لغة الكتابة والنيران


عبدالله خليفة
الحوار المتمدن - العدد: 4596 - 2014 / 10 / 7 - 09:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


اعتاد بعضُ الشعراء على استخدامِ لفظة النار كثيراً في التجارب الشعرية الأولى، وكانت تعبيراً عن القهر وعن لغة المعاناة القاسية وآلام الجمهور وعن ضبابية الفكرة وغموض الاتجاه التجديدي للمجتمع، فتلتقي بين ضفاف الألم والفوضى. لم يكن لديهم برنامج واضح عقلاني لتغيير الحياة فتأتي كلمة النار لتكون استعارة لغياب إعمال العقل والبحث في طرق تغيير الحياة.
لم تتقاربْ قوى اجتماعية ذات جذور اقتصادية وثقافية عميقة وتكوّنُ عقليةً ديمقراطيةً هادئة متجذرة في الأرض واللغة. الإمكانياتُ الاقتصادية لقوى العمل والإنتاج الخاص والعام لم تكونا مساراً ديمقراطياً عميقاً مشتركاً بل متضارباً، والاقتصاد توجه لتشييد مؤسسات مالية وتجارية وصناعية فوق التجربة الوطنية، ولهذا كانت مسائل بناء العقل النهضوي صعبة إن لم تكن مستحيلة على مدى عقود.
التاجرُ يقيمُ مركزاً دينياً أو داراً علاجية لكنه لم يُقمْ مركزاً ثقافياً أو جريدة إلا بعد عقود وبصعوبات خارقة.
البناءُ المادي سهلٌ نسبياً، لكن عمارةَ العقل وما ينتجُ منها من نوافذ ضوئية ومن تحليلاتٍ عميقةٍ رصينة للواقع، ولوحات فذة تعالج الروح لا مظاهر المواد العابرة من بيوت وقوارب، أمورٌ عسيرة بسبب تكوين هذه العقول العاكسة بتسجيلية والعائشة على المظاهر الخارجية لا تستطيع أن تنفذَ إلى سببياتٍ عميقة ومهامٍ سياسية واجتماعية تحويلية عقلانية.
فإذا عبرتْ صرختْ، وإذا تألمتْ حرقتْ، وليس لديها وسائط من تحليلاتٍ أو دراسات، كانت النارُ مظهراً لأكواخ تزول بحرائق فظيعة، ولغةً سياسيةً طفولية غير قادرةٍ على البناءِ وكانت مظاهرات رهيبة.
الأجيال المعاصرة وهي تحاولُ على مدى عقود أن تبلورَ تجربتَها تقرأ بتسجيليةٍ فوتوغرافيةٍ سطوحَ الظواهر، ولهذا فإن أدباً وتسجيليات صحفية وبيانات حزبية صارخة بحب الوطن وكره الفقر والاستغلال وقصصاً تسجلُ النماذجَ الفقيرة المعوزةَ المنهارةَ المُداسة بتروس الواقع وليس ثمة تحتها حفرياتٌ في سببيات انهيارها.
علاقاتُ اللغةِ البيانيةِ بالعلوم منقطعةٌ، والقوى السياسيةُ تصرخ ولا تستطيع أن تكونَ مجرى نهضوياً بسببِ تفككِ رؤيتها، فهي ضد القطاع الخاص والقطاع العام معاً، لا تؤيدُ نموَّ رأسماليةٍ وطنية ديمقراطية ليبرالية، وترفضُ القطاعَ العام الحكومي رفضاً شديداً، والرؤية تقومُ على مشاعر غاضبةٍ كارهة للأغنياء مؤدلجة في هذا الضباب النوراني الاجتماعي، من دون معرفةٍ باتجاهاتِ العصر الحقيقية، فهي تطفو على شعاراتِ الاشتراكية القاضية على كلِ استغلالٍ رجيم، ثم يتلوها دينٌ يقومُ على انتصار إرادةِ الولي الفقيه، وهذه المسائل لا تحتاجُ إلى علومٍ تثري نقدَها وتقيدُ غضبَها الصارخ، ومن هنا فالأجيالُ المتكونةُ في هذه الحممِ البيانيةِ أخذت تفقدُ أوراقَها، وحين نزلت على أرض الواقع الحقيقية لم تستطع سوى أن تستعيد صراخها القديم وذكرياتها الممهورة بالعظمة، ولكنها وهي تتلعثمُ تتعلمُ، وقطعُ هذا الإرسال يجعل اللغات تعودُ لكهوفِ الغضب القديمة غير المحددة الاتجاه.
في معالجاتٍ مطولةٍ لنتاجات هذه الأجيال نرى أن هناك انهيارًا للتحليل، فهذه الأجيالُ عاجزةٌ عن التحليل، توقفتْ قدراتُها عن الحفرِ في الواقع، لم تطورْ علاقاتها بالنظريات التحديثية والنقدية والليبرالية والتقدمية الجديدة، ولهذا فإن القصة القصيرة تتوقف، وتشحبُ القصيدةُ، وتصيرُ المقالةُ مدحاً أو ذماً، لا تحليلاً موضوعياً للإيجابي والسلبي، الوعيُّ الديني يستولي على العقولِ هنا، فأما الجنة أو النار، ليس ثمة من موقفٍ ثالث!
فلماذا لا نكون مع كل الأقطاب الاجتماعية الوطنية ونرى السلبي والإيجابي فيها ونحاولُ أن نعزز الإيجابي؟ وهل يخلو طرفٌ من شعرة إيجابية ولو حكمتَ عليه بالإدانة الكاملة؟
الصراخ والشتائم والعنف وإدانة الغرب بالكامل أو تأليه الشرق الخالد ونسف اتجاهات الحداثة المنتصرة الماشية في طول الأرض وعرضها، تعبيراتٌ عن عدمِ القدرة على الجمع بين مضامين غائرة غير مبلوَّرة فكرياً، وغير متجسدة اجتماعياً بشكلٍ بناءٍ مفيد، وهذه تنعكسُ في اللغةِ السياسية خاصةً، ذروة البيان الاجتماعي، عبر الصرخة ولغة الاستعراض والقطع الكامل والنرجسية الصارخة والجمل النارية والصولجان المتباهي بذاتهِ المنتفخةِ وتصيرُ اللغاتُ مفرقعات ودعوات نازفةً دامعةً للسماء بأن تقهرَ المشركين الآثمين، هنا نجدُ ذروةَ عجزِ اللغةِ في فهمِ الواقع والتأثير عليه وتشكيل لغة سياسية ماهرة تجمعُ بين الدبلوماسيةِ والفصاحةِ الشعبية والعمق البحثي، لأن الحراكَ السياسي على الأرض، واستيعاب الواقع والناس، والعقلانية في السير السياسي، وتطوير كل إيجابيات الواقع في القطاع العام والقطاع الخاص، وخلق بناء وطني اقتصادي – ثقافي كبير عميق بينهما، لم تتشكلْ ولم تُؤخذ بالحسبان، فالأجنحةُ الخياليةُ تتكفلُ بكلِ شيء وعدة غارات تصنع المعجزات. إما أن تحلل كل هذه التركيبة الحداثية المركبة وتستطلع الآفاق لها فهذا مستحيل.
كما أن اللغات المصلحية الذاتية المدافعة عن جهة واحدة من الواقع، تسطحُ الوعي، وتشكلُ إثارات معاكسة، متألمة، وتكونُ الموضوعيةُ هي الضحية، وبدلاً من النار يحل الجليد!
ملحوظة: (يتوقف كاتب هذا العمود عن الكتابة مؤقتاً شاكراً اهتمام القراء)