دليلك إلى حياة مقدسة! (الحلقة الأولى)


وفاء سلطان
الحوار المتمدن - العدد: 5108 - 2016 / 3 / 19 - 21:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

مات تشافيز، فولد هذا الكتاب!
************
رأس تشافيز فنزويلا من عام 1999 إلى عام 2013، هو ككل حكام العرب، لم يترك كرسيّ الحكم حتى شقلبه الموت عنها، بعد معاناة طويلة مع المرض.
لست هنا بصدد الحديث عنه من قريب أو بعيد، ولا يهمني الأمر، علما بأن بذرة هذا الكتاب كانت قد نبتت على أثر موته، وخلال الاسبوع الاول من رحيله!
……
لدى العرب غريزة قطيعية تدفعهم بلا تفكير إلى تأليه الشخص، ربّما من منطلق إحساس دفين بأنهم سيتيهون في حال عدم وجود “مرياع” (الخروف الذي يحمل في عنقه جرسا ويقود القطيع)!
لذلك، وفور انتشار نبأ موته انبرى الفيسبوكييون العرب إلى تناقل النبأ والحديث عن “تشافيز” وكأنه الماسيا الذي أنقذ فنزويلا من جحيم كان محققا، ليس هذا وحسب، بل بطريقة تظهر وكأنهم يعرفون عن فنزويلا أكثر مما يعرفون مايجري في غرف نومهم!
وصلوا في وصفه وتعداد مناقبه إلى السماء السابعة، ولولا خوفهم من أن يزاحم محمدا، لزعموا بأنه لمس سدرة المنتهى، وبهره نور تشافيز الأكبر القابع هناك!
لا أخفي بأن الأمر أثار حفيظتي، فتركت بعض التعليقات ردا على مزاعمهم، وبناءا على رأي الفنزويليين الذين التقيتهم في أمريكا بعد أن فروا من جحيمه!
شجعت تعليقاتي أحد أصدقائي من عائلة الفيسبوك، فترك تعليقا على صفحتي يدعم من خلاله موقفي.
يبدو أنه رجل كبير في السن، وخبرته لا تزيد عن خبرتي بخصوص عوالم الكومبيوتر والميديا الاجتماعية، فلقد ظن أن التعليق لن يقرأه أحد سواي باعتبارها صفحتي!
…..
ميخائيل سوري هاجر إلى فنزويلا منذ أكثر من أربعين عاما، وقد عايش تاريخ فنزويلا خلال تلك الحقبة بحذافيره، ويعرف تماما مدى التخريب الذي أحدثه رفاق “الكافيار” في البنية التحتية والفوقية لفنزويلا.
من شدة غيظه، هاجم من مدح تشافيز، وشرح بشيء من التفصيل الجرائم التي اُرتكبت بحق الشعب الفنزويلي من قبل هذا الطاغية وعصابته!
طبعا، رد عليه المناوئون بطريقة جدا سوقية، ووجهوا له اتهامات، لم يكن قادرا على تحملها…
في اليوم الثاني وصلتني منه رسالة لم أكن أتوقعها، جاء فيها:
(عزيزتي الدكتورة وفاء، لم أكن أتوقع خيانتك، لماذا سمحت لهؤلاء الخسيسين أن يقرأوا تعليقي فأنا كتبته على صفحتك، كتبته لك أنت بالذات، لأنني أعرف مدى وعيك وعمق ثقافتك..
لقد تبهدلت على سن ورمح!
كيف سأذهب غدا إلى الكنيسة، وكيف سأخفي وجهي من الناس؟
لقد شتموا والدي، وشتموا عائلتي واتهموني بالنفاق والكذب وخيانة البلد الذي احتضنني…
حرام عليك ـ ياسيدتي ـ أن تضعيني في هذا المقلب..
أرجوك، أقبل يديك، أن تحذفي تعليقي والردود عليه بأسرع وقت ممكن…
أرجوك فأنا على وشك أن أفقد أعصابي، واتوسل إليك أن تفعلي شيئا بخصوص ذلك!)
….
عند قراءة رسالته، اختلط عليّ الأمر، لم أعد أعرف هل أضحك أم أبكي!
بسرعة البرق، وقبل أن أذهب بتفكيري أعمق من قطر شعرة، حذفت التعليق وكل الردود، ثم سكنت إلى نفسي!
…….
الشجاعة هي القيمة التي تسمح لك أن تتحلى بكل القيم الجميلة الأخرى،
بمعنى أنها الحارس الأمين على جهازك القيمي وممتلكاتك الأخلاقية!
لم تضف هذه التجربة على قناعاتي السابقة شيئا، ولكنها عززت تلك القناعات، ورسخت ايماني بها!
لقد اقتنعت، ومنذ بداية رحلتي الكتابية، أن الشجاعة من أعظم القيم وأندرها تواجدا، وغيابها يقود عادة إلى شح أخلاقي وقيمي عام!
………….
أعادتني تجربتي مع المسكين ميخائيل عامين إلى الوراء، فتذكرت تجربة أخرى مشابهة لها من حيث المغزى!
لي صديقة لبنانية ولدت وعاشت كل حياتها في أمريكا، وهي اليوم في العقد السابع من عمرها.
التقت في شبابها المبكر بشاب مسلم تركي وتزوجته لاحقا.
ترك آرغون الاسلام، ولم يعتنق بعده أي دين، مع العلم أنه يساندها في كل أعمالها الخيرية المتعلقة بكنيستها وبجمعيتها المدافعة عن حقوق الإنسان حول العالم.
هو رجل مثقف، ويجيد الحديث، ولديه قوة إقناع مبنية على معرفة راسخة وثقة بالنفس!
تبادلت معه الكثير من الأحاديث والتي كانت تدور في معظمها حول الإسلام وتعاليمه والآثار السلبيّة لاعتناق تلك التعاليم، وخرجت منها بقناعة أن ما يعرفه آرغون عن الإسلام يعوضني عن أية موسوعة أخرى.
في أحد المؤتمرات، جمعني به حديث جانبي حول سؤال يوجّه لي دائما: هل الإسلام والدستور الأمريكي قابلان للتعايش معا؟
دفعتني دقة جوابه والتفاصيل المذهلة في ذلك الجواب لأسئله: لماذا لا تعتلي المنصة وتجيب بنفسك على هذا السؤال؟
لم أكد أطرح العرض، حتى انتفض كأسد أصابته طلقة غادرة، وزأر: هل أنت مجنونة؟ وراح يرتجف وهو يتابع: يبدو أنك لا تعرفين من هي وفاء سلطان، ولذلك تتوقعين أن شخصا جبانا من أمثالي، يستطيع أن يكون هي!!
….
لاحقا، وفي الكثير من خلواتي مع نفسي، فكرت كثيرا وبعمق بجواب آرغون، وتساءلت مرات عديدة: هل أملك من الشجاعة مالا يملكه غيري؟
وخرجت بقناعة: نعم!
….
ماناله ميخائيل من شتائم لا يتجاوز نقطة في محيط الشتائم الذي أغرقني فيه المسلمون الغيورون على سيرة نبيهم “العطرة”، ناهيك عن التهديدات التي شرحت وبالتفصيل كيف سيقطعون جسدي، كما قطعوا جسد عصماء بنت مروان، حتى ولو تعلقت بجدران الكعبة!
لم تترك تلك الشتائم والتهدايدات في محيطي الفكري أثرا أكبر من الأثر الذي تتركه “فسوة” سمكة سردين في محيط!
…..
كنت وكلما اجتمعت مع أحد رجال الأمن الأمريكي المسؤولين عن حمايتي، أخرج من الإجتماع وفي جعبتي عشرات التعليمات لألقيها جميعها خلف ظهري، وأتابع المسير!
لم ألتزم يوما بتعليماتهم، لأن سلاما داخليا كان يسيطر على كل خلية من خلاياي….
لأن صوتا كونيا كان يحثني على متابعة المسير، صوتا دافئا يبعث في داخلي السكينة والطمأنينة…
هذا الصوت كان يأتيني من مصدر طاقوي لا ينضب، وكنت ـ ولم أزل ـ مشدودة إلى ذلك المصدر بقوة لا متناهية!
…..
كانت قصة ميخائيل “التجربة التي وضعت النقطة على الحرف”!
ذلك الحرف الذي أثبت لي أنني أملك من الشجاعة مايؤهلني لأن أستمر في الكتابة!
حملت قلمي، وقررت أن أرتب ملايين الأفكار التي تتصارع داخل عقلي، لاُصيغها كتابا، يخلد ذكري!
……
يقول تولستوي: كل واحد يحلم بأن يغيّر العالم لكن لا أحد يسعى لتغيير نفسه!
وأنا أقول: لافرق بين المحاولتين، فأنت لا تستطيع أن تدفع أحدا إلى الأمام مالم تدفع نفسك معه!
عندما نحاول أن نحسّن واقعا سنتحسن معه، لا يمكن أن تنجح في تغيير أي واقع وتبقى على ما كنت عليه قبل أن تحاول…
لذلك، هذا الكتاب الذي كانت الغاية الأولى منه رفع القارئ إلى مستوى كونيّته، قد ساهم أولا في رفعي إلى ذلك المستوى، فأنا أول ثماره!
في رحلة البحث عن الأفضل لغيرك تصبح أفضل شخصيّا….
لقد بحثت باصرار وثبات عمّا هو جيد لأقدمه لقارئي، واكتشفت خلال رحلة البحث أنني أحتاج إلى ذلك الجيد وأجهله كما يحتاج إليه قارئي ويجهله…
إذن، كنت الطالب قبل أن أكون المعلم، وكنت العطشان قبل أن أكون الراوي…..
نهلت مما عثرت عليه في سياق رحلتي قبل أن أسقي غيري….
واكتشفت أنه في سياق محاولتي لتغيير العالم قد غيّرت نفسي، والغاية واحدة!
لا يمكن لأي قارئ لهذا الكتاب أن يبقى هو نفسه بعد قراءته، هذا ما أنا عليه من ثقة لا يزعزعها شك!
……………..
عندما قررت أن أواجه الإسلام رأيت ورأى المقربون مني في ذلك القرار مخاطرة كبيرة…
لكن كان الدافع الرئيسي ـ إن لم يكن الوحيد ـ سمو الهدف!
راقبت عشرات المرات فرق اطفاء أمريكية تقتحم بناية مشتعلة من كل جوانبها لإنقاذ روحا تحتضر في خضم تلك النيران.
كثيرا من المرات فقدوا بعضا من عناصرهم، ولكن سمو الهدف كان يدفعهم ليخاطروا بحياتهم!
لا أعتقد أن الهدف يختلف في سموه بين أن تنقذ عقلا من براثن فكرة شريرة وبين أن تنقذ روحا من براثن النار…
عندما تريد أن تقوم بعمل ما وترى فيه مخاطرة، يجب أن تقيّم أهمية هذا العمل بناءا على سمو الهدف ونبل الغاية، وليس بناءا على درجة خوفك من خوض تلك المخاطرة!
إذا كان الهدف ساميا والغاية نبيلة خاطر ولا تخف!
......
أعتقد أن 90٪-;- من حالات الفشل تنجم عن عدم القيام بمهمة ما، وليس عن القيام بمهمة ما….
كذلك هي حالات الندم الشديد، فالإنسان عموما يندم على عدم القيام بمهمة وليس على القيام بعمل…
الحياة برمتها إمّا مخاطرة وإمّا لا شيء!
لا يوجد أمان بالمطلق، كل تجربة نعيشها مهما بدت آمنة لابد وأن تنطوي على بعض الخطر…
الخطر الذي تواجهه عندما تقوم بمهمة ذات هدف نبيل أقل بكثير من الخطر الذي ستواجهه عندما ترفض القيام بها….
الواقع في العالم الإسلامي اليوم يبرهن على صحة تلك الفكرة…
لو خاطر الناس بحياتهم عبر التاريخ الإسلامي ـ كما أخاطر وغيري اليوم ـ لكان وضعنا أفضل حالا..
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى المهمة التي لا تنطوي على بعض الخطورة لا تنطوي في الوقت نفسه على أية متعة!
كلما كان الطريق محفوفا بالمخاطر كلما شعرت بنشوة الإنتصار!
أفضَلُ مليون مرّة أن أخوضَ مهمة ذات هدف نبيل وأعترف بفشلي على أن لا أخوضها وأتوهم بأنني نجحت!
أن تندم لأنك قمت بمهمة ذات هدف نبيل وفشلت أهون بكثير من أن تندم لأنك لم تقم بواجبك…
الندم في الحالة الثانية أشد فتكا!
يكاد الندم ـ كشعور سلبي ـ يكون أبشع المشاعر وأكثرها حرقا للنفس.
لذلك، قررت أن أتدارك الأمر قبل أن أصل إلى وقت يكون من المتأخر جدا فيه أن أتفادى ذلك الشعور!
نعم، لقد كتبت القليل “الكثير”، وأنا فخورة بكل كلمة قلتها حتى الآن..
ولكن، ما أريده أن أقوله في هذا الكتاب يكاد يختلف جذريا عمّا قلته في السابق….
في السابق ساهمت في هدم ثقافة صحراويّة قاحلة عقيمة، وسيبقى ماساهمت به زخيرة حيّة لمن أراد أن يتخلص من آثار تلك الثقافة، ولا حاجة لي في هذا الكتاب أن أكرر نفسي!
هذا الكتاب سيضم ثقافة انسانية محملة بالخير ومسربلة بالجمال، وستبقى خالدة من بعدي لمن أراد أن يملأ عقله بما يثريه ويوسّع آفاقه!

عام 1986 انفجر المفاعل النووي الروسي تشيرنوبل، وألقى بكميات هائلة من المواد المشعة والنشيطة في البيئة المحيطة به.
بقي عدد الضحايا مجهولا، لكنه يُقدّر عموما بين عدة مئات وعدة آلاف.
من بين العمال الذين ساهموا في عمليات التنظيف ومحاولة درء الخطر كان هناك ثلاثة شباب وهم Alexi Ananenko, ،Valeri Bezpoalov, Boris Baronow
قرر هؤلاء الثلاثة أن يضحوا بحياتم لانقاذ المئات إن لم يكن الآلاف من الناس…
كان هناك خزان ماء كبير ومربوط بالمفاعل للحالات الطارئة، كأن ينفجر جهاز التبريد فيقوم الخزان باستيعاب ماينجم عن ذلك الإنفجار.
وفعلا حدث الإنفجار، ولكن بشكل هائل جدا يفوق قدرة الخزان على الاستيعاب، الأمر الذي هدد بالطوفان وغرق المنطقة كلها.
ارتدى هؤلاء الشباب ثياب الغطس وغاصوا في أعماق الخزان لفتح الصمام الذي كان في أسفله والسماح للمياه الملوثة بالتسرب إلى الأرض…
كانوا يدركون أنهم ميتون لا محالة، ولكنهم رأوا في مهمتهم سموّ الهدف ونبله…
لم يبنوا قرارهم على مدى الخطر الذي كان يهدد حياتهم وإلاّ لما فعلوا ذلك، ولكن بنوه على قدسيّة الهدف!
وفعلا قضوا نحبهم بعد أيام من إنجاز تلك المهمة….
……..
يقول الفيلسوف الألماني Goethe
Man is not born to solve the problems of the universe, but to find out what he has to do
within the-limit-s of his comprehension
(لا يولد الإنسان ليحلَّ مشاكل الكون، بل يولد ليكتشف الغاية من وجوده وليحقق تلك الغاية ضمن حدود قدرته على الإستيعاب)
لا شكّ أن كلا منا جاء ليحقق غاية ما دون سواها، ولا شكّ أنه مزود بالإمكانيات اللازمة لتحقيق تلك الغاية.
لذلك، نحن لا نستطيع أن نختار الغاية، فالغاية ـ كما هي بصمات أصابعناـ تخصنا وتحددنا دون غيرنا..
عندما نمثّل في الحياة دورا سنفشل في أداء ذلك الدور، وعندما نكون أنفسنا بعفوية وبلا تكلّف لا تستطيع قوة أن تقف في وجوهنا..
لا أدّعي أنني سأحلّ مشاكل العالم من خلال هذا الكتاب، لكنني على ثقة من أن العالم سيكون أجمل بوجوده..
إذ أنَّ الغاية العليا التي تختصر كل الغايات هي أن نترك الكون أجمل مما كان عندما أتينا إليه…
كلٌّ بطريقته…
ولقد فعلت!
…….
للموضوع صلة!