أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - وليد مصطفى - كتاب- رهانات النهضة في الفكر العربي















المزيد.....



كتاب- رهانات النهضة في الفكر العربي


وليد مصطفى

الحوار المتمدن-العدد: 194 - 2002 / 7 / 19 - 08:47
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


 

كتاب" رهانات النهضة في الفكر العربي"

محاولة جادة  للبحث في أزمة الفكر العربي

للدكتور ماهر الشريف

مراجعة وتعليق د. وليد مصطفى

مواصفات الكتاب :صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار المدى للثقافة والنشر في دمشق عام 2000، وقد طبع الكتاب بدعم من مجلتي صوت الوطن في رام الله، والطريق في بيروت ،ومن المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، ومركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.يقع الكتاب في 407 صفحات من القطع المتوسط ، ومكون من تمهيد ومقدمة من المؤلف وستة أقسام أو فصول. ويحتوي الكتاب بالمجمل على مجموعة من الدراسات والأبحاث ، حول قضايا النهضة وأزمة الفكر العربي، التي نشرها الكاتب في عدد من  المجلات الفكرية العربية في النصف الثاني من عقد التسعينات.

سطور عن المؤلف:د. ماهر الشريف مفكر فلسطيني متنور ، من مواليد دمشق عام 1950.يحمل شهادة دكتوراة الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون في باريس. شغل لسنوات عدة موقعا متقدما في قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، واسهم بفعالية في عملية التغيير والتجديد التي باشرها الحزب في عام 1991 والتي نجم عنها تبني برنامج سياسي ونظام داخلي جديدين للحزب ، ومن ثم تبني تسمية حزب الشعب الفلسطيني . له باع طويل في البحث والتحرير. رأس تحرير مجلة صوت الوطن ما بين 1989-1993، وهو عضو في هيئتي تحرير مجلتي الطريق والنهج . شغل موقع المدير المساعد لمركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ما بين 1983- 1989. أشرف على إصدار مؤلفات جماعية عن التراث الثقافي الفلسطيني ، والطبقة العاملة الفلسطينية ، وعن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني . صدر له العديد من المؤلفات وهي : الأممية الشيوعية وفلسطين 1919-1928 والذي صدر عام 1980، و الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948 والذي صدر عام 1981، وتاريخ فلسطين الاقتصادي الاجتماعي الذي صدر عام 1985، وفي الفكر الشيوعي الفلسطيني : الشيوعيون وقضايا النضال الوطني الراهن الذي صدر عام 1988، والبحث عن كيان – دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908- 1993 والذي صدر عام 1995، وعن بعض مظاهر أزمة الماركسية الذي صدر عام 1995 .

العرض والتعقيب

هذا الكتاب محاولة جادة من المفكر الفلسطيني د. ماهر الشريف  للبحث من موقع متنور، في قضايا النهضة في الفكر العربي. ويجهد هذا المفكر، من خلال معرفته للوضع العربي الراهن ،في تشخيص الأزمة التي يعيشها أطراف وممثلو المدارس الفكرية في العالم السياسي العربي . وهو منذ التمهيد والمقدمة يحدد موقفه ويركز خلاصة أفكاره واقتراحاته في هذا الصدد .

 لا يخفي د. ماهر الشريف إعجابه برواد النهضة العربية الأولى التي ظهرت بواكيرها  في مصر وبلاد الشام وتونس في القرن التاسع عشر ، بتشجيع مباشر من حكام متنورين أمثال محمد علي والخديوي إسماعيل . وهو يرى فيما طرحه ونادى به هؤلاء المثقفون المتنورون بداية ممتازة كان يمكن لها أن تحقق الكثير ، لولا انتكاستها بسبب القطيعة الفكرية مع فكر رواد النهضة ، والتي جرت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ( ص26). وبالتالي فان د. ماهر وانطلاقا من الحاجة الماسة لمشروع نهضوي عربي جديد ، يخرج العرب من حال التخلف ، يرى أن من الواجب الاهتمام بفكر عصر النهضة ، والعودة إلى الروح الفكرية التي عاشت في عصر النهضة، وإعادة وصل ما انقطع في مسار التطور الفكري العربي، واستيحاء طرائق مقاربة الفكر النهضوي للقضايا والإشكاليات التي واجهها . والعودة إلى الماضي، عند الكاتب، هي بهدف إضاءة الحاضر ،وليس العودة إلى نصوص كتبها الرواد في أزمنة وسياقات مختلفة ، لن نجد فيها إجابة على ما يطرحه الواقع الراهن . لذلك طالب بالعودة إلى روحية التسامح والانفتاح والتعددية ، وتصليح العلاقة بين الثقافة والسياسة ، بما يمكن المثقف من لعب دوره القيادي، على مستوى الفكر، إلى جانب السياسي ( ص29) . والعودة إلى رواد النهضة وفق د. ما هر  سببها : 1 – فشل الثورة العربية الحديثة في إنجاز النهضة 2 – تفاقم أزمة الفكر عند التيارات العربية الفكرية 3 – أن العديد من القضايا التي طرحت في بداية القرن التاسع عشر لا زالت قائمة .

قراءة في خطاب عصر النهضة

يكرس د. ماهر القسم الأول من كتابه لفكر عصر النهضة الذي استمر قرابة القرن (1825-1920)، ويعرفنا في هذا الفصل على أهم ما جاء به رواد هذا الفكر، ويناقش دورهم في الحديث عن أسباب التخلف، وسعيهم لنشر الوعي بالحداثة والتعريف بوسائل بلوغها .

يشير د.ماهر الشريف إلى أن رواد النهضة تمثلوا بتيارين 1- تيار الإصلاح الديني  2- التيار الليبيرالي- العلماني، وأشار إلى أن هذين التيارين بالرغم من الاختلاف قد اشتركا في أ – أهمية العلم والاستناد إلى العقلانية ب – الانفتاح على العالم والاقتباس المشروط عن الغرب ج- الإصلاح والتغيير هما سبيل النهضة ولا يتما إلا عن طريق التدرج وليس الطفرة(ص 21).

ويلفت الانتباه إلى أن المثقفين المتنورين من أتباع التيارين كانوا من أصول متعددة ومتنوعة، فمنهم القروي البسيط، ومنهم  ابن العائلة العريقة، ومنهم من تلقى العلم الأزهري وآخر العلم التبشيري، ومنهم من واصل تعليمه في أوروبا، ومنهم من درس في المعاهد المحلية وشارك في الجمعيات والحلقات الاجتماعية والفكرية .

وقد أجمع  الرواد على أن أسباب تأخر العالم العربي تعود إلى أ- الاستبداد السياسي وفساد الحكم ب – الجهل ودوره في خنوع الأمة واضطهاد أو إفساد المثقفين ج – فقدان حس احترام العمل والعلم د –  استغلال الدين لتكريس  الجهل ونبذ الحريات .

وبالمقابل أجمع هؤلاء المتنورين على أن أسباب تقدم الغرب تعود إلى أ – تطور العلوم والفنون ب- التعلق بالحرية وتقييد سلطة الحكام والتقيد بالدستور ج – الإدارة الناجحة للاقتصاد وحماية الصناعة والثروات د – احترام حرية التعبير والنقد والكتابة ه – الاهتمام بالمبدعين و – تحرير المرأة ز – إنجاز الإصلاح الديني .

وفي هذا الصدد رأى هؤلاء المتنورون أن دراسة تجربة الغرب، واستيعاب أسباب تقدمه وتخلف الشرق، هو أمر حتمي .وقد وقفوا في هذا المجال موقفا نقديا مبدعا من قضايا التراث والمعاصرة . فقد آمنوا من الناحية الحضارية بوحدة العالم الحديث والاعتماد المتبادل بين الأمم . وأشاروا إلى أن الغرب تقدم بفضل علوم الشرق، وأن اقتباس الحضارة الأوروبية في الشرق هو استرجاع لما أوخذ . وفي السؤال عن كيف يمكن الانفتاح على العالم دون أن تضيع الهوية العربية – الإسلامية . أجابوا  " أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث يجدها" . وقد رفضوا التقليد الأعمى للغرب ، حيث تحدثوا  عن صفاته الحميدة وعن مثالبه، وأشاروا كما ورد على لسان بطرس البستاني، أن ليس كل ما يأتي من الغرب مفيد وسيؤدي للنجاح ( ص 55). وأكدوا في هذا الصدد أن لا تناقض بين المؤسسات والدستور والبرلمانات وحرية التعبير والرأي والتنظيم مع الدين . وينقل الكاتب في هذا الصدد تندر خير الدين التونسي على هؤلاء الذين اقبلوا على الملابس والأثاث الأوروربي، ورفضوا ما ينفع من التنظيم  ونتائجه. وفي الوقت الذي تحدث فيه الرواد عن شرعية الاقتباس من الغرب، لم يغفلوا دوره الاستعماري  في فرض التخلف والتبعية على الشرق . وفي الوقت ذاته وقفوا موقفا نقديا شجاعا من التراث، حيث طالبوا( شبلي شميل)  بمعرفة الضار والنافع في الماضي، والانفتاح على المعاصرة والتطلع للمستقبل (  ص 58). و قد ركزوا في هذا الصدد(قاسم أمين) على مثال اليابان الناجح التي قطعت صلتها بالماضي، إلا ما كان متعلقا بجامعة شعبها، وبينوا كيف أن اليابان انتصرت بسهولة على الصين التي قتلها إعجابها بماضيها دون العمل على إحيائه.( ص 59)

أسس الحداثة الاجتماعية وسبل ترسيخها

لقد تابع رواد النهضة أسباب تخلف المجتمعات العربية، ورأوا أن السبيل الأوحد للقضاء على هذا التخلف، هو الأخذ بسبل الحداثة وما أنجزته من تقدم في عالم الغرب، ولقد رأوا أن أسس هذه الحداثة تتلخص فيما يلي :

1 – الحرية، حيث يتم تأمين الحرية الطبيعية والمدنية والسياسية في المجتمع ، كما وتكفل الحرية الشخصية للأفراد . يقول أحمد لطفي السيد في هذا الصدد بضرورة ضمان حرية الفكر والاعتقاد والكلام والكتابة والاجتماع والتعلم والمساواة أمام القانون، وضمان حق الملكية وحق الأمة في حكم نفسها، وتأكيد العلاقة بين حرية الفرد والمجموع .(ص 60)

2- العدل والمساواة ، حيث تقرن الحرية بالعدل ومساواة الناس في الحقوق والواجبات .

3 – المواطنة ، بمعنى تغذية حب الوطن والنخوة الوطنية في النفوس في مواجهة الطائفية والعشائرية والقبلية . وقد ربط هؤلاء بين حب الوطن وتمتع المرء بالحرية التامة والحقوق في وطنه.

4 – العلم والتعليم كخير المعارف والفنون والسبيل الأمثل لمعرفة الأبناء بحقوقهم، وحتى يكونوا ، كما يشير علي مبارك ، يدا واحدة في نفعة وخدمة الوطن ( ص 62).فالعلم هو أحد أبرز دعائم العمران والصناعة والزراعة والجيش ومكافحة الجهل والطائفية .

5 – حب العمل ، بمعنى نقد فلسفة القعود والزهد والحث على العمل كمصدر للثروة وأساس القوة .

ومن أجل ترسيخ أسس الحداثة فقد طالب الرواد ب :

1 – فرض التعليم الإجباري ومكافحة الأمية وفتح المدارس في المدن والقرى، كما يشير عبد الله النديم، باعتبار العلم حق للجميع ، وطالبوا بتوسيع وتنويع التعليم وإصلاح التعليم الديني ( ص64).

2 – تحرير المرأة وتوفير فرص العمل والتعليم لها وتحويلها من عالة إلى قوة منتجة .

3 – إصلاح النظام السياسي، حيث تمت المطالبة بإقامة حكم برلماني دستوري علماني يفصل بين السلطات ،ويضمن الاستقلال الشخصي، وتطبق الحكومات فيه ما طالب به الدين من إسعاد البشر ، وتكون سلطاتها محصورة بالقانون  .نظام تتم فيه محاكمة السلطان والصعلوك على السواء. يقول عبد الرحمن الكواكبي أن الأمة في هذا الوطن ليست جمعية عبيد، بل جمع بينهم روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة ( ص68).

4 – إصلاح ديني ، تم الربط بين الإصلاح السياسي والديني من حيث التأكيد على فصل الدين عن الدولة والسياسة، وعدم تناقض الدين مع الحريات المدنية والسياسية وحرية التعبير وشرعية الاختلاف والديمقراطية . وقد كشف هؤلاء الرواد عن العلاقة بين الحكام وعلماء الدين الجهلة والمدلسين، الذين يقفون ضد الإصلاح السياسي ويعادون الشورى ويحافظون على الحال الجاري السيء . فيرى فرح أنطون مثلا أن فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية يحقق 1 – إطلاق الفكر الإنساني من كل قيد 2- المساواة بين البشر بغض النظر عن معتقداتهم 3 - منع السلطة الدينية التي شرعت لتدبير الآخرة من التداخل في الأمور الدنيوية 4_ عدم الجمع بين السلطتين، لأنه يضعف الأمة ويثير التعصب الديني ويعرض مباديء الدين لأوحال السياسية.(ص68).

وقد أجمع المثقفون العلمانيون على احترام الدين وتقدير دوره الاجتماعي، وانفتحوا على جمهور المؤمنين انطلاقا من قاعدة التسامح لديهم . وقد تصدوا  لمحاولات تحميل الدين وزر التخلف القائم ، ورفضوا معارضة الدين بالعلم .فقد ميزوا بين دين الحكام والقصور ودين الفقراء، ورأى فرح أنطون أن الأخير هو دين الإنسانية الذي يحث على الفضيلة، وهو حاجة من حاجات القلب يدوم ما دام الإنسان(ص 71). أما شبلي شميل فرد على مقولة أن العلم والأدب لا يدركان إلا بزوال العقائد والأديان، بقوله أن الدين والعلم بريئان من هذا التحمس، فلا إكراه في الدين ، والعلم يكشف الحقائق ولا يدعو إلى الإلحاد(ص70).

5- التربية السياسية والتنظيم الحزبي وتكوين الرأي العام ، باعتبارها، كما يقول رفاعة طهطاوي، ضرورة لتعريف الناس بحقوقهم وواجباتهم ، وتربط بين المصلحة الخاصة والعامة(ص 72). إن الانتماء والوعي السياسي، من وجهة نظر عبد الحميد الزهراوي، هو السبيل للقضاء على آثار الاستبداد والخوف من الحكومة، والتملق والكذب، ومعرفة الحقوق والواجبات، ومعرفة آداب الاختلاف، وإشاعة روح العامة والقومية بين الصفوف ( ص 74).

6 – التدرج والبعد عن العنف، هي سبل بلوغ النهضة وتحقيق الإصلاح. فقد رأى كل من قاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي،  أن صعوبة التغيير والتجديد الناجمة عن التمسك بالتقاليد، والخلل بموازين القوى بين قوى التغيير والقوى المحافظة، يتطلب التدرج، ومن ثم الابتعاد عن الطفرة والعنف التي ستوصل إلى التدمير ومن ثم العودة إلى الوراء.( ص 76،77).

لماذا انتكس التنوير؟

يجيب د. ماهر الشريف على الاتهام الذي يسوقه بعض المفكرين المعاصرين ، أمثال محمد عمارة ، بأن حركة التنوير كانت عميلة للغرب ومعادية للإسلام وحضارته ، بأن الواقع الموضوعي يشير إلى أنها كانت حركة نهضة وتنوير وتقدم ، دعت إلى إعمال العقل ، وضمان الحريات السياسية والفكرية ، والتأكيد على التطور والانفتاح على الغرب ، والاقتباس من ثقافته وتبني مفاهيم المواطنة والدستور والحكم البرلماني وفصل الدين عن الدولة ، في مواجهة من حملوا شعار العودة للقدماء. وقد استعار الكاتب في هذا الصدد أقوال المفكر سلامة موسى الذي أشار إلى أن شعار عودوا للقدماء هو شعار الإفلاس ، لأنهم لا يعرفون مقدار ما نعرف، وإنما نحن بحاجة إلى أسلوبهم في التفكير المنفتح والمتحرر من أسر الأيدولوجية المغلقة على نفسها(ص 99).

أما أهم  أسباب انتكاس التنوير فهي من وجهة نظر المؤلف :

1- تخلف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية . 2- التدخل الخارجي(الاستعمار) في التخريب على حركة النهضة وتعطيلها .3- تراجع دور المثقفين إما بانكفائهم أو بتبعيتهم للسلطة . 4- حدوث قطيعة فكرية ، بعد الحرب العالمية الأولى، مع فكر رواد النهضة ، حيث سيطرت في مطلع العشرينات على تيارات الفكر السياسي العربي ، مفاهيم التعصب والانغلاق والواحدية، والتشبث بالحقيقة المطلقة، والتشكك تجاه الآخر ، محل روحية التسامح والانفتاح والحرية والتعددية ونسبية الحقيقة وأهمية التفاعل الحضاري التي كانت مخيمة على الفكر في عصر النهضة .5- هيمنة السياسة في مطلع العشرينات على الثقافة ، وانحصار الفكر كليا في أسر الأيدولوجيا ، و الركض وراء التحديث على حساب ترسيخ قيم الحداثة .

العلاقة بين التغيير والمشروع النهضوي العربي الجديد، وتجديد الفكر السياسي العربي

لعل الخلاصة الرئيسية التي يحاول الكاتب أن يصل إليها في مؤلفه الهام هذا هي، الحاجة الماسة لمشروع نهضوي عربي جديد، والذي لا يمكن تحقيقه من وجهة نظر الكاتب ما لم تقوم التيارات الفكرية الرئيسية في العالم العربي، تيار  الفكر الإسلامي، والتيار القومي، والتيار الماركسي،  بعملية تجديد تخرجها من الأزمة الفكرية التي تعاني منها بسبب التحوصل في منظومات أيدولوجية مغلقة .

وبالتالي فان الكاتب يكرس الأقسام الخمسة التالية في كتابه لتناول هذه التيارات الرئيسية الثلاث، وتحليل الأزمة الفكرية التي تعاني منها، ويركز على حاجاتها الماسة لعملية التجديد، إن هي أرادت القيام بالدور التاريخي الملقى على عاتقها، في إنجاز المشروع النهضوي واستكمال ما لم تتمكن من إنجازه خلال القرن العشرين، للدخول إلى عالم القرن الحادي والعشرين .

رهان النهضة في الفكر الإسلامي

من أهم ما جاء به د. ماهر في كتابه هذا هو، إثباته بأن حركة الإخوان المسلمين، التي ظهرت في العشرينات في مصر كممثلة لتيار الإسلام السياسي، شكلت قطيعة مع تيار الإصلاح الديني، وأنها انغلقت في خطاب إسلامي تقليدي يرفض الإقرار بشرعية الاختلاف.وهو يستعرض في هذا الصدد أهم ما جاء به رواد الإصلاح الديني، وما قابلهم به مؤسسو حركة الإخوان المسلمين .وخلال استعراضه لأهم ما جاء به جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق، كأبرز ممثلي تيار الإصلاح الديني ، يشير إلى أن الثلاثة  استندوا إلى التراث العقلاني في الفلسفة العربية الإسلامية، وانفتحوا على فكر التنوير الأوروبي. وأنهم بإزالتهم السد بين الدين والفلسفة تصدوا لمحاولات معارضة الدين بالعلم ، ودعوا إلى إعادة النظر في أفكار الدين من زاوية العقل وروح العصر. وأنهم بتأكيدهم على مبدأ الاجتهاد في الدين، آمنوا بمبدأ التطور والتغيير وأباحوا التأويل ورفضوا حصر التفسير على فئة واحدة ، وانتقلوا من الرؤية الواحدة إلى الرؤية متعددة الزوايا ومفتوحة الآفاق (ص114).وقد ركزوا على أن الجهل والبدع أدت إلى فساد العلماء وتسلط الحكام . كما أكدوا على أن الدين يعلي شأن العقل والعلم ، ويحض  على استقلال الإرادة والفكر للمسلم، ومن ثم يبيح حرية التفكير والاعتقاد.كما ركز على موقف هؤلاء المصلحين الدينيين من فصل الدين عن الدولة، وأن الإسلام لم يعرف مرحلة السلطة الدينية التي كانت للبابا. و السلطة في المجتمع الإسلامي مدنية وليست دينية ، يمكن فيها للسلطان وضع القوانين المدنية بجوار أحكام الشريعة ، ومن ثم يمكن ظهور محاكم مدنية . وقد بين رفض هؤلاء المصلحين لفكرة أن كل خليفة يرأس أمور الدين والدنيا، بتأكيدهم أن الجمع بين الولايتين كانت مقصورة على النبي ،  وما غير ذلك هو استغلال للدين وتحويله إلى درع لحماية العروش (ص124).

وقد بين هؤلاء المصلحون بأن الجهاد كان لتوسيع الملك وليس لنشر الدعوة لأنه لا إكراه في الدين .كما تبنوا فكرة وحدة النوع البشري، بوصفها وحدة في إطار التنوع، تفرض قبول التفاعل الحضاري، والانفتاح على الفكر الإنساني، وترفض التقليد الأعمى ، ذلك أن التنوع يحترم خصوصية كل أمة وتراثها وير اعي مستوى تطورها. وفي هذا الصدد آمن هؤلاء المصلحون بوحدة الأديان وأن الخلاف الذي ينشأ بينها ناتج عن استغلال الدين من قبل البشر .

وقد لخص الكاتب أهم ما جاء به رواد الإصلاح الديني بالنقاط التالية :

1 – الإسلام دين العقل والعلم . 2- وهو دين الحرية الشخصية واستقلال الفكر . 3 – وهو دين الاجتهاد والتأويل ومواكبة العصر. 4 – وهو  دين التسامح وينبذ الإكراه ويرفض التكفير ، وينظر إلى الإيمان كعلاقة خاصة بين الإنسان وربه. 5- لا وجود لسلطة دينية، والإسلام يمنع الاتجار بالدين . 6 – يؤمن الدين بوحدة النوع البشري في إطار التنوع ، وبتآلف الديانات السماوية الثلاث . 7 – يعتقد الدين بضرورة الانفتاح على الآخر ، على قاعدة العدل وقبول التفاعل الحضاري معه، والاقتباس المشروط عنه 8 – يؤمن بشرعية الاختلاف النابعة من تعددية الدين والمجتمع والكون . فإذا جاز التعدد في الدين ( المذاهب) فالتعدد في أمور الدنيا حق (138).

وبالمقابل عرض الكاتب لأفكار مؤسسي حركة الأخوان المسلمين، محمد رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب المعارضة لأفكار رجال الإصلاح الديني ، ويرى الكاتب في أفكارهم المضادة تلك هجوما بدون مبرر أو سند صحيح، على أفكار رجال الإصلاح الديني ، وتنكر لاستقلال الفكر وشرعية الاختلاف . فقد أعتبر محمد رضا مثلا فصل الدين عن الدولة، وإدخال القوانين المدنية، وتوحيد القضاء، وتحرير المرأة، حربا على الدين وهدما لحكم الإسلام وشرعه ومخالفا لنصوص قطعية فيه. ولم يتورع عن اتهام رجال الإصلاح بالملاحدة .واعتبر الكاتب هجوم الشيخ محمد رضا على طه حسين في كتابه ، في الشعر الجاهلي، هجوما على أصحاب التفكير الحر في مصر . ذلك أن طه حسين في كتابه ذاك اعتبر أن حديث التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات الوجود التاريخي (ص 125)، ذلك أن النص الوارد في الكتب السماوية قصد منه العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، أكثر منه تدليلا على أحداث تاريخية . اتهم رضا طه حسين، بسبب هذه الأفكار،بمحاربة الإسلام، والإلحاد، والزندقة، وتكذيب الله والرسول، وأصر على التكفير، بالرغم من أن البعد عن التكفير هو أصل من أصول الإسلام .ويجدر بالذكر أن ما جاء به طه حسين حول تاريخية القصص الواردة في الكتب السماوية في بداية القرن العشرين ، تم تبنيه بشكل واسع في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين من قبل العديد من رجال الآثار والتاريخ الدوليين .وقد عرى أصحاب هذا المنهج زيف ادعاءات التاريخيين التوراتيين ، الذين اعتقدوا  أن ما ورد في التوراة من قصص هو تاريخ مثبت . ومن هنا كان حماسهم في دعم الحركة الصهيونية في تشريدها للشعب الفلسطيني ، واعتبارهم أن ما جرى عام 1948 كان تنفيذا لوعد الله لبني إسرائيل الوارد في التوراة .ويعود السبب في هذا الانقلاب التاريخي، إلى أن ما يقارب من قرن ونصف من التنقيب الأثري في فلسطين لم تؤكد الرواية التاريخية التوراتية حول خروج بني إسرائيل من مصر ودخولهم " فاتحين " إلى أرض كنعان، بل نفتها . وكل الدلائل التي يتم الاعتراف بها تاريخيا الآن تبين أن الديانة اليهودية نمت وتطورت في بلاد كنعان ، وكانت إحدى العقائد السائدة بين القبائل التي عاشت في هذه البلاد  . كما بينت التنقيبات الأثرية أن مملكة داود وسليمان ، لم تكن إمبراطورية تضاهي إمبراطوريات بلاد ما بين النهرين ووادي النيل ، بل مملكة صغيرة متواضعة عاشت إلى جوار ممالك صغيرة أخرى هي، فلستيا ، وفنيقيا ، وعمون ، وآدوم ، وآرام وغيرها . ولا يعتبر أحد الآن ، هذا الكلام التاريخي المثبت ، معاديا للكتب السماوية ، ذلك أن هذه الكتب ليست كتب آثار وتاريخ ، والروايات الواردة فيها قصد منها العبرة والاستدلال أكثر مما قصد منها أن تفهم كوقائع تاريخية محددة .

أما حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين ، فلم يتجاوز، وفق الكاتب، كونه مثقفا  تقليديا ، لا يؤمن بالرأي الآخر ، أو تفاعل الحضارات، أو تآلف الأديان السماوية .فهولم ير في الحضارة الغربية إلا جوانبها السلبية . ودعا إلى غزو العالم ونشر الإسلام ، واعتقد أن ذلك ممكنا إذا تم إصلاح الأوضاع الداخلية للمسلمين، وإعادة إحياء الفكرة الإسلامية، وإنهاء العادات غير الإسلامية في اللغة والزي والتحية والعمل والطعام .. الخ.

أما سيد قطب ، فقد طالب بالقطيعة بين الفلسفة والإسلام، وحارب كل ما يسمى بالفلسفة الإسلامية، ومباحث علم الكلام. وعارض القول بتأويل النص الديني ليوافق مفهوم العقل ، ورفض شرعية الاختلاف، وكرس الواحدية ، معتبرا أن هناك منهجا واحدا للتفكير وحزبا واحدا ، ودينا واحدا، وحقيقة مطلقة واحدة ، وسماها منهج الله في مواجهة منهج البشر .واعتبر أن الطليعة المؤمنة التي تعيش على منهج الله تملك الحقيقة المطلقة ( ص 136) وكل من يخالفها جاهلي وخارج عن الدين ، فإما كفر أو إيمان ، جاهلية أو إسلام .لم يؤمن بالتفاعل الحضاري ورأى أن الحضارة الغربية استنفذت أغراضها ، إلا أنه أباح التعامل مع العلوم البحتة الغربية ، ودعا للاحتراس من العلوم الإنسانية والاجتماعية .

تجديد الفكر الإسلامي

نتابع على طول الكتاب قناعات الكاتب حول الدور الهام الذي يلعبه الدين في حياة المجتمعات البشرية عامة ، والمجتمع العربي خاصة . وكذلك المساحة المهمة التي يحتلها الإسلام السياسي على الخريطة السياسية العربية ، وهو يرى أن الإيمان بالديمقراطية والتعايش مع الآخر ، والقبول بالتعدد كشرط للوجود والاجتماع البشريين،سيعيد وصل ما انقطع بين الإسلام السياسي وتيار الإصلاح الديني ، لتواكب دوره مع التغيير المطلوب . وهو يرى في هذا الصدد،  في ظهور علماء دين متنورين يدعون إلى تجديد الفكر الإسلامي ، وإحياء التراث النقدي والعقلاني والمنفتح فيه ، الأمل في إيجاد خطاب بديل للخطاب التقليدي المنغلق .إلا أن الكاتب يعترف في نفس الوقت بأن تيار التجديد يشق طريقه بصعوبة بالغة بسبب غياب الحريات، ومن ثم افتقاد إمكانيات البحث الحر، ويعطي أمثلة على ذلك ما جرى لكل من حامد أبو زيد و محمد أركون وخليل عبد الكريم وغيرهم .

ويورد الكاتب على لسان خليل عبد الكريم ، أن التجديد هو التمييز بين الدين والفكر الديني ، وأن التجديد في الفكر فرض . فكما اجتهد السلف لعصرهم وطوعوا النصوص الأولى لموجبات زمانهم ومستلزمات بيئتهم ، على المسلمين عمل الشيء ذاته الآن بتأويل النصوص  التي وردت قبل 14 قرنا في مناخ مغاير ، وإلا ستحدث قطيعة بين المسلمين ودينهم . والتجديد هو نقد الخطاب الديني السائد، الذي يلغي العقل لحساب النص ، ويحكم النصوص الدينية في مجال الصراع السياسي والاجتماعي . وهو ، كما يرى حامد أبو زيد  ، ما يؤدي إلى الشمولية في فعالية النص ، وإهدار البعد التاريخي فيها ( ص 150).فالنصوص في القرآن الكريم تأنسنت عند تجسدها في التاريخ واللغة وتوجهت للبشر. والنص محكوم بجدلية الثبات والتغيير، فهي ثابتة في المنطوق، ومتحركة متغيرة في المفهوم .

ويرى خليل عبد الكريم أن تجديد الفكر الإسلامي يتم بالتخلي عن عبادة النصوص، والتعامل معها بحرية، وعدم التمسك بحرفيتها. وتفسير النصوص وتأويلها يتم بربطها مع الواقع  الذي نزلت إليه ووردت فيه.

رهانات النهضة في الفكر القومي

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى التيار القومي ليناقش  نشأته وتطوره . ويتوقف أمام ملامح الأزمة التي يعاني منها الفكر القومي ، والتي تتلخص في: أ – تراجع الشعور بالانتماء القومي، ب- تصاعد النزعات القطرية ، ج – فقدان الأحزاب القومية لمصداقيتها، وضعف وزنها ونفوذها .وفي الإجابة على سؤال كيفية إعادة الروح لهذا الفكر ، يرفض الكاتب أي إشارة إلى موت القومية العربية ، ويرى أن الفكر القومي  بحاجة إلى تجديد و عقلنة ، عبر العناوين الرئيسية الثلاثة التالية : 1 – عقلنة الخطاب الوحدوي 2 – البت في العلاقة بين دولة الوحدة والدولة القطرية 3 – بحث العلاقة بين الوحدة والديمقراطية وجدلية العلاقة بين العوامل الاقتصادية والسياسية .

فيما يتعلق بتجديد الفكر القومي ، يرى الكاتب أن المعضلة تكمن في النزعات المثالية التي رافقت هذا الفكر منذ البدايات . كالقول بأن القومية العربية حقيقة قائمة منذ القدم ، مع أن القومية كظاهرة مجتمعية لم تبرز إلا في العصر الحديث ، و طبقت في المجتمعات التي  اكتملت فيها عناصر الحداثة( ص 177) .بمعنى آخر فقد أخطأ الفكر القومي عندما رفض الإقرار بشرعية الدولة القطرية، واعتقد أنها زائلة، لأن عناصر التجزئة لن ترقى إلى قوة العناصر الموضوعية لوحدة الأمة . ويرى الكاتب بطروحات مفكرين قوميين أمثال جورج طرابيشي ومحمد لبيب شقير ، مخرجا من هذا المأزق، عندما يطالبان بضرورة أن ينظر الفكر القومي للواقع كما هو ، لا ما يتمناه. بحيث يتم الإقرار بوجود الدولة القطرية، والبحث عن السبل الكفيلة لنفيها جدليا( 162) .والسؤال يتلخص الآن في كيفية تحقيق الوحدة مع احترام خصوصيات الدولة القطرية ومراعاة مصالحها . ويرى الكاتب أن العامل الاقتصادي في هذا المجال هام ، بحيث يتم ربط العامل الاقتصادي بالعامل السياسي ، وتحقيق التكامل بين الدول العربية على قاعدة المصالح والمنافع المشتركة .

كما يوجه الكاتب نقدا  للطروحات القومية التي آمنت بدور القلة المؤمنة( الطليعة)،الذي روج له ميشيل عفلق، وحقها في التنظيم الانقلابي الذي سيصنع تاريخا للأمة( ص 181). هذه الطليعة التي تشبه القلة المؤمنة عند أتباع الإسلام السياسي، والحزب الثوري في الفكر الماركسي. ويرى د. ماهر الشريف أن هذا الطرح قد أدى إلى انتشار العقلية " الطليعية " التي آمنت بسياسة القفزات وليس التطور والتدرج، واستهانت بإنجازات الأجيال التي سبقت في النضال من أجل الاستقلال، ووضعت الشرعية الثورية أو الانقلابية في مواجهة الشرعية الديمقراطية والدستورية، وتعاملت مع الحرية بأنها حرية الوطن فحسب ، وافتقرت إلى النزعة الإنسانية التي تضع الفرد في مركز اهتمامها  . وكانت النتيجة تكريس سلطة الحزب الواحد،وغياب الحريات والرقابة الشعبية والمحاسبة، وإبعاد جماهير الشعب عن الاهتمام بالشأن السياسي ، وتحول قطاع الدولة إلى حاضنة لفئات طفيلية اغتنت على حساب الشعب(ص 182-185) .

ويرى الكاتب أن السبيل للخروج من العقلية " الطليعية " هو ربط مشاريع الوحدة بالديمقراطية، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي.وهو يرى أن الفكر القومي ، خصوصا من لا زال يؤمن منهم بالمثل البروسي لتحقيق الوحدة، سيبقى عاجزا عن تجديد نفسه ما لم يحسم هذا الأمر لصالح الديمقراطية . فالديمقراطية هي أساس الوحدة الوطنية داخل كل قطر ، ومن ثم توفر شروط الوحدة القومية ( ص 166). وهو يرى في أن الديمقراطية هي الحل للتفتت الطائفي والاثني في العالم العربي . ويرى أن على الفكر القومي الإقرار بتنوع الوطن العربي العرقي والديني والقومي والطائفي ، والنظر لهذا التنوع كمصدر غنى للمجتمع العربي .

يخلص الكاتب إلى أن الفكر القومي يمر الآن بأزمة خانقة ، ولكن الحديث عن الموت لا يستقيم . حيث يعتبر الكاتب مقاومة الاحتلال ورفض الانصياع لشروط السلام الإسرائيلي ، ورفض التطبيع ، وحملات التضامن الواسعة للشارع العربي مع النضال الفلسطيني، وتزايد الحاجة  إلى موقف عربي موحد، والحاجة لتفعيل دور جامعة الدول العربية ، والعودة لمشاريع التكامل الاقتصادي وغيرها هي دليل حياة وليس موت ( ص 187). إلا أن ذلك لن يتعزز ويؤتي ثماره إلا بإخراج الفكر القومي من أزمته. والأزمة كما يراها الكاتب ليست في أهداف هذا الفكر ، فهي سليمة ومشروعة، وإنما تسببت بها كيفية مقاربة المعبرين عن هذا الفكر لتلك الأهداف والسبل التي أتبعت لتحقيقها ( ص 188).

ويستعير الكاتب في هذا الصدد أفكار زكي الأرسوزي في مراحل فكره الأخيرة والناضجة ، والتي يشير فيها إلى أن زهد الجمهور بالسياسة ظاهرة من ظواهر احتضار الجماعة . وأن الطريق إلى النهضة العربية يبدأ بإعداد الجمهور للقيام بأعبائه العامة . ويقول الأرسوزي في هذا المجال أنه لا يمكن إعداد الجمهور دون إيقاظ معنى الحضارة الحديثة في نفوسه. هذه الحضارة التي مرت في تطورها بثلاث مراحل  أ- انقلاب فكري أحل نظرة حديثة للكون والطبيعة محل القديمة. ب – انقلاب اجتماعي أحل حقوق الإنسان والحرية والمساواة محل الاستبداد والاستغلال الطبقي ج – انقلاب سياسي أيقظ الشعور القومي وثبت حق تقرير المصير ، وجمع شمل أبناء الأمة الواحدة .

ويرى الكاتب أن متطلبات خروج الفكر القومي من أزمته الخانقة هي :

1 – إعادة النظر في فكرة القومية العربية ، فهي ليست واقعا بديهيا وشيئا ناجزا، إنما مشروع انطلق منذ عقود وحقق إنجازات ويتطلب استكمال البنيان .

2- اللغة الواحدة والثقافة المشتركة والتاريخ تعزز الوحدة والانتماء إلى الأمة الواحدة، لكن في ظل الدولة القطرية يضعف ويتراجع تأثير هذه العوامل ، مما يتطلب النفخ فيها باستمرار .

3 – يحتاج استكمال بنيان القومية العربية إلى عناصر كانت أهملت في السابق مثل أ – النزعة الإنسانية التي تتضمن احترام حقوق الإنسان وتعالي روح المواطنة على الروابط القبلية والعشائرية والطائفية ، من أجل تشكيل كتل متجانسة ومتلاحمة .ب – إشاعة الديمقراطية في إطار دولة القانون المستندة إلى مبدأ التداول السلمي للسلطة والانتخابات الدورية الحرة واحترام الحريات الفردية والعامة ، وتكوين المنظمات والأحزاب والجمعيات وإصدار الصحف ، حتى تدفع الكتلة الشعبية للاهتمام بالشأن العام . ج – إشاعة العلمنة بالفصل بين المجال الروحي والدنيوي وبين الدين والدولة .

ويخلص الكاتب في نهاية هذه المطالب إلى القول بأن النزعة الإنسانية وروح المواطنة والديمقراطية والعلمنة هي الأسباب  الحقيقية التي مكنت الغرب من امتلاك العلوم وضمنت له التقدم . وهذه العناوين الأربعة من نتاجات الحداثة لا تتأتى بالحنين إلى الماضي مهما كان عظيما، وإنما عبر مواجهة شجاعة لمشكلات الحاضر العربي ، واستشفاف واقعي لأفق المستقبل( ص 190). والثورة التي يحتاج إليها العالم العربي، من وجهة نظر الكاتب، هي التي  تقوم بتثوير المجتمع لا استلام السلطة . ثورة تبدأ من تحت وليس من فوق ، وتتحقق بالتدريج وتطال كل مجالات الحياة .

رهان النهضة في فكر زمن الأزمة

يستعرض د. ماهر الشريف في هذا القسم  أقوال العديد من المفكرين العرب في الأزمة  الراهنة وسبل الخروج منها . ويرى أن هناك اتجاهات ثلاث في تحديد أسباب الأزمة ، اتجاه يعيد الأزمة لطبيعة الدولة العربية المعاصرة ، والاتجاه الثاني الذي يعيدها لبنية المجتمع العربي ، والاتجاه الثالث الذي يعيدها لطبيعة الثقافة والفكر السائدين في العالم العربي.

1 – طبيعة الدولة : يرى الكاتب أن هناك إجماع من قبل المفكرين، على تحميل الدولة العربية المعاصرة، مسؤولية الفشل والعجز عن إنجاز الأهداف التي قامت من أجلها هذه الدولة . فهناك من يرى أن الدولة انفصلت عن المجتمع، أو أغرقت في القطرية وانفصلت عن الأمة ، أو تحولت إلى دولة تسلطية ، أو توجهت نحو التمشيخ ، أو تراجعت عن دورها في الضبط الاجتماعي .

ويورد الكاتب في هذا الصدد أقوال جورج طرابيشي أن الخطورة تكمن في قومنة القطرية، وتراجع الفكر القومي كقوة تدخل كبرى للجماهير والشعوب في التاريخ . ومطالبة الكاتب في أنه في الوقت الذي يتم فيه احترام خصوصيات الدولة القطرية ومراعاة مصالحها، لا بد من إبراز أنها غير قادرة لوحدها على إيجاد الحلول للمشاكل الكبيرة  التي تواجهها. بمعنى آخر هو ينادي في البحث عن الوحدة في الفكر القومي في إطار الدولة القطرية (ص254).

أما برهان غليون فيبين أن الأزمة العامة للمجتمعات العربية تتركز كليا في الدولة ذات المركزية الشديدة والسلطة المطلقة . ويعيد فشل الدولة في ضمان المطابقة العملية بين الهوية الثقافية والسياسية، وفي أن تكون دولة مؤسسات، إلى مفهوم ومضمون الدولة التحديثية التي طرحت خارج المجتمع ، مما أدى إلى عكس الأهداف والوصول إلى ما سماه حثالة الحداثة (ص254).

أما خلدون النقيب فيركز على  الدولة التسلطية التي بدأت بمرحلة الانقلابات العسكرية، وفشل التجربة الليبيرالية . حيث أن ضعف البرجوازية الوطنية حول المسؤولية إلى الدولة التي قامت على تحالف حكم الطبقة الوسطى ( العسكر والقوميين العقائديين والتكنوقراط). وقد أدى تدخل الدولة في الاقتصاد ، وفي غياب الضمانات الدستورية والرقابة الشعبية ، إلى زيادة التسلط عبر تصفية الطبقة المالكة القديمة، وزيادة تحكم الدولة بالفلاحين ، من خلال الإصلاح الزراعي، وطغيان ثقافة الاستهلاك ، وتصفية المعارضة وإخضاع المؤسسات الاجتماعية للدولة ، مما أحيا القبلية والطائفية والإقليمية كشبكة جديدة للعلاقات الاجتماعية .

ويضيف حكيم بن حمودة إلى ذلك ، أن انقطاع دينامية النمو وتداعي طرق الضبط الاجتماعي منذ مطلع الثمانينات ، نتيجة لانخفاض عائدات الاقتصادات العربية المباشرة وغير المباشرة،قد أدى إلى تراجع القدرة الاستثمارية وتزايد البطالة وانخفاض الاستهلاك وتنامي ظاهرة التهميش ، وفي بروز أزمة عميقة اقتصادية واجتماعية وسياسية قبعت في خلفية أزمة شرعية هذه الدولة (ص 258).

2 – بنية المجتمع :تلعب بنية المجتمع العربي والعلل المزمنة الناخرة فيه والتغيير الحاصل في القيم السائدة ، من وجهة نظر العديد من المفكرين العرب ،  دورها في نشوء الأزمة المعاصرة .

حيث يشير هشام شرابي إلى المجتمع الأبوي السائد في العالم العربي والذي تعاني منه المرأة على وجه الخصوص . ويرى شرابي  أن التغير الذي حدث في المجتمع العربي، قد أدى إلى تحديث القديم دون تغييره جذريا . وأدى إلى انبثاق " النظام الأبوي المستحدث" الذي يعاني من انفصام حضاري عن الحداثة الحقيقية والتراث الحقيقي. وما الدولة برأي شرابي إلا نسخة محدثة عن السلطة الأبوية التقليدية ، وجهازها الفاعل هو الجهاز القمعي .أما المؤسسات الأولية كالعائلة والقبيلة والطائفة ، التي يلجأ الفرد إليها ليحمي نفسه من السلطة القمعية ، فهي تتبدى عن أشكال مماثلة من التسلط والقمع( ص 262). ويرى شرابي أن الطبقة البرجوازية العربية عبارة عن رأسمالية تبعية ومزيفة، والطبقة العاملة غير أصيلة. وأن وصول البرجوازية الصغيرة الأبوية المستحدثة إلى السلطة ، قد أدى إلى أفول الحرية السياسية والتعددية الحزبية وإلى تحول المجتمع إلى مجتمع بدون تمايز أو وعي طبقي منجذب نحو المادية الغربية والرأسمالية الاستهلاكية، تتغلب فيه المصالح الشخصية على المصالح العامة .

أما المفكر جلال أمين فيعيد التغيير الذي حدث على نظام القيم السائد في المجتمعات العربية إلى عملية الحراك الاجتماعي التي حدثت داخل التركيبة الطبقية في المجتمعات العربية . ففي مصر مثلا صعدت طبقات وشرائح اجتماعية كانت في السلم الأدنى الاجتماعي ، مقابل انحدار من كان في أعلى السلم . وهو يرى أن هذا الانقلاب ترك آثارا بعيدة في السلوك الاقتصادي والاجتماعي وفي المناخ الثقافي والسياسي العام .وهو يركز بالخصوص على عقدي السبعينات والثمانينات حيث أدت سياسة الانفتاح، والهجرة إلى دول النفط، والارتفاع الكبير في معدل التضخم، إلى سيادة الاستهلاك المظهري أو الترفي واتجاه الاستثمار إلى فروع غير منتجة ، وتراجعت فضائل الأخلاق أمام الشطارة وانتهاز الفرص . ومالت روابط الأسرة إلى التفكك، وهبط مستوى الآداب والفنون ، وشاعت تفسيرات للدين غير عقلانية ، وسادت ظواهر السكوت والسلبية واللامبالاة وتعمقت تبعية البلاد السياسية( ص 265) .

3 – دور الفكر والثقافة في الأزمة : يرى د. ماهر الشريف أن البحث عن أسباب الأزمة في الفكر والثقافة هو توجه جدير بالاهتمام ، إلا أنه من غير المعقول تفسير الواقع بالفكر وحده .

أما المفكر محمد جابر الأنصاري فيرى أن حالة اللاحسم الحضاري السائدة، ترجع إلى سيطرة التوفيقية المحدثة بوصفها أيدولوجية اللاحسم على الفكر العربي . وهو يرى أن محاولات التقريب بين الأضاد بتجاوز عوامل الصراع، والتي تمثلت بالناصرية أساسا، حالت دون أن يحقق الفكر العربي الثوري ثورة كاملة حاسمة . وهو يرى أن البرجوازية الصغيرة  التي تنامت في بداية الثلاثينات من القرن العشرين، والتي بحكم وعيها الثقافي حملت شيئا من " روح العصر والحداثة " ، قد لجأت بسبب ارتباطها بالتراث القومي والديني إلى التوفيق بين المعاصرة والتراث ، وبين الثورة والمحافظة ، وبين الشيوعية والرأسمالية . والعرب المعاصرين حسب رأيه، منقسمون إلى ماضويين واقعين تحت وطأة التراث، وعلمانيين واقعين تحت تأثير الغرب ، أو توفيقيين يعانون من شلل داخلي يحول دون أي حسم حضاري ثابت ونهائي( ص 268).

أما محمد عابد الجابري فيتوقف عند الآثار الناجمة عن وجود مسافة تاريخية حضارية بين المشروع النهضوي العربي والحداثة الأوروبية . حيث يرى أن لا الفكر العربي، ولا الأوضاع الاجتماعية، ولا وضع العالم العربي – الإسلامي، كان قادرا على تقبل واستيعاب شعارات الحداثة الأوروبية بمضامينها الحقيقية . ومن ثم فقد أدت عمليات التحديث إلى بروز انشطار ثقافي بين نخبة تتخذ الثقافة الأوروبية مرجعية لها ، ونخبة تتمسك بالمرجعية الثقافية العربية – الإسلامية . وهو يرى أن دولة الاستقلال كرست هذا الانشطار . وانه الآن ومع بروز نظام الاندماج والعولمة ، الذي تشد إليه النخبة العصرية، سيؤدي إلى تبعية نهائية لنظام الهيمنة العالمي ، بينما يبقى القطاع التقليدي محاصرا ومقموعا، ويرد بصورة لاعقلانية وتكفير وهجرة (ص 269).

يرد د. ماهر الشريف على محاولات إعادة التعثر  النهضوي العربي لعوامل خارجية فقط ، بأن ذلك يتعارض مع المطلب الصحيح بضرورة ممارسة معرفية في الماضي، من أجل المستقبل، قائمة على نقد الذات . كما أنه يرفض وصم الحداثة بالطابع الأوروبي ، ويؤكد على أن الحداثة مشروع إنساني منفتح على إضافات غير أوروبية . وأن الصحيح هو أن أوروبا تنكرت بوجهها الاستعماري للمضمون الإنساني في حداثتها .

 

المخارج والحلول للأزمة

يطرح الكاتب ثمانية طرق أو حلول للخروج من الأزمة وذلك بالاستناد إلى ما يطرحه مجموعة من المفكرين العرب الذي عالجوا هذا الأمر .

1 – طريق النهوض الحضاري : حيث يدعو كل من قسطنطين زريق وفهمي جدعان إلى طريق الإصلاح الأخلاقي. وهي دعوة قديمة تحدث عنها أمين الريحاني وفرح أنطون من رواد النهضة . ويتساءل الكاتب في هذا الصدد عن سبب عدم  تحقق هذا الإصلاح الثقافي . هل لأن السياسي قد جار على الأخلاقي وغيبه ، أم أن عطب منظومة القيم قد تعمق في المجتمعات العربية بفعل تعمق أزمة السياسة والعمل السياسي( ص 286).

2 – إنهاء القطيعة بين الدولة والمجتمع :حيث يرى برهان غليون أنه لا يمكن لمسار التحديث والإندراج في الحضارة أن يستقر وينطلق، إلا عندما تسيطر المجتمعات العربية على الدولة . بحيث يتم القضاء على الطابع الإستلابي، وتطوير وظيفة الدولة كأداة شرعية ومنظمة للإرادة الجماعية ، ويمنع الاحتكار للسلطة والثروة، ويتم إقامة نظام يتيح الحراك الاجتماعي، وتداول السلطة، والمشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص بين أفراد الأمة( ص 287).

3 – القضاء على النظام الأبوي : يرى هشام شرابي أن الأبوية سمة المجتمعات المتخلفة، وأن القضاء عليه واستبداله بمجتمع حديث ضرورة حتمية ، إلا أنها لا تتم بضربة عصا بل عبر مراحل . والثورة الحقيقية هي ثورة النفس الطويل . والتحول الديمقراطي لا يتم دفعة واحدة، بل هو محصلة  سباق طويل من التبدل والتغيير في البنية التحتية المادية والمؤسسات الاجتماعية، لا سيما تركيب الأسرة الأبوية ، وفي الممارسة السياسية . ويرى الشرابي أن العلاقة بين المواطن والدولة يجب أن ترتكز على الشرع والقانون وليس القمع . والحوار مع السلطة هو الوسيلة الفعالة للحد من الاستبداد، وأنسنة العلاقات الاجتماعية، وضمان الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير المرأة ( ص 288).

4 – تكريس العلمانية : يطالب المفكر عزيز العظمة  بالانفصال بين الدين والدولة والقانون والثقافة . ويرفض كل أشكال المساومة على علمانية الحياة العربية  التي، بالرغم من عدم اكتمالها، باتت واقعا تاريخيا . ويرى د. ماهر أن العلمانية لا تقتصر على فصل الدين عن الدولة واعتبار الشعب مصدر السلطات ، بل تشمل أيضا مباديء حرية التفكير، واستقلالية الإرادة، والإقرار بشرعية الاختلاف ( ص 289).

5 – إعادة بناء اليسار : يرى سمير أمين أن الخطوة الأولى للخروج من الأزمة تكمن في إعادة بناء اليسار والقوى الشعبية، في إطار عمل طويل النفس يطاول مستويات عدة، من تحديد الأسس الفكرية، وسمات المشروع المجتمعي المطروح كهدف تاريخي، وتحديد مراحل الاستراتيجية للتقدم في الاتجاه المرغوب، والقوى الاجتماعية التي لها مصلحة في إنجاح المشروع، والقوى المعادية، وبناء قواعد العمل المناسبة ( ص 291).

6- الديمقراطية مفتاح لحل مشكلات الواقع العربي : بعد أن يستعرض الكاتب مختلف المقولات حول طبيعة الديمقراطية المنشودة في العالم العربي ، يؤكد على عدم المبالغة في العوامل المعيقة،وضرورة تكثيف السبل الكفيلة بتطوير النضال الديمقراطي القادر وحده على بنائها. فالقول أن الدول العربية غير مؤهلة لأن تكون ديمقراطية لا يستقيم، برأي الكاتب، مع واقع وجود دول أخرى ديمقراطية، تعيش نفس ظروفنا أو أسوء، كالهند مثلا. ويصر الكاتب على أنه لن يكون ممكنا حل المعضلات المعيقة كافة إلا بالاستناد إلى الديمقراطية وآلياتها . والتحدي القائم الآن هو في إشاعة المناخ الديمقراطي والنضال من أجل تحقيق المباديء التي تقوم عليها الديمقراطية، مثل التعددية وإباحة الحريات وإجراء الانتخابات الحرة .ويحسم الكاتب النقاش حول حق الجماعات الإسلامية في النشاط السياسي ، برفض الانتقائية في الديمقراطية ، ومطالبة  هذه الجماعات،  إن أرادت أن تكون طرفا مشاركا في العملية الديمقراطية، أن تقبل بمباديء الديمقراطية وعلى رأسها شرعية الاختلاف . وهو يشير إلى أن ذلك ليس غريبا عن الإسلام ، ويطالب د.ماهر هذه الجماعات أن يكون مثلها مثل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا .ويؤكد الكاتب في هذا الصدد على دعوة سمير أمين في أن تكريس مباديء الديمقراطية في الحياة العربية لن يكون إلا بانهاء الاستقطاب القائم بين السلطة العربية وجماعة الإسلام السياسي، وتكوين قطب ثالث مستقل عن القطبين ينشط العمل السياسي العربي ( ص 296).

7 – رؤية جديدة للوحدة العربية : بعد أن يبين الكاتب أن تراجع حركة الوحدة وانحسار الشعور القومي بالانتماء إلى أمة واحدة ، هي من مظاهر الأزمة ، يطالب بالتخلي عن التصورات القومية التقليدية ، والبحث عن أشكال جديدة للاتحاد والتضامن العربي ( ص 297). ويستعير في هذا الصدد دعوة برهان غليون إلى تجاوز فكرة الأمة – الدولة والانتقال إلى فكرة الجماعة الحضارية . بمعنى نسيان النموذج القومي للقرن التاسع عشر والتفكير، من منظور التحولات العميقة التي تطرأ على السياسة والدولة والنظام الدولي ، في فكرة الاتحاد العربي الفيدرالي الكبير الذي يؤمن التنمية . ويؤكد أن المجموعات الإقليمية الكبرى هي الوحيدة القادرة على تعديل موازين القوى والاستراتيجية العالمية ، كما وأن مشروع التحديث يتطلب ذلك أيضا(ص 298).ويرى الكاتب أن العولمة لا يمكن أن تلغي الدولة القومية، التي لا تزال تشكل الحلقة الأساسية في النظام الدولي، بوصفها المرساة الأساسية لهوية الفرد والجماعة على السواء . إلا أن تحديات العولمة تطرح على الدولة القطرية العربية ضرورة التوجه نحو تعزيز التضامن والعمل العربي المشترك، وصولا إلى أشكال من الاتحاد العربي .

وللإجابة على سؤال كيف سيتم الوصول إلى ذلك يجيب الكاتب أن لا بد 1- من إشاعة الديمقراطية على اعتبار أن هناك علاقة وثيقة بين الاندماج الإقليمي وبين طابع النظم السياسية في الدولة المساهمة بالعملية. 2 – تعزيز منظومة العمل العربي الراهنة(الجامعة) بإصلاحها ومنحها سلطات قومية أوسع. 3 – انتهاج الطريق الاقتصادي نحو الاتحاد العربي ( السوق العربية المشتركة، منطقة تجارة عربية حرة) وصولا إلى تكتل اقتصادي عربي كامل( ص300). وهذا يتطلب حالة نهوض شعبي عربي يصلب الإرادة السياسية للأنظمة .

8 – تفعيل دور المثقف العربي : يشير الكاتب إلى أنه وبالرغم من القطيعة بين المثقف ومركز صنع القرار العربي ، إلا أن هناك مراهنة على دور المثقف العربي في الخروج من الأزمة . فقسطنطين زريق يرى أن الأمر يتطلب  إثارة حس المثقفين بمسؤوليتهم، ومطالبتهم بأن يكونوا أمناء على مهمتهم في احترام الحقيقة، ونقد الذات، والسلوك وفق المباديء الخلقية التي تنطوي الثقافة الحية عليها( ص 301). أما محمود أمين العالم فيرى أن نجاح الفعل الجماعي للقوى المنتجة والمبدعة العربية ، ودون التقليل من دور الدولة والأحزاب، يبقى مرهونا بوعي المفكرين والمثقفين وتحررهم من وهم التوجه إلى مراكز السلطة كوسيلة وحيدة للتغيير .

في تعليقه حول دور المثقف العربي يرى د. ماهر أنه وبالرغم من أن المثقفين العرب لم يشكلوا سابقا ولا يشكلوا حاليا جسما متجانسا فكريا ومهنيا ، حيث تتباين الاتجاهات والفهم للأزمة والطروحات، فالتيار الإسلامي يواجهه تيار علماني ، إلا أن للمثقف العربي الحقيقي دور، سيسهم في إخراج السياسة العربية من أزمتها من خلال : 1 – إعادة وصل ما انقطع في علاقته هو بالسياسة على أسس تحفظ له استقلاليته المعرفية والروح النقدية . 2 – إحياء وتجديد الأيدولوجيات التحررية ، التي لا يعني وصول مشاريعها للتغيير إلى طريق مسدود، أنها سقطت . 3 – العمل من أجل ترسيخ الديمقراطية كطريقة حياة ووسيلة للحكم ونظام للمجتمع. 4 – اتباع المنطق التاريخي في تحليل الأحداث، والتخلي عن العقلانية المجردة(الكلامية) لصالح عقلانية عملية يتم ترجمتها في علاقات الإنسان الاجتماعية، وتتعلق بالحياة الاجتماعية وبالاقتصاد .

رهان النهضة في الفكر الماركسي العربي

يولي الكاتب الاهتمام في القسم الأخير من مؤلفه الهام، لقضية تجديد وتطوير الفكر الماركسي العربي ، بصفته أحد أتباع هذه المدرسة الفكرية ، وانطلاقا من قناعته بأن الطريق المسدود الذي وصل إليه المشروع الاشتراكي لا يعني  أن النضال من أجل فكرة الاشتراكية  سينتفي، ما دام هناك أشخاص وجماعات يتمسكون بهذه الفكرة وما تحمله من قيم إنسانية نبيلة .

يرى د. ماهر أن انقطاع الماركسية العربية عند ظهورها عن تراث رواد النهضة التنوريين ، وتبنيها أو ارتهانها لأيدولوجية الماركسية – اللينينية السوفيتيية الرسمية ، حال دون إعادة إنتاج الماركسية عربيا . وهو الحال نفسه الذي حدث ،كما رأينا، مع أتباع الفكر القومي والإسلام السياسي، عندما انقطعوا عن روحية التسامح والتعددية ونسبية الحقيقة، التي نادى بها الرواد الأوائل .

ويرى د. ماهر أن تجديد الفكر الماركسي يبدأ بتحريره من أسر الأيدولوجية، واستعادة الروح الفكرية لعصر النهضة . وهو يرى أن انهيار تجربة البناء الاشتراكي يفرض على الماركسيين في العالم وقفة نقدية أمام هذا التراث الذي تقادم في مفاهيمه ومقولاته، وبات بحاجة إلى تجديد واستكمال .ويطرح في هذا الصدد أن ظاهرة العولمة مثلا تختلف في ظروفها وآلياتها عن تصورات ماركس للتاريخ . وأن اطروحات لينين عن الأمبريالية لم تعد قادرة على تفسير أشكال السيطرة العالمية الجديدة، كما وأن تحولات عميقة جرت على بنية الطبقة العاملة وطبيعة السلطة في البلدان الرأسمالية .وهو يرى أن الأولوية اليوم للنهضة وليس للثورة ، وللتدرج وليس للطفرة ، وللمجتمع على حساب السلطة .ويرى الكاتب أن من إشكاليات تجديد المشروع الاشتراكي البحث عن فهم جديد لمصطلحات ماركسية، كالبروليتاريا، والصراع الطبقي ،والتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، و الانتقال إلى الاشتراكية، والعلاقة بين الانسان والطبيعة، والتوافق بين الفكر الاشتراكي والليرالية السياسية،  وغيرها من المشكلات النظرية .

ويدعو الكاتب الماركسيين العرب إلى إتباع انتقائية فكرية ذات نزوع نقدي يتطلع إلى أفق تحرري شامل(ص356) .ويتساءل لماذا لا نتعامل مع الليبريالية السياسية، بعد فشل تجربة فصل الديمقراطية الاجتماعية عن الديمقراطية السياسية ؟ وهو يرى أن الماركسي العربي يمكن أن يكون قوميا عربيا، يحفظ المضامين الإنسانية للفكر القومي على قاعدة التفاعل الحضاري بين الشعوب والأمم . ويمكن له أن يتبنى التراث التقدمي لحركة الإصلاح الديني ، التي جمعت بين الإسلام والعقلانية، في وجه تنكر أتباع الإسلام السياسي المعاصرين لهذا التراث . وهو يرى أن تعدد المنابع والمراجع الفكرية  سيمكن الماركسي العربي من تمثل الإسهامات النقدية والتحررية التي شهدها الفكر العربي منذ بداية عصر التنوير . وسيجعل ذلك الماركسيين ورثة لكل ما هو تقدمي وإنساني في النضال العربي، ومعبرين عن طموحات طبقات وشرائح اجتماعية عديدة تتطلع لنهضة ثانية . وبذلك تنفتح طريق إعادة إنتاج الماركسية، ويتم تجاوز الأزمة العميقة التي تعيشها الآن .

إسهام الماركسية في إطلاق نهضة جديدة

يرى د. ماهر  أن الانقلاب العالمي في نهاية الثمانينات والذي تزامن فيه فشل المشاريع التحديثية العربية مع انهيار الأنظمة الاشتراكية، قد أكد أن الاشتراكية تتبلور داخل رحم الرأسمالية، وأن الحداثة ممر إجباري على كل الأمم والشعوب مع اختلاف أشكال وطرق العبور (ص 382). ويضيف الكاتب أن لا بد من ثورة ثقافية في المجتمعات العربية ترسخ قيم الحداثة في مجتمعاتنا، وأن اهتمام الماركسية العربية بالمسألة الثقافية هو سبيلها للتجديد. ذلك أن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الماركسية هو تجاهل إشكالية النهضة، واستبدالها بإشكالية الانتقال إلى الاشتراكية . وكذلك اخطأ الماركسيون العرب عندما اعتقدوا أن الفكر التقدمي الذي سبق تبلور الماركسية – اللينيية ، لم يعد كذلك بعد ظهور الأخيرة ،مما أدى إلى انقطاع مع الأصول . وجاءت الدعوة للثورة في الفكر الماركسي العربي،وكأنها رفض لفكر النهضة، الذي اعتبر فكر إصلاح وتحريف وتوفيق (ص 366).

وعلى ذلك يرى الكاتب أن الماركسيين العرب مطالبون بترسيخ قيم الحداثة في مجتمعاتنا العربية، كي يسهموا في إطلاق نهضة جديدة ، نابعة من تجديد ماركسي على المستوى الفكر والممارسة .ويرى أيضا أن على الفكر الماركسي العربي التجديدي أن 1 – يوصل ما انقطع ما بين الماركسية والفكر التنويري لفكر النهضة ، وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل والقضايا المجتمعية التي يطرحها واقع اليوم .بمعنى أن يكون الفكر النهضوي العربي مصدرا رئيسيا للماركسية العربية . 2- المصالحة بين الماركسية والفكر القومي، كفكر تقدمي يعبر عن طموح الوحدة كمشروع يقف في وجه الولاءات التقليدية والعشائرية والطائفية ، ويجعل الولاء للوطن فقط.3 – إعادة إنتاج الماركسية بصورة مستقلة . ماركسية نقدية منفتحة على الثقافات والمساهمات التحررية الإنسانية ، وتراعي وقائع اليوم وتكشف عما شاخ وتقادم وما بقي راهنا، من وعي نقدي لتنقاضات الرأسمالية، وساعيا للقضاء على أشكال الاستغلال والاستلاب والتمييز (ص387).

ويضيف الكاتب أنه إذا كانت الاشتراكية مشروعا لتطوير الحداثة ، فعلينا الإقرار بأن البلاد العربية لم تقطع شوطا كبيرا على هذا الطريق .وهو ما يفرض على أنصار الاشتراكية في العالم العربي أن يفردوا مكانة خاصة في مشروعهم لمهمات إقامة دولة القانون، وإلغاء القوانين الاستثنائية ، وتحقيق الفصل الكامل بين السلطات، وكفالة حقوق الإنسان ، ولا سيما حقوق المرأة ، والاعتراف بتعددية الأديان والقوميات، وإقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، والاحتكام إلى سلطان العقل وفصل الدين عن الدولة ، وتأمين حرية الصحافة واستقلالها، وتوفير شروط قيام إعلام موضوعي ، ورفع وصاية الدولة على النقابات والمنظمات الجماهيرية الأخرى .

ويطالب الكاتب الماركسيين بإعادة النظر في مفهوم الدين ودوره في المجتمع ، وذلك  بالتوقف عن النظر للدين وكأنه طقوس وعبادات محترمة. فالدين ليس أفيون الشعوب ، وإنما مكون رئيس من مكونات الثقافة في العالم يمكنه أن يترك، تبعا لطريقة فهمه، تأثيرات إيجابية أو سلبية على الواقع المجتمعي وعلى سيرورات التغيير الاجتماعي(ص384).

ويختم الكاتب بالإشارة إلى أن التحديات أمام أنصار الاشتراكية في العالم العربي كبيرة جدا ، وأن عليهم نفخ الروح في مشروعهم  و العمل على تحسين صورتهم في مجتمعاتهم وتوثيق علاقاتهم بالناس . وأن على الماركسيين كي يكتسبوا المصداقية ، أن يكونوا ديمقراطيين في حياتهم الحزبية الداخلية ، وأن يشيعوا التعددية في صفوفهم، وأن يطوروا المعرفة العلمية بواقعهم، وأن يزيلوا الجمود عن خطابهم، وأن يعيدوا وصل ما انقطع في صلاتهم مع المثقفين ، وأن ينفتحوا على الحركات الاجتماعية الجديدة وعلى المنظمات الأهلية ، وأن يوصلوا أفكارهم ومقترحاتهم إلى الكتلة الشعبية الواسعة التي لم يعد في وسع أي طليعة أن تنوب عنها في عملية التغيير .

خاتمة

وبعد هذا كتاب باعتقادي يستحق الاقتناء والقراءة المتأنية والمتفحصة . وقد طرح المؤلف فيه خلاصة أفكاره،  وأفكار العديد من المثقفين والمفكرين العرب الذين يحملون الهم العربي، ويفكرون بالحلول التي يمكن أن تفضي للخروج من الأزمة العميقة، التي يعيشها عالمنا العربي وقواه السياسية، التي وصلت مشاريعها بشكل أو بآخر إلى الطريق المسدود. والكتاب في هذا الصدد معرفي يضيف الكثير للقاريء  ويعرفه بشكل أفضل على واقعه المعاش . يركز د. ماهر الشريف في كتابه هذا على نسبية الحقيقة، التي يمتلكها هذا الطرف أو ذاك وهذه القوة أو تلك ، ويؤكد على شرعية الاختلاف . وهكذا يجب التعامل مع كتابه، فيمكن أن تتفق معه ويمكن أن تختلف مع ما ورد فيه، ولكن لا خلاف باعتقادي، على أن الكاتب يثير العديد من المسائل الحيوية، والقضايا الحياتية ، ويطرح الكثير من الأسئلة ويجيب على البعض منها ويبقى الآخر مفتوحا . و أهمية هذا الكتاب تكمن في اعتقادي  من كونه يشكل استفزازا للفكر ودافعا للتفكير والبحث .

 كما و يعكس الكتاب طبيعة الموقع الذي شغله المؤلف طوال حياته الفكرية والنضالية ، ألا  وهو موقع المهتم والمشغول بالهموم العربية، والرافض لموقف عدم الاكتراث واللامبالاة . ولعل في تركيزه على الدور الذي يمكن ويجب أن يلعبه المثقف العربي الحقيقي هو تعبير عن موقفه الشخصي أيضا، الرافض لفكرة الانكفاء والابتعاد المتولدة عن واقع العزلة التي يفرضها صانع القرار السياسي على المثقف. وهو يرفض أيضا هروب المثقف إلى بلاط الحاكم وثروة الاستهلاك. كما لا يوافق على الفصل بين المثقف والسياسية، و يطالب بأن يكون المثقف في خضم المعارك السياسية والنضال في سبيل أمته ووطنه، على أن يحافظ على استقلاليته المعرفية والروح النقدية .

 

صوت الوطن  العدد 84    حزيران 2002



#وليد_مصطفى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- منهم آل الشيخ والفوزان.. بيان موقّع حول حكم أداء الحج لمن لم ...
- عربيا.. من أي الدول تقدّم أكثر طالبي الهجرة إلى أمريكا بـ202 ...
- كيف قلبت الحراكات الطلابية موازين سياسات الدول عبر التاريخ؟ ...
- رفح ... لماذا ينزعج الجميع من تقارير اجتياح المدينة الحدودية ...
- تضرر ناقلة نفط إثر هجوم شنّه الحوثيون عليها في البحر الأحمر ...
- -حزب الله- اللبناني يعلن مقتل أحد عناصره
- معمر أمريكي يبوح بأسرار العمر الطويل
- مقتل مدني بقصف إسرائيلي على بلدة جنوبي لبنان (فيديو+صور)
- صحيفة ألمانية تكشف سبب فشل مفاوضات السلام بين روسيا وأوكراني ...
- ما عجز عنه البشر فعله الذكاء الاصطناعي.. العثور على قبر أفلا ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - وليد مصطفى - كتاب- رهانات النهضة في الفكر العربي