الماركسية والايكولوجيا ماركس-فيورباخ 3


ثامر الصفار
الحوار المتمدن - العدد: 2340 - 2008 / 7 / 12 - 11:33
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

يبدو ان عدائية الملكية الخاصة ازاء الطبيعة لم تقتصر فقط على علاقتها بالزراعة. اذ يمكن رؤية حالة الانحطاط الايكولوجي في المدن الكبيرة ايضا. وهذا ما اشار اليه ماركس في المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام 1844 حيث نقرأ له:
(( يمكن ان نرى حالة التلوث الشامل في المدن الكبيرة)) [30] ثم يقول (( فالعامل يحرم فيها من الهواء النقي. ويعود الانسان للعيش، مرة ثانية، في الكهف، ولكن الكهف هذه المرة ملوث بانفاس الحضارة النتنة والسامة. كما انه لا يضمن حقه في العيش فيه، اذ ثمة قوة غريبة ستسحبه الى الخارج اذا ما فشل في دفع اجرته. فعلى العامل ان يدفع ثمن قبره. واختفت شعلة اللهب التي وصفها برومثيوس بانها الهدية الاعظم التي حولت المتوحشين الى بشر. النور والهواء وغيرها – النظافة الحيوانية البسيطة – لم تعد كلها حاجة من حاجات الانسان. اما القذارة – تلوث وعفونة الانسان، خراء الحضارة – غدت هي عناصر الحياة للعامل)) [31]

اي ان اغتراب العامل في المدن الكبيرة وصل الى حد لم تعد فيه النظافة والنور والهواء النقي جزءا اساسيا لوجوده، وحلت محلها القذارة والظلمة والهواء الفاسد لتشكل بيئته المادية. وبالتالي لم يجر مصادرة عمله الابداعي فقط بل عناصر حياته كنتيجة لاغتراب الانسانية والطبيعة.

لقد كان من الجوهري بالنسبة لماركس، متبعا بذلك خطى فيورباخ، تثبيت مسألة وجود عالم موضوعي، وكائنات بشرية موضوعية، اي تثبيت واقعية وطبيعياتية اصيلة.

(( ان القول بان الانسان هو كائن موضوعي، مادي، حي، حقيقي وحسي، ذي قوى طبيعية يعني ان له مواضيع حقيقية وحسية لوجوده وللتعبير الحيوي عنه، او ان بامكانه فقط التعبير عن حياته في مواضيع حقيقية وحسية..... ان الجوع هو حاجة طبيعية، وهو يتطلب بالتالي طبيعة وموضوعا خارجه من اجل إرضاء وتهدئة نفسه....ان كائنا لا يمتلك طبيعة خارج نفسه، هو ليس بكائن طبيعي، وليس له دور في نظام الطبيعة)) [32]

ويضيف ماركس:

(( ان الانسان هو كائن طبيعي،...ذي قدرات طبيعية... لكنه من الجانب الاخر، ولكونه كائن موضوعي، حسي وطبيعي، كائن مقيد ومشروط ويعاني شأنه شأن باقي الحيوانات والنباتات. فالمواضيع التي تحفزه موجودة خارجه كمواضيع مستقلة عنه))

لكن البشر يتميزون عن باقي الاحياء في ان مواضيع محفزاتهم، اي حاجاتهم الانسانية قد تحولت ضمن عملية تحقيقها، بطريقة انسانية متميزة، الى التاريخ الانساني الذي هو (التاريخ الطبيعي الحقيقي) للانسانية. فيعلن ماركس:
(( ان المذهب الطبيعي هو الوحيد القادر على الامساك بعملية التاريخ العالمي)) [33].

وفي سياق نقده لهيغل، واعتمادا على حجة ابيقور المادية – الانسانية القائلة بان (( الموت لا يعني شيئا بالنسبة لنا)) يقول ماركس:

(( الطبيعة...مأخوذة بشكل مجرد، بنفسها، وبانفصالها عن الانسان، لن تعني شيئا للانسان)) فافكارنا عن الطبيعة لا تشكل سوى (( تجريدات عن الاشكال الطبيعية)) [34].

وتتجلى مادية ماركس الطبيعياتية في تأكيده على ان (( الادراك الحسي –انظر فيورباخ – يجب ان يكون اساسا لكل العلوم. فعندما ينطلق العلم من ادراك حسي، وبشكل ثنائي من الوعي الحسي والحاجة الحسية – اي عندما ينطلق العلم من الطبيعة – يكون عندذاك فقط علما حقيقيا)) . كما ان التاريخ كان بالنسبة لماركس (( جزءا حقيقيا من التاريخ الطبيعي... ومع الزمن يجري تصنيف علم الطبيعة ضمن علوم الانسان، وعلم الانسان ضمن علوم الطبيعة)) . وتتضح واقعية ماركس النقدية في ادراكه لموضوعية الانسانية والعالم، اي قاعدتهما الانطولوجية، الوجودية، وادراكه للتفاعل بين التاريخين الطبيعي والانساني (( ان القول بوجود اساس للحياة وآخر للعلم لهو قول كاذب)) اذ يؤمن ماركس بالدور الكبير الذي لعبه علم الطبيعة في تحويل العلاقة الانسانية بالطبيعة، بطريقة عملية من خلال تغيير الصناعة نفسها، اي انه (( مهد الطريق ووفر الشروط لانعتاق الانسان، لكن تأثيره الاعظم كان في اتمامه لعملية نزع الانسنة)) [35].

لقد كان فيورباخ، حسب ماركس، رياديا في قطيعته مع الهيغيلية في ثلاثة امور:
1- في إظهاره ان فلسفة هيغل التأملية هي ليست سوى لاهوت معقلن.
2- في انشائه (( مادية حقيقية وعلم حقيقي بعد جعله العلاقة الاجتماعية ( بين انسان وآخر) المبدأ الاساس في نظريته)).
3- في رفضه نفي النفي الهيغيلي، الذي مثل الصلة بين(( وضعية لا نقدية ومثالية لانقدية)) من خلال ما اسماه هيغل نفسه (( الالهام او الوحي)) [36]

وبتحرير نفسه كاملة بهذا السبيل، سبيل فيورباخ، من المثالية الهيغيلية – التي اقر بتأثيرها عليه، رغم اعجابه المبكر بالمادية ومعارضته الدائمة للمفاهيم اللاهوتية – انطلق ماركس ليرفض كل الحلول الفلسفية البحتة عن الاغتراب. ولم يعد بالامكان ، حسب ماركس، التظاهر بتجاوز الانقسام بين الموضوعي واللاموضوعي – القضية التي تثار دوما عند طرح موضوعة العلاقة مع العالم نظريا بدلا من حسيا، اي بلغة الممارسة. لقد كان البشر محددين موضوعيا، ويعانون، طالما كانت مواضيعهم خارج انفسهم. وبالتالي لا يمكن النظر الى الطبيعة بمنظار روحي. لقد اشار ابيقور الى ان البشر غير مقيدين بالطبيعة فهم قادرون على تغيير علاقاتهم معها عبر اختراعاتهم، ومن هنا أكد ماركس ان الحل لمشكلة اغتراب البشر عن الطبيعة هو في الممارسة فقط، في التاريخ الانساني. ان الاغتراب الذاتي للبشر عن نوعهم كجنس بشري وعن الطبيعة، الذي يشكل جزءا كبيرا من التاريخ الانساني، سيجد حله في ذات التاريخ الانساني، من خلال الصراع لتجاوز هذا الاغتراب الذاتي الانساني.

وفي المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام 1844 ايضا استخدم ماركس لاول مرة تعبير المساهمة association او تعبير المنتجون المساهمون associated Producers مجسدا بذلك فكرة استمدها من نقده للملكية العقارية، قدر لها ان تلعب دورا تعريفيا لمفهومه عن الشيوعية خلال باقي سنوات حياته. فقد اكد ماركس بان إلغاء احتكار الملكية الخاصة للاراضي سيتحقق من خلال المساهمة التي لو طبقت على الارض

(( لحافظت على الاراضي الشاسعة دون تقسيم ولحققت المساواة المنشودة. كما انها ستبقي على صلات الانسان بالارض بطريقة عقلانية ، لان الارض لن تعود موضوعا للمقايضة وستعود مرة اخرى ملكا شخصيا للانسان من خلال العمل الحر والممتع)) [37].

لم تكن الشيوعية، بالنسبة لماركس، سوى الالغاء التام للملكية الخاصة عن طريق المساهمة. انها (( الحل الناجع للصراع بين الانسان والطبيعة، وبين الانسان واخيه الانسان، انها الحل الحقيقي للصراع بين الوجود والكائن، بين الحرية والضرورة، بين الفرد والنوع)) .

ان هذا الجوهر الانساني للطبيعة والجوهر الطبيعي للانسانية موجودان فقط للكائنات الفاعلة والمساهمة اجتماعيا. فالمجتمع في ظل الشيوعية الذي لن يعود مغربا بفعل تأثير الملكية الخاصة وتراكم الثروة باعتبارها القوة الدافعة للصناعة،(( هو الاتحاد الامثل من حيث الجوهربين الانسان والطبيعة،....... الذي يحقق طبيعياتية الانسان ويحقق انسانية الطبيعة)) . انها البديل الذي يقدمه ماركس لعالم (( الاملاق الشامل للعامل)) و (( التلوث الشامل)) للمدن الكبيرة – عالم تهيمن فيه (( مادة ميتة)) ترتدي زي النقود على حاجات الانسان وتطوره. ان المعرفة الثورية لعالم ما بعد الرأسمالية، عالم (( يتحقق فيه طبيعياتية الانسان وانسنة الطبيعة)) ، وهو ما يشكل جوهر العملية التاريخية، لن نمتلكها بصورة مباشرة، بل سنجد (( اسسها النظرية والعملية في الحركة ( المغربة) للملكية الخاصة، واذا ما شئنا الدقة، في الاقتصاد)) . وهكذا فان رؤية ماركس الطبيعياتية والانسانية هي في نفس الوقت رؤية تجاوز تاريخي – التغلب على عالم مغرب.[38]

لقد كان فيورباخ في آخر سنوات حياته، وربما دون علم من ماركس، معجبا بمؤلف ماركس " رأس المال" حيث وصفه في عام 1868 بانه (( اعظم نقد للاقتصاد السياسي)) . وكان مذهولا بما ذكره ماركس عن اغتراب الطبيعة فيقول:

(( اينما تجمع الناس، كما في المصانع الانجليزية وبيوت العمال التي يمكن ان يسميها المرء بحظائر الخنازير، حيث لا وجود للاوكسجين في الهواء - ويمكن لنا ان نشير هنا الى الحقائق المذهلة والمروعة في آن واحد التي تضمنها العمل الغني لكارل ماركس " رأس المال" – ليس ثمة فسحة للاخلاق ... ولا لفضائل اصحاب المصانع، الرأسماليين)) [39].

وطالما ان فيورباخ لم ير مخطوطات عام 1844 لماركس، فانه لم يكن واعيا عند كتابته الفقرة السابقة الى الدرجة التي تعمق فيها ماركس في نقده " التلوث الشامل" للمدن الكبيرة والذي كان نتيجة لاطلاعه المبكر على المذهب الطبيعي لفيورباخ.

وعلى الرغم من رفض ماركس، خصوصا في اعماله الاخيرة، للجوانب التأملية واللاتاريخية في فلسفة فيورباخ، فقد ظلت المادية الطبيعية تردد صداها في المادية التاريخية لماركس. اضافة الى ان ماركس وجد عند فيورباخ كما عند ابيقور نقد الدين الذي غدا جزءا متمما لنظرته المادية عن العالم.

[30] ماركس ، كتابات مبكرة، مصدر سابق، ص 302.
[31] المصدر السابق، ص 359-360.
[32] المصدر السابق، ص 390.
[33] المصدر السابق، ص 389-391.
[34] المصدر السابق، ص 398-399.
[35] المصدر السابق، ص 355. وللمزيد حول موضوعة الادراك الحسي انظر ليكتورسكي، مقدمة في تفسير العلاقة بين الذات، الموضوع، الادراك، ترجمة ثامر الصفار، النهج العدد 28، 1989، ص 216-227.
[36] المصدر السابق، ص 381-382، 385، 400.
[37] المصدر السابق، ص 320.
[38] المصدر السابق، ص 348-349.
[39] مقتبس عن فورتوفسكي، فيورباخ، مصدر سابق، ص 451-452.