أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سعاد خيري - العولـمة والحتمية التاريخية















المزيد.....


العولـمة والحتمية التاريخية


سعاد خيري

الحوار المتمدن-العدد: 40 - 2002 / 1 / 20 - 17:52
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    



العدد 299 الثقافة الجديدة


قدمت البشرية في بحثها عن فهم جوهر العلاقات الاجتماعية والمحرك الأساس لتاريخ البشرية وآفاق تطورها عباقرة، تجاوز الكثير منهم حواجز الزمان والمكان في فهم جوهر هذه العلاقات واستشراف آفاق تطورها. وتميز ماركس بنهجه المادي الديالكتيكي، ليس في تحليل هذه العلاقات واستشراف آفاقها فقط، بل وتحديد المحرك الرئيس للتاريخ، وأقام صرحاً نظرياً غنياً ليس فقط لفهم الواقع وآفاق تطوره بل وسبل تحقيق تلك الآفاق. مستنداً في ذلك على ديناميكية تطور قوى الإنتاج التي تحتم تطور علاقات الإنتاج باعتبارها الأساس المادي للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل مجتمع طبقي، والصراع الطبقي هو المحرك الأساس للتاريخ، والثورات الاجتماعية، هي قاطرة التاريخ، حتى زوال الرأسمالية وبناء المجتمع اللاطبقي.

اختبر ماركس ما توصل إليه من قوانين تطور المجتمع البشري على جميع مراحل تطوره ليستنتج حتمية زوال علاقات الإنتاج الرأسمالية والانتقال إلى الاشتراكية فالشيوعية. ولكن ماركس وإنجلس حذرا في أكثر من مؤلف من الاعتقاد بأن الحتمية التاريخية تتحقق عفوياً أو أوتوماتيكياً، بل تتطلب فهماً معمقاً للواقع وكشف أسراره ودراسة قوانينه وتناقضاته وتطوير وسائل وأساليب الكفاح وفقاً لتطوراته.

ومع ذلك تعجل الكثير من الماركسيين، على إثر انهيار المنظومة الاشتراكية، في الحكم على عدم صحة النظرية الماركسية أو على أنها شاخت، لمجرد عدم التوصل إلى الحتمية التاريخية بأسهل الطرق وأسرعها، أي نتيجة عدم فهمهم للحتمية التاريخية التي كما أكد ماركس بأنها لا تتحقق مطلقاً بشكل عفوي كالحتمية الطبيعية، بل هي نتيجة فعل الإنسان الواعي.. فحرروا بذلك أنفسهم من مشاق البحث عن أسباب فشل التجارب الاشتراكية ولاسيما الانحرافات الجدية عن النهج الماركسي التي اقترفت في المجال النظري والتطبيقي، الأمر الذي أدى إلى الجمود في النظرية والفشل في تحقيق الأسس التي حددتها لبناء الاشتراكية، ولاسيما الإنتاجية الأعلى والديمقراطية الأوسع، والعجز عن كشف أسرار بناء المجتمع الاشتراكي والوسائل والأساليب الجديدة الضرورية لتحقيقها. ويصدر لأعداء الماركسية من الرأسماليين ومؤدلجيهم آلاف الكتب والنظريات معتبرين انهيار التجارب الاشتراكية برهاناً على عدم وجود الحتمية التاريخية ودليلاً على انتصار الرأسمالية ودوامها مثل نظرية «نهاية التاريخ».. وتمجيد الصدفة ويطلقوها ويغفلون الوحدة الديالكتيكية بين الحتمية والصدفة، سواء كانت علمية، أم تاريخية. فالصدفة هي حتمية غير معروفة أسرارها، قد تكون سلبية أم إيجابية وهي دوماً منطلقاً لتطور البحث والعلم لتحويلها إلى حتمية إيجابية تطلق صدفة أخرى أرقى، تشكل أحد العوامل الديناميكية لتطور العلم والمعرفة. وفي نفس الوقت يستغلون كل منجزات الثورة العلمية التكنولوجية وثورة الاتصالات والمعلومات لمهاجمة الماركسية ولاسيما في مرحلتها المتطورة اللينينية، والتي تقتضي المزيد من التطور الآن بناء على تطور الواقع الاجتماعي الاقتصادي العالمي الذي فرضته الثورة العلمية التكنولوجية وانتقال الرأسمالية من مرحلة الإمبريالية إلى مرحلة عولمة الرأسمال. وهي أعلى وأخطر مراحل الرأسمالية حتى الآن على البشرية.

لا يوجد في العلم نظرية خالدة، فكل النظريات تعيش فترة نمو تدريجي وتصل إلى أوجها ثم تبدأ تعاني من انحسار قد يكون سريعاً. وكل خطوة عظيمة في تاريخ العلم تنشأ عن أزمة تمر بها نظرية سابقة ويحاول العلماء والمفكرون أن يجدوا مخرجاً من الصعوبات بالاستناد إلى تفحص الأفكار والنظريات القديمة، لأنها رغم انتمائها إلى الماضي هي الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى النظريات الجديدة وفهمها وتقدير مدى صحتها. فكما يقول اينشتاين «إن توليد نظرية جديدة لا يشبه هدم كوخ في سبيل بناء ناطحة سحاب في مكانه، وإنما يشبه ارتقاء جبل نشرف من سفحه على مناظر متجددة وأكثر فأكثر اتساعاً، مما يتيح لنا كشف روابط غير متوقعة بين نقطة الانطلاق والمناطق العديدة حولها لكن نقطة الانطلاق تبقى موجودة ويمكن أن نراها بالرغم من أنها تبدو أصغر وأقل شأناً، في المنظر الواسع الذي أصبحنا نشاهده بفضل التغلب على العقبات التي صادفناها أثناء الصعود. ويبقى هناك مجالات ملائمة لتطبيق النظرية القديمة رغم تناقضها وسيادة النظرية الجديدة».

إن دخول الرأسمالية مرحلة عولمة الرأسمال لا يكفي لانتهاء دور النظرية الماركسية، نظرية الطبقة العاملة وأداتها لتحرير البشرية من الرأسمالية وكل جرائمها. فنحن لانزال ضمن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للرأسمالية، بل وفي أخطر مراحلها. وما نحتاجه هو تطوير الماركسية مع تطور الرأسمالية حتى تتمكن البشرية من القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية وبناء المجتمع اللاطبقي، الاشتراكي وعندئذ فقط لم تعد هناك ضرورة لنظريات طبقية، بل تنشأ ضرورات جديدة، تستدعي نظريات جديدة يفرضها الواقع الجديد. فالحتمية التاريخية ليست مبرراً للخمول الفكري والجمود العقائدي، بل هدفاً للنضال الواعي للشيوعيين لتطوير النظرية والنشاط الفكري والسياسي والاقتصادي، ليساعدوا بذلك البشرية على تحقيق الحتمية التاريخية بفعلها الواعي بكل ثقة.

لقد صاغ ماركس وإنجلس في البيان الشيوعي، الذي صدر قبل 150 عاماً نظرية الثورة البروليتارية لتحقيق الحتمية التاريخية وأكدا بأن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلا في ظل توفر شرطين أساسيين وهما النمو الهائل للقوى المنتجة والدرجة العالية لتطورها، لأن بدون تحقيق ذلك يعني تعميم الفقر، الأمر الذي يفرض البدء بالنضال من أجل توفير الحاجات الضرورية. والشرط الثاني هو تجمع البروليتاريا وتكوينها في طبقة ثورية.. وحددا بناءً على ذلك بأن البروليتاريا الحديثة التي خلقتها الثورة الصناعية الكبيرة، هي القوة الموضوعية، هي الطبقة الثورية التي تحقق التحول الشيوعي للمجتمع. ولذلك طرحا مسألة تنظيم العمال في طبقة ومن ثم في حزب سياسي. وأكدا على الطابع الأممي لنضال البروليتاريا ورفعا شعار «يا عمال العالم اتحدوا» وفي المادة الثانية من البيان الشيوعي أكدا على أن الثورة هي السبيل الوحيد لإسقاط الطبقة السائدة. وأشارا إلى أن كل طبقة تسعى للسيطرة وسيطرتها مشروطة بتحطيم مجمل الشكل الاجتماعي القديم، ولذلك يجب عليها قبل كل شيء أن تستولي على السلطة السياسية لنفسها. فطرحا فكرة دكتاتورية البروليتاريا. والمهمة الأولى لها هو إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتحويلها إلى ملكية اجتماعية. وتطور القوى المنتجة إلى درجة كافية هو وحده يجعل من الضروري والممكن القضاء على الملكية الخاصة هذه لأن هذا التطور لقوى الإنتاج يجعل الإنتاج ذا طبيعة اجتماعية شاملة. والقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج يجر وراءه القضاء على الطبقات والتضاد بين المدينة والريف وبين العمل الفكري والعمل اليدوي. فالإنتاج هو أساس وجود المجتمع وسيكون دائماً النوع الأساسي لنشاط البشرية الحياتي. ولكن طبيعته ستتغير جذرياً وفي مقدمة ذلك إلغاء العمل المأجور ويتحول العمل إلى نشاط ذاتي، نشاط ببواعث داخلية تقود إلى تطور الفرد من كل الجوانب، أي إلغاء التغريب وينتهي التقسيم الطبقي للعمل. ويغدو النشاط الإنساني متنوعاً ويصبح وعيه متطوراً ومتعدد الجوانب أيضاً. وتتطور الأخلاق ويختفي الضدان الأنانية ونكران الذات المتلازمان الناجمان عن التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. وتكون علاقة الفرد بالمجتمع قائمة على الإدراك بأن المجموعة فقط توجد لكل إنسان الوسائل التي تمنحه إمكانية التطور الشامل، وبالتالي فإن الحرية الشخصية ممكنة فقط في ظل المجموعة.. وتتغير الرغبات الفردية بتغير العلاقات الاجتماعية وتزول تلك الرغبات التي خلقتها علاقات الإنتاج الرأسمالية وستظهر رغبات وحاجيات جديدة تكون حافزاً لتطور وسائل تلبيتها. ولكن ليس على حساب الآخرين وسيفعل القانون الديالكتيكي نفي النفي مفعوله وقضاء البروليتاريا على الرأسمالية سيؤدي حتماً إلى زوال البروليتاريا واضمحلال سلطتها..

ويصف إنجلس سير هذه الثورة قائلاً: «ستكون هذه الثورة نظاماً ديمقراطياً. دولة ديمقراطية تصبح فيها البروليتاريا مسيطرة سياسياً. كما أكد ماركس على أن الثورة الاشتراكية لا يمكن أن تنتصر في بلد واحد’ بل في مجموعة من البلدان الرأسمالية المتطورة. فالصناعة الكبيرة في إيجادها السوق العالمية، قد ربطت كل شعوب العالم مع بعضها، وخاصة الشعوب المتمدنة وساوت التطور الاجتماعي فيها بحيث أصبحت البروليتاريا والبرجوازية في كل منها طبقتين حاسمتين في المجتمع والصراع بينهما هو الصراع الرئيس في هذا العصر.. وستتحقق الثورة في البلد الأكثر تطوراً أسهل وأسرع. وستؤثر بدورها في سائر بلدان العالم وتسارع سيرها ويصبح مسرحها العالم كله. أما انتصار الثورة الاشتراكية في أي بلد منفرد فسيقضي عليها نتيجة تأثير البلدان الأخرى السلبي في حين إقامة جدار حولها سيؤدي إلى خنقها لحرمانها من التأثير الإيجابي للبلدان الأخرى ولا يعتبر نجاح الثورة نهائياً. (وهكذا فإن إقامة جدار برلين كان تجاوزاً لتحذيرات ماركس في إقامة الجدار حتى مجازياً، أولاً، وانهياره كان حتمياً سواء أن انتصرت التجربة الاشتراكية أو فشلت وكانت إقامته أحد الأخطاء الثانوية وأن التهويل بأهمية انهياره جزء من الحملة الإيديولوجية الجبارة لعولمة الرأسمال ضد الماركسية).

لم يتجاهل لينين هذه الحقائق العلمية ولكنه طورها وفقاً لتطور الواقع الاقتصادي الاجتماعي في العالم جراء دخول الرأسمالية مرحلة الإمبريالية وبعد أن اكتشف سماتها المميزة كأعلى مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية في ذلك الوقت. ولخصها في كتابه القيم «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» بالنقاط الخمس التالية:

1 ـ تمركز الإنتاج والرأسمال تمركزاً بلغ في تطوره حداً أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية.

2 ـ اندماج الرأسمال البنكي بالرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس الرأسمال المالي هذا.

3 ـ تصدير الرأسمال، خلافاً لتصدير البضائع، يكتسب أهمية في منتهى الخطورة.

4 ـ تشكل اتحادات رأسمالية احتكارية عالمية تقتسم العالم.

5 ـ انتهى تقاسم الأرض إقليمياً بين كبريات الدول الرأسمالية.. وأضاف بعد أن اكتشف قانون التطور غير المتناظر للمراكز الرأسمالية: وإن أية إعادة اقتسام للعالم لا تتم إلا عن طريق الحرب.

وبناء على هذه الاكتشافات العلمية، طور لينين نظرية الثورية الاشتراكية وأكد على إمكانية انتصار الاشتراكية في بلد واحد وفي أضعف الحلقات الإمبريالية مشيراً إلى أن انتصار الثورة في البلدان الأقل تطوراً أسهل ولكن بناء الاشتراكية فيها أصعب، في حين انتصار الثورة في البلدان الأكثر تطوراً أصعب وبناء الاشتراكية أسهل.. وأكد أن الثورة فعل جماهيري لا يمكن أن يصنعها فرد أو حزب سياسي أو طبقة اجتماعية مهما أوتوا من قوة وجبروت، ومن نظرية وتنظيم. الثورة فعل جماهيري ينطلق عفوياً وبقوة جبارة تحت تأثير الإرهاب الدموي والضغط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تمارسه الطبقة الزائلة بواسطة أجهزة الدولة لضمان بقائها أو على الأقل تأجيل زوالها، في الحالة التي أطلق عليها لينين «الوضع الثوري» وشرح ذلك بالقول عندما لا تستطيع الجماهير بعد أن تعيش بالأسلوب السابق ولم تستطع السلطة أن تحكم بالأسلوب السابق. وعلى أساس تصاعد النضال التحرري لشعوب المستعمرات ضد الإمبريالية طور شعار «يا عمال العالم اتحدوا» إلى شعار: «يا عمال العالم وشعوب المستعمرات اتحدوا». وبناء على تطور مهمات النضال من أجل تحقيق الرسالة التاريخية للطبقة العاملة، طور نظرية الحزب الطليعي وفي مؤلفة ما العمل وضع الأسس لها. وأشار إلى الضرورة الموضوعية للحزب الطليعي قائلاً: «إن البروليتاريا لا تستطيع بلوغ وعي كلي للواقع الرأسمالي بما في ذلك واقعها الخاص، إلا عبر ممارسة اجتماعية واسعة، أي عبر ممارسة سياسية. وهذا يعني لا يبلغ الوعي الطبقي إلا الأقلية المستعدة لمتابعة النشاط السياسي والقادرة عليه، حتى في فترات تراجع الحركة الجماهيرية، وحتى في مراحل تطور الإيديولوجيا البرجوازية وتعاظم تأثيرها داخل الطبقة العاملة». وطور لينين نظرية دكتاتورية البروليتاريا.

ولم يقتصر نشاط لينين على المجال النظري بل استطاع قيادة أعظم ثورة في تاريخ البشرية حتى يومنا هذا، ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى والبدء في بناء أول دولة اشتراكية في العالم، لعبت دوراً هاماً في تاريخ البشرية على الصعيد العالمي ودشنت انتقال الاشتراكية من حلم البشرية الأعظم إلى إمكانية حقيقية وأصبح مسرحها عالمياً كما تنبأ ماركس، فقد تم إنشاء المنظومة الاشتراكية، وأسندت حركة الطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم وحركة التحرر الوطني العالمية وفرضت مع جميع القوى المناهضة للإمبريالية تطوير المنظمات والمواثيق والقوانين الدولية لخدمة البشرية وغيرها من المنجزات، رغم كل الأخطاء والعثرات التي مرت بها وأدت إلى انهيارها، بل وحتى انهيارها بمد البشرية بدروس لا يمكن بدونها نجاح التجارب المقبلة حتماً.

ولكن صعوبة بناء الاشتراكية في بلد متخلف كروسيا في ذلك الحين، فضلاً عن عجز القيادات التي أعقبت لينين عن تطوير النظرية الماركسية والتخلي عن النهج الماركسي في العملية ولاسيما في تحقيق الأسس التي يقوم عليها بناء الاشتراكية وهي: الإنتاجية الأعلى والديمقراطية الأوسع أدت إلى انهيار هذه التجارب، التي كان لينين يتوقع نجاحها وتطورها لتشكل السند والنموذج لكل البلدان وتضع الأساس لتحقيق الحتمية التاريخية لزوال الرأسمالية التي بنى على أساسها نظريته: «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية وعشية الثورة الاشتراكية» ولم يكن ذلك مستحيلاً.

لقد قيّم ماركس كومونة باريس عالياً رغم أنها لم تستمر أكثر من سبعين يوماً وقال عن أبطالها بأنهم اقتحموا السماء مجازاً لأنهم استطاعوا اقتحام أحد معاقل الرأسمالية في حين استمرت تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي سبعين عاماً وأبطالها اقتحموا السماء مجازاً وحقيقة. فقد كان الإنسان السوفيتي، يوري غاغارين أول من اقتحم الفضاء ليدشن عصر الفضاء كما اقتحموا أكثر من معقل من معاقل الرأسمالية وحرروا البشرية من الفاشية. ولكن حتى الآن لم يجرأ حتى الشيوعيون على تقييم هذه التجربة الفذة.

إن تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وسائر المنظومة الاشتراكية هي أعظم منجزات البشرية خلال القرن العشرين. وإذ سجلت إرهاصاتها في مطلع القرن عجز الرأسمالية عن حل مشاكلها واستفحال أزماتها إلا بالحروب المهلكة للبشر ومنجزاتهم، فإن انتصار ثورة أكتوبر أثبتت قدرة البشرية المسلحة بالنظرية الماركسية على تحديها والحدّ من جرائمها وتقليص رقعة نفوذها. أما تجربة بناء الاشتراكية التي استمرت سبعين عاماً فقد وضعت الرأسمالية في قفص الاتهام وأجبرتها على الدفاع عن نفسها وتقديم التنازلات. فتمكنت البشرية من تحقيق منجزات كبيرة سواء بالقضاء على الفاشية وبناء المؤسسات الدولية والمواثيق التي تضمن حقوق الإنسان وتطور العلوم والتكنولوجيا التي خلقت الأساس المادي للعولمة.

وأطلق انهيار التجارب هذه في نهاية القرن العنان لبلوغ الرأسمالية مرحلة عولمة الرأسمال أعلى مراحل الرأسمالية حتى الآن وأخطرها على البشرية وأعمق مراحلها تأزماً وأشدها تناقضاً. فقد تطور تناقضها الرئيس بين العمل ورأس المال إلى التناقض بين عموم البشرية والرأسمال، وتعمق التناقض بين المراكز والأطراف ليشمل بلدان المراكز والأطراف وأطلق على هذا التناقض بعض الاقتصاديين «طرفنة المراكز» وتعمق التناقض بين البيئة والرأسمالية وأصبح خطرها لا يهدد حاضر البشرية فقط بل ومستقبل أجيالها. فأصبح بقاء علاقات الإنتاج الرأسمالية مناقضاً للتقدم والسلم والحرية لعموم البشرية وفقدت مبررات وجودها. ولذلك تفرض عولمة الرأسمال تطوير النظرية الماركسية من أجل تحقيق الحتمية التاريخية، حتمية زوال الرأسمالية وبناء الاشتراكية فالشيوعية ومراجعة تلك النظريات التي وضعها ماركس وطورها لينين، وفي مقدمتها نظرية الثورة الاشتراكية فالانتقال من نظام اقتصادي اجتماعي إلى آخر لا يمكن أن يتم بدون ثورة اجتماعية فالطبقة السائدة لا يمكن أن تتخلى عن مواقعها سلمياً كما أثبت تاريخ البشرية حتى يومنا هذا. فكيف بالرأسمالية وهي في مرحلة عولمة الرأسمال والثورة العلمية التكنولوجية التي جهزتها بأفظع أسلحة الدمار الشامل وبأمضى الأسلحة الإيديولوجية، التي مكنتها من عولمة الحروب والجريمة المنظمة وعولمة كل الوسائل والسبل التي تكفل استمرار سيادتها على العالم حتى وإن أدى ذلك إلى فناء البشرية، وتدمير الطبيعة. ولذلك يرى الكثير من المفكرين بمن فيهم بعض الماركسيين استحالة قيام الثورة في عصرنا ويقدمون مختلف النظريات الإصلاحية، في الوقت الذي نشهد انتفاضات جبارة في مختلف بلدان العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، كانتفاضة الزنوج في لوس أنجلوس عام 1996 والانتفاضات الشعبية في العراق وأندونيسيا والمكسيك وغيرها من بلدان العالم. وما هذه الانتفاضات إلا ثورات لم تستكمل شروط نجاحها داخلياً وعالمياً وأغلبها يحدث بدون قيادة سياسية واعية لاسيما بعد ما أصاب الأحزاب الشيوعية من هزات فكرية وترهل سياسي وفكري بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتخلي بعضها عن النظرية الماركسية والخبرة التاريخية للحركة الشيوعية العالمية.. وتؤكد هذه الانتفاضات ما أكده لينين بأن الثورات لا يصنعها حزب سياسي أو طبقة، بل تصنعها الجماهير ولكن الأحزاب السياسية الواعية تعد الجماهير للثورة، ترفع وعيها وتوجه نضالها ويمكن أن تعجل وتسهل انتصار الثورة وتحقيق أهدافها وحتى في حال الفشل تساعد الجماهير على تلخيص تجربتها وتحديد أسباب الفشل استعداداً للمعارك المقبلة حتماً.

وكما خلقت الثورة العلمية التكنولوجية الأساس المادي لعولمة الرأسمال فإنها خلقت الأساس المادي أيضاً للعولمة الإنسانية لمواجهتها، تقوم على عولمة الكفاح والتضامن فالعولمة كأي ظاهرة اجتماعية اقتصادية تقوم على وحدة وصراع الأضداد، وفقاً للنهج الماركسي. وعلى آفاق هذا الصراع يتحدد مصيرها، بل ومصير البشرية. وكما سلحت الثورة العلمية التكنولوجية الرأسمالية بكل أسلحة الدمار الشامل لسحق ثورات وانتفاضات الشعوب، فإن الثورة العلمية التكنولوجية جهزت البشرية بإمكانية إبطال مفعول هذه الأسلحة والعلماء أي شغيلة الفكر يمكنهم من تعطيل كل تلك الأسلحة. ولا شك بأن كل عملية قمع وحشية لانتفاضات الشعوب تصيب العلماء الذين اخترعوا هذه الأسلحة والذين يستعملونها بهزة وجدانية تتحول إلى وعي ثوري يدفعهم للعمل الثوري مهما أغدقت الرأسمالية عليهم من منافع لتعزلهم عن البشرية وتميزهم، فضلاً عن إمكانية إصابتهم بنفس الأسلحة التي يستعملونها، كما حدث عند ضرب العراق بالأسلحة النووية التكتيكية في حرب الخليج الثانية.. فالانتفاضات الشعبية رغم كل التضحيات التي تقدمها الشعوب تسهم في تطوير وعي البشرية عموماً والعلماء خصوصاً وتعزز التلاحم بين شغيلة اليد والفكر، القوى المنتجة والمحركة للتاريخ وتصاعد وعولمة جميع أشكال الكفاح: الفكري والسياسي والاقتصادي وصولاً إلى الثورة التي ستحدث في بلد واحد أو عدة بلدان، في الأطراف أم في المراكز المتطرفنة، بأسلوب سلمي أو عنفي وفقاً للظروف وفي مقدمتها درجة مقاومة الرأسمالية للتحول الثوري وستتطور وتشمل العالم حتماً، وهذا يقتضي تطوير شعار ماركس «يا عمال العالم اتحدوا» إلى «أيتها البشرية اتحدي» و«الأممية البروليتارية» إلى «العولمة الإنسانية» وقد باشرت البشرية في ممارسة ذلك في مناسبات عديدة وأبرزها حتى الآن فعاليات سياتل ثم إن مفهوم البروليتاريا لم يعد ينطبق على معظم شغيلة العالم. فقد وسعت الثورة العلمية التكنولوجية في ظل هيمنة الرأسمالية القاعدة الاجتماعية للطبقة العاملة لتضم شغيلة اليد والفكر وبالتالي لم يعد مفهوم دكتاتورية البروليتاريا ملائماً كما تفرض المرحلة الجديدة تطوير نظرية الحزب الطليعي وتطوير أساليب ووسائل كفاحه في جميع المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية، وبالتعاون والتنسيق مع الحركة الشيوعية العالمية وجميع القوى والمنظمات الإنسانية.

وهكذا ستتحقق الحتمية التاريخية التي تنبأ بها ماركس، رغم كل الصعوبات ورغم وجود مختلف الصدف غير المعروفة أسبابها، لأن البحث المعمق والمتواصل وتطور البحث وأساليبه كفيل بحلها. وسيتحقق حلم البشرية في بناء المجتمع الإنساني الحقيقي المنسجم مع محيطه الحيوي، الطبيعة. ولم يكن هذا مطلقاً نهاية التاريخ، بل بداية مرحلة جديدة من تاريخ البشرية، حيث تقف مهمات جديدة وأهداف جديدة وحتمية تاريخية جديدة، ولكن قواها المحركة ليس الصراع بين البشر وإنما صراع كل البشر بنشاطهم المبدع المتحرر من كل اغتراب مع المجهول سواء في مجال الكون الذي ليس له نهاية أم في أعماق الإنسان وإمكانياته التي ليس لها حدود.

1/2/2000

المصادر:

ـ ماركس وإنجلس «البيان الشيوعي»

ـ لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»

ـ بغاتوريا «ملامح المستقبل، إنجلس والمجتمع الشيوعي»

ـ فولكوف «الإنسان والثورة العلمية التكنولوجية»

ـ سعاد خيري «العولمة وحدة وصراع النقيضين: عولمة الرأسمال والعولمة الإنسانية»





#سعاد_خيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سعاد خيري - العولـمة والحتمية التاريخية