الكيماوي الأمريكي الحلال


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 5999 - 2018 / 9 / 20 - 18:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أحد الليبراليين (اليساري سابقًا للأسف) لا يرى في الحرب السورية إلا بعدًا واحدًا.. هو البعد ”الكيماوي“ أي استخدام النظام السوري المزعوم للأسلحة الكيماوية وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليًا. ولا يكف هذا الشخص عن تحذير النظام من كون الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وأن ”المجتمع الدولي“ لن يتسامح مع هذه الجرائم، وأن محاكمتهم دوليًا حتمية إن عاجلاً أو آجلاً.
شاغبته بقولي: ”إذن الجرائم الأمريكية والغربية عمومًا- المثبتة تاريخيًا والمعترف بها رسميًا وأكاديميًا- لن تسقط بالتقادم، فلماذا لا تدعو إلى محاسبة الولايات المتحدة وإسرائيل وكل الدول الغربية التي أفرطت على مدى التاريخ المعاصر في استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا؟“
ضربت له مثلاً باستخدام الغازات السامة في الحرب العالمية الأولى، حيث استخدمت كل الأطراف غازي الكلورين والخردل. وتقول الإحصائيات إن إجمالي الإصابات بالغاز في هذه الحرب بلغ أكثر من 1,2 مليون إنسان، منهم حوالي 91 ألفًا لقوا حتفهم.
رد عليّ بمنطق مِعْوَج : إذن كل الأطراف استخدمتها.. وبالتالي لا مجال للمحاسبة بينهم بعد الصلح، كما أن هذا كان حافزًا كي يضع "المجتمع الدولي" فيما بعد قيودًا وعقوبات حاسمة على استخدامها.
في الحقيقة فاجأتني إجابته بأن التشريعات الحديثة ضد جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية لا تسرى على الممارسات الأسبق عليها لأن ”القانون لا يسري بأثر رجعي“!!
صعقتني الإجابة الوقحة.. ولم أجد ردًا مناسبًا عليه سوى باللجوء للمزيد من الحقائق الدامغة عن جرائم الولايات المتحدة وحدها. قلت لن أتحدث عن العراق وأفغانستان لأن "مجتمعك الدولي" مازال عاجزًا عن كشف الحقائق كاملة، ناهيك عن الحساب. سأكتفي بالحديث عن حرب فيتنام التي لم يعد أحد ينكر وقائعها.
فالقاذفات الاستراتيجية من طراز بي 52 والتي تطير على ارتفاعات شاهقة قد ألقت على شمال فيتنام 8 ملايين طن من القنابل (خاصة قنابل الألف رطل) في الفترة من 1965 إلى 1973، أي حوالي ثلاثة أضعاف ما ألقته أمريكا في الحرب العالمية الثانية. ومعنى هذا الرقم أن نصيب كل مواطن في فيتنام الشمالية كان 300 طن من القنابل.
لم يقف الإجرام الأمريكي عند هذا الحد من إلقاء القنابل الجهنمية شديدة الانفجار، واتباع أسلوب الضرب المساحي (أو "القصف السجادي") فاستخدمت العديد من القنابل الحارقة المضادة للأفراد، ومن أشهرها النابالم، وهو عبارة عن مزيج من البترول مع مادة مكثفة تنتج هلامًا (جِلْ) يحرق جلد الإنسان والحيوان. وتقول التقارير إن ثلاثة أرباع المصابين بالنابالم في فيتنام قد وصلت حروقهم للعضلات والعظام، أي حروق من الدرجة الخامسة. كما كانت الصدمة والآلام الناتجة سببًا مباشرًا للوفاة.
أما القنابل العنقودية فالولايات المتحدة هي "عرابها" الأول. وهي قنابل بكل منها حوالي 250 بلية تنفجر عبوتها قبل السقوط لتصيب الأفراد في مساحة واسعة دون حاجة للتنشين.. ثم أضيفت المسامير إلى القنبلة، وبعد ذلك أضيفت إبر بلاستيكية تخترق الأجسام ولا تستطيع أشعة إكس اكتشافها، ومن ثم تحدث تشوهات فظيعة في أعضاء الجسم يعجز الأطباء عن معرفة أسبابها أو علاجها في الوقت المناسب.
ومن أفظع الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة استخدام المبيدات الكيماوية (المسماة "الوسيط البرتقالي") لحرق وإزالة الأحراش التي كانت قوات الفيتكونج تستخدمها في حرب العصابات كمقار وكمائن، وتقول التقارير إن عام 1969 وحده شهد تدمير أكثر من مليون هكتار من البيئة الغابية بهذا الأسلوب الهمجي الذي لم يصب النبات وحده وإنما كان له تأثيرات كروموسومية على البشر مما أحدث تشوهات عضوية أصبح الأطفال يتوارثونها حتى الآن، حيث يولدون بلا أطراف أو عميانًا أو مصابين بشلل الحبل الشوكي بمتلازمة داون (الطفل المنغولي)..
وتقول تقارير الصليب الأحمر في فيتنام إن الإعاقة قد لحقت بأكثر من مليون فيتنامي، فضلاً عن عن وفاة نصف مليون بسبب مشكلات صحية متفاقمة جراء استخدام الأسلحة الكيماوية وغيرها من المحرمة دوليًا.
لم يقتصر الأمر على الأحراش، وإنما امتد إلى المحاصيل الزراعية باستخدام مادة أخرى أسميت "الوسيط الأزرق"، فقد كانت الذريعة الحربية هي حرمان العدو من الغذاء. وظلت السلطات الأمريكية متمسكة باستخدام الوسيطين البرتقالي والأزرق حيث بلغ ما ألقت منهما على فيتنام 72 مليون لتر.. إلى أن اضطرت عام 1974 إلى التعهد بالتوقف عن استخدامهما، خاصة بعد الحملة التي اشترك فيها خمسة آلاف عالم أمريكي بينهم 17 من الحائزين على جائزة نوبل..
لا شك أن السنين القادمة كفيلة بالكشف عن مزيد من جرائم أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وغيرهما ضد الشعوب بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية، في وقت تصارع بشراسة من أجل حرمان "أعدائها" من استخدام ذات الأسلحة.. مطمئنة في ذلك إلى ليبراليين وعملاء محليين يتسلحون بفكرة "الأثر الرجعي" أو فكرة "الأثر الجانبي" للدمقرطة العنيفة.