أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زاكروس عثمان - مرح البقاعي.. فلسفة ترطّب عراء الروح















المزيد.....

مرح البقاعي.. فلسفة ترطّب عراء الروح


زاكروس عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2490 - 2008 / 12 / 9 - 09:41
المحور: الادب والفن
    


ينتصب العقل واقفا في ذروة الشذى، يفتح ذراعيه لأول مرة، يطلب من الروح أن تضمه بعد طول خصام. كراهب بوذي، بعد طول شقاء، وجد سبيلا يقوده إلى الله، ينهض عاريا من جسده على ذرى الهيمالايا منتشيا بلذة التجلي. يفتح روحه ذراعا لا متناهيا ليضم السماء والأرض في كمشة تصوف، كي يحتوي الله حين يصادفه جسدا ينبض بوحدة الوجود، ليفتح مسامع منفاه للريح حين تهب من جهات قلبه محملا بأفق نبضة حائرة بين سفوح غيبته وشطآن حضوره، تحيله حينا إلى ريشة يرفعها نسيم الجبل كجنح فراشة، وحينا تحيله إلى جبل سقف العالم يعن تحت ثقله، فلا يبقى له موضع للصلاة غير معابد دهشته التي شيدها طيف من أثير، جعل طقوس الحقيقة محل التباس ليغري الخاطر بملامسة نهد التفاسير. وحين جاءه الطيف بالمسافة مذهبا، سقط بعد إلحاده العنيد في حومة العبادة، صريعا يلهج نبرة المحاولة ليلتقط أسرار المسافة حيث تكمن في جنباتها آلهة من رذاذ، قليلا ما استطاع فتح أغلفة مخاوفه فاندرج في قراءة وصايا أنبياء الضجر، سآمة تغلق عليه باب ذاته التي طالما اشتهى التلصص عليها، وقليلا ما غامر بالخروج إلى كوامنه غير مرات عابرة إلى ما وراء ثرثرة الإلهة لينزلق عقله إلى حواف أفكار وعرة طالما رغب بها ليصير انكسار أيامه فلسفة محكومة بالترحال حيث خواطر الروح لا تُجبَر.

يمدّ العقل الجريح جناحيه أملا يطير، في فضاء مرح البقاعي المصقولة بمسافة مشحونة بتجاذبات أخرى غير الزمان والمكان. امرأة لها طاقة الخلق، كواكبها مرصعة بأنوار من نبيذ معتق، تنثره رذاذا على هيكل وطن آيل للسقوط، علها تسعفه في اللحظة الحرجة بلمسة أرجوانية لينهض من رماده جنة طالما حلمنا بها. هي كائن يسموا فوق معاني الأنوثة والذكورة، منزّلة فريدة مجرّدة في الوجود، لها حيز سحري شديد الخصوصية، تحوم من حولها الآلهة ويتشبث بها الأنبياء وينشغل الفلاسفة بالحديث عنها، حيّز من هيولى الوجود الأول يحمل في أثيره سديم الحقيقة التي تلاشت في ذواتنا غبارا من بقايا عجلات عربة سلطان أرعن، فلم نحصد غير العذاب، فلا غرابة من أن يطير أحدنا في سماء مرح البقاعي حين يصادفها للوهلة الأولى، لأننا نجد فيها ذواتنا الأولى صافية نقية، قبل أن يدوسها حذاء العسكر ويلوثها بروث المخاوف المزروعة فينا وراثيا.

نحب مرح البقاعي فسحة نادرة تنقذنا من ذاك الحيوان الرعديد المستنسخ فينا عنوة، من كثرة ما كرهناه كرهنا أنفسنا، وكلما حاولنا الانتحارهربا من وحش كريه يستعمر قلوبنا وناظرينا وغرفة نومنا، تأتينا البقاعي وتنتشلنا من فم هاوية يأسنا، وتمدّنا بجرعة إصرار تعيد لنا برهة من الحب، تحررنا من كوابيس الواقع التي تطاردنا وتصادر منا حياتنا وأحلامنا ولكننا مفعمين بها نحاول النهوض، فقد أنبأتنا البقاعي بالقيامة وبعودة مؤجلة، والكائن منا مهما أبعدوه عن ذاته الأولى يظل في حنين قاتل إليها تواقا إلى كينونته الشفيفة، التي تظهر له صورته على هيئة "إنسان".

كجرم تائه متصدع في وحشة الذات ، وجدت ضالتي في مرح البقاعي، حيزا كونيا جذبني إلى أفلاكه لأشعر من جديد أن لحجارة الفكر التي تتطاحن في رأسي ملجأ تلوذ به ، فلم أعد أخاف عليها أو على نفسي من التفتت والزوال، فقد صار لنا عشقا ننتمي إليه، وبحر نلوذ به كلما ضايقنا هواء ملوث بدخان سيارة لا نرى من بداخلها ولكن تبرز لنا فوهات البنادق، تجبرنا على كره أصحاب الأيادي التي تحملها وتصوبها نحو صدور أطفالنا بغطرسة جوفاء تلوذ بالخنادق كلما سمعوا طلقة خلبية على الحدود.

مرح البقاعي خلطة من حشائش العقل وأعشاب التأمل ونبات الوعي، جمعتها ذاكرة متقدة تعج بأنوثة عشتار التي لم تنسى الموضع الذي "اختبرت فيه رعشتها الأولى وقصيدتها الأولى"، لتختمر غلالها في خوابي ثقافة رفيعة حيث داهمها الخطر، خطراعتلال الحياة المدنية في دمشق ورجاحة كفة "العسكر هناك حيث كانت تشهد الوقفة المذلة لأهل الحي أمام باب الفرن لتنبت أشواك وعيها السياسي مبكّرا" فغادرت بنفائس أفكارها شطر النجاة، لتطحن في رحى حريتها كنوز الشرق وسحره بلسما يداوي العقول فكرا وشعرا وعلما وسياسة.

أينما تضع مرح البقاعي بلسم فكرها تشفي، ولو أني آمنت بالأقداس لقلت أنها معجزة القداسة، هي السحر تلعب لعبتها مع بديهيات المكان والزمان وتتحايل على علم المسافات، لتسجل حضورها المبهر في البعيد الخالي من وجودها العضوي، وتغيب عن القريب الذي يحتوي حضورها المادي، وإذا شاءت فأنها تحضر الاثنين معا موزعة عقلها وقلبها بين الجانبين، وفي الحالتين فأنها لا تنسى رغم البرودة التي تلف كيانها أن تخصنا بالدفء العميم .

كثيرات مثلها هاجرن ينشدن الخلاص وما أن وصلن حتى رمين الأهل والأوطان بحجر بعدما ذقن طعم النجاة والترف، وحدها استنكرت أن توصف بالمهاجرة بل اجتهدت واعتبرت نفسها "مغادرة"، إشارة منها إلى تصميمها على العودة. لم تستطع أن تلغي الوطن كأرض وشعب من كيانها، بل أصرت على أن يبقى الوطن بكل معانيه الجميلة والحميمة متجذرا فيها، مجسدة نموذج الإنسان الذي نصبوا إليه ونتطلع إلى الاقتداء به، بعدما شوه المستبد صورة آدم فينا وصيّرنا أقزام مخلوقات متحولة نخاف النظر إلى ذواتنا، فنعود إلى مرح البقاعي نستأنس بصورتها التي نجت من التشويه، فنجد فيها ذاكرتنا حين كنا مثلها بشرا.

هي ذي عبر مسافات الفصل والقطع تكتسح قلوب الأكراد فصاروا لها أتباعا ، والكردي يرفض أن يتبع حتى أباه ما لم يكن مؤمنا بدعواه ، وحين التحقوا بركب البقاعي فقد آمنوا بأنها تحمل نفس الصورة التي يجالدون من أجل رفع حذاء العسكر عنها ، فنحن الأكراد يتامى العالم ، لدينا عقدة المعاناة من تجاهل الآخرين لوجودنا، وحين نجد واحدا من هؤلاء الآخرين خاصة من أخوتنا العرب والترك والفرس، يخالف المألوف ويغامر بالتعاطي مع الهم الكردي ، فإننا نفرح ونرقص ونحتفل ولا نكتفي بذلك، بل سرعان ما يصبح صاحب المغامرة محل تقديرنا واحترامنا، ما يدفعنا إلى متابعته، وهذا ما قادني إلى الأستاذة مرح البقاعي فقد ركبني الفضول في التعرف على موقفها من المسألة الكردية، ولكنني ذهلت حين رأيت نفسي أمام نموذج نادر من الفكر والفلسفة والشعر والأدب والسياسة اجتمع معا في شخصيتها، التي تتميز فوق هذا وذاك بامتلاك ثروة هائلة من المعرفة الموسوعية والقدرة العجيبة على صياغة أفكارها بأسلوب مبتكر يستسيغه العقل قبل القلب.

لا أنكر أنني متسرعا أعجبت بها ، حتى نسيت غايتي الأصلية من تتبع أعمالها ، كي لا أفوت على نفسي متعة تذوق فلسفة جميلة اكتشفتها توا فلم أرغب تعكير رذاذها بغبار السياسة بل شربتها هكذا مجردة ، ومع الرشفة الأولى أدمنت مرح البقاعي، ورغم ندرة معلوماتي عنها فقد كانت كافية لرسم ملامح شخصيتها فكانت أكبر بكثير مما تصورت، إذ أقل ما يقال فيها أنها مبدعة، وما يميز كافة نتاجاتها هي تلك المسحة الفلسفية الراقية التي تخلق بين الفكرة البديعة والعبارة البليغة فضاء هارموني شفاف، وما بين هذا وذاك تترك لنا مساحة وجودية للرأي تجبر المتلقي على الارتماء في عوالمها للتمتع والتزود بمعارفها التي لا تنضب وجديدها الذي لا يبور، كل مرة تفاجئني مرح البقاعي بشيء جديد .

مرح البقاعي تمارس فلسفة الفراشات البهية حريةً نفتقر إليها. تعلِّمنا الغوص في أعماق لم تصلها هفوات المعاني، في ذاك المجرد المشغول بغصون الضياء تمتحن وجاهة المطلق، لتحوك أفكارها شراعا لصارية مركب عودتها، وفي قسماتها الواثقة بحر موسمي الرياح يسوق مركبها إلى خلجان خواطرنا ومرامي آمالنا، مفعمة بأبجدية الإنسان .



#زاكروس_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- مش هتغيرها أبدا.. تردد قناة وان موفيز “one movies” الجديد 20 ...
- دق الباب.. اغنية أنثى السنجاب للأطفال الجديدة شغليها لعيالك ...
- بعد أنباء -إصابته بالسرطان-.. مدير أعمال الفنان محمد عبده يك ...
- شارك بـ-تيتانيك- و-سيد الخواتم-.. رحيل الممثل البريطاني برنا ...
- برنامج -عن السينما- يعود إلى منصة الجزيرة 360
- مسلسل المتوحش الحلقه 32 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- -الكتابة البصرية في الفن المعاصر-كتاب جديد للمغربي شرف الدين ...
- معرض الرباط للنشر والكتاب ينطلق الخميس و-يونيسكو-ضيف شرف 
- 865 ألف جنيه في 24 ساعة.. فيلم شقو يحقق أعلى إيرادات بطولة ع ...
- -شفرة الموحدين- سر صمود بنايات تاريخية في وجه زلزال الحوز


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زاكروس عثمان - مرح البقاعي.. فلسفة ترطّب عراء الروح