب فيها بالاعتراف بالإدارة الذاتة في شمال شرق سورية وبتواجد قوات قسد شرق نهر الفرات خطوطا حمراء في أية تسوية محتملة مع النظام. كشف السيد مظلوم في تلك المقابلة عن أن أمريكا تطالبهم بعدم التسرع بالحوار مع النظام، وقال تعقيبا على ذلك بأن لدى الأمريكان" ما يبرر بعض مخاوفهم..." وأنهم لا يريدون أي تغيير في موازين القوى شرق النهر، لأن ذلك سوف "يؤثر عليهم سلبا"، ويشارك العبدي الأمريكان وجهة النظر هذه. من المؤسف أن يشارك العبدي الأمريكان وجهة نظرهم، فهم لا يكترثون سوى لمصالحهم كما عبر عن ذلك هو نفسه بصورة صحيحة، ومصالحهم تطلب الدفع باتجاه الصدام مع الجيش السوري، وليس الحوار لإيجاد تسوية سياسية.
إن اعلان ترامب عن سحب قواته من سورية وضع قوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية في وضع حرج، وبصورة خاصة أمام التهديدات التركية الجدية، كما وضعهم في حرج سياسي عندما اعترف بسيادة اسرائيل على الجولان وهي أرض سورية، وكان من واجبهم ان يستنكروا ذلك، لكنهم لاعتبارات غير منطقية عدوها تكتيكية صمتوا، مما قدم خدمة كبيرة للنظام.
إن أي حل للقضية الكردية في سورية ليس شأنا داخليا سوريا صرفا، بل هو إقليمي بالدرجة الأولى وخصوصا إذا تجاوزت المطالب الكردية الحدود المقبولة محليا وإقليميا. من حيث المبدأ يمكن تفهم مطالبتهم بحقوقهم الثقافية، وبنوع من الإدارة الذاتية لشؤونهم، في إطار قانون جديد للإدارة المحلية، يعطي للمحافظات نوعا من السلطات المحلية التشريعية والتنفيذية في كل ما له علاقة مباشرة بحياة المواطنين ولا يمس بسيادة الدولة، كما يمكن ايجاد حل لقوات سورية الديمقراطية في إطار الجيش السوري بعد اعادة هيكلته وتنظيمه، وهي مهمة على ما يبدوا بدأت بالتعاون مع الروس.
لقد ادت التغيرات على الأرض في شمال شرق سورية في خريف عام 2019 من قبيل دخول القوات التركية إلى شمال محافظة الرقة واحتلالها لمناطق واسعة منه بالتعاون مع عملائها ممن تسميهم بالجيش الوطني السوري، وكذلك دخول الجيش السوري إلى عين العرب وإلى بعض مناطق ريف الحسكة والرقة، إلى جاني القوات الروسية، إضافة إلى انسحاب القوات الأمريكية من تلك المنطقة تنفيذا لاتفاقات بين روسيا وتركيا والكرد، وبين أمريكا وتركيا، جعلت الحلم الكردي بإدارة ذاتية خاصة بهم في مهب الريح.
5-3- موقف النظام السوري.
ألقى الرئيس السوري بشار الأسد خطابا في رؤساء المجالس المحلية " المنتخبين" على مدرج جامعة دمشق الكبير بتاريخ 17/2/2019، وهو خطاب طال انتظاره، بعد موجة عاتية من التكهنات، ذهبت بالسوريين في اتجاهات شتى، عل وعسى يعيد لملمتهم بعد تناثر. غير ان الخطاب خيب أمل من راهن عليه، فهو تكرار صار مملا لطريقة في الوعظ وإلقاء الدروس، بعيدا عن مقاربة متطلبات الخروج من الأزمة.
بدأ الرئيس خطابه بالقول أن الأوطان تبنى عبر "الدروس والتجارب"، وبالتالي ما مرت به سورية من كارثة، غير مسبوقة في التاريخ، هي مجرد تجربة على طريق بناء الوطن، وهو بذلك يعيد الحديث عن فكرة قالها في بداية تفجر الأزمة تفيد بأن سورية ما انفكت تتعرض للمؤامرات، وما انفك الشعب السوري يقاومها و يفشلها. ومن المعلوم أن الأوطان لا تبنى من خلال "الدروس والتجارب"، فهي ليست على مقاعد الدراسة، ولا في المختبرات، حتى ولو كانت مقاعد ومختبرات الحياة ذاتها، بل من خلال العمل المبدع الخلاق لشعوبها، وهو لا يكون في مناخ الاستبداد بل في مناخ الحرية والديمقراطية وحكم القانون، وهذا ما تفتقر سورية أليه منذ عقود من السنين.
من حق الرئيس أن يكون سعيدا بلقاء رؤساء المجالس المحلية" المنتخبين"، الذين يعلم كل سوري كيف تم انتخابهم من قبل الأجهزة الأمنية ليؤدون وظيفة أرادها النظام تعبيرا عن قوته واستقراره، وهو عموما ليس بحاجة إليها إلا من ناحية الشكل والمظهر، لكنها في مجمل الأحوال لا تبرهن على قوة الدولة واستقرارها، فقوة الدولة تكون بقوة شعبها وهذه لا تكون إلا من خلال تأمين احتياجاته الضرورية. اليوم اكثر من ثمانين بالمئة من السوريين المتواجدين في البلد يعيشون تحت خط الفقر، في حين اكثر من خمسة ملايين يعيشون في المخيمات في حالة بؤس غير مسبوق. ما هذه الدولة القوية التي فقدت أكثر من ستين في المئة من قوة اقتصادها، وخسرت نحو خمسين في المئة من نخبها وكوادرها العلمية والثقافية والاقتصادية وغيرها. لقد صار السوريون مشتتين في جميع انحاء العالم يستجدون المساعدة، ورئيسهم يرى قوة "الشعب والدولة" في "انتخابات" المجالس المحلية؟!!. هذه الدولة القوية جاء ترتيبها في نشرة منتدى دافوس لعام 2018 للدول بحسب ناتجها المحلي في المرتبة الأخيرة، في حين غابت عن تقرير اليونسكو حول جودة التعليم ما قبل الجامعي، لأنها خارج التصنيف. أما بالنسبة للتعليم العالي فقد شغلت جامعاتنا مراتب متأخرة جدا، تتفوق عليها جامعات الصومال وموريتانيا وغزة.
كان لافتا في خطاب الرئيس حديثه عن توسيع هامش "اللامركزية الإدارية" في إدارة شؤون المجتمع، مستخدما بصورة لافتة مصطلح من مصطلحات المعارضة. لكن لكي يكون لهذه الإدارات المحلية دور فعلي في إدارة وتنمية مناطقها، فلابد اولا ان تكون منتخبة فعلا وعلى اسس تنافسية، ولا بد ثانيا من تمكينها، ولابد ثالثا من تأمين الظروف والشروط المناسبة لها لكي تؤدي دورها، وهذه جميعها لا يؤمنها نظام الحكم القائم. الدور الفعلي الذي أدته المجالس المحلية هو الدور الأمني الاخباري، وكذلك توسيع نطاق الفساد، والمشاركة في اقتسام مغانمه.
تبدو اللامركزية اليوم احدى المخارج الضرورية من الأزمة السورية، ومن الجيد أن يتحدث عنها الرئيس، لكن ليس فقط الإدارية، بل التشريعية أيضاً في كثير من المجالات الخاصة بالوحدات الإدارية على مستوى المحافظات، لكي تستطيع السلطات المحلية فعلا المساهمة في التنمية المحلية على كل الصعد الاقتصادية والعمرانية والثقافية والخدمية، فهي ادرى باحتياجات سكانها. لكنها في هذه الحالة بحاجة إلى تمكين وهذا لا يكون حقيقياً إلا بانتخاب السلطات المحلية فعلا بحيث يكون لكل محافظة مجلس تشريعي وحاكم منتخبين، وحكومة تشكل وفق قواعد الديمقراطية. قانون الإدارة المحلية 107 لا يحقق ذلك، بل لا بد من دستور جديد يعيد هيكلة بناء السلطات في الدولة، ويوزع الصلاحيات بين السلطات المركزية والسلطات المحلية، وينظم هذه الصلاحيات في قوانين خاصة تنفذ الدستور.
إن تصور الرئيس الجديد لدور ووظيفة الادارات المحلية يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح فعندما تقوم الإدارات المحلية " بإدارة التفاصيل اليومية تنتقل المؤسسات المركزية لممارسة دورها الرقابي، وتكون لديها الفرصة للتفرغ بشكل أكبر للسياسات الشاملة، والاستراتيجيات، بدلاً من الغرق في التفاصيل اليومية كما هو الوضع حالياً". وهذا بحد ذاته يعني فعلياً " الاستثمار الأمثل للموارد المالية، والاستثمار الأمثل للموارد البشرية، وفي الوقت نفسه اختصار الزمن في عملية التنمية". ويذكر الرئيس بوظيفة مهمة من وظائف وحدات الإدارة المحلية، لأنها الأقدر على القيام بها ليس فقط لكونها تتواجد " في كل زاوية من زوايا الوطن" وبالتالي فهي الأقدر على "معرفة التفاصيل الموجودة في المجتمع"، بل لأن لها مصلحة في ذلك، أعني وظيفة تدقيق "الأرقام الاحصائية"، التي هي في سورية وجهة نظر. منذ أن بدأ الحديث عن نظريات التنمية، كان الحديث يشمل دقة المعطيات الاحصائية، فلا تنمية حقيقية متوازنة بدون رقم احصائي دقيق، هذه الحقيقة كانت غائبة، بل مغيبة في سورية في ظل النظام الاستبدادي، لأن الرقم الصحيح يهدد أركانه. هنا يطرح السؤال حول جدية هذا الطرح الجديد للرئيس الذي فعلا يمكن ان يهدد أركان النظام القائم، وإذا كان يعنيه فعلا فهذا يتطلب الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي يسود فيه حكم القانون والشفافية والعدالة والمساءلة وغيرها.
لقد تحدث الرئيس عن تفاصيل عديدة في وظيفة الإدارات المحلية، وهي عموما صحيحة، مثل التوقف عن " طلب الحلول" من الأعلى من القمة" في حين ينبغي ان يكون "من القمة ومن القاعدة" بل ربما تكون "القاعدة أقدر على اقتراح الحلول" ليس فقط الحلول "التكتيكية" بل "الاستراتيجية " أيضا في نطاق عملها وصلاحياتها. عندئذ يتحول المواطن فعلا "من مجرد ناقد إلى ناقد ومشارك في الحل، وحامل للمسؤولية ". في مناخ العمل هذا، ومشاركة الناس في إدارتها لشؤونها الخاصة يصير ارتباط" الإنسان بأرضه، وانتمائه إلى وطنه" حقيقيا. اللامركزية هي الوحيدة التي تؤمن "الشراكة بين الجميع في الدولة، وفي المجتمع، وهذه الشراكة هي التعبير الحقيقي عن واحد من أهم أوجه الممارسة الديمقراطية"، لكنها للأسف غير قابلة للتطبيق في نظام استبدادي أمني شديد المحافظة. بالتأكيد ليس من مصلحة أي سوري إضعاف الدولة، وإن اللامركزية على العكس تقويها من خلال توزيع الصلاحيات بين المركز والإدارات المحلية، لكي تتولى شؤون السكان في مناطقها من جميع النواحي الاقتصادية والثقافية والخدمية والتنموية وغيرها، في إطار الاستراتيجية العامة للدولة، وسياساتها العامة.
إن حديث الرئيس عن اللامركزية بهذا الشكل يخلق أرضية جيدة للحوار مع جميع اطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية، وبصورة خاصة مع الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية المعلنة من طرف واحد. لكن هذا النوع من الحوار حول اعادة هيكلة السلطات في الدولة، ونقل بعض الصلاحيات إلى الإدارات الذاتية المحلية، يحتاج إلى حل القضايا الكبرى المتعلقة بالأزمة والتي في مقدمتها الانتقال إلى نظام ديمقراطي. من هذه الناحية لا يزال الرئيس متشددا تجاه اطراف الانقسام الوطني من المعارضة التي خصها بقسم مهم من خطابه. لقد شن عليها هجوما لاذعا، غلب عليه التخوين لها دون تمييز، ومع ذلك ترك لها بابا مفتوحا مواربة، لتعود عن "ضلالها وإثمها"، وهو باب "الانضمام إلى المصالحات، وتسليم السلاح لمن حمل السلاح، والتراجع عن الإثم لمن وضع نفسه، ومصيره بتصرف الأعداء" فالشعب "العريق بتاريخه، فإن قلبه كبير بتسامحه واحتضانه للعائدين إليه" .لا بد من تثمين هذا الموقف للرئيس. لكن ثمة من لم يرتكب أي اثم سوى انه عبر عن رأيه، أو شارك في مظاهرات سلمية، ولم يحمل السلاح، بل كان ضد حمله منذ البداية، وهم بعشرات الآلاف بحسب بعض التقديرات، منهم آلاف النساء معتقلون في سجون النظام، وهم الأولى بأن يطلق سراحهم. لقد صار أهالي الموقوفين يتندرون ويقولون يا ليت كان ابناؤهم ممن حملوا السلاح، لكانت التسوية معهم أسهل!!. أضف إلى ذلك فإن المصالحات التي يدعو الرئيس إليها هي مصالحات ذات طابع امني وليس سياسي، وهي مفروضة بقوة الغلبة، في حين سورية تحتاج للخروج من ازمتها إلى حوار وطني شامل يتناول جميع القضايا المتعلقة بالأزمة والمخارج المحتملة منها، وفي مقدمتها النظام السياسي المنشود.
بلا شك فإن الانتصار على قوى الارهاب ينبغي تثمينه، وينبغي الاعتراف بدور وفضل الجيش السوري وحلفائه في الحرب على الارهاب، والانتصار عليه. وفي هذا المجال علينا أيضا ان نقر بدور وفضل قوات سورية الديمقراطية في حربها على داعش والانتصار عليها وتثمين هذا الدور. وهذه الحرب على الارهاب لم تكن يوما حربا "طائفية ولا أهلية"، لكنها كانت في البداية قمعا لشعب خرج يملأ الشوارع يريد الاصلاح والتغيير، تحولت لاحقا من جراء اللجوء إلى خيار السلاح، و تدخل دول عديدة عربية وإقليمية وبعيدة إلى جانب دعم الارهابيين إلى حرب شاملة ضد الارهاب. مع ذلك يبقى التساؤل مشروعا لماذا شارك عشرات الآلاف من السوريين في الحرب إلى جانب القوى الارهابية، وكان لهم حاضنة اجتماعية، مع العلم ان حزب البعث هو الحاكم منذ اكثر من خمسة عقود، وبالتالي فإن الذين خرجوا لحمل السلاح هم اجيال البعث. من المسؤول عن هذا الجانب المظلم في مجتمعنا والذي "يؤدي إليه غياب القيم، والمبادئ، والأخلاق، وينتج الجريمة، والتطرف، والفساد، وتكون المحصلة غياب الانتماء إلى الوطن". هذا السؤال يكتسب مشروعيته وضرورته، إذ أريد فعلا منع ظهور هذا الجانب المظلم في المستقبل. وإن أي بحث رصين عن أسباب وجود هذا الجانب المظلم لا بد أن يكتشف مسؤولية النظام الاستبدادي عنه، وإن السبيل الوحيد لمنع ظهوره في المستقبل هو التغيير الجذري والشامل للنظام الاستبدادي القائم إلى نظام ديمقراطي تعددي، مشبع بقيم الحرية والمسؤولية والقانون. هذا لا يعني ان الأنظمة الديمقراطية لا تظهر فيها مشكلات، واحيانا تكون مشكلات معقدة، لكن الديمقراطية تمتلك الوسائل والآليات لمعالجتها، وليس التستر عليها وتركها للتفاقم.
من الجيد أن يدعو الرئيس الأسد الذين غادرو الوطن بفعل (الارهاب) للعودة إلى الوطن والمساهمة في بناء البلد، لكن ماذا بشأن من غادر البلد بفعل النظام وهم أكثر بكثير ممن غادره بفعل الارهاب؟ ما هي الضمانات أن لا تعتقلهم الأجهزة الأمنية وتلحقهم بعشرات الآلاف من نزلاء سجون النظام!! ينبغي أن يكون من حق كل سوري أن يعود إلى وطنه، وإذا كان لديه ما يشكل قضية فالقضاء هو المرجع وليس الأحكام السياسية الجاهزة وفق مسطرة معينة لما هو طني، وغير وطني.
كان لافتا ان يركز الرئيس في اكثر من موضع في سياق خطابه على اهمية الحوار، بل وضعه في موضع الضرورة، وارتقى به إلى مستوى النقد. لكن الحوار لا يكون إلا بين المختلفين وهذا يتطلب قبل كل شيء الاقرار بالاختلاف، والحق فيه، والحق بالدفاع عنه، بغير ذلك لا تكون "ثقافة التنوع" ولا يكون التنوع غنا مجتمعيا وثقافيا وسياسيا وغير ذلك. وإذا كان النقد يصدر من طرف تجاه آخر وهو هنا السلطة، فهو لا يتطلب فقط وجود ناقد موضوعي، يستند إلى "حقائق"، بل يتطلب من الطرف الآخر التفاعل الايجابي مع النقد، وليس وضع صاحبه في السجن كما حصل مع الألاف من المواطنين السوريين الحريصين على بلدهم. أذكر جيدا حادثة منذ نحو عشر سنوات خلت، كنت وبعض أصدقائي طرفا فيها، تتعلق بفاسد كبير زور شهادته لكي يكون في منصبه، الذي كان يدر عليه، وعلى داعميه عشرات الملايين من الليرات التي كان ينبغي ان تذهب إلى صندوق الدولة، وعندما ذهبنا إلى هيئة التفتيش المركزي بالوثائق التي تدينه، قيل لنا " لا تعلقونا معه لدينا من الوثائق أكثر مما لديكم". ولم يكن موقف النائب العام مختلفا، ولكي يتملص من المسؤولية طالب بدعوى خاصة، وكأنه سارق لأموالنا الخاصة وليس لأموال الدولة. وعندما نشرنا الوثائق على الشبكة العنكبوتية، جاء ضابط أمن إلى بيتي، وهو يزمجر ويقول "لماذا لم تعلمونا به لكنا قصينا رأسه"ـ فقلت له هذه هي الوثائق اذهب وقص رأسه، فكانت النتيجة حجب الموقع الالكتروني الذي نشرت عليه الوثائق. اليوم يا أيها الرئيس صار الفساد وقحا، لا يخشى شيء. مشكلاتنا صارت كثيرة، وقد انتشرت في جميع مناحي حياتنا، وللأسف لا يوجد مسند سليم يمكن الاتكاء عليه. القضاء فاسد، والشرطة وقوات الأمن فاسدة، والتعليم فاسد، والقطاع العام الاقتصادي ينخره الفساد، واقتصاد الظل صار أقوى، والعملة الوطنية تقترب كثيرا من حافة الانهيار. وإذا كانت هذه المشكلات تختلف من حيث اسبابها المباشرة إلا ان لها سببا رئيسا مشتركا، وهو طبيعة النظام الاستبدادي. بدون حرية وحياة سياسية طبيعية، يغيب معهما القانون او تطبيقه، وتغيب مسؤولية والمحاسبة، وبدون ديمقراطية يغيب الحكم الرشيد، الذي في إطاره فقط يمكن تعظيم التنمية ونتائجها، ومن ثم رفع مستوى حياة جميع المواطنين.
وإذا كان صحيحا أن" مستقبل سورية يقرره السوريون" كما ورد في كلمة الرئيس، فإن السؤال الأساس الذي يطرح نفسه ماذا عمل النظام خلال اكثر من خمسين عاما لتمكين الشعب من تقرير مصيره، وشكل النظام السياسي الذي يريده. ثم كيف لشعب ان يقرر مستقبله، وهو يفتقر إلى الحياة السياسية الطبيعية، وإلى حرية التعبير، وإلى حكم القانون. إن ابسط سوري يعلم علم اليقين أن الذي يحكم سورية هي الأجهزة الأمنية، وهي الراعي الأكبر للفساد وللتهريب. بدون حياة سياسية طبيعية، يمارسها السوريون من خلال أحزاب سياسية، وبدون مناخ الحرية بكل معانيها ومجالاتها، وبدون منظومة الحكم الرشيد، لا يمكن تمكين الشعب من أن يقرر مستقبله.
وفي حديثه عن العملية السياسية يكشف الرئيس بكل وضوح عن موقف نظامه الرافض لها، بل انتقدها بشده، وعدها طريقا لتدخل الأخرين في الشأن الداخلي السوري. ومن الطبيعي والحال هذه أن لا يتساءل عن مسؤولية نظامه في اعاقتها. حتى نتائج وتوصيات مؤتمرات الحوار الداخلي التي نظمها لم ينفذ شيئا من توصياتها. وإذا كان توصيفه لكثير ممن يشتغلون معارضة في الخارج صحيحا، فهم فعلا لا يمثلون الشعب السوري، وليسوا أمناء على مصالحه، بل هم ادوات في خدمة أجندات خارجية، لكن المعارضة الداخلية هي الأخرى في تصنيف النظام لها غير جديرة، ولذلك يتعامل معها بالتجاهل والاقصاء. خلاصة القول أن النظام السوري لم يقدم أي تنازل على طريق الخروج من الأزمة بإرادته، وهو قد بدأ بإعاقة عمل اللجنة الدستورية في جنيف التي اجمعت الأطراف الدولية على اعتبارها مدخلا للحل السياسي. غير ان السوريين الذين زادتهم الأزمة نضجا لن يقبلوا بعد اليوم ان يقرر الأخرون عنهم نمط حياتهم، بما فيهم هذا النظام الفاسد، وهم يريدون وعازمون فعلا على تمكينهم من تقرير مستقبل بلدهم، ومستقبلهم الخاص.