26.5.03
أكاد أشفق على جورج بوش. لم أكن أصدق أن ذلك ممكن. ولكن رغم ذلك...
جورج بوش يتمتع بحظ وفير. وكل الفرص تتاح له في الوقت المناسب.ولا أعلم كيف دائما تُفقد هذه الفرص.
لا أعلم كيف يفشل كل شيء "في آخر النهار"، كما يقول الأمريكيون.
عندما كان يبدو بأن فترت حكمه قد تعثرت منذ بدايتها بسبب الكسل، جاء أسامة بن لادن وفجر مركز التجارة العالمي. وقد ركب بوش موجة عارمة من الوطنية وهاجم أفغانستان. لقد احتلها بسرعة البرق، دون ضحايا أمريكية تقريبا، وبمساعدة القنابل الذكية والحقائب المليئة بالدولارات فقط.
وعندها تعثر كل شيء. لم يتم القبض على بن لادن. وقد هرب قائد الطالبان. وعوضا عنهما سيطر زعماء العصابات على الدولة، وبدأت فوضى عارمة. بقي نظام الحكم الديموقراطي الذي أوجدته أمريكا محدودا بعدة أحياء في العاصمة كابول. لم يكن ذلك بمثابة نجاح يذكر.
ولكن لا يهم. من يغير المكان يغير الحظ أيضا. لقد هاجم بوش العراق، للقضاء على أسلحة الدمار الشامل قبل أن يتم توجيهها إلى أمريكا ويدمرها. ناهيك عن أن صدام حسين، كما قيل للشعب الأمريكي، على صلة ببن لادن.
لقد نجح الهجوم العسكري أكثر مما كان متوقعا له.لقد احتضر الجيش العراقي المسكين بعد أن كان قد جرد من معظم أسلحته. وقد هوجمت قوات الحرس الجمهوري قبل أن يتسنى لها رؤية الجندي الأمريكي الأول. كانت القنابل الذكية والحقائب المليئة بالدولارات تكفي لذلك. وعندها، وفي نهاية الأمر، قامت دبابة بإسقاط تمثال صدام بحضور حوالي خمسين عراقيا ومئة صحفي. وقد شاهدت أمريكا كلها هذا المشهد وقلبها يخفق فرحا. يا له من نصر!
وعندها، وفي هذه المرة أيضا، لم تصب النوايا أهدافها. لقد نسي الجيش الأمريكي العظيم أنه يجب عليه التخطيط للغد. وسادت الفوضى العارمة أرجاء العراق. ولم يعمل أي شيء على وجه صحيح. فقام الرعاع بنهب ممتلكات الشعب العراقي وكافة بنى المجتمع التحتية. المستشفيات، البنوك، المتاحف، المكاتب الحكومية، محطات توليد الكهرباء ونظم إمداد الماء - كل شيء، كل شيء سُرق ودمر. لم يبق مسمار واحد في مكانه
إلا أن ذلك لم يكف فيا للويل، لقد اختفت أسلحة الدمار الشامل بعد أن كانت كافة أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد أعلنت على الملأ بأنها تعرف مكان وجود هذه الأسلحة، وما هي أنواع الأسلحة الكيماوية والنووية، وما هي مواقعها وكمياتها- لم يعثر على شيء. لم يتم العثور على أية ذرة، أي فيروس، أو أي نواة واحدة. هذا يعني: أن كل الإعلانات الخفاقة التي أتحفت الاستخبارات الأمريكية العالم بها، كانت ترتكز على أكاذيب فاضحة وتأويلات شعواء. هذا لا يبعث على الارتياح.
وقد تبخرت علاقة صدام ببن لادن أيضا. لم يتم العثور على أي برهان على وجود مثل هذه العلاقة.
وقد اختفى صدام حسين ذاته، وكأنه لم يكن ولم يُخلق، بل وكأنه كان مثالا فقط. بقيت فقط كارثة لحقت بالشعب العراقي وفوضى وطعم مر في الفم.
ماذا بقي ؟ بقي النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
والوضع هناك مختلف. لقد أرادوا اختفاء ياسر عرفات، كما اختفى بن لادن، كما اختفى صدام. ولكن لم يختف. وقد بقي بالتأكيد. وحركة حماس أيضا لم تختف. ولم يختف منفذو العمليات الانتحارية أيضا.
لم تعمل عصا بوش السحرية ،التي كان من شأنها إحلال السلام، في هذه المرة. وما حدث هو مزيد من العمليات الانتحارية تعقبها اغتيالات فعمليات، انتحارية أخرى. عناوين يومية تظهر القتلى أولاد من كلا الطرفين، نساء من كلا الطرفين.
لكن بوش يحتاج إلى نجاح ما. وهو يحتاج هذا النجاح على وجه السرعة. لذلك قرر أن يفعل ما فعله سابقه من قبل: التدخل شخصيا. صحيح أنه اقسم ألا يكرر أخطاء بيل كلينتون، ولكنه الآن مرغم على فعل ذلك.
لقد وضع بيل كليتون ثقل الإدارة الأمريكية في كفة الميزان، لكي يدخل التاريخ من أوسع أبوابه- أو على الأقل للحصول على جائزة نوبل للسلام. لقد قرر التوصل إلى السلام في كامب ديفد بأي ثمن كان. لقد آمن بأن إيهود باراك سيطرح على الطاولة حقا اقتراحات سخية. ورغم أن كان كذوب هو ذاته (أنظر قيمة مونيكا)، إلا أنه قد صدق بأن إهود باراك يقول الحقيقة. لم يخط على باله قط أن باراك الكذوب النابغة، سيجعله في أصغر جيب له. " في أخر النهار" نزل كلينتون عن المسرح، محقر وخجل.
يمكن لذلك أن يحدث الآن لوريثه.
جورج بوش يكن الوقار لأريئيل شارون. وكان بوده لو كان مثله: غير متهرب من الخدمة العسكرية، بل بطل حرب، ليس ابن أبيه، بل قائد مرموق، ليس مالك لمزرعة لاستقبال الضيوف، بل مالك لمزرعة حقيقية، يبنيها بنفسه.
يبدو أن جورج يصدق أريك. عندما يقول أريك أنه مستعد "لتنازلات موجعة" يصدق جورج ذلك. عندما يقول أريك بأنه يوافق على إقامة دولة فلسطينية، يصدق جورج ذلك. عندما يقول أريك أنه يقبل "خارطة الطريق" يصدق جورج ذلك. عندما يقول أريك بأنه سيخلي المستوطنات والبؤر الاستيطانية، يصدق جورج ذلك. عندما يقول أريك بأنه سيساعد أبا مازن بكل ما أوتي من قوة، يصدق جورج ذلك. لا يشك جورج بأن أريك صديقه، أريك الضابط النبيل، سينظر في عينيه ويكذب عليه في وجهه.
إلا أنه ليس لشارون أصدقاء، ولم يكن له أصدقاء في أي مرة من المرات. ليس له رفقاء، ولم يكن له في أي مرة من المرات. جورج بوش بالنسبة لشارون ما هو إلا أمريكي ساذج، ويجدر غشه لصالح الهدف المقدس.
جورج بوش هو رجل متدين. لقد كان في مرة من المرات مدمنا على الكحول ولكنه نجح في تبديل الكحول بالله. صديقه طوني بلير هو الأخر متدين. وقد قال له صديقه فلاديمير بوطين بأنه متدين هو أيضا. صحيح أن شارون ليس متدينا ولا يؤمن بالله، إلا أن بوش يؤمن تماما بأن الله قد منح البلاد لشعب إسرائيل. ولذلك يرى بوش في شارون رجلا متدينا، والمتدين لا يكذب.
شارون لا يحلم أبدا بإخلاء البؤر الاستيطانية، وتجميد المستوطنات، والموافقة على حدود مشابهة للخط الأخضر. وطالما يطلبون منه الكلام فقط، فلن تكون هناك أية مشكلة. عندما سيطلبون منه الأفعال، سيقف الجانبان أمام خيار صعب للغاية.
خيار شارون هو: الشجار مع بوش (وذلك سيكون بمثابة كارثة من وجهة نظره)، أو التخلي عما يراه كرسالته التاريخية (وهو كارثة أكبر بكثير من وجهة نظره).
خيار بوش هو: فشل كبير آخر والوصول إلى الانتخابات كمن لم يفعل شيئا، وهو ما سوف يعمل منافسوه على نشره على الجمهور، أو الشجار مع شارون وكل الجالية الهائلة التي تساند إسرائيل، من اليهود والمسيحيين، وهذا الأمر هو بمثابة سم سياسي فتاك.
بغض النظر عن كل هذه الأمور، كيف نشأت حقيقة كون الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا في إسرائيل، ستقبل بشكل رسمي إقامة دولة فلسطينية؟ حتى ولو كانت هذه الأمور مجرد طقوس، وحتى ولو كانت النية هي التخريب والإعاقة، ولكنها ستبقى حقيقة لا رجعة فيها.
وهكذا تكتمل الدائرة: لقد قبل العالم بأسرة رؤيا الدولتين، حتى الولايات المتحدة ذاتها، والعالم الغربي أيضا، والشعب الفلسطيني، وهاهي الحكومة في إسرائيل تقبل ذلك أيضا.
إن في هذا الأمر اكتفاء شخصي إلى حد معين. قبل 50 سنة كنا قلة قليلة من الأفراد، كانوا قد نادوا بهذا الحل. وقد وقف العالم بأسره ضد هذه المجموعة. أما الآن فهي رؤيا عالمية. مع أو بدون بوش، مع أو بدون شارون، ستتحقق هذه الرؤيا.