إسلام الإنسان (٢) دعوة الإحياء الإسلامى


جمال البنا
الحوار المتمدن - العدد: 3995 - 2013 / 2 / 6 - 09:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


تحدث الأستاذ جمال البنا ـــ رحمه الله ـــ فى الحلقة السابقة عن تصور الإسلام للطبيعة البشرية.

كما تحدث عن كون الإسلام دين الفطرة، وكان رافضا لكل ما يخالف الفطرة الإنسانية ويكمل بقوله:

ويماثل ذلك أيضًا عدم وجود الكنيسة أو المؤسسة الدينية التى يكون لرجالها درجات ومراتب وأزياء وتنظيم كهنوتى وحقوق فى التحليـل والتحريم، إن الإسلام يكاد يكون فى هذه كلها «علمانيًا» أو مدنيًا، فالمسجد أرض فضاء، والصلاة يمارسها كل واحد فى بيته أو حقله، وأى واحد يحفظ شيئاً من القرآن يمكن أن يكون إمامًا، والعلاقة بين المؤمن والله مباشرة لا يمكن لأحد أن يتدخل فيها، ويظل المجتمع الإسلامى مجتمعًا مفتوحًا، وكانت صفات المقدرة والجدارة هى التى تُعلى الأفراد، كما كان العلم والفقه مفتوحًا للجميع، ويمكن لفرد من أقل الطبقات أن يصل بفضله إلى أعلى المناصب، كما فعل «الموالى»، أما التجارة والحرف فكانت هى الأخرى حرة.

وقَبِلَ الإسلام طريقة العرب فى الكُنية بدءًا من الرسول حتى الخلفاء، وسهّل هذا على الإسلام أن يعمق روح الأخوة، وأن يصطنع لقب «أخ» ليحمله المؤمنون تطبيقاً لما قاله القرآن: «إنما المؤمنون إخوة»، ولما قاله الرسول عن المؤمنين إنهم كالجسد الواحد وكأسنان المشط، وإذا كان المجتمع السوفيتى قد توصل فى العصور الحديثة إلى لقب «رفيق»، وتوصل المجتمع الأوروبى الحديث إلى لقب «سيد»، فإن الإسلام قد سبقهم عندما أبدع لقب «الأخ».

وكانت قوانين الميراث الإسلامية تفتت الملكية حتى لا يظهر إقطاع كما كان فى القوانين الرومانية، التى كانت تمنح الابن البكر مزايا عديدة، لقد رفض الإسلام هذا وساوى بين الأبناء، ورفض الرسول أن يشهد على منح أحد الأنصار ابناً من أبنائه قائلاً: «هل أعطيت كل أبنائك مثله؟»، فلما رد بالسلب رفض الرسول، لأنه لا يشهد على ظلم، وجعل الميراث حصصًا محددة تبعًا لدرجة القرابة أو الحاجة.

ويضاف إلى هذه أيضًا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذى لم يقم الإيمان به على معجزات خارقة للطبيعة، كأن لا تحرق النار إبراهيم أو تلتقط عصا موسى أفاعى السحرة أو يُحيى المسيح ميتاً أو يشفى عشرات المرضى، لم تكن معجزة الإسلام شيئًا من هذا، لقد كانت كتابًا بلغ المثل الأعلى فى القيمية وفى الأسلوب وفى الخيال وفى النظم الموسيقى والنثر الفنى، واستخدام المجاز أكثر من السرد، وإبراز قيم الحرية والعدالة والخير والمساواة والمعرفة كمُثل عليا.

ولما كان الإسلام هو دين الإنسان، ولما كانت الطبيعة البشرية هى ما أشرنا إليه، فقد كان لابد للإسلام أن يتعامل مع هذه الطبيعة بطريقة «جدلية»، فهو يقر بالكثير منها، لكنه فى الوقت نفسه يستأصل بقوة ما رأى أنه يخالف الأصول الإسلامية، فحرّم الخمر والقمار والزنى والحرب بين القبائل، وكانت هذه هى سلوة المجتمع الجاهلى.

ولكنه تعامل مع الطبيعة البشرية بطريقتها حتى يجعلها تصغى إليه، وهذا هو سر الطابع الفنى للقرآن والنظم الموسيقى لآياته وأسلوب الثواب والعقاب، كما أنه أيضًا سر تنويع الخطاب القرآنى، فالقرآن يخاطب نفوس الناس جميعًا، فيتحدث حيناً بأسلوب يسيل رقة وعذوبة، بحيث تتجاوب معه المشاعر النبيلة والعواطف السامية، وهو حيناً يقسو ويُعنّف، وهو يعتمد على فكرة الثواب والعقاب، لأنها إحدى الأفكار الأساسية التى يتأثر بها الأداء، فهو يثيب المحسنين ويعاقب المسيئين.

إسلام الإنسان ليس إسلامًا مثاليًا، لأنه لو كان مثاليًا لما أمكن تطبيقه، ولكن الإسلام يبدأ من التطابق مع الطبيعة البشرية ويدفعها رويدًا وهو يتمسك بالعدل، لكنه يرفقه بالرحمة حيناً ليرقق من صلابته وبالإحسان حيناً ليرفعه فوق العدل.

هل جعل الإسلام «إسلام الإنسان» بالعقل؟

الرد: نعم، ولكن خلال ٢٥ عامًا، هى مدة حكم الرسول للمدينة وسنتان ونصف خلافة أبى بكر.

وخلال هذه الحقبة الأولى القصيرة استطاع الإسلام أن يحقق حلم الفلاسفة والمفكرين، وأن يوجد الدولة «اليوتوبيا» فى المدينة طوال ربع قرن، ذلك أن الدولة التى أسسها الرسول فى المدينة، وإن كان فيها بعض مقومات الدولة كإبرام الاتفاقيات والحكم بين الناس وإدارة شؤون المجتمع، فإنها قد خلت من مقومات الدولة المميزة، ألا وهى أن تكون أداة قهر فيوجد فيها الجيش والبوليس والمحاكم والسجون، وتفرض ضرائب لأن حصيلة الضرائب هى ما تنفقه الدولة على أجهزتها.

نقول: لم يكن فى «دولة» المدينة شىء من هذا، فلم يكن فيها جيش نظامى محترف ودائم، ولم يكن فى المدينة سجن، ولم تفرض ضرائب، لأن الدولة لم تكن بحاجة إلى مال، فالرسول لا يتقاضى أجرًا، وليس هناك سجون أو بوليس أو جيش، أما قضية العدالة الاجتماعية فقد كفلتها الزكاة، وفى الوقت نفسه، فإن رئيس هذه الدولة كان نبيًا تحوطه رعاية الله ويصحح له الوحى اجتهاداته، بل يراقبه ويعاتبه إذا أخطأ.

وكانت السمة الرئيسية لهذه الدولة هى المساواة وهى الركن الركين الذى يمكن أن تقوم على أساسه كرامة الفرد وحكم الإنسان، خاصة عندما توجد الضوابط التى تحول دون حدوث الديماجوجية، ولم تجعل هذه المساواة لأحد فضلاً أو امتيازًا على آخر، حتى إن الرسول نفسه عندما كان يسوى الصفوف قبيل إحدى المعارك مس أحد المسلمين لأنه شذ عن الصف، فادعى أنه آذاه، فكشف له الرسول عن بطنه ليقتص منه، وهنا قبَّلها الرجل وقال إنه إنما أراد أن يكون هذا آخر عهده بالدنيا.

وفى خلافة عمر بن الخطاب عندما وطئ أحد الأعراب إزار جبلة بن الأيهم، وهو ملك عرب الشام فى الطواف، فضربه «جبلة» ضربة أسالت الدم من أنفه وشكاه الرجل إلى «عمر»، الذى أخبر «جبلة» أن عليه أن يُرضى الرجل أو يقتص منه، فقال «جبلة» مستنكرًا: «تقصنى وأنا ملك وهو سوقة؟!»، فقال «عمر»: «الإسلام سوى بينكما».

وقد ضربت لنا تلك المرأة التى وقفت فى المسجد وعارضت علانية بصوت عالٍ ومنطق سليم فكرة الخليفة عمر بن الخطاب فى تحديد المهور لأن الله تعالى يقول: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً»، وقد يكون أهم من المشاركة الفعالة والمعارضة القوية لهذه المرأة خضوع وتسليم «عمر» وإقراره: «أصابت امرأة وأخطأ عمر».

إن عنصر المساواة هو أكبر عنصر يؤدى إلى مجتمع الإنسان، لأنه المناخ الذى يسمح لكل واحد بالقول والمشاركة، ولأنه يمحو كل المزايا على أساس الطبقة أو الثراء أ-و الجاه...إلخ.

بالإضافة إلى هذا المناخ الذى يحقق الإنسانية، فهناك عاملان مهمان: الأول هو الأمن من الاضطهاد أو المضايقة أو ما تقوم به السلطات من أساليب عديدة تهدد أمن المواطن وتحد حريته وتغرس فيه الخوف. والعامل الثانى كفالة المورد المادى الذى يحقق حياة كريمة لا يشتكى فيها فاقة أو عوز، ويتوفـر فيها قوت يومه، وقد كفلت دولة المدينة هذين، فكل مواطن كان آمناً فى سربه، مطمئناً إلى أن أحدًا لن يقرع عليه الباب فى هدأة الليل لينتزعه من فراشه وليودعه سجناً.

حقيقة أننا لا نرى فى هذه الدولة إشارة إلى حقوق الإنسان كما فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان أو الوثائق الدولية الأخرى، لأن هذا يعود إلى أن الإنسان كان أصلاً هدف الإسلام، وأنه نسب هذا إلى الله تعالى عندما جعل الإنسان خليفته، فاعتبر ما نسميه «حقوق الإنسان» واجبات الإسلام.

وعلى كل حال فإن لكل عصر لغته ووسائله المختلفة، وليس المهم الألفاظ ولكن المعانى، وقد كانت معانى مجتمع الإنسان محققة فى المدينة من توفر عنصر المساواة والأمن من الوقوع فى قبضة السلطات والزج فى السجون أو إيقاع العقوبات، والأمن دون أن يقع ضحية للحاجة والعوز، كل هذا كان محققاً دون إشارة إلى «حقوق الإنسان»، لأن الإسلام عالجها كواجبات عليه وكجزء من تداعيات طبيعته، كما تحدث عن الإنسان باعتباره بنى آدم حتى يكون شاملاً لكل الناس من أبيض وأسود، رجل وامرأة...إلخ.

الأستاذ والمفكر الكبير جمال البنا كان قد أعد مجموعة من المقالات قبل وفاته وأوصانا بنشرها..