مفهوم - الانسان الكامل- لدى ماركس


ثامر الصفار
الحوار المتمدن - العدد: 5505 - 2017 / 4 / 28 - 21:21
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

او اذا شئنا الدقة : الحلم بالانسان الكامل؛ كلمات ثلاث كانت دافعا لماركس كي يكرس سنوات عمره لتحقيقه ؛ الحلم بكائن بشري متكامل – اساس الانسانية المتكاملة – حيث تتحقق الانسانية الكامنة داخل كل فرد. هذه الامكانية الداخلية للبشر، كانت تعادل في عيون ماركس، تطور الحرية الانسانية، ولتحقيقها ينبغي تجاوز حالة اغتراب الناس عن بعضهم البعض وعن انفسهم. ينبغي تحرير الانسانية من الجري وراء الغايات الاقتصادية الضيقة والانفتاح على عوالم اخرى للخلق والابداع.

مر فكرماركس بالعديد من المراحل في مسار حياته، بيد ان الموضوع الذي مثل نقطة البداية بالنسبة له لم يتغير مطلقا: امكانية الانسان الكامل.
فمنذ انطلاق نفير الثورة الصناعية ونمط الانتاج الراسمالي مع بداية القرن التاسع عشر، غدت عملية تهشيم الانسان عبر تقسيم العمل، المكننة، الاستغلال، والتجارة، هي الممارسة الاوروبية الاساسية. وغدا التوق لوحدة الانسان مع نفسه، ومع جنسه، ومع الطبيعة، بعد اغترابه عنها جميعا، هاجسا مشتركا بين محبي المشاعر والافكار الانسانية.
رومانسيو القرن التاسع عشر اعلنوا رفضهم لعالم حول كل شيء الى بضاعة، واحط من قيمة الانسان الى مجرد شيء، واكدوا ان الانسان غدا شظية من نفسه، مقهورا بواسطة عمله هو، مبتعدا عن ذاته.
وتحول عصر التطور السريع للتكنولوجيا والصناعة، الى عصر الروح الجشعة والتجارة للراسمالي، وتعاسة البروليتاري، عصر للامال الثورية وخيبتها في واقع ما بعد الثورات، عصر الاحتجاجات الرومانسية ضد البورجوازية الراضية عن نفسها. فاشترك فيها الارستقراطي والعامي؛ وادان كلاهما الحط من قيمة الانسان من خلال تقسيم العمل الجائر الذي كان من نتائجه الحادة زيادة ثروة احد قطبي المجتمع وزيادة بؤس وتعاسة القطب الاخر ماديا ومعنويا. ومع مرور الزمن ، انقسمت الحركة الرومانسية الى قسمين نظرالاول منهما الى الماضي باعتباره زمنا لوحدة وكرامة الانسان ودعوا الى العودة اليه؛ ونظر القسم الثاني الى المستقبل حالمين بظهور جديد للانسان الكامل في عالم قادم تسوده الحرية والوفرة والانسانية.
قامت الثورات السياسية في اميركا وفرنسا ، ونادت بحق الانسان بالحرية – " الشخصية الحرة". وكان التناقض بين هذه الادعاءات وبين الواقع الذي تلاها مؤلما للكثيرين. اجل، اصبح الانسان في المجتمع البورجوازي فردا- لا يشترك مع الاخرين من المجتمع، بل هو في منافسة شرسة معهم. يكتب ماركس الشاب في حول المسألة اليهودية:
" لم تتأسس الحرية باعتبارها حقا للانسان على العلاقات بين انسان واخر، بل على انعزال انسان عن اخر". " ليس ثمة، اذن اي حق مما يسمى حقوق الانسان يتخطى الانسان الاناني، الانسان كعضو في المجتمع المدني، فرد منعزل عن المجموع، منطويا على ذاته، مشغول كليا بمصالحه الخاصة ونزواته الشخصية".
القضية أذن، تتمثل في كيفية ابعاد الانسان، المختزل لفردانية فارغة، عن المصالح والنزوات الخاصة، وفي توحيده كفرد مع المجموع اعتمادا على حرية الجميع بدلا من هيمنة القلة.
في دفاتر ملاحظاته التي كتبها استعدادا لاطروحة الدكتوراه في جامعة برلين، وكان لا يزال في الواحد والعشرين من عمره، لا نجد اية اشارة، من قبل ماركس، حول الصراع الطبقي، او البروليتاريا والثورة، اوعن "عالم الحرية" في مجتمع خال من الطبقات ومن الحكام. لكننا نجد مع ذلك، في الدفترالسادس، الجملة التالية حول الذاتانية، اي المذهب الفلسفي الذي يقيم كل المعرفة على الخبرة الذاتية:
" وهكذا، عندما تغيب الشمس العامة، تبدء الحشرات بالبحث عن ضوء المصباح الخاص!".
وقبل ذلك في الدفتر الثالث :
" الذي لا يجد متعة في انشاء كل العالم بقواه، في ان يكون خالقا للعالم بدلا من الدوران الى الابد داخل جلده، ستحل عليه لعنة الروح."
واخيرا في الدفتر السابع:
" على الاقل يحق لنا ان نفترض، اعتمادا على قوة السلطة وحسن النية، ان الفلسفة هي فلسفة، حتى لو كانت السلطة هي سلطة امة باكملها، وحسن النية والايمان قائم منذ قرون".
ان التزام الفرد بهدف عام هو ما كان يمثل بالنسبة لماركس " الشمس العامة"، مشاركة الفرد في قضية عامة، حقيقة ان افعاله وافكاره يمكن لها ان تتجاوز المصلحة الخاصة. لقد رفض ماركس فكرة " الدوران الى الابد داخل جلده"، واراد ان يكون " خالقا للعالم"، اراد ان يصنع عالمه فكريا، وان يساهم في الاخير في عملية تحويله ماديا. ان الرغبة في فجر اجتماعي جديد، في شمس "عامة" تجعل من ضوء المصباح الخاص باهتا، هي رغبة صحيحة لا تقبل الخطأ. ولكن بنفس القدرمن المساواة، ثمة حماسة وفورة العقل النقاد غير المستعد لقبول السلطة والايمان كبرهان علي حقيقة اية فلسفة، او عقيدة، او نظام. ان ماركس وهو في الواحد والعشرين من عمره كان تواقا للسير صوب عالم جديد – اي انه لم يكن مستعدا للتخلي عن حقه في اخضاع كل ما هو كائن او ما سيكون للمعاينة النقدية.
في برلين، عندما كان ماركس يدرس القانون والفلسفة والتاريخ، كانت الروح السائدة هي الهيغيلية التي جذبت لها الكثير من الباحثين والمفكرين الشباب. لقد رأى هيغل، في مؤلفاته الفلسفية الضخمة، التي كانت، في ذات الوقت، نقطة الذروة ونفي للرومانسية، روح العالم وهي تجتاز اشكالا متعاقبة من الاغتراب في تاريخ العالم – من السقوط بعيدا عن الذات – وايضا العودة الى الذات، المصالحة، وهكذا، التقدم من وحدة لا واعية مع الذات الى وحدة واعية. وكانت صعوبة الفلسفة الهيغيلية بمثابة تجسيد لحيوية التناقضات والاختلافات السائدة في عصره – فكرة التطور، الحلم بعالم الحرية والوفرة، الواقع الذي يصبح واعيا لذاته.
في بداية الامر كان ماركس الشاب رافضا لهيغل، لكنه سرعان ما انجذب اليه والى ديالكتيكه – التناقض الداخلي ضمن طبيعة الفكر وكل الاشياء، ادراك ان لا شيء يمكن فهمه بشكل معزول، او كتسلسل خطي للسبب والنتيجة، بل يتوجب فهمه كتفاعل متعدد المستويات لكل العوامل وباعتبارها في صراع مع نفسه: اي ان كل شيء، وهو ينبثق الى الوجود، ينتج نقيضه او نفيه ويميل الى السير نحو نفي النفي. الا ان ماركس تخطى هيغل في الخلاصات التي توصل لها.
كمحرر في الجريدة الليبرالية Rheinische Zeitung من عام 1842 حتى عام 1843، اصبح ماركس، بافكاره الراديكالية الديمقراطية شوكة مغروزة في جسد المانيا خلال 1840ت*، وكان عليه الانتقال الى باريس. في عام 1844 كتب في مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل،واصفا ومنتقدا الظروف في المانيا التي اضطر بسببها للانتقال الى فرنسا:
"اجل، ان التاريخ الالماني يتفاخر بتطور لم يقم به اي شعب من قبل، ولن يعمد اي شعب الى تقليده في ميدان التاريخ. لقد شاركنا في تراجع الشعوب المعاصرة دون ان نشارك في ثوراتها. لقد تراجعنا اولا لان الشعوب الاخرى تجرأت على القيام بالثورات وثانيا لان الشعوب الاخرى عانت من الثورات المضادة؛ في الحالة الاولى لان اسيادنا كانوا خائفين وفي الحالة الثانية لانهم لم يكونوا خائفين. وبقيادة رعاتنا، حظينا مرة واحدة بصحبة الحرية وكان ذلك يوم دفنها".
في باريس التقى ماركس بالشاب فردريك انجلز، ابن صاحب مصنع من منطقة راينلاند، ثم انتقل للعمل في لندن. ولم يكتسب منه المعرفة بالظروف الاجتماعية السائدة في البلد الاكثر تطورا من الناحية الصناعية في ذلك الوقت وحسب، بل اكتسب صداقة لم يشهد التاريخ مثلها الا القليل. ومن خلال سنوات العمل المشترك بينهما ادرك انجلز عبقرية صديقه ذو المراس الصعب احيانا فجند نفسه لمساعدته في القضايا الفكرية والعلمية والسياسية وفي حياته الخاصة ايضا.
في باريس ايضا عرف ماركس البروليتاريا.
اذ رأى صورة البروليتاري البائسة وهي تمثل حالة من نزع الصفة الانسانية عن الانسان، وتطرف في كل ما اعتبره الرومانسيون نفيا وسخرية من طبيعة الانسان. وللدقة نقول بان ماركس رأى في هذا النفي المتطرف املا في التغلب عليه. لقد أمن بان البروليتاريا كانت مجبرة بسبب فقرها وبؤسها على تحرير نفسها من الظروف اللاانسانية من خلال قلب هذه الظروف من الاساس، وانها بتحرير نفسها ستغدو محررة للانسانية.
في المقطع التالي، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844، نجد ثمة انفعال غير عادي في الاسلوب الذي يصف به ماركس حالة نفي الانسان المتمثل بشخصية البروليتاري في ذلك الزمن.
" من المؤكد ان العمل يصنع المعجزات للغني، لكنه يولد العوز والفاقة للعامل، يبني القصور للغني والاكواخ للعامل. يخلق الجمال للغني والتشويه للعامل. انه يستبدل العمل بالالات، لكنه يلقي ببعض العمال الى حالة من العمل الهمجي ويحول الاخرين الى مكائن. انه ينتج الذكاء، لكنه ينتج ايضا الجهل والقماءة للعمال".
وان البروليتاري لا يفي نفسه في عمله بل ينفيها،
" لديه شعور بالتعاسة بدلا من السعادة، لا يطور بحرية طاقاته الذهنية والجسدية بل هو مجهد جسديا ومستنفذ ذهنيا. لهذا لا يشعر العامل بانه في البيت الا في اوقات راحته، و يشعر بالتشرد عندما يكون في العمل".
كان ماركس بارعا في تعليقاته الحادة، لكن الكثير من سجلات الاحداث في زمانه كانت تثبت بانه لم يكن يبالغ عند حديثه عن تعاسة البروليتاري. الهيغليون الشباب، تلامذة الفيلسوف العظيم، تبنوا فكرة الالحاد ظنا منهم بانها الطريقة التي يتم من خلالها اعادة الروح من عالم الغيب الى العالم الحقيقي. اما ماركس فقد تبنى نظرة اعمق :
كان نقد الدين بالنسبة له " مقدمة لكل نقد اخر"، لكنه كان واعيا للحاجة الى التحرر من الروابط المادية والروحية معا، ورأى الدين باعتباره "تعبيرعن التعاسة الحقيقية " وهو ايضا " احتجاج ضد التعاسة الحقيقية".
" ان الدين انما هو زفرة المخلوق المضطهد، رقة عالم لا قلب له، وروح ظروف عديمة الروح. الدين هو افيون الشعب" (مخطوطات 1844).
وكالعادة لم يع الكثير من الناس ما الذي عناه ماركس في قولته هذه: فجرى لوي القول واختصاره ليكون ان الدين افيون الشعب، مخدر يعطى الى الناس من قوى خارجية، ويجري طبعا اغفال ما قاله عن الالحاد:
" والإلحاد كإنكار لهذا الوهم او الخيال [وهم الانسان والطبيعة] لم يعد له معنى، لأن الإلحاد هو نفي الله، وهو يسعى من خلال هذا النفي الى تأكيد وجود الانسان. لكن الاشتراكية ليست بحاجة إلى مثل هذه الطريقة الملتوية؛ إنها تبدأ من الادراك الحسي النظري والعملي للانسان والطبيعة باعتبارها كائنات اساسية . انها وعي ذاتي انساني مؤكد وليس وعيا ذاتيا يحضر من خلال نفي الدين؛ مثلما ان الحياة الحقيقية للانسان هي مؤكدة ولا تحضر من خلال نفي الملكية الخاصة، من خلال الشيوعية.....ان الشيوعية هي الشكل الضروري والمبدأ الديناميكي للمستقبل القريب، لكنها ليست، بحد ذاتها، هدفا للتطور الانساني، او شكلا للمجتمع الانساني". مخطوطات 1844.
يتضح هنا، ان الدين والالحاد والشيوعية لم تكن بالنسبة لماركس سوى مراحل او سمات تطور، اي انها لم تكن اهدافا. فالهدف هو انسانية مؤكدة، الحياة الحقيقية للانسان. وكان واقع حال البروليتاريا يمثل تناقضا صارخا لمثل هذه الحياة؛ لكن " الواقع الممزق للصناعة" لم يٌظهر نفسه في البروليتاريا فقط. فقد اكد التحليل العلمي للصناعة الرأسمالية، مرارا وتكرارا، حقيقة انفصال المتعة عن العمل، والوسائل عن الغايات، والجهد عن المكافأة. وبأن البروليتاريا كانت فقط التعبير الاكثر فظاظة لهذا التشظي، والانفصال، لعالم المكائن والارباح والفقر. وكلما غدا النفي اكثر وضوحا وعلانية، كلما اتضح اكثر الشيء الذي يجري نفيه: الصورة غير الحقيقية للانسان.
ان نقطة انطلاق الدين هي الله، ونقطة انطلاق هيغل هي الدولة، وهي الانسان بالنسبة لماركس. يكتب ماركس في نقد عقيدةهيغل عن الدولة:
" ينطلق هيغل من الدولة ويتصور الانسان كدولة متشيئة؛ وتنطلق الديمقراطية من الانسان وتتصور الدولة انسانا متموضع....
في الديمقراطية، لا يوجد الانسان من اجل القانون، بل يوجد القانون من اجل الانسان؛ انه الوجود الانساني، في حين ان الانسان بالنسبة للانظمة السياسية الاخرى هو الوجود القانوني، هذه هي السمة الاساسية المميزة للديمقراطية".
لم يكن الامر الحاسم بالنسبة لماركس قيام نظام " شامل "، يمثل النهاية بحد ذاته، بل الانسان – الملموس، الحقيقي. ان موضوع تفكيره وكل جهوده هو قيام الانسان الكامل وواقع الانسان وانسانية مؤكدة.
يحتاج الانسان الى الجماعة لكي يتطور الى فرد حر.
" ففي البدائل السابقة عن الجماعة، في الدولة، الخ، لم تكن الحرية الشخصية موجودة الا لاجل الافراد المرتبطين بعلاقات قربى مع الطبقة الحاكمة، والا لمن ظل منهم منتميا الى هذه الطبقة".
ان الافراد اللذين يتصرفون كما لو انهم مستقلين كانوا في واقع الحال مشروطين ليس فقط بكامل التطور الاجتماعي – اللغة، التقاليد، التربية، الخ – بل ايضا بطبقتهم، نخبتهم، او مهنتهم. كانت شخصيتهم مشروطة ومحددة بعلاقات طبقية واضحة جدا. وعلى الرغم من ان العلاقة المتبادلة فيما بينهم هي علاقة بين اشخاص، الا انها قبل كل شيء علاقة بين " اقنعة الطابع الاجتماعي" – اي، ليست علاقة بين افراد معينين ومحددين، بل " كافراد عاديين" . وكان ماركس يأمل ويؤمن ان هذه العلاقة ستكون معكوسة في " جماعة البروليتاريين الثوريين ": يشترك الافراد فيها كافراد. لقد رأى ماركس الشيوعية، بمثابة تحكم عام ومشترك بالظروف التي " كانت سابقا متروكة للصدفة واكتسبت وجودا مستقلا ومتحكمة بالافراد المنعزلين فقط بسبب انعزالهم كافراد"( الايديولوجيا الالمانية)، ليس كنظام من الطبقات والطوائف – من " اقنعة الطابع الاجتماعي" – بل كمشاركة حرة بين افراد الناس.
ثمة تفاعل بين الفرد والمجتمع
" فتمامًا كما أن المجتمع ذاته ينتج الإنسان كإنسان فهو ايضا منتوج بواسطة الإنسان.... واهمية الطبيعة للانسان لا توجد الا للانسان الاجتماعي، لانه في هذه الحالة فقط تكون الطبيعة بمثابة رابط مع الناس الاخرين، اساس وجوده بالنسبة للاخرين واساس وجودهم بالنسبة له. عندذاك فقط تكون الطبيعة اساسا لتجربته الانسانية وعنصرا هاما لواقع الانسان". مخطوطات 1844
" وعلى الرغم من ان زمننا، زمن الثورة العلمية والتكنولوجية، يدعو الى زيادة العمل الجماعي، فان عمل الباحث، والكاتب، او الفنان، لا يرتبط مباشرة بالاخرين، بل انه قد يعاني، في الحقيقة، من التدخلات الاجتماعية المباشرة. ومع ذلك فان هذا العمل يفترض الاشتراك مع الاخرين؛ فهو يعتمد على خبرة الاخرين، وهو من حيث الجوهر شكلا من اشكال النشاط الاجتماعي برغم كل استقلاليته الذاتية.
انها ليست مادة نشاطي وحسب – كاللغة التي يستخدمها المفكر – التي تقدم لي باعتبارها منتوجا اجتماعيا. فخبرتي الذاتية هي نشاط اجتماعي. لهذا السبب، فان ما انتجه بنفسي فاني انتجه للمجتمع، ووعيا بقيامي بدور كائن اجتماعي". مخطوطات 1844
ان هذا ليس بمنفعة سطحية، وليس مجرد نشاط فردي يستفاد منه المجتمع. المسألة هنا هي الطبيعة الاجتماعية للفرد – الشخصية كنتيجة ومبرر للمجتمع.
" وبرغم ان الانسان هو فرد متميز – وخصوصيته هي فقط ما تجعله فردا، كائن فردي اجتماعي حقيقي – الا انه كل بنفس القدر، كل مثالي، الوجود الذاتي للمجتمع كفكر وممارسة. انه يوجد في الواقع كممثل وكعقل حقيقي للوجود الاجتماعي، وكمجموع للتجسيدات الانسانية للحياة". مخطوطات 1844
كلية الانسان هذه التي اعلنها ماركس، هذه " الطبيعة الانسانية للانسان" كما وصفها فردريك شيلر(1759- 1805)، كانت في البداية مجرد فكرة ( مع بعض الاستثنائات) مجرد احتمال يتوجب تحقيقه. ان الانسان المهشم، الناقص، المشوه، غير قادر على تحويل نفسه الى انسان كامل؛ لكنه قادر فقط من خلال المجتمع في سياق تطوره. وكلما زادت قدرة الانسان على استحواذ العالم الخارجي – من خلال حواسه، روحه، وذكاءه – وكلما تكاملت وتعددت اوجه هذا الاستحواذ، هذا " الاستيلاء" كلما زادت فرصته بالتحول الى انسان كامل.
" فالإنسان يتملك كيانه المتعدد الاوجه بطريقة كلية، أي كإنسان كلي. فكل علاقاته الإنسانية بالعالم – الرؤية والسمع والشم والتذوق واللمس والتفكير والمراقبة والشعور والرغبة والفعل والحب – باختصار كل اعضاء وجوده الفردي – كتلك الأعضاء التي تشترك بالشكل مع المجموع، هي في فعلها الموضوعي ( فعلها ارتباطا بالموضوع) ، تملك لهذا الموضوع، تملك للواقع الإنساني. والطريقة التي تستجيب هذه الاعضاء للموضوع هي تأكيد للواقع الانساني. أنها الفاعلية الإنسانية والمعاناة الإنسانية، لأن المعاناة – المدركة انسانيا – هي متعة للذات بالنسبة للانسان". مخطوطات 1844
بكلمات اخرى، نحن بحاجة الى انسنة الاحاسيس وتهذيبها لكي تصبح احاسيس انسانية. لقد اغفل الكثير من الباحثين حقيقة ان ماركس وهو يتحدث عن التملك " الشامل" و " الانسان المتمتع بكل احاسيسه" فانه يتحدث عن الفعل الابداعي، الخلاق، باوسع معاني الكلمة: فالحب كان بالنسبة الى ماركس شكلا جوهريا لهذا " التملك". وفي عالم الحيازة والتجارة والارباح، ذبل هذا الفعل وصار مجرد حيازة للشيء. يتحدث ماركس بانفعال حقيقي ضد عقلية الحيازة هذه، التي تنظر الى الحيازة المادية الآنية بمثابة " الهدف الوحيد للحياة والوجود" (مخطوطات1844) . وقد افسدت هذا العقلية الحب نفسه، حيث حولت العلاقة بين الرجل والمرأة الى علاقة ملكية وهيمنة؛ ان الزواج بشكله الحالي – " شكل من اشكال الملكية الخاصة الكلية" – وطلب " مشاعية فظة وسيئة" من اجل ملكية مشتركة للمراة ، يمثلان سوية تملكا من خلال الحيازة ولهذا فانهما يعنيان مهانة الانسان وتصغيره الى مجرد شيء.
" في العلاقة مع المراة ، باعتبارها غنيمة وخادمة للشهوة الجماعية، يجري التعبير عن حالة الانحطاط اللانهائي الذي يوجد الانسان فيها لذاته....ومن هذه العلاقة يمكن تقييم كامل مستوى التطور للانسان. ومن طابع هذه العلاقة يمكن ان ندرك المديات التي وصل اليها الانسان، والتي فهم نفسه بانه من جنس الانسان، كائن انساني. ان العلاقة بين رجل وامراة هي اكثر العلاقات طبيعية بين كائن انساني واخر. ولهذا فانها تشير الى اي مدى اصبح السلوك الطبيعي للانسان انسانيا، والى اي مدى اصبح جوهره الانساني جوهرا طبيعيا بالنسبة له، الى اي مدى اصبحت طبيعته الانسانية طبيعة بالنسبة له. كما انها تظهر ايضا الى اي مدى اصبحت احتياجات الانسان احتياجات انسانية، وبالتالي الى اي مدى اصبح الشخص الاخر، باعتباره شخصا، واحدا من احتياجاته، والى اي مدى يكون فيه الانسان ضمن وجوده الفردي كائنا اجتماعيا ايضا". مخطوطات 1844
وهكذا تصبح اكثر العلاقات الطبيعية مقياسا للانسنة: التطور من جنسية مجهولة الهوية الى " وحدة جنسية ارقى" ( كما يسميها غوته)، جمع من الاحاسيس والروح والعقل، وان ادراك الاخر بصفته انسانا، لا يدمر الطبيعة بل يعززها حتى تصبح طبيعة انسانية حقيقية. لقد تزوج ماركس عام 1843 من حبيبته جيني فون ويستفالن، وفي 21 حزيران عام 1856 كتب لها رسالة من لندن قال فيها:
".... يبدو ان الغياب المؤقت جيد، فالتعود على الاشياء من حولنا يجعلها تتشابه ويصعب التفريق بينها. فالبعد يقزم حتى الابراج، بينما توافه الامور والمألوف منها اذا ما نظرنا لها عن قرب تبدو كبيرة وهامة. والعادات السيئة التي قد تزعجنا جسديا وتتحول الى عاطفة، تختفي عندما تزول مسبباتها من امام اعيننا. اما العواطف العظيمة، تلك التي تأخذ من خلال القرب شكل الامور الصغيرة الروتينية، فانها تكبر وتنمو وتأخذ بعدها الطبيعي على حساب المسافة السحرية بينها وبين الاشياء. هكذا هو الحال مع حبي الخاص، لقد خطفت مني فيما يشبه الحلم، وها انا اعرف بان الوقت يقوم بما تقوم به الشمس والمطر للنباتات: انها تنمو. ففي لحظات غيابك، يظهر حبي لك على حقيقته، كعملاق تركزت فيه كل طاقتي الروحية وكل سمات قلبي. اشعر باني انسان مرة اخرى لاني اشعر بهذه العاطفة الجمة. وذلك الافتراق الروحي الذي يوقعنا في شباكه البحث العلمي المعاصر، وهذه الشكوكية التي تجبرنا على ايجاد العيوب في كل انطباعاتنا الذاتية والموضوعية، كل هذا مصمم ليجعلنا صغارا خائري القوى كثيري الانين. لكنه الحب، ليس حب انسان فيورباخ، ولا ايضية موليشوت، بل ولا حب البروليتاريا، انه حب الحبيب وتحديدا حبك انت هو الذي يجعل الانسان انسانا مرة اخرى....".
وهكذا بالتملك من خلال الحب تصبح الطبيعة طبيعة انسانية.
يربي الانسان نفسه لكي يصبح انسانا عبر انسنة طبيعته،عبر رفضه الحط من قدر الناس الى مجرد مواضيع ولكن، عبر جعله مواضيع الطبيعة مواضيعا له – المواضيع المشكلة والمدركة انسانيا بوسائل تملك انساني فانه يطور ثروة امكانياته ,ويتمم نفسه. ان التملك من خلال الحصول على الشيء، وتشظية حالة الكمال الى كشكول للملكية الخاصة، يجعل الانسان " احمقا وجزئيا " . والتملك من خلال الحيازة كان وسيظل خطوة لابد منها نحو مجتمع منتج تنمو الاحتياجات فيه بنفس مقدار نمو الطاقات، ولا ينحدر الانسان فيه الى موضوع – بتعبير اخر، مجتمع انساني حقيقي.
لم يكن ماركس واعظا اخلاقيا ، فعندما كشف وحشية التملك من خلال الحصول على الشيء، وكشف دور الملكية الخاصة والحط من قدر الانسان بفعل نمط الانتاج الراسمالي، كان يدرك ان ذلك سيكون مرحلة ضرورية ضمن التطور التاريخي ورأى المجتمع الجديد وهو ينضج داخله.
" لقد جعلتنا الملكية الخاصة اغبياء وجزئيين الى درجة أن موضوعًا ما لا يعد موضوعنا إلا حين نمتلكه ، حين يوجد بالنسبة لنا كرأسمال، أو حين نحوزه بشكل مباشر، أو حين نأكله أو نشربه أو نرتديه أو نقطنه الخ... باختصار حين نستخدمه بطريقة ما...
وهكذا ففي مكان كل هذه الحواس الجسدية والذهنية جاء الإغتراب الخالص لكل هذه الحواس؛ حاسة التملك. وكان لابد من الهبوط بالكائن الإنساني إلى هذا الفقر المطلق لكي يتمكن من توليد ثروته الداخلية". مخطوطات 1844
ان الحاسة التي جرى تضييقها بالضرورة العملية الفظة لابد لها ان تكون حاسة محدودة بشكل محزن. اذ ليس من المهم، بالنسبة للجائع، اذا ما قدم الطعام اليه بشكل لا يناسب الاستهلاك الانساني: فما يعنيه هو الوجود المجرد للطعام كطعام. " اذ يمكن أن يكون في أكثر أشكاله فجاجة، ويكون من المستحيل أن نقول كيف يختلف هذا النشاط الغذائي عن نشاط الحيوانات" مخطوطات 1844
ماذا يعني هذا؟ انه يعني ضرورة عدم وجود جائعين، ان على المجتمع ان لا يصبح فقط قادرا على تلبية اكثر الاحتياجات الاولية بل عليه ان يلبي حاجات ارقى واكثر تمايزا – حاجات انسانية وليست حيوانية. ومادة مستقبل كهذا تتراكم في مجتمع الملكية الخاصة.
" وكما يجد المجتمع الناشىء ، خلال تطور الملكية الخاصة، بكل ثروتها وفقرها ( المادي والذهني) تحت يده كل المواد اللازمة لهذا التطور الحضاري ، فإن المجتمع الراسخ ينتج الإنسان بكل ثراء وجوده، الإنسان الثري بكل الحواس، كواقع مستديم". مخطوطات 1844
رأى ماركس المجتمع البرجوازي بكل تناقضاته كمجتمع في عملية صيرورة. وحلم بالشيوعية كمجتمع انهى هذه العملية. ولم يتوقع ان تكون الشيوعية مجرد نفي للملكية الخاصة بل الغاء مؤكد لها ضمن عالم الوفرة، عالم الانسانية والفكر المتكاملين: " تملك حقيقي لطبيعة الانسان من خلاله ولاجله" مخطوطات 1844
ان الشيوعية كما تنبىء بها ماركس كانت الحل الحاسم والنهائي لحالة العداء بين الانسان والطبيعة، وبين الانسان والانسان". وكان يأمل ان تعني الشيوعية تحويلا " للطبيعياتية" ( اي المقدمات التي توفرها لنا الطبيعة) الى " انسانية" ( اي ازهار كامل للانسان الواعي، الكلي، غير المقسم). ان هدف ماركس، سواء في شبابه او شيخوخته، لم يكن اماتة الاحاسيس بل انسنتها؛ ولم يكن استبدال الجسد بالعقل او العكس، بل تطوير كل الامكانات من اجل الانتاج اوالمتعة؛ لم يكن الافقار المادي والروحي بل امتلاك العالم وكل امكانياته؛ لم يكن وضع مقاييس للشخصية ومسخها بل طبيعة متعددة الاوجه للفردانية التي تعيش مع الاخرين في مجتمع حر.
وعليه، هل كان ماركس يرى في الشيوعية مرحلة نهائية، هل هي الجنة؟
على العكس: اذ لم تكن تعني له سوى بداية لتطور حقيقي للانسان. احلام تسبق الواقع. فكر يسبق الفعل.
" لكي نبطل فكرة الملكية الخاصة فإن الافكار الشيوعية كافية تمامًا. بيد أن الأمر يتطلب نشاطاً شيوعيًا حقيقيا لإبطال الملكية الخاصة الحقيقية. فالتاريخ سينتجها، وسيتضمن التطور الذي ندركه الان فكريا، باعتباره تجاوزا ذاتيا، في الواقع عملية قاسية وطويلة. ولكن علينا ان نعتبره تقدما على اساس اننا اكتسبنا سلفا وعيا بالطبيعة المحدودة للتطور التاريخي وبهدفه ويمكن لنا ان نرى ما وراءه". مخطوطات 1844
اذن هو الوعي الذي يذهب الى ابعد من الهدف وابعد من تحديدات التقدم التاريخي؛ الوعي الذي لا يرى الشيوعية كمرحلة نهائية بل طورا فقط من اطوار التطور اللامحدود من حيث المبدأ؛ وعيا لديه الجرأة للايمان باليوتيبيا.
في سنواته الاخيرة رأى ماركس انوار حلمه اليوتيبي وهي لا تزال بعيدة لكنه لم يفقد ايمانه بالوصول اليها. وظل حتى انطفاء اخر شرارة حياة في جسده مقتنعا بان الغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، والطابع العلمي للعمل، واستبدال الناس بالالات سيؤدي الى قيام الانسان الكامل ويمكنه من كسر الاغلال التي تقيد امكانياته الداخلية.
• 1840ت هي اختصار للاربعينيات من القرن التاسع عشر.