ان عملية اقناع السياسيين والمثقفين والاعلاميين العرب بعدالة قضية الشعب العراقي ودموية سلطة البعث , مضى عليها أكثر من عشرين عام , وحفرت لها اسس عميقة في البنى الآجتماعية والسياسية والثقافية . ولذلك فأن مطالبة هذه الفئات ( الآن ) بالصمت او قول الحقيقة , غير عملى وغير مقنع, على الرغم من وضوح عدالة قضيتنا , وثبوت الآدلة الدامغة على دموية النظام المقبور من سجون سرية ومقابر جماعية وأطنان من الوثائق السرية تمددت على اربعين عام من شراء الذمم وتشويه النسيج الآجتماعي للبلد .
المشكلة الحقيقية هنا ليست مع السياسيين والمفكرين الذين ( قبضوا ) اموالا او رشاوى , وامتلكوا الاجابات الزئبقية على كل الآسئلة السياسية والثقافية , وتكلموا بشجاعة تشبه الوقاحة , وتنقلوا بين المواقف بخبرة من مر على موائد كثيرة . لكن المشكلة كانت مع ابناء جلدتنا , رفاقنا وأصدقائنا الذين احترقوا مثلنا بنار الاعدامات والسجون والمنافي . عشرون عام ونحن نحاول جاهدين وبكل السبل , اقناعهم بأن الشعوب لا تكذب على حكامها , وان القوانين التي تحمي المواطن , اجدى نفعاً واضمن حقاً , من الحاكم العادل والقوي والمنقذ . ولكن للآسف لم نستطع فعل الكثير وشعرنا بالعجز والاحباط مرات عديده , وغالباً ما كنا نختتم احاديثنا عن الشعر واللوحة كمخرج يرضي الجميع , وينقذ السهرة وما كلفته من مال واعداد .
ويومها كنا نعزي انفسنا في عدم قدرتنا على اقناع الآخرين , بأننا كنا من اوائل ضحايا الصعود الفاشي بالعراق , وما صعودنا للجبال ببنادق عتيقة ومقاتلين دراويش , الا دفاعاً عن حياتنا وكرامتنا واملنا في سقوط الدكتاتور, ولم ندرك " لطيبة قلوبنا التي تشبه الغباء " بأن اسقاط مثل هكذا نظام يحتاج الى حروب داخلية وخارجية طاحنة , ستشغل عقوداً ثلاث وتنتهي بانهيار خرافي , وانشطارات اقليمية ودولية لم يسبق لهل مثيل في التأريخ المعاصر.
ان الانحياز الوراثي لفكرة المؤامرة أوقعنا كثيراً في دائرة التبسيط , فيما يخص تحديد العلاقة القديمة بين المفكرين والسياسيين وبين نظام البعث السابق . ومع اننا لم نأتي بجديد اذا تحدثنا عن أسماء يشار لها بالبنان , كانت مستفيدة من دعمها للديكتاتور , ولكن في الجهة الاخرى يقف الكثير من الوطنيين الصادقين والمبدعين الحقيقيين , الذين وقفوا الى جانب العراق واستقلاله , لينتهي بهم الآمر الى الوقوف مع سلطة البعث الدموية.
فكثير من دعاة الافكار القومية بالوطن العربي , وجدوا في العراق ضالتهم , نموذجهم وحاضنتهم , حتى قبل ان تتسرب الى جيوبهم براميل النفط . وهنا النقطة التي تسجل لصالح سلطة المخابرات , بربطه هذه المواقف النزيهة بالاموال والهبات , ليزيد من رصيد المبدعين المالي على حساب رصيدهم الآنساني والآبداعي , ما دفع بهم اكثر للصراخ والآستبسال في الدفاع عن العراق , الى درجة أذهلتنا يومها نحن العراقيين ابناء البلد . ولم نعرف الا مؤخراً , بأن من كان يخفت صراخه يجري تهديده بالاموال التي حصل عليها , وأنها مسجلة وموثقة في دوائرهم المخابراتية .
من بين كل الذين دعموا الديكتاتورية بالعراق , يقف الفلسطيني الخاسر الآكبر والدائم , بعد تجاربه المريره بعمان وبيروت والكويت وبغداد . الفلسطيني الذي طالت معاناته جراء الاحتلال الصهيوني لبلده , وأحباطه المستمر بسبب تسابق الزعماء العرب في وضح النهار في ابداء الولاء والطاعة لآعدائه من الصهاينة والآمبرياليين . نراه قد انكفئ الى الداخل يبحث عن منقذ , عن بطل قومي , عن صلاح الدين جديد , فلا يجد غير صدام حسين وشعاراته الديماغوجية , وعنترياته القومية وهباته المالية . وكل هذه الآعوام التي مرت عجاف علينا وعليهم,
لم نستطع توضيح الامر - لخلل في ادواتنا او ضعف في حججنا - بأننا بالعراق نعاني اكثر من معاناتهم مع شارون وبيغن ونتنياهو , وان الفلسطيني لا يسجن في السجون الاسرائلية اكثر من يوم واحد من دون تهمة قانونية معلنة , وان العراقي الذي يذهب الى السجن لا يعود ,
اضافة الى ان تحرير القدس يتطلب رجال احرار واقوياء من الفلسطينيين اولا , ومن العرب ثانياً , ونحن العراقيين نتوزع السجون والمنافي
والمقابر, ولم نستطع ازاحة الديكتاتور ببلدنا , فكيف نحرر فلسطين ؟ .
العراقيين بدفع من حكومتهم , قاتلوا دولاً واعتدوا على شعوب جاره وصديقة , بحجة تحرير فلسطين عبر عبادان والكويت , وكانوا على وشك
تحريرها عبر الرياض او عمان لولا وصول القاطرة الآمريكية التى خربت كل شئ , لتعلن للجميع بأنها ستحرر فلسطين عبر بغداد !!
ان نظام البعث المقبور , والذي لم يفلح في حل اغلب الأزمات التي واجهته عربياً ودولياً ,أفلح في بلبلة وتشويش أفكار الكثير من الوطنيين العرب ,بشرائه احزاب وصحف ومجلات وقنوات فضائية , لعبت دوراً فيه الكثير من علامات الاستفهام , تنتظر ملفات المخابرات وأرشيف الأمن للأجابة عليها . والى ان تتكشف الحقائق سيبادر ايتام النظام السابق بالهجوم علينا واتهامنا بالعمالة والخيانة بعد ان كانوا قبل ايام قليلة يصفوننا بالبطولة والعروبة , وسوف يحاولون عزلنا كما فعلوا مع الكويت , لكننا سنبحث في هذه الملفات السرية ونطلب بنشر محتوياتها, حتى تساعدنا في اقناع من لم نستطع اقناعهم بعدالة قضيتنا , وحجم قتلانا وخصوصية سجوننا وموهبة جلادينا, وهذه المرة اذا لم نستطع مع كل هذه الأدلة والشواهد .. فهذا يعني ان بالأمر خيانة .