أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - جميل حمداوي - لعبة النسيان لمحمد برادة بين الزمن الضائع والتجريب البوليفوني















المزيد.....



لعبة النسيان لمحمد برادة بين الزمن الضائع والتجريب البوليفوني


جميل حمداوي

الحوار المتمدن-العدد: 1670 - 2006 / 9 / 11 - 06:49
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


1- عتـــــــبة الـــــــــــــــــمؤلف:

محمد برادة أديب وناقد ومترجم مغربي. أثرى الساحة الثقافية المغربية بمجموعة من الإبداعات الروائية ( لعبة النسيان، الضوء الهارب، مثل صيف لن يتكرر، امرأة النسيان)، والقصصية ( سلخ الجلد)، والنصوص النقدية ( لغة الطفولة والحلم، قراءة في ذاكرة القصة المغربية، أسئلة الرواية)، والمترجمات( الرواية المغربية لعبد الكبير الخطيبي، وديوان " حديث الجمل" للطاهر بن جلون، ودرجة الصفر في الكتابة لرولان بارت، والخطاب الروائي لميخائيل بأختين...).

2- عتـــــــــــبة الجــــــــــــــنـــس:

إن لعبة النسيان هي أول رواية لمحمد برادة، صدرت لأول مرة سنة 1987م عن دار الآمان بالرباط. وقد جنسها الكاتب بعنوان فرعي تعييني"نص روائي". ويعني هذا أن المؤلف رواية مادامت تشخص الذات والموضوع والرواية نفسها. وتتشابك في النص أحداث تخييلية وواقعية متنوعة، وتتناغم تيمات عديدة على إيقاعات درامية حدادية دائرية التركيب إلى جانب تفاعل عدة شخوص رئيسية وثانوية عبر حركية التاريخ وصيرورة الزمن وتناوب الأجيال مابين الاستعمار والاستقلال وما بعد الاستقلال.
وهذه الأحداث المتوجة غير منفصلة عن فضاءاتها الزمكانية التي تنفعل بالشخوص وتفعل فيها ما يمكن أن تفعل تحت ضغوط الجبرية وحتمية الواقع: تأثرا و تأثيرا. ولكن يبقى هذا النص الروائي سيرة ذاتية أو أطبيوغرافيا مادام يرتكز كثيرا على تشخيص الذات ( التذويت)، واستدعاء تاريخها عبر الصيرورة التاريخية، واسترجاع تاريخ الذوات الأخرى المتفاعلة معها؛ وذلك بسبر الموضوع الذي يؤثر فيها.
وخطاب الأطوبيوغرافيا حديث العهد، فقد نظر له الناقد الفرنسي فيليب لوجون. إذ يعرف النص الأوطوبيوغرافي بأنه:" محكي نثري استرجاعي ينصب على الوجود الشخصي لفرد ما، وذلك حينما يتم التركيز أساسا على الحياة الفردية وبالخصوص على تاريخ الشخصية". وهذا التعريف ينطبق إلى حد كبير على نص محمد برادة؛ لأن لعبة النسيان أولا نص سردي نثري ينبني على استرجاع ماضي الشخصية أو الذوات الفردية (الهادي)، في امتدادها الزمني وتعايشها مع الذوات الأخرى سلبا أو إيجابا في مواجهة الموضوع من أجل فهم الحياة الفردية وتاريخها وتفسيرها بما هو خارجي شعوري أو لا شعوري، مع حضور المؤلف المقنع بقناع السارد أو الشخصية ( السارد المشخصن)، كما هو الشأن في الرواية إذ يحضر في صورة ( الهادي) لوجود عدة تماثلات ذهنية ووجدانية واجتماعية بين محمد برادة والهادي ( انتقال الهادي ما بين فاس والرباط والقاهرة وباريس، الدراسة الجامعية، الصحافة، الكتابة السردية كاحتراف....).

3- دلالات الروايـــــــــــــــــــــــــة:

تحضر عدة تيمات في هذه الرواية مثل: الحياة والموت والجنس وصراع الذات مع الموضوع والوطن والمكان والطفولة والوطن والنضال والحرية...
ويعتبر الموت أبرز حدث رئيسي في هذه الرواية، فعنه تتفرع الأحداث الدرامية الأخرى وعبره تترابط الإيقاعات والقصص السردية.
ويمكن اعتبار لعبة النسيان رواية استرجاع الزمن الضائع من خلال الشخوص ودورة الحياة والموت عبر الأمكنة والفضاءات المنغلقة والمنفتحة والداخلية والخارجية. وتحضر الأم باعتبارها شخصية رابطة مبئرة ومبأرة، عليها تتجمع الشخوص لتنسج خيوطها السردية لخلق حياتها وموتها. كما أنها تجمع هذه الشخوص لتخلق فيها الحياة والدفء والاستمرارية عبر الصيرورة التاريخية. وهذه الرواية كذلك رواية أجيال ثلاثة مختلفة الطباع والقسمات والرؤى تتحول مع المكان والزمان في تكيفها وصراعها مع الواقع المتميز بين الحماية والاستقلال:

الأجــــــــيال الــــــــــــــثلاثة:

الجيل الثالث الجيل الثاني الجيل الأول
جيل مابعد الاستقلال جيل مابين الاستعمار و الاستقلال جيل الحماية
عزيز- فتاح- نادية سي إبراهيم-لالة نجية- الهدي- الطايع لالة الغالية- سي الطيب- الشريف
وتتضمن رواية لعبة النسيان لمحمد برادة سبعة فصول على النحو التالي:

-1- في البدء كانت الكلمة:
يدور هذا الفصل حول حضور الأم في الدار الكبيرة بفاس وانتقالها إلى الرباط لمساعدة ابنتها التي تزوجها سي إبراهيم في تربية أولادها وتدبير شؤون المنزل وما أحدث وفاتها من أثر على الأبناء والأهل والأقارب و الجيران.

-2- سيد الطيب:
يستنطق هذا الفصل شخصية سيدالطيب العاقر وتناقضاته العديدة، ويحاول تفسيرها بعلل الموضوع ومنسيات الذات. ويرصد الحكي هذه الشخصية في طيبو بتها ودماثة أخلاقها وبعدها الديني والروحي إلى جانب انغماسها في اللذات والشهوات والميل إلى اللهو ولعب الكارطة وتبذير الأموال من أجل التلذذ بمفاتن الجسد.

-3- ما قبل تاريخنا:
يذكر هذا الفصل طفولة الهادي والطايع ومراهقتهما مابين فاس والرباط.


-4- ثم يكبر العالم في أعيننا:

تفكر الرواية في نفسها من خلال فضح اللعبة السردية والحوار مع المتلقي عبر تأسيس ميثاق سردي يشارك فيه المؤلف وراوي الرواة والمتقبل. وتكمن مهمة راوي الرواة في قول الحقيقة والبوح بها وتعرية لاشعور الشخصيات خاصة المشاهد الجنسية الطفولية ( الهادي)، أو الذكورية( واقعة السيد " الضب" الذي اغتصب فتاة المدرسة، وهي ما تزال صغيرة)، كما يتعرض الفصل للزوجين: سي إبراهيم ولالة نجية في تكيفهما مع الواقع وامتدادهما في الحاضر، واستعراض بعض النشرات الإعلامية والإذاعية والصحفية التي أدلى بها راوي الرواة لتشخيص التحولات الطارئة على مغرب الاستقلال وبعد الاستقلال.

-5- قلت وكم يهواك من عاشق:

ينصب هذا الفصل على عدة مشاهد شبقية وجنسية تبين الفلسفة العبثية لشخصية الهادي. هذه الشخصية التي لا تؤمن بالدين وتضعه دائما قاب قوسين، وتعيش حاضرها من خلال اللذة ومغازلة الحياة والثورة على الواقع والتمرد على الكائن.ويستعرض الفصل دفً الأجساد في باريس ( البيضاوية) والقاهرة ومدريد.

-6- زمن آخر:

يعود الهادي إلى فاس لاسترجاع الذكريات والبحث عن الأم في رحيلها ووجودها الحلمي وتأمل المكان وعبقه التاريخي والحضاري. كما يستعرض الفصل الجيل الجديد جيل عزيزوفتاح ونادية عبر حفل زواج عزيز بن سي إبراهيم ولالة نجية، حيث تتغير القيم المثلى وتتحول إلى قيم كمية ومادية، وتبرز كذلك ثورة الشباب على واقع مغرب ما بعد الاستقلال على كافة المستويات. ويشير الفصل إلى صراع راوي الرواة مع المؤلف حول قضايا سياسية واجتماعية لا يريد المؤلف إثباتها لما لها من تأثير سلبي على الراوي وعلى المؤلف نفسه مثل: المناقشة حول سرقة أموال الشعب وتبذير الملايير في الحفلات الخاصة والعامة، وظهور جماعة الملياردية أو التعريض ببعض كبار موظفي الدولة وتصدير فتيات المغرب إلى الخليج أو الخارج لبيع الجسد والحصول على العملة الصعبة والتخفيف من البطالة، ورصد ظاهرة المخدرات وضياع الشباب...
و إذا كان راوي الرواة يتمسك بالسلبي، فإن المؤلف ينصحه بذكر ما هو إيجابي؛ لأن الإيجابيات أكثر من السلبيات. ولكن هذا الحوار بلغ مأزقه عندما لم ينته إلى اتفاق بينهما.

-7- من يذكر منكم أمي:

يحاول الهادي استعادة ذكرى أمه واسترجاع وفاتها من جديد عبر التأملات ليخلق حضورها ويفلسف وجودها، وليتصالح الهادي في الأخير مع الكل، ومع أخيه الطايع الذي قاطعه أمدا طويلا عندما حضر مع أخته ( لالة نجية) وزوجها ( سي إبراهيم) لمواساة الطايع ومشاركته حزنه حول مآل فتاح بسبب نضاله الوطني والحزبي. وكانت " الأم" طيفا حاضرا لجمع الشمل مرة أخرى.

وعليه، فلعبة النسيان تتكون من سبعة فصول تتجاذبها ثنائية الإضاءة والتعتيم. وتتخذ الرواية طابعا واقعيا وذاتيا ووطنيا وفلسفيا. ويمكن إجمال دلالات هذا العمل الإبداعي في المضامين الموالية حسب الفصول السالفة الذكر:
يرسم الكاتب في الفصل الأول( في البدء كانت الأم) صورة مثالية للأم، هي لالة الغالية سيدة الدار الكبيرة بفاس القديمة. وسميت بهذا الاسم؛ لأنها غالية لدى كل الناس ولدى الجيران ونساء الدار بالخصوص لمركزها وأهميتها الاجتماعية ودماثة أخلاقها وطيبوبتها. وهي أم الجميع بلا استثناء. هي أرملة غادرها زوجها قبل الخمسين، تزوجته لالة الغالية وهي صغيرة السن. وكان بعلها يتاجر في الكتان والملف، وربحه وفير؛ بيد أنه ينفق معظمه في الثياب والأكل والتعطر بأحسن العطور، ويكثر من الأفراح والولائم. وكان الزوج من أصل أندلسي استوطنت عائلته فاس منذ القديم. أما أب الغالية فهو فلاح بدوي معروف بالورع والتقوى. ولالة الغالية أم لولدين: الهادي والطايع وبنت أكبرهما سنا( نجية). رفضت الأم الزواج مرة أخرى لتربي أولادها وتعلمهم. ولم يترك لها الزوج سوى قبض كراء البيت والدكان الذي كان أخوها الطيب يأخذ منه ما هو في حاجة إليه دون أن تحتج عليه أو تنتقده في ذلك.
كان وجه لالة الغالية مدورا صبوحا، وبسمته ذكية، وجه ممتلىء بالحياء. إذ تحترم لالة الغالية العادات والتقاليد والشرائع، تكثر من الزيارات وصلات الرحم، طيبة ومؤمنة تزور الأهل والجيران والأقارب والأولياء الصالحين وتتبرك بالأضرحة وتتوسل بالشرفاء، كما أنها تحب كثيرا أولادها وأخاها سي الطيب وأمها العجوز. وهي كثيرة الإحسان والكرم والسخاء، ودودة مع الأهل والآخرين وبشوشة ومواسية وناصحة ومحترمة؛ ولا ننسى كذلك أنها مثال للصبر والتجلد ومواجهة الأمور والمصائب، تحملت مسؤولية الأسرة منذ أن ترملت واعتنت بالتدبير المنزلي، وعلمت ولديها: الطايع والهادي، بينما تكلفت ابنتها نجية بالطبخ والكنس والخياطة.
وكانت الأم كذلك مواسية لجيران الدار الكبيرة حيث أصبحت فيها هي الكل في الكل، وسيدة الدار تعطف على الجميع وتحن عليهم وتنصح النساء وتدعوهن للفطور وقضاء الوقت في الحديث، ولاسيما أمر انتقالها إلى الرباط لتزويج ابنتها نجية ومساعدتها في تربية أولادها وإنجاز الأمور المنزلية بعد اختيارها زوجة من قبل الشاب السوسي بفضل وساطة الشريف الصديق الوفي لزوج لالة الغالية وصديقا مخلصا كذلك للسوسي في الرباط.
وقد شكلت الأم ذكرى عظيمة بالنسبة لابنها الهادي بعد وفاتها إذ لم يعد يطيق الحياة بعد فقدانها؛ لأنها رحم الدفء والأمومة والطفولة والحياة السعيدة. وبعد موتها أصبح يحس الهادي بالاكتئاب والوحدة والضياع والاغتراب الذاتي والمكاني. وصارت مشاهد الأم وذكرياتها تلازم الهادي أينما حل وارتحل، يحس بحضورها وحنينها الخفي ووجودها في حياته. إنها ذلك الطائر النادر والواحة الظليلة. وكانت الأم كذلك نبراسا وضاء ينير حياة نساء الدار الكبيرة، ويدخل عليهن الفرحة والسعادة وحيوية العيش ودفء الطيبوبة. بيد أن وفاة الأم أثر على كل أفراد الدار الكبيرة ومزق القلوب وأثار الأشجان بعد دفنها في التراب لتحضر لديهم في شكل ذكريات ومشاهد واستيهامات وأطياف.
ويتعرض الفصل الثاني لشخصية " سي الطيب "، وهو أخ لالة الغالية، كان يقطن معها الدار الكبيرة، تزوج مرتين: الأولى توفيت وكانت طيبة مع الهادي. ويعد ذلك تزوج من " فاختة" التي جعل الهادي حياتها تعاسة وشقاء، ولم ترتح منه إلا حينما سافر مع أمه إلى الرباط. وسمي سيدالطيب بهذا الاسم لطيبوبته ودماثة أخلاقه. فهو ذو قامة مديدة وجسد ممتلىء ورجل فحل يلبس جلبابا شفافا في الصيف وجلبابين صوفيين خلال الشتاء. وهو عاقر لذلك تبنى ابن أخته لالة الغالية( الهادي) وأحبه كثيرا. وكان سي الطيب مسؤولا عن لالة الغالية. وهو الذي يقبض الكراء ويراعي الأولاد. ومهمته هي الحياكة والإتقان في العمل. وسهراته مابين المساجد وحلقات ترتيل الأمداح النبوية ورياض الجنان للنزهة والاستمتاع والمقاهي للعب الورق والتلذذ بالحياة وعطر الأشياء والأجساد. وقد اشتغل مع ابن الأخت الكبيرة لالة عايشة في تهريب القماش والكتان من الدار البيضاء بعد أن كسدت سوق الحياكة في فترة الحرب. وبعد ذلك صار بائعا للثياب في حانوت ملأها له ابن أخته بحي فاس الجديدة؛ إلا أن سي الطيب أدى به الإفلاس إلى أن يضحي بالربح ورأس المال بسبب مغامراته النسائية خاصة مع المرأة اليهودية المكتنزة التي أنفق عليها كل ما يملكه وجعلته يميل على اللذة وشرب كؤوس المتعة وسهرات الملحون والأندلسي.
ويلاحظ على سلوكيات سي الطيب التناقض؛ إذ يجمع بين عبادة الله وتقواه واللهو والمجون. فإلى جانب الجذبة الصوفية والمروءة ودماثة الأخلاق ومعاملة الجيران الحسنة واتصافه بالكرم والسخاء وحبه الشديد للوطن وميله إلى الفكاهة والنادرة. وكان في المقابل ماجنا ومغامرا يقبل على الحياة مختلسا منها لحظات الزهو بعيدا عن زوجته التي حولت حياته وحيات الهادي إلى جحيم. وبعد أن أخذ يحبو فوق الخمسين عاد إلى البيت وغدا أكثر استقرارا ورجع إلى مهنته الأولى، وجعل يداوم على المسجد وحلقات الذكر والأمداح.ويستدعي في نفس الوقت أصدقاءه للعب الكارطة. ولا يكون في أوج السعادة حتى تحضر أخته لالة الغالية وابنها الهادي لزيارته من الرباط. كل زيارة تكون احتفالا يغمر جميع سكان الدار. وتعترف كل نساء هذه الدار بطيبوبة الرجل ووداعته وملاطفته ومشاكسته لهن، والتوادد مع أولادهن وأزواجهن، ويتعاطف مع الجميع ،ويساعد الكل، ويقاسم جيرانه فرجة التلفزة، ويقدم لهم النصائح والتوجيهات السديدة.
أما الهادي فمكانة الطيب في نفسه كبيرة جدا، إذ أحبه حبا شديدا ولم يحس بهذا الحب إلا بعد وفاة خاله، فكانت وفاته فاجعة مأساوية. وأصبحت صورة " سي الطيب" لا تفارق الهادي، وتحضر مرتبطة دائما بالطفولة والأحلام عبر لحظات التذكر والاسترجاع. فثلاثون سنة مازالت صورة سي الطيب تغرس بطيبويتها في ذاكرة الهادي أروع المشاهد وأعظم المواقف الإنسانية.
وفي الفصل الثالث( ما قبل تاريخنا) يستعيد الهادي ما قبل تاريخه أي ما ورثه منذ طفولته من أحداث وذكريات شكلت تطور حياته الفردية عبر عمليات الاسترجاع والتذكر واستعادة لحظات المدرسة واللعب والمغامرات والمظاهرات. وعلى الرغم من كون الهادي في العقد الثالث من عمره، فهو مازال يتذكر طفولته في فاس أولا، والرباط ثانيا، لايمكن أن يتخلص منها لما تركته من رواسب في لاشعوره وذاكرته الحية؛ لأنها مثل الدم في الشرايين والحضور المستمر في إيقاع الغياب الأمومي.
منذ سنيه الأولى عرف الهادي بالدلال والشيطنة والمشاكسة خاصة عندما تبناه سي الطيب وزوجته الطيبة الأولى لكونهما عاقرين، فاحتضناه وعاملاه بحنان ودفء ودفء العطف ولبيا له كل ما يرغب فيه، وأصبح ولد الدار الكبيرة الأول، فلا يمكن لأحد أن يغضبه أو يزعجه حتى أمه لالة الغالية.
ويتسم الهادي بالوسامة وشعره المدلل ( الفريزي) على عكس أخيه الطايع الذي لم يحظ في أول الأمر بتلك التسريحة الشعرية الإفرنجية الجديدة، وأصبح الهادي مثار إعجاب بنات الدار يحاولن تقبيله واللعب معه. وكم كانت للهادي من مغامرات صبيانية مع بنات الحي ( مثل بنت أحد الفقهاء المتزمتين، وبنات الدار الكبيرة، والبنت الملثمة التي أخذت منه جلابية" لملف" ومغامرات شيطانية في " المسيد" والمدرسة والحومة. وكان يقضي معظم وقته في لعب الكرة أو الصراع مع أبناء الحي والعراك معهم بالأيدي أو الحجارة. وعندما رحل الهادي إلى الرباط حمل ولعه بالعراك والتحدي. لكن سي إبراهيم فرض عليه وعلى أخيه الطايع تربية صارمة تتمثل في العمل والاجتهاد والعبادة. وكان الهادي يقضي أوقاته في المراجعة والقراءة. إذ اطلع على أعمال جورجي زيدان والمنفلوطي والفونس دوديه. ولا ننسى أن نذكر اهتمامه بالشؤون الحزبية وحضور دروس الدين في الجامع الكبير وإعجابه بالفقيه العلامة المدني بالحسني أثناء إلقائه لدروس الحديث وتمكنه من الإلقاء وإفادة الناس. وشارك الهادي مع أخيه الطايع في المظاهرات والإضرابات الوطنية بعد نفي جلالة الملك محمد الخامس إلى مدغشقر وكورسيكا بحماس وطني لا نظير له.
وبعد مرور سنوات الطفولة والمراهقة مازال يتذكر وفاة أمه الثانية زوجة سي الطيب عندما كانت جسدا أبيض يغسل ليوارى في التراب. وكثيرا ما كان إيقاع الجسد أو بياضه الناصع يذكره بالموت ومغسل المرأة الطيبة التي دللته كثيرا كأنه أمه الحقيقية وليست لالة الغالية، ولاسيما أن هذا التذكر ينتابه أثناء قضاء لحظات المتعة الجسدية مع المراة الأجنبية التي لقيها بالمكتبة، وكان حديثها حول العالم الثالث والذي أدى إلى التجاذب الجسدي. وكان هذا الجسد الأبيض يوحي للهادي- الضائع بين الخمرة وشهوة الخطيئة- بالموت وطفولته بفاس بين أحضان سي الطيب وحنان فاس، وسكانها المنشرحين الذين يقضون أوقاتهم في العمل ولعب الكارطة والغناء والمرح والنزهة في الحدائق العمومية. إنها طفولة مدينة الرحم والأمومة والعطاء والسخاء. وهكذا، فمن خلال الجسد والذاكرة تستعاد الطفولة والتاريخ والمراهقة، ويتداخل الحاضر مع الماضي وينجذب الشعور إلى اللاشعور، ويتقاطع العبث مع الوجود الطفو لي والأمومي من خلال ثنائية الموت والحياة.
ويحيل عنوان الفصل الرابع ( ثم يكبر العالم في أعيننا) على التغير الذي طرأ على شخوص الرواية ولاسيما الهادي الذي انتقل من فاس الطفولة، المدينة الرحم أو الواحدة الموحدة إلى الرباط حيث سيكتشف عالما آخر مليئا بالمتناقضات، عالم الأشخاص والأشياء قوامه الاختلاف والتنوع والتعقيد، وبعد ذلك يبدأ الفصل بتمرد السارد أو راوي الرواة على الكاتب، إذ أراد أن يتدخل في السرد ليقوم بمهمة التنسيق والتوجيه والتحكم في دفة السرد وإضاءة الأحداث أو إخفاءها وتعتيمها وتصحيح الأخطاء التي قد يرتكبها الكاتب أو تشويه الصورة التي يريد تزيينها، أي أن راوي الرواة سيتدخل ليفضح اللعبة السردية بكشف ألغاز البناء الروائي والتعددية الأسلوبية ويبرز الجوانب الشعورية واللاشعوريةالتي تنطوي عليها الشخصيات الروائية من خلال الربط الخاص بالعام. وبذلك يفرض راوي الرواة شروطه على الكاتب لمواصلة الحكي عبر التدخل في المسار الحكائي لتقويم الشخصية وفهم أبعادها الذاتية وظروفها الموضوعية.
ومن المواضيع التي تم تسليط الضوء عليها من قبل راوي الرواة " الإغراءات الجنسية" التي كان محورها الهادي الوسيم أثناء طفولته، حيث كان الولدان يلاطفونه خاصة الفتى البقال السوسي بالقرب من الدار الكبيرة، وقصة " الضب" الذي فض بكارة تلميذة عند انصرافها من المدرسة بوحشية وفضاضة. وأصبحت صورة الفتاة العارية راسخة في ذاكرة الهادي تغيب وقتا وتحضر عندما يشاهد الأفلام الإيروسية كالفيلم الياباني بباريس الذي ذكره من خلال مشاهده الشبقية بالضب بعد عشرين سنة.
ومن شخصيات هذا الفصل "سي إبراهيم" الذي يناهز عمره الستين. وهو من مواليد " آيت باها"، لم يدخل المدرسة قط، ولكنه يداوم على الصلاة وارتياد المساجد. قضى سي إبراهيم حياته راعيا في سوس. وبعد سنوات الجفاف والقحط قرر السفر إلى الرباط وذلك بفضل الشريف الذي أقنع أباه ليتركه يرحل بحثا عن العمل والرزق. وقد نزل إبراهيم بالرباط وأقام عند ولد عمه. وأصبح ماسحا للأحذية، وبعد ذلك خادما في مقهى" بار هنريس" قرب محطة القطار. وبعد مدة تعارف سي إبراهيم على الشريف الذي زوجه لالة نجية، المرأة الطيبة الصبورة. وسي إبراهيم رجل مخلص لا يتدخل فيما لا يعنيه وساذج وطيب السريرة. بيد أنه شديد الصرامة في تربية أولاده وتعامله مع أولاد لالة الغالية( الطايع والهادي)، يكثر من النصائح والمواعظ ويتشدد مع النفس قبل الغير. وسي إبراهيم كذلك مثال للتقوى والعمل والجد. وقد اشترى منزلا وبدأ في استثمار مدخراته. وأنجب أحد عشر ولدا وبنتا. وبعد ثلاثين سنة من الدأب والكفاح، انتهى بحياة مستورة وشريفة. يتأقلم فيها مع الواقع على الرغم من المتناقضات وتنوعها المعقد.
هذا وإن سي إبراهيم يثير فضول الهادي والطايع خاصة عندما يقص عليهما سيرته وبطولاته وحكاياته، حيث يجنح كثيرا إلى التخريف والتخييل والتهويل بسبب استرجاعه لأفلام شاهدها أو أحلام منامية أو أحلام اليقظة ليثأر من المعتدي؛ ولكنه واقعي يحس بالعجز والضعف والجبن( مثال: ضربه للأمريكاني بالمطرقة أثناء وجوده بالبار). وهكذا أصبح سي إبراهيم عند أولاده رمزا للصرامة والغموض والدأب والبساطة في الحياة والاقتصاد في المعيشة.
أما عن لالة نجية فهي زوجة سي إبراهيم ابنة لالة الغالية، زوجها الشريف صديق أبيها الوفي من سي إبراهيم وسنها لم يجاوز الخامسة عشرة. ومن خصالها الحياء والخجل والرزانة والتعقل والصبر وطاعة الزوج والسهر على خدمة الأسرة بكل مافيها. وسي إبراهيم يعتني بها ويحرص على تعليم أولادها ومساعدة الطايع والهادي أخوي نجية. وكانت زوجة سي إبراهيم تشبه أمها في الطيبوبة ودماثة الأخلاق والصبر والرحمة والحنان وتدبير شؤون المنزل والإكثار من النسل والعمل على تربيتهم بمساعدة أمها التي لم تأت من فاس إلا لذلك.
ولالة نجية مثال للطف مع نساء الجيران خاصة لالة كنزة وأولادها. ولما انتقلت إلى منزلها الجديد حافظت على ذلك الوصال الحميمي وصلة الرحم وتبادل الزيارات. وكان الهادي يميل كثيرا إلى أخته نجية، إذ ينظر إليها على أنها أم ثانية تحمل قسمات الأم الحقيقية، بله الألفة التي تجمعها منذ الطفولة وحبه العميق لها حبا شعوريا غامضا ودفينا مبعثه طيبوبة الأخت ودماثة أخلاقها وحسن نيتها في الآخرين. وكم كان الهادي منبهرا بصورة أخته العظيمة وفلسفتها في الحياة القائمة على الرضى والقناعة والتضحية و التفاني في خدمة زوجها وأولادها وحب الآخرين.
أما الطايع فلا تختلف طفولته عن طفولة الهادي لاشتراكهما في اللعب والمدرسة والمغامرات والمظاهرات. فإذا كان الهادي مجدا في دراسته، والدليل على ذلك حصوله على شواهد جامعية عليا، فإن الطايع قضى عشرين سنة في النضال الحزبي والنقابي والكفاح الوطني ودافع كثيرا عن شعارات جماهيرية وشعبية. بيد أن هذه السنين التي كرسها الطايع للفعل داخل الميدان لم تعد عليه بالنفع ولا بالانتصار. فقد خان رؤساء الأحزاب والنقابات وأطرها الفاعلة القضية وغازلوا السلطة وضاع المناضلون الصغار. فيالها من نتائج مفجعة!ويالها من حسرة تنخر ذاكرة الطايع الذي ثار على نضاله وأوهامه واقتنع أخيرا بلا جدوى العمل السياسي واختار مهنة التدريس، وتزوج من معلمة كانت تشاركه همومه وآماله وطموحاته المستقبلية. وتخلى عن الماضي والذاكرة الوطنية بمفهومها السلبي، وبدأ في تجربة أخرى بمثابة خلاص حقيقي له من أزماته الذاتية والموضوعية يتمثل في قراءة الإسلام وعبادة الله وأداء الصلاة وانتظار الموت والاهتمام بشؤون المنزل والأولاد.
وكم كان الطايع مختلفا مع الهادي أخيه الصغير الذي أنفق عليه الكثير من أجل أن يتابع دراسته الجامعية على عكس الطايع لم يستكملها. إذ اكتفى بالشهادة الابتدائية لينخرط في العمل ليساعد أمه. وما يتذكر من طفولته حبه لخديجةابنة الجيران، بنت خالته كنزة كما يناديها حيث كانت له معها لحظات رومانسية انتهت بزواجها بفقيه تحت ضغط والدها.
هذا وقد ضحى الطايع بكل شيء من أجل الوطن والصالح العام. وكم كانت خلافاته حادة مع الهادي الأناني والعابث الذي لا يبالي بالدين ولا بفلسفة الزواج، يتكيف مع الواقع بعيدا عن الفعل والنضال. ويرى الهادي أن احتجاجات أخيه الطايع نتاج للفشل والأوهام التي عاش من أجاها دون أن يعرف حقيقة الأمور ويختبر الواقع عن قرب ليكشف زيف الادعاءات ونفاق الشعارات السياسية. وما الدين سوى ملجإ يهرب إليه الطايع لينسى كل شيء ويقطع صلته مع الماضي الدفين.
وتبين تطورات الظروف وتوالي العقود على مدى ثورة الهادي والطايع وتمردهما على الواقع المرير الذي انحرفت فيه القيم والمقاييس وتخلخلت العلاقات الإنسانية، بينما حاول سي إبراهيم ولالة نجية أن يمتصا هذا الواقع وأن يتكيفا معه" كأنهما اسفنجتان، فلا يبدوان على خلاف معه-على حد تعبير الكاتب – ظلا في أحشائه دوما، لكن كأنما عاشا مسورين داخل هذه الدنيا، تحرسها عناية خفية من أن تصيبهما شظايا الألم" .
وينتهي هذا الفصل برصد المتناقضات التي كان يعيشها مغرب السبعينيات على جميع المستويات حيث يحيل على القبضة الحديدية للسلطات الحاكمة والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية وعبثية الحياة وترداد الشعارات السياسية الجوفاء وطغيان السلطة ونماء جبروتها على حساب حقوق الشعب وتلذذه بالفقر المدقع وأمله الخائب في صراخه السيزيفي الضائع.
ويستعرض الهادي في الفصل الخامس ( قلت وكم يهواك من عاشق) مراهقاته الشبقية واشتعال لغة الجسد والشهوة من خلال تحريك الذاكرة واستدعاء المشاهد الجنسية والحياة الأبيقورية التي انغمس فيها إلى أخمص قدميه. ثلاثة فضاءات تشكل مسيرة كينونته الوجودية، وهي تتمحور حول العطش الجسدي وإشباعه عبر الارتواء الجنسي وارتشاف خمر النسيان واللذة. وهذه الفضاءات هي: القاهرة ومدريد وباريس. وهي تشكل الخارج أو الفضاءات المفتوحة التي كان فيها الهادي يعاني من الاغتراب الذاتي والمكاني لمواصلة دراساته الجامعية والاسترواح النفسي كذلك.
إنها مشاهد جنسية مرتبطة بفضاءات معينة. وهي فضاءات عاصمية ( القاهرة – مدريد- باريس) إدارية وسياسية. ففي القاهرة ضاجع الهادي امرأة اعتقد أنها ليست جميلة؛ ولكنه وجدها مرعبة في بشاعتها مادامت تضاجع مراهقا ورجلا وسيما. وكان هذا المشهد الجنسي عاديا وطويلا؛ بيد أنه لم يتطور، لذلك تخلص منه الهادي ليبحث عن خياله من جديد في شوارع القاهرة الغاصة.
وفي مدريد يتكرر المشهد الجنسي حيث يتعرف الكاتب على فتاة أو امرأة من باريس، وجهها الأبيض واللثغة المحببة، عندما تتحدث بالعربية تذكر الهادي بالطفولة ومدينة فاس مدينة البدء. وكانت عشيقته سخية، إ ذ جعل الكاتب من بيت إحدى الراهبات مرتعا للصراع الشبقي والارتواء اللحظي وتداخل الجسدين وتشابكهما للتعبير عن العطشين الدفينين بلغة الجنس و الخمرة.
وفي باريس تعرف الكاتب على امرأة مغربية من الدار البيضاء. وهي طالبة جامعية فقدت أمها أثناء مغرب التحولات، ولم تستطع أن تعيش مع زوجة أبيها فاختارت العزلة والقراءة، وجعلها الهادي مطية أفكاره وفلسفاته الوجودية والماركسية والفرويدية، وميدانا للشبقية والتنفيس والتعويض واسترواحا نفسيا خاصة أثناء تواجده طالبا بباريس، وقضى معها حياته البوهيمية العبثية في الاستمتاع والارتواء. وكانت بينهما مراسلات تشخص حبهما والرغبة الدفينة في الإشباع واللذة وتذكر لحظات الانجذاب والتآلف والعناق والانطفاء.وتعبر كل هذه المشاهد عن مدى إحساس الهادي بالوحدة والغربة الذاتية والمكانية أثناء مغادرة الوطن بعد انفصاله عن مركز الطفولة وذاكرة الأمومة. إنه يعيش لحظات الضياع بعيدا عن لحظات الفعل والمسؤولية كالتي عاشها الطايع أخوها. إن الهادي لا يؤمن بهذا الفعل المؤدلج. إنه يبحث عن العلم واقتناص الهوى والفرص لتحقيق ذاته للانغراس في تربة الحياة مادامت تنتهي بالموت. لذا على الإنسان أن يعيش لحظات الحاضر ليحس بوجوده وكينونته.
ويحيل الفصل ما قبل الأخير( زمن آخر) على عودة الهادي إلى فاس عبر الاستذكار والاسترجاع واستدعاء الذاكرة لينقل لنا فضاء المدينة بأبعادها الحضارية والجغرافية والإثنوغرافية. كأن هذا الرسم المنقول صورة إشهارية أو لقطة سياحية. إنه يرسم تقاسيم المدينة ومظاهر العتاقة والأصالة فيها وما طرأ عليها من تمدين وتحديث وتحولات مست القيم والأخلاق والسلوكيات والناس بل الحيوانات كذلك. إذا انتقلت فاس من طابعها الفطري " البريء" الصافي إلى طابع التحديث المادي الاستهلاكي، كما تغيرت المرأة وأصبحت عصرية أكثر، كما تحول الشباب وتهافتوا على الموضات الجديدة المستوردة. فكل شيء تغير في فاس. إنه المكان في تفاعل جدلي مع تغير الزمان. ويستحضر الهادي وطنية فاس وصمودها في وجه الاستعمار وقراءة اللطيف في المساجد والكفاح الوطني ومظاهرات العمال من أجل الاستقلال، ويقارن كل هذا بفاس الحاضر، فاس الشعارات السياسية والأحزاب والبرلمان، بين فاس الصدق والأصالة، وفاس الزيف والكذب، وبين فاس القيم الوطنية والعراقة الحضارية والدينية وفاس التحولات والاستهتار بالقيم والنفاق الاجتماعي والسياسي.ومن الأمثلة على هذه التحولات على فاس الحاضر زواج ابن سي إبراهيم ولالة نجية " عزيز" من سعيدة. فبعد تخرج عزيز من كلية الحقوق، شعبة الاقتصاد، اشتغل في مكتب التسويق والتصدير وبذل جهدا كبيرا في شغله لإرضاء رؤسائه رغبة في الترقي وتحسين أوضاعه المادية. ولم يجد بدا من أن يتزوج من سعيدة الصيدلية من وسط متبرجز، أبوها مدير بنك تجاري لتحقيق التوازن الاقتصادي وتوفير مستقبل مادي زاهر على الرغم من كونها متوسطة الجمال وكبيرة السن. وتم العرس في فاس بدل الدار البيضاء للتقرب من الأهل والجيران والأحباب، وتخلل هذا الحفل مشاهد موسيقية أندلسية ورقصات النساء والرجال معا، واختلاط الذكور مع الإناث.
ومن المواضيع التي انصب حولها الحديث من قبل المدعوين: تزوير الانتخابات والوضعية السياسية المتردية، واستيراد الحبوب بسبب الجفاف، والبطالة وانعدام آفاق المستقبل أمام الجيل الجديد بعد حصولهم على الشواهد العليا، وانعدام التواصل بين الأجيال بصفة عامة، والسمسرة في الصفقات المخصصة للاستثمار الغربي والشرقي في المغرب، والتباين الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء كما يظهر ذلك من خلال افتخار زوجة المحامي بثوبها الجديد ( أنت عمري) الذي يساوي مليونا من الفرنك، وقد جلبه لها من دمشق أثناء دفاعه عن سمسرة استثمارية.
وكان الجدال حادا في الغرفة التي تجمع فيها الجيل الجديد مع الجيل الماضي، حيث فتاح وإدريس ونادية وعبد السلام وطلبة الآداب والحقوق والهندسة والطب. ودار حديثهم حول الواقع المغربي وآفاقه المستقبلية. فإذا كان الجيل الأول قد ارتبط بالماضي والوطن وعاش كالبشر الآخرين، فإن الجيل الجديد يرفض هذا الوطن بسبب الفراغ الذي ينخره، والبطالة التي تأزمه، كما أن مستقبله غامض. لذلك فلا خط يصل بين هذين الجيلين؛ لأن الجيل الأول بماضيه ولا مستقبل ينتظره، والجيل الجديد بلا ماض؛ ولكن بمستقبل. وكانت مقاربات الشباب للمشكل تنطلق إما من رؤية يسارية وإما من رؤية إسلامية كما هو الشأن لدى عبد السلام.
ولم تنته هذه الجدالات السياسية الحادة إلا بحضور العروس إلى الفيلا واستكمال الترتيبات الأخيرة كالأكل والشرب وتصوير العروسين بالفيديو والتجول بهما عبر أزقة المدينة احتراما لتقاليد الزفاف الفاسي.
وينتهي هذا الفصل بحوار حاد بين راوي الرواة والمؤلف، إذ كاد أن يستقل السارد الجريء ليترك المؤلف وحيدا حائرا لا يلوي على شيء، ولا يعرف من أين سيبدأ حكيه وأين سينهيه، ويكون – بالتالي- السؤول الوحيد عن سرده وحكيه. وسبب هذا الصراع هو رغبة راوي الرواة في إخبار القارىء بخلافه مع المؤلف حول عدة قضايا ظاهرة وخفية، ومنها قضية تشطير الزمن إلى زمنين، زمن سي إبراهيم ولالة نجية والطايع والهادي، وزمن فتاح وإدريس ونادية وعبد السلام. بيد أن راوي الرواة يرى أنه زمن واحد يعاش بأوعية مختلفة، وأن الجيل الأول مازال ممتدا في الجيل الثاني، أي أن الماضي مازال حاضرا في الآني، فمن الصعب الفصل بين الماضي والحاضر. فكل واحد يكمل الآخر. ومن الصعب كذلك أن نحدد زمن شخوص الفصول السابقة بفترة معينة ومعظمهم ما يزال في النص حيا يتكلم" وهل يكفي سخطهم على الحاضر لنعلن انفصالهم عن هذا الزمان وناسه، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار معايشتهم لأبنائهم وبناتهم وأقاربهم، لا مجال للتردد، في نظري، إذا أردنا أن نصور الزمن الآخر من أن نفترض الامتداد والتداخل، ومن أن نجعل مظاهر الانقطاع أقل مما قد توحي به الأحداث " الخطيرة" والإحصائيات، وتبدل القيم".
ويقترح راوي الرواة على المؤلف بديلا سرديا هو متابعة تغيرات الشخوص من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وأفكارهم بدل تقسيم الزمن إلى زمنين؛ لأن الزمن ديمومة سرمدية واحدة تعاش بقوانين وثوابت خاصة، فما الشخوص سوى كائنات تعاني من وطأة الزمن.
وامتد الخلاف أيضا إلى رغبة المؤلف في قراءة ما بين السطور لهذا الزمن الجديد مثل ( ثراء الملياردية)، والتبذير الكبير في الحفلات العامة والخاصة، والتعرض بكبار موظفي الدولة بسبب الرشوة والاختلاس ،وتصدير الفتيات إلى الخليج وبعض دول أوربا لجلب العملة الصعبة أو ترويجا في الداخل بشرط حصولها على الإجازة والتخصص في الدلك والرقص لإرضاء الزبناء للتخفيف من البطالة، وانحراف الشباب وعيشهم على إيقاع المخدرات. ويطالب راوي الرواة المؤلف بذكر الإيجابيات إلى جانب السلبيات. وما أكثر الإيجابيات في بلاد يقهر فيه الإنسان صباحا ومساء ونهارا وليلا. ويلعن ويسب بلا كرامة ولاشرف. وقد انتهى هذا الخلاف الحاد إلى التراضي بأن يتولى راوي الرواة الفصل المعنون " زمن آخر" بالسرد والرواية.
وفي الفصل الأخير( من يذكر منكم أمي) يحاول الهادي أن يسترجع ذكرى أمه من خلال لعبة الاستدعاء والتذكر والنسيان. تلك الأم التي أنهكها مرض القلب بسبب تحملها لهموم كل الناس. لهذا حاول الهادي أن يتناسى طفولته "الأمومة" من خلال تلذذه بالغربة، ومضاعفة ساعات الشغل والاجتماعات والسهر مع الأصدقاء، والبحث عن اللذة المباحة والمشاهد والصور الدفينة في المخيلة. وكثيرا ما ينهي هذا الحضور الأمومي بتقبيل يد الأم أو وجهها إعلانا لطاعته لها وحبه لها. إن فقدان الأم بالنسبة للهادي ضياع وأيما ضياع. إنه اغتراب وجودي. فالإنسان بلا أم كأنه بلا هوية ولا ماض وبدون حاضر كذلك. الأم هي كل شيء بالنسبة للهادي.
وهذه الأم هي التي كانت وراء تصالح الهادي مع الطايع أثناء اعتقال ابنه فتاح الذي اتهم بالتخريب، وذلك عندما استحضرت لالة نجية صورة أمها لالة الغالية تحثها على اتحاد الإخوة و تصافي القلوب وجمع الشمل، إذ طلبت من سي إبراهيم أن يصحب معها الهادي لزيارة الطايع لمشاركة أحزانه والوقوف معه في هذه الشدة. وفعلا، تم اللقاء الأخوي وعادت المياه إلى مجاريها؛ ليستسلم الهادي لمشاعر الأمومة ومساعدة الأهل والجيران والأقارب نيابة عن أمه لالة الغالية.

-4 – الشــــــــخـــــصـــــــــيات:

تحوي لعبة النسيان عدة شخصيات بعضها رئيسي مثل: لالة الغالية ولالة نجية وسي إبراهيم وسي الطيب والهادي والطايع وعزيز والبعض الآخر ثانوي مثل فتاح ونادية وإدريس والجيران والشريف...
وتتمحور هذه الشخصيات كاها حول شخصية الأم لالة الغالية باعتبارها الرحم والمصدر الأمومي الأصل الذي تفرعت عنه باقي الفروع الأخرى.
ويمكن اختزال هذه الشخصيات في السمات والصفات والوظائف التالية:

الوظائف القيم الأخلاقية الوظائف الاجتماعية الأوصاف الخارجية دلالات اسم العلم الشخصيات
تحمل مسؤولية الأسرة- التدبير المنزلي- مساعدة ومساواة جيران الدار الكبيرة- زيارة الأهل والأقارب والأولياء الصالحين- الانتقال إلى الرباط لتزويج ابنتها ومساعدتها في تربية أولادها والتدبير المنزلي وإعالة أولادها- الوفاة. طيبة- مؤمنة- تصل الرحم- تحب أولادها وأخاها وأمه محسنة- ودودة مع الأهل والجيران والناس- بشوشة مواسية وناصحة ومحترمة لطيفة- ظريفة ومربية صالحة. أرملة مكافحة. وجه مدور صبوح- بسمتها ذكية- وجه ممتلىء- ملثمة تلبس الجلابيب. سميت بهذا الاسم لأنها غالية على الجيران ونساء الدار الكبيرة لمركزها وأهميتها الاجتماعية ودماثة أخلاقهاوطيبوبتها. فهي أم الجميع بلا استثناء. لالة الغالية
مسؤول عن لالة الغالية- إتقان الحياكة- زواجه بفاختة بعد وفاة زوجته الأولى- تبني الهادي- العمل في الدراز سهراته في المساجد وحلقات ترتيل الأمداح – تهريب القماش والكتان- التجارة- الإفلاس- التوبة- الوفاة. محبوب – متناقض في سلوكه- دماثة متناهية – الجمع بين العبادة و والمجون- المروءة- السخاء والكرم. يشتغل في صناعة الحياكة والخياطة ويتاجر في الكتان. قامة مديدة- جسد ممتلىء-فحل- يلبس جلبابا شفافا في الصيف وجلبابين صوفيين خلال الشتاء- عاقر سمي بهذا الاسم لطيبوبته ودماثة أخلاقه سي الطيب
رعي الأغنام بآيت باها- الانتقال إلى الرباط بعد الجفاف- الاشتغال ماسحا للأحذية ونادلا- الزواج بلالة نجية- إنجاب الأولاد- تحمل مسؤولية الإنفاق والتربية الصالحة- شراء منزل بفضل عرق جبينه- حياة مستورة وسعيدة. متدين- ساذج- قانع حامد-متزمت- كثير النصائح- جدي- كريم في اقتصاد – حاج- مستقيم- غامض ودؤوب. كان ماسحا للأحذية ثم صار نادلا في بار هنريس. كان شابا جميلا- ممشوق القامة- عيناه عسليتان- شعر فاحم –ابتسامته لطيفة- يكثر من لبس القمصان البيضاء بدون رقبة- يلبس البابيون الأسود- يركب الدراجة. اسمه يحيل على الطابع الديني سي إبراهيم
الزواج بسي إبراهيم –الانتقال من فاس إلى الرباط- التدبير المنزلي- تربية الأولاد-الاجتماع مع نساء الجيران- الانتقال إلى البيت الجديد- مساعدة إخوتها ومواساتهم- الحرص على صلة الرحم- الفرح بأولادها ولاسيما ابنها عزيز. صبورة خجولة- سابقة لسنها- عاقلة- كريمة- لها خصال أمها- ودودة- طائعة وراضية. امرأة متزوجة من سي إبراهيم، و ربة البيت ومسؤولة عن تدبير المنزل وتربية الأولاد. الخجل والحياء-تضررت صحتها بكثرة الولادة- مبتسمة- وجه بشوش مدور- سمت الوقار يطبعه الحزن- أمية- يهدد المرض عينها اليمنى بعد أن كبرت في السن. اسم يدل على النجاة من العقاب وعلى الإيمان والتضرع والتبتل. لالة نجية
الدراسة في المدارس الحرة- المراهقة والشيطنة – مساعدة الأم أثناء العطل- الإقامة عند سي إبراهيم- إعالة أخيه وأمه- مساعدة الهادي على التعلم- النضال الوطني- الالتحاق بمدرسة حرة معلما – الزواج- إنجاب فتاح- بعد إهماله لأولاده في فترة النضال صار إسلاميا يهتم بأولاده ومنزله. وطني مناضل- حركي دؤوب وعملي- رجل غيور صالح- معلم الابتدائي وسيم- أكبر سنا من الهادي- يتيم- ابن لالة الغالية. دلالة على طاعته لوالدته ولمبادئه التي يؤمن بها الطايع
الدراسة في المدارس الحرة- المراهقة- عيشه مع خاله سي الطيب- الانتقال إلى الرباط- دراساته بالقاهرة وباريس- الصحافة- الانتقال بين الرباط وفاس. مدلل في صغره- مجتهد- متأن- مفتون بالجسد والحب ولذة الحياة- لا يؤمن بالزواج وحياة الاستقرار- ثائر عبثي- أناني- يضع الدين قاب قوسين. صحفي وصاحب شهادة عليا. وسيم- يتيم- غزال- رقيق- أصغر سنا من الطايع- دلالة على مدى هدوئه وكثرة تأملاته وتصرفه بهدوء أثناء حديثه. الهادي

إذا، هناك شخصيات نامية ومتطورة ودينامكية في الرواية مثل: الهادي والطايع وفتاح وسي الطيب، وشخصيات ثابتة ستاتيكية مثل: لالة الغالية ولالة نجية وعزيز وسي إبراهيم. ويلاحظ كذلك أن هناك علاقات تواصلية مختلفة مثل:علاقة العداء وعدم التفاهم بين الهادي والطايع، وبين الهادي وفاختة، وعلاقة حب البنوة أو الأبوة( حب الأولاد للغالية)، أو القرابة( سي الطيب- الأحفاد وحبهم للهادي...)، أو المصاهرة( سي إبراهيم...)، وعلاقة جنس وحب شبقي( الهادي مع القاهرية والمدريدية والبيضاوية في باريس...، وسي الطيب ومغامراته مع المرأة اليهودية التي أودت به إلى الإفلاس...).وهذه الشخصيات من أجيال مختلفة، فهناك جيل الاستعمار( لالة الغالية- سي الطيب- الشريف...)، وجيل الاستقلال( الهادي والطايع ولالة نجية وسي إبراهيم...)، وجيل ما بعد الاستقلال ( فتاح- نادية – سعيدة- إدريس...). وهذه الأجيال مختلفة في مواقفها، فهناك جيل راض على واقعه( الأم- سي الطيب...)، وجيل متوتر ومتردد يتكيف مع الواقع على الرغم من رفضه له، وجيل ثائر وناقم على الواقع خاصة واقع ما بعد الاستقلال بسبب بطالة الخريجين، وتغير القيم واختلاف المنظورات وعدم الإيمان بالوطن الذي لم يحقق للشباب الطموحات والآمال التي يتعلقون بها.
ولعبة النسيان من خلال هذا الوصف الفيزيولوجي والاجتماعي والأخلاقي تبين أن هذا النص الروائي هو نص الشخصيات في تشابكها العائلي واختلافها في المواقف وصراعها مع الموضوع، وامتدادها إلى الماضي عبر الأصول ( لالة الغالية)، والفروع( الهادي- الطايع- سي إبراهيم)، ماداموا حواشي تتشرب من معين الدفء العائلي العريق عبر جدلية الفضاء ( فاس- الرباط- المغرب –الخارج)، والزمن( الاستعمار- الاستقلال- ما بعد الاستقلال).
ويتم نقل هذه الشخصيات وتصويرها وتفسير منظوماتها الذاتية والموضوعية من خلال الامتداد والاسترجاع والتذكر واستدعاء الماضي واستشراف المستقبل واستنطاق الحاضر بوعي جدلي ( فتاح- الأحفاد الجامعيون).
ويمكن أن نصنف شخصيات الرواية إلى شخصيات إشكالية، وشخصيات متصالحة، وشخصيات مندمجة. إن الشخصيات الأولى تحمل قيما أصيلة وتحاول غرسها في مجتمع منحط؛ ولكنها تفشل في زرعها وينتهي بها المآل إلى اليأس والثورة والتمرد كما هو حال الطايع والهادي وفتاح. أما الشخصيات المتصالحة فهي التي تتكيف مع الواقع وتنصهر في بوتقته كيفما كانت الأحوال، يتحكم فيها الوضع والزمن وتحلل الأمور بسذاجة وسطحية، وهي شخصيات سلبية وإشكالية كذلك مادامت تقبل المصالحة والتطبيع مع الواقع السلبي، ومن خير من يمثل هذا الصنف من الشخصيات سي إبراهيم وعزيز. أما الشخصيات المندمجة فهي " تلك التي تبتهج بالحياة، وتعيشها بامتلاء دونما إحساس بشرخ في كينونتها"، وندرج ضمن هذا المحور الأم وسيد الطيب.
ويمكن اقتراح تصنيف آخر للشخصيات من خلال البعد السوسيولوجي. فهناك:
1- شخصيات الوعي الممكن( الطايع- الهادي- فتاح)، حيث تستحضر الذوات المستقبل، وتستشرف غدا أفضل من خلال الرفض للواقع السائد والموضوع الكائن عبر التمرد واليأس والنضال النظري والعملي.
2- شخصيات الوعي الكائن، وهو وعي سائد، قد يكون زائفا ومغلوطا، ويمثل هذا الوعي: الأم، لالة نجية، سي إبراهيم، سيد الطيب، فالوعي الأول إيجابي، والثاني وعي سلبي
5- الوصـــــف فـــــي الروايـــة:

التجأ محمد برادة في لعبة النسيان إلى تقنية الوصف أثناء تعطيل الزمن والوقفات لتشخيص الفضاءات ووصفها كما فعل عندما وصف فاس البالي والدار الكبيرة إلى جانب وصف الشخصيات من خلال أبعادها الفزيولوجية ووظائفها الاجتماعية وإنجازاتها السردية وقيمها السيكولوجية. ويؤثث هذا الوصف الفضاء ويقدم الشخصيات ويعرض الإطار العام الذي يرسم البرامج السردية سواء أكانت سطحية أم عميقة. ويغلب على هذا الوصف الطابع الواقعي والنظرة الإثنوغرافية السياحية خاصة عندما يصف الكاتب فاس البالي والدار الكبيرة وحفلة زفاف عزيز على غرار وصف عبد الكريم غلاب في دفنا الماضي والمعلم علي. ويستند الكاتب في وصفه إلى التطويل المعتدل دون الإسهاب في ذكر النعوت والصفات والأوصاف التفريعية، بل يكتفي بما هو عام دون ما هو خاص وجزئي ولا يبالغ في التطويل كما عند فلوبير في ( مدام بوفاري)، أو بلزاك في رواياته الواقعية أو زولا في جيرمينال؛ بل يكتفي بلوحة وصفية لا تتعدى صفحة واحدة إلى صفحتين، لينتقل من السرد الوصفي إلى المشاهد الدرامية والخطاب المعروض أو الذاتي.
والوصف غالبا ما ينصب على الشخوص والأشياء والأمكنة والوسائل، ويحضر في الرواية كثيرا وصف الشخصيات بأبعادها الداخلية والخارجية( الأم- سي إبراهيم- سيد الطيب- لالة نجية- الهادي- الطايع...)، ووصف الفضاءات بهندساتها المكانية وقيمها الإنسانية( فاس- الرباط- فيلا العرس- المقهى الذي يشتغل فيه سي إبراهيم......- الدار الكبيرة....). ولم يقتصر الوصف هنا على التزيين وتأثيث الديكور، بل هو وصف دلالي ووظيفي وخلاق؛ لأنه يوحي بدلالات عديدة ومعان شتى.

6- الفضــــــــــاء الروائــــــــــــي:

تدور أحداث الرواية في فضائين متقابلين داخليا: فضاء فاس وهو فضاء حميمي عريق في أصالته مرتبط بلالة الغالية، إثنوغرافي بعاداته ومعماريته خاصة فاس القديمة بدروبها وسكانها وحيواناتها وحرفها مع التمدين الحداثي في فاس الجديدة. ارتبطت شخوص الرواية بفاس الأصالة التي تمثل الأم الغالية وطيبوبتها وميلادها الحقيقي وميلاد أولادها ( الطايع- الهادي- نجية). إن فاس هي الزمن الضائع والرحم الأصل والبداية والنهاية، لتتم الرحلة إلى الرباط حيث لالة نجية، إنه فضاء التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وإذا كانت معظم الشخوص المحورية ارتبطت بهذين الفضاءين الداخليين، فإن الهادي قد انفتح على فضاءات خارجية مثل: القاهرة وباريس ومدريد.
ولقد أسهب الكاتب في وصف فاس القديمة مستعرضا قسماتها الفسيفسائية ومظاهرها البانورامية وأشكالها السياحية على طريقة عبد الكريم غلاب في دفنا الماضي على عكس عز الدين التازي الذي اعتبرها مباءة وموت ونهاية وجودية وعبثية. فإذا كان الكاتب قد ركز كثيرا على وصف فاس محاولا استرجاع ذكرياتها وذكريات الأم، فإن الرباط لم يكن إلا فضاء عابرا؛ لأنه لا يؤشر سوى على الهروب والتحول الرجولي. ويزاوج الكاتب في نقله للفضاء بين الطريقة الكلاسيكية في الإسهاب الوصفي الواقعي والطريقة التي تبنتها الرواية الجديدة في العبور السريع على المكان للتركيز على الأشياء بدل الأفضية وما يمت بصلة إلى الإنسان.
وتخضر( الدار الكبيرة) بفضائها العريق في الرواية لتبين الطابع الإنساني والعائلي الذي يملأ هذه الدار بوجود لالة الغالية ولتحيل على فضاء الطيبوبة والأصالة على عكس الرباط التي تحضر بفضاءات المقاهي والشوارع الحزينة ووجوه المستعمرين وقساوة الحياة والظروف المادية الصعبة. ويغلب علىهذه الفضاءات الطابع الحزين والروح الجنائزية وشبح الموت بوفاة الأم. فإن قارىء( لعبة النسيان) الذي ليس" من الضروري أن يكون قد عاش- يقول أحمد اليابوري- أو تعرف مباشرة، على مثل تلك الدار الفاسية، يشعر بالوحشة خاصة عندما يتتبع التفصيلات المتصلة بالأبواب الثلاثة التي يفضي بعضها إلى بعض، والتي تذكرنا بنماذج من ( ألف ليلة وليلة) حيث لايتم الوصول إلى الكنز إلا بعد اختراق عدد من الأبواب والممرات والمتاهات. غير أن ما يحد من هذه الوحشة بل ويكاد يلغيها، هو حضور الأم ( الكنز)، كعلامة إنسانية مشرقة دافئة وسط عالم الأشياء والأشكال، من هنا طابعها الرمزي، بل و الأسطوري من منظور دلالة الفضاء العتيق: في هذه الدار أشياء كثيرة، لكن أهم ما فيها الأم"
ويتخلل هذه الأفضية لونان بصريان هما: الأبيض ( الوفاة/ الموت)، والسواد( الحياة بمتناقضاتها وصراعاتها السيزيفية)، إنها لعبة الألوان " التي تمثل مجال الصراع الذي يعيشه البطل بين الماضي والحاضر، بين المثل وإرغامات المعيش. وتلتقي نهاية هذه اللعبة على مستوى الألوان بنهاية اللعبة على المستوى الروائي، في محاولة اقتناص اللحظة البدئية خارج ثنائية الأسود والبض، الواقع والحلم" .
ويمكن تخطيط الفضاءات على الشكل التالي:

الفضـــــــــــــــــــــــــاءات
الفضـــــــــــاءات الخارجية الفضــــــاءات الداخلية
مدريد باريس القاهرة الدار البيضاء الرباط فاس
هذه الفــــــــضاءات مرتبطة بالهادي فضاء تهريب البضائع فضاء لالة نجية فضاء لالة الغالية
فضاءات العلم والجــــــنس
فضاء الدفء الحميمي
فضاء الغربة والـــــضياع
فضاء الوجود

في الفضاءالداخلي نجد امتدادا عائليا وتواصلا أموميا إذ تترابط فاس والرباط قرابة ومصاهرة من خلال الأم ( لالة الغالية ولالة نجية)، فالأم حاضرة في هذين الفضائين؛ لأن نجية تشبه أمها في خصالها، كأن البنت هي الأم، والعكس صحيح. بينما الفضاء الخارجي يعبر عن ضياع الهادي وغربته الداخلية والمكانية بحثا عن الجد والعلم ومفاتن الغواية.
وتتناقض الفضاءات كذلك، فهناك فضاءات دينية ( ضريح مولاي إدريس- المساجد- جامع القرويين- أماكن الجذبة الصوفية...)، وفضاءات اللهو( مقاهي لعب الكارطة)، والمجون( البار.....)، وفضاءات عريقة( زقق ودروب فاس القديمة)، وفضاءات مدنية حديثة مرتبطة بالتهريب والاستعمار والحداثة( فاس الجديدة- الرباط...)، وجدلية المدينة والبادية، وفضاء المستعمرين وفضاء المغاربة.
ويلعب المكان دورا مهما على مستوى الذاكرة والحلم واسترجاع الزمن الضائع واستعادة حضور الأم ووفاتها. ففاس هي المكان المحوري في الرواية؛ لأنها ترتبط بالمهد الأمومي.
هذا ولقد اعتمدت لعبة النسيان في قسمها الأول " المرتبط بما قبيل الاستقلال، على الاستذكار الطفولي للمكان، لذلك بقي اتساعه محدودا وأبعاده ضيقة(...) إن ما يميز الفضاءات في القسم الثاني من الرواية- قسم ما بعد الاستقلال- هو تمزقها المادي وانعزالها عن بعضها البعض، بحيث تفقد المسافات الواصلة بين الأجزاء المكانية. هذا يعطي الانطباع بتشتت أحداث الرواية وبقفزات غير محسوبة. ولكن حين يدرك القارىء أن الفضاءات هنا هي ماديا فضاءات شكلية صورية غير مقصودة لذاتها مباشرة أو ضمنيا، وحين يدرك أنها فضاءات اجتماعية ونفسية ووجدانية سواء في رموزها المادية أو علاماتها، فنكاد نلمس تلك الأبعاد الاجتماعية والنفسية والوجدانية بحواسنا دون أن نتأمل ونعمق التفكير كثيرا..." .
وتبرز في الرواية فضاءات علوية ( طبقات الدار الكبير)، وفضاءات سفلية، أو الفوق والتحت من خلال تواصل عاطفي وإنساني. كما ترصد الرواية فضاءات أخرى مثل:
1- الفضاء الطبيعي( جنانات/ الحدائق....)؛
2- الفضاء الديني: ( المساجد/ الجوامع/ الأضرحة/ الزوايا...)؛
3- الفضاء السياسي: ( الحزب/ النقابة....)؛
4- فضاء البرجزة: ( فاس الجديدة/ الدار البيضاء...)؛
5- فضاء العتبة ( السجن/المعتقلات...)؛
6- فضاء الغربة والضياع ( القاهرة/ مدريد/ باريس..)؛
7- فضاء الأصالة والقيم العريقة ( البادية/ فاس القديمة...).

7- المنــــظور الســـــــردي:

على مستوىالرؤية تنبني الرواية على تعدد السراد والأصوات والضمائر والمنظورات. فكل قصة نووية يسردها سراد مختلفون، كل سارد له رؤيته الخاصة إلى زاوية الموضوع، أي أن المؤلف أعطى للشخوص الحرية والديمقراطية في التعبير عن وجهات نظرها دون تدخل للمؤلف لترجيح موقف على آخر، بل ترك كل شخص يدلي برأيه وبمنظوره تجاه الحدث والموقف، يعبر عن نظره وإيديولوجيته بكل صراحة دون زيف أو تغيير لكلامه. لذلك وجدنا القصة تروى من خلال عدة منظورات متناقضة. ويلاحظ أن هناك عدة قصص نووية صغرى وحكايات مترابطة فيما بينها من خلال قصتي الهادي والأم باعتبارهما شخصيتين محوريتين في الرواية. وكل قصة تروى من عدة سراد أو رواة لإضفاء الموضوعية على الحكي وتوفير قدرا ما من الديمقراطية في التعبير من خلال جدلية المواقف والإيديولوجيات والمنظورات الفلسفية والواقعية، فالهادي مثلا يختلف عن الطايع، فيذكر الكاتب بكل حياد وموضوعية مبرراتهما ويترك للقارىء يحكم على الشخوص ومن له وجهة نظر أرجح من الأخرى، أي يترك للمتقبل أن يرجح آراء الشخوص من خلال رجحان الأدلة والمواقف وطبيعتها الواقعية وابتعادها عن الرومانسية والمثالية.
ونستشف من خلال الرؤية السردية التواتر التكراري، إذ يهيمن السرد المكرر بكثرة، وهو أن يروي أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة. فأحداث الرواية تروى مرات عديدة بصيغ مختلفة أو متماثلة. ويكشف الكاتب في روايته عن اللعبة السردية من خلال صراع المؤلف مع راوي الرواة واستحضار القارىء لمناقشة الميثاق السردي. ومن ثم يمكن القول: إن الرواية لعبة النسيان تطبيق لآراء محمد برادة النقدية، خاصة أنها أي الرواية نموذج عربي للرواية البوليفونية القائمة على تعدد الأصوات والمنظورات والرؤى الإيديولوجية حيث يختار القارىء وجهة نظر الشخص الذي يميل إليه. وهكذا يتقاطع الإبداع مع النقد في الرواية والأطوبيوغرافيا مع البوليفونية الباختينية.
وينتج عن كثرة المحافل السردية" تعدد الضمائر النحوية وتنوع وجهات النظر وتضاربها وبروز طابع النسبية الذي يصبح صفة ملازمة للأفكار والمواقف؛ ثم نجد المؤلف نفسه يدخل في حوار مع السارد الرئيسي فيتحول، نتيجة لذلك، إلى شخصية روائية، إلى صوت سردي بين باقي الأصوات. ويتم ذلك الحوار في إطار الاختلاف، وحتى عندما يبرز ظاهريا نوعا من التطابق، فإنه يكون منطويا على عناصر تمت إلى السخرية بصلة".
ومن الضمائر السردية التي ينتقل عبرها الكاتب هي ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغياب، فرديا وجماعيا. وهذا ينم عن مدى التنوع والاختلاف وتعدد الزوايا والمنظورات، وبالتالي، فالكاتب يؤمن بالحوارية والاختلاف.
ويعمد الكاتب إلى مزج الرؤية الخلفية بالرؤية المصاحبة، إذ السارد في الرؤية الأولى يشرف على السراد ويقوم بالتنسيق بينهم ويترك لهم فرصة التعبير ويعطيهم حرية الإدلاء بآرائهم وقناعاتهم ومواقفهم الإيديولوجية. وعلى الرغم من معرفته الواسعة بالشخصيات فإنه يلتزم الحياد وينزل إلى درجة الصفر ليمسك بخيوط السرد: توجيها وتوزيعا.كما يتحكم في توجيه دفة الأحداث والوقائع وترتيب الاستيهامات والأحلام. وفي كثير من الأحيان يثور هذا السارد على المؤلف ليصحح كثيرا من الأحداث المشوهة أو المزينة: إيحاء وتمويها. وكما تقوم الشخصيات – من خلال الرؤية الثانية- بسرد حكاياتها مستعملة ضمير المتكلم الفردي أو الجماعي مستبطنة الذات والموضوع معا عبر عمليات الاسترجاع والتداعي والتذكر الشعوري واللاشعوري.
وتتجلى الرؤية من الخلف عندما يتحدث السارد عن الأم في الدار الكبيرة وسيد الطيب والهادي في طفولته ومراهقته وحفل زواج عزيز، بينما تهيمن الرؤية "مع" في الفصول والقصص الأخرى. وهذا يعني أن الرؤية الداخلية/ الذاتية أكثر هيمنة من الرؤية الخلفية الكلاسيكية. ومن ثم، فالرواية ذات تبئيرين: داخلي وخارجي. وتقترب من الرواية المنولوجية عندما تستبطن الذات والموضوع من خلال المنولوج الداخلي والرؤية المصاحبة، في نفس الوقت تمتح من النسق الكلاسيكي عندما يحضر السارد العارف بكل شيء.وهذا يعني كذلك حضور السرد الداخلي والسرد الخارجي. وحضور السارد لاشخصي ( الكلاسيكي)، والسارد المشخصن أو السارد التطابقي إذ يصبح السارد شخصية رئيسية ( الهادي/ الطايع/ سي إبراهيم)، أو شخصية ثانوية( كنزة تتحدث عن لالة نجية، ونساء الدار الكبيرة يتحدثن عم الأم لالة الغالية)، أو دور شاهد على الأحداث.

8- بـــــــنـــــــــية الزمــــــــــن:

إن الزمن في لعبة النسيان دائري وهابط؛ لأن السرد قائم على استرجاع الزمن الضائع واستعادة ذكرى وفاة الأم باعتبارها الشخصية المحورية، وهذا يدل على مدى انزياح الرواية زمنيا عن النسق الزمن الكلاسيكي حيث يتحرك الزمن من الحاضر وهو صاعد نحو المستقبل. ويلاحظ أن الرواية عبارة عن قصص نووية مستقلة بمفردها ولوحات سردية منفصلة على الرغم من كونها تترابط بنيويا من خلال شجرة العائلة: قرابة ومصاهرة. وتحضر النصوص النقدية المتعلقة بالتفكير في الرواية وكيفية تشخيصها ذاتيا من خلال فضح أسرار اللعبة السردية لتبين الانفصال الموجود بين الإبداع والنقد المقتحم ليحضر القارىء قصد إبلاغه بتقنيات الرواية ومنظوراتها السردية وطريقة أسلبتها.
إن الرواية- إذا- متخلخلة من حيث البناء والتركيب والزمن، فلا نجد الخط الكرونولوجي، بل نجد أحداثا دائرية تستعاد عن طريق الفلاش باك أو التذكر عبر العودة إلى الماضي بحثا عن الأصول والجذور وتحولاتها في الحاضر وامتدادها في المستقبل من خلال الفروع والحواشي. إذا، هناك تكسير لعمودية السرد عبر الاسترجاع والبناء الدائري؛ لأن الرواية تبدأ بالموت وتنتهي به كذلك.
وعلى الرغم من تفكك الرواية على قصص صغرى وحكايات نووية تسردها الشخصيات المشخصة أو الساردة فإن الرواية مترابطة من خلال اتساقها وانسجامها الداخلي/ البنيوي لأنها تصب كلها في قصة لالة الغالية باعتبارها الأم المثالية، أو التاريخ العريق، والوطن بكل دفء وأمومة. فالأم حاضرة في هذه القصص كلها من خلال الاستدعاء والامتداد والتماثل والتطابق والتضمن. وبالتالي، فوفاتها تشكل البؤرة الدلالية الكبرى للرواية التي استحثت التيمات والشخوص الأخرى لتوليد الخطابات السردية حولها في شكل اعترافات ومذكرات وتعليقات وشهادات. وهكذا، فلعبة النسيان هي رواية الفقدان والنسيان والسلوان واستعادة الزمن الضائع.
وينحرف الزمن في الرواية إلى الماضي أكثر من انحرافه نحو استشراف المستقبل؛ لأن الرواية هي رواية التاريخ واستعادة الذات لزمنها في صيرورتها الموضوعية، ويمكن أن نختزل سرعة الزمن وبطئه في الخطاطة التوضيحية:

زمن الروايـــــــــــــة بين السرعـــــــــة والبـــــــــــــــطء
إبطاء الزمـــــــــــــــــــن تسريع الزمــــــــــــــــــن
المشاهد الدرامية الوقفات الوصفية الحذف التلخيص
المشهد فرد فترة زمنية قصيرة على مقطع طويل يتوقف الزمن كاملا عندما يسير النص دون أي حركة زمنية ( الوصف) يمر الكاتب على مدة دون ذكرها في النص ضغط فترة زمنية طويلة في مقطع نصي قصير
- مشهد المظاهرة ص: 37- 38

- مشهد سي إبراهيم مع الأمريكاني ص59
- مشهد الطايع مع ابنة الجيران خديجة ص74 1- وصف الدار الكبيرة5-6
- وصف الهادي لمدرسة المسيد
- وصف مسابقة الجمالص81-83
- وصف فاس القديمة ص:97
- وصف حفلة عزيز ص:104 " ثلاثون سنة منذ أن رحلت عنك وعن الدار الكبيرة" ص24
" تخطى العقد الثالث من عمره، ومع ذلك يبدو ممتلئا بطفولته" ص29 " تدخل الحرب عامها الثالث والزوجة الملاك تختفي، وتنذر الأحوال بالبؤس والنكد."17
" في ليالي الصيف تزهو سطوح فاس"ص30
من خلالهذا الجدول نلاحظ أن الكاتب يستفيد من تقنيات الرواية الجديدة ومن تقنيات الرواية الكلاسيكية كذلك، مع العلم أن الزمن لدى الكاتب يتسم بالتشظي والإرصاد والخلخلة في البناء على الرغم من وجود الانسجام العضوي والاتساق البنيوي.
يستند الكاتب في الرواية إلى توظيف الوقفات الوصفية لتقديم الشخصيات الرئيسية وتصوير الفضاء الذي يؤطر الأحداث ويؤثثها، وتستغرق هذه الوقفات مساحات نصية كبيرة مما يتعطل معها الزمن لتشويق القارىء وخلق الجو النفسي لمعايشة الحدث وتصور الاحتمالات الفنية الممكنة.
ويقترب محمد برادة في مقاطعه الوصفية من عبد الكريم غلاب في دفنا الماضي والمعلم علي، إذ تغلب الرؤية الإثنوغرافية والسياحية على تقديم المقاطع الوصفية، خاصة وصف فاس البالي، وحفلة عرس عزيز في فاس الجديدة.
ويتسم هذا الوصف بالطابع الواقعي؛ لكن نفس محمد برادة ليس طويلا ومسهبا مثل نفس بلزاك أو نجيب محفوظ أو عبد الكريم غلاب الذي يستغرق صفحات طويلة، بل يتسم الوصف بالإيجازوالتلميح والإيحاء والاختزال والتكثيف. وتحضر المشاهد الدرامية بكثرة خاصة مشهد " واقعة الضب"، والمشاهد الجنسية المتعلقة بالهادي والمشاهد الغرامية المتعلقة كذلك بالطايع، إنها مشاهد درامية مشحونة بالتوتر والصراع واختلاف وجهات النظر والرؤى الفلسفية العميقة والبعد المأساوي( كمشهد جنازة الأم / أو زوجة سيد الطيب....).
وإذا كان التلخيص يعمد إلى حذف ما لا قيمة له، فإن المشاهد عبارة عن مقاطع تمثيلية لها أهمية كبرى في تأزيم الرواية وشحنها بالصراع الدرامي.
ولا يعمد الكاتب إلى البطء الزمني من خلال الوقفة والمشهد المسرحي، بل يلتجىء كذلك على تسريع الزمن من خلال التلخيص عبر المرور السريع على فترات زمنية طويلة لا جدوى من ذكر أحداثها؛ لأنها لا تضيف أي جديد على بناء الرواية وتوتر إيقاعها النسقي، كما يكثر من الحذف الزمني لخلق الثغرات الظاهرة والضمنية رغبة في الدخول في الأحداث مباشرة وتسهيل الانتقال من مقطع إلى آخر أو المرور من حدث إلى حدث آخر أو من فترة زمنية إلى أخرى مستغنيا عن الأحداث التي لا قيمة لها.
أما عن التواتر فهي قضية أسلوبية عند البعض، وزمنية عند البعض الآخر كجيرار جنيت، والمقصود بالتواتر هومجموع علاقات التكرار بين النص والحكاية، ومن صور هذا التواتر في ( لعبة النسيان)، نجد:

أمثلته تعريفه أنواع التواتر
" يستيقظ ( سي الطيب) باكرا كل يوم. يرتدي جلبابا شفافا في الصيفن وجلبابين صوفيين خلال فصل الشتاء، يحرص على ضبط حركاته حتى لا يوقظ سكان الدار الكبيرة"ص15.
فالسارد في هذا المقطع يروي مرة واحدة ما يقوم به سي الطيب مرات عديدة وما يلبسه صيفا وشتاء، وكيف يتصرف داخل الدار الكبيرة. وهو أن يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة السرد المؤلف
حدث وفاة الأم روي أكثر من مرة من قبل نساء الدار الكبيرة والهادي وراوي الرواة. أن يروي أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة السرد المكرر
" تلتفت نحوي وأنت تضحك من خلل هسهسة تكتم الصوت مغمضا عينيك، مسرورا بأن تشاكسني..." ص25.
فالسارد يروي مرة واحدة ما حدث بين الهادي وسي الطيب. وهو أن يروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة، وهذا النوع من التواتر هو أكثر شيوعا واستعمالا في النصوص القصصية والروائية السرد المفرد

أما عن زمن القصة فتتجاذبه ثلاث مراحل:
1/ مرحلة الحماية وخاصة مرحلة الحرب العالمية الثانية وما عقبها من تحولات سياسية واجتماعية.
2/ مرحلة الاستقلال والنضال الوطني والاجتماعي والسياسي والنقابي والحزبي.
3/ مرحلة ما بعد الاستقلال، مرحلة إحباط الشباب وبطالة الخرجين والفساد السياسي والإداري.
تمتد الرواية بأحداثها إلى الثلاثينيات من هذا القرن بداية باحتلال تافيلالت( 1933)، ونشوب الحرب العالمية الثانية وإعجاب المغاربة بألمانيا وهتلر لانتصارهم لطرد فرنسا من المغرب على جانب مطالبة المغاربة بالاستقلال بعد انتهاء الحرب مما أدى ذلك إلى الاحتجاجات والمظاهرات والاعتقالات وقتل الوطنيين واعتقالهم في السجون والمنافي، وتخلص الفدائيين من خونة البلاد والبياعة، والإشارة إلى نفي السلطان إلى مدغشقر وجزيرة كورسيكا، والتحولات التي فرضتها مرحلة الاستقلال من خيبة الأمل وصدمة الشعب فيما كان يأمل فيه بسبب التطاحنات الحزبية والنقابية وخواء جوهر الشعارات والوعود، مما تشير الرواية إلى عدة انتكاسات و اغترابات ذاتية ومكانية( الطايع / الهادي)، إلى جانب ثورة الشباب ( فتاح / نادية/ إدريس...)، الخريج من الجامعات على وطنهم وتنكرهم للعاطفة الوطنية بسبب عدم إيمانهم بما هو كائن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وظهور المصالح والرشوة وتفشيها بين الموظفين الكبار وظهور كذلك للملياردية الذين يخونون وطنهم ويستنزفون الأموال العامة ويستغلون مناصبهم من أجل غد العيش، كما تشير الرواية إلى تعامل الناس أثناء الحماية بالبون وغلاء السكر في الاستقلال وتعويضه بالتمر، وتكليف الجيش السينيغالي للقضاء على كل ثورة أو تمرد جماهيري إبان الاحتلال الفرنسي، وبؤس أحوال المجتمع أثناء الحرب العالمية الثانية التي قضت على كل أخضر ويابس.
أما عن زمن الكتابة فهو زمن الثمانينيات ( 1987) الذي يحيل على الأزمة الخانقة المعروفة في المغرب على جميع المستويات سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية؛ بسبب دخول المغرب في حرب الصحراء وارتفاع أسعار البترول وتكلفة التسليح الغالية وارتفاع الديون وشروط صندوق النقد والبنك الدولي وضرورة نهج سياسة التقويم الهيكلي التي تضحي بما هو اجتماعي لما هو إنتاجي واستثماري. وهذه الظروف التي هيمن فيها اليمين على اليسار إلى جانب الانتفاضات الشكلية والفساد الإداري والسياسي وانعدام حقوق الإنسان، كل هذه العوامل كانت حاضرة في مخيلة محمد برادة وهو يكتب هذه الرواية ليرصد تاريخ الأجيال والشخوص والأمكنة من خلال استقراء داخلي وخارجي لجيل الاستعمار والاستقلال وما بعد الاستقلال، ليضع كل هذا في بوتقة إبداعية فنية يتداخل فيها الوصف النقدي والإبداع الأطبيوغرافي" وإذا كانت ( لعبة النسيان) – يقول أحمد اليابوري- تحيل بشكل واضح، وأحيانا مباشر على وقائع في حياة الكاتب عاشها وتأثر بها، تتعلق بالأشخاص والزمن والمكان، فإن طريقة استثمار هذه المكونات السير ذاتية داخل النص، هو الذي نقاها من مستوى التاريخ إلى مستوى الإبداع الروائي"
وإلى جانب هذه السمات المميزة لزمن الكتابة في النص" هناك لحظة الاستشراف والرؤيا، لحظة الحلم " باغتناء المدينة" وبفرح الجميع، فتنشد أشعار تتخطى الأسوار، والحلم بعودة الأم ( عودة أيام الطفولة- والخصوبة)، وانبعاث الموتى ورجوع المنفيين والسجناء(ص148) هو حلم أقرب إلى رؤيا المتصوفة المستشرفة للمستقبل عبر التأمل الذاتي، لبناء عالم مستقبلي مثالي هلامي لامع، وعلى الرغم من ذلك ينطوي هذا الحلم على قسط كبير من الحدس والتنبؤ الذي يسمح به الاستغراق في تأمل الواقع وتخيله وآفاقه مع احتضان لحظات الطفولة المشرقة، لا يخلو هذا الحلم أيضا، من مسحة العزاء النفسي"
أما عن زمن القراءة فيختلف من قارىء إلى آخر، ومن مكان إلى مكان آخر. وقد استحضر الكاتب القارىء الذهني المفترض الواعي، كما أن هناك قارئا خارجيا آخر قد يتدخل ليبدي آراءه ويدلي بتصوراته حول الرواية.

9- الصــــــياغة الأســـــــلوبية:

يلتجىء محمد براد في لعبة النسيان إلى تنويع أساليبه لخلق رواية بوليفونية حديثة، إذ يوظف بشكل متوازن الأسلوب غير المباشر أو الخطاب المسرود الموضوعي حيث يقوم الراوي بنقل الأحداث وتقديم الشخصيات والمشاهد وعرض الوقفات الوصفية عندما يؤثث الفضاءات ويزينها أو يموهها أو يشينها بمقاطع وصفية. ويعتمد في ذلك على وصف خارجي يحدد المعالم والقسمات ويستبطن المناحي النفسية والعوالم الداخلية سابرا أغوار الذات الإنسانية في سلوكاتها الشعورية واللاشعورية. ويخفف الكاتب من تدخلات الراوي العالم بكل شيء الذي يملك المعرفة المطلقة من خلال رؤية خافية ينظر بها إلى الشخوص مدعيا الحياد والموضوعية سوى ما يتبادر منه في شكل تعليقات وتقويمات عندما أدخل راوي الرواة إلى حلبة السرد ليشوش على الراوي المطلق الذي يمثل المؤلف الضمني؛ لأن وجود راوي الرواة هو تصحيح لكثير من حقائق الرواية وفضح لأسرار الذات وانطلاق لما هو مضمر ومخفي وبوح بالحقيقة واعتراف بالصراحة.
ويحضر الخطاب المسرود الموضوعي في تقديم أسلوب إخباري تقريري عن الشخوص والأحداث والفضاءات بطريقة توحي بالواقعية وتموه بصدق المحكي. لذا يعمد الراوي أو راوي الرواة إلى تبني السرد والنيابة عن الشخوص في نقل الأجواء السردية:" يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالكة...يكاد يكون زقاقا لولا أنه طريق سالكة تفضي بك إلى باب مولاي إدريس والنجارين، والرصيف، والعطارين...وباب الدار الكبيرة لا يواجهك، تجده على يمينك إذا كنت نازلا من " كرنيز"، أو على يسارك إذا أتيت من " سيدي موسى". نصفه الأعلى قطعة واحدة مرصعة بمسامير غليظة، والنصف الأسفل الذي ينفتح، له خرصة كبيرة ويمتد نصف متر إلى ما تحت مستوى الزقاق" .
فهذا المقطع وصف لفاس البالية والدار الكبيرة التي تسكنها الأم أو لالة الغالية مع الجيران، ويعمد الراوي العارف بكل شيء إلى ضمير الغياب والأسلوب غير المباشر لتقديم الفضاء الذي ستتحرك فيه الشخصيات مع تمديد هندسته وسماته المكانية وطبائعه الإنسانية ومعالمه الحضارية.
ويحضر كذلك الخطاب المعروض من خلال السرد المشهدي والحوار وعرض كلام الشخصيات، وهي تتجادل وتبوح باعترافاتها وتدلي بشهاداتها وتختلف في منظوراتها ومواقفها الإيديولوجية( مثل حوار الهادي مع الطايع). ويحضر هذا الخطاب الحواري كثيرا في المشاهد المسرحية والدرامية حيث الشخصيات تعبر عن وجهة نظرها.
ويتوسل الكاتب بالأسلوب المباشر لنقل آراء الشخصيات وأفكارها وعواطفها وطروحاتها بدون أن يتدخل الكاتب لتشويه تصوراتها أو تغيير أفكارها.
ويستند الكاتب إلى الخطاب المسرود الذاتي موظفا المنولوج أو العرض التلقائي أو تيار الوعي كما يوجد عند جيمس جويس وفيرجينيا وولف كافكا...لاستنطاق الذات مباشرة في صراعها مع الموضوع عبر استدعاء الذاكرة والأوهام والأحلام ومن خلال التأمل الذاتي والتعبير الشعوري واللاشعوريبحث عن الأم والزمن الضائع والانطواء على الذات للتلذذ بالغربة المكانية والضياع الوجودي والثورة على الواقع الكائن إلى درجة اليأس والسأم والعبثية( الهادي) أو الرجوع إلى الصواب والإيمان الرباني( الطايع).
إن المنولوج تعبير عن التمزق النفسي والذاتي والصراع الداخلي والمناجاة النفسية. وقد أورد الكاتب مقاطع كثيرة من الخطاب المسرود الذاتي ليخلق توازنا أسلوبيا وتعددا صوتيا داخل روايته التجريبية.
" منذ الآن لن أراها، قلت في نفسي وهم يضعون جسمها الصغير المكفن داخل حفرة القبر ويهيلون عليها التراب، وأصوات الفقية ترتفع فجأة عن سابق مستواها لتصاحب العملية الأخيرة: " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير"
ومن ورائي كان زوج أختي يهمس لي: انتقلت إلى دار الحق وبقينا في دار الباطل..."
فهذا النص نموذج للمنولوج الداخلي إذ يبين نفسية الهادي عندما كان يضع الناس أمه لالة الغالية في روضتها الأخيرة وهو يتضرع داخليا ويبكي بملء مشاعره ويتمزق نفسيا من شدة الحزن ونواح الذات وحداد القلب،سي إبراهيم يحاول تهدئته من روعه وحزنه.
كما يلتجيء الكاتب إلى توظيف الخطاب المنقول عبر أسلوب غير مباشر حر الذي يزاوج بين تقنيات الحوار وتقنيات السرد، إذ ينقل الراوي كلام الشخصية بطريقة مباشرة أي " ينوب السارد عن الشخصية في التلفظ بخطابها، أو أن الشخصية تتكلم عبر صوت السارد، وحينها يتدخل الصوتان"
إذا، فهذا الأسلوب المزدوج يعكس حرية الكاتب في نسج كلام الشخصية داخل كلام الراوي... ويعني هذا اختفاء الراوي من عمله لنقل مشاعر الشخصيات وحياتهم النفسية بدل ترجمتها بطريقة سردية غير مباشرة تفقد الكلام نبرته التأثيرية والمشهدية مثلما نجد في ما يلي:
" كنت أحاول أن أنبهها إلى أن كثرة الأولاد تضر بالصحة وتثقل الكاهل، لكنها لم تكن تستطيع أن تخالف مشيئة سي إبراهيم"
" فتحت لي الباب وقد وضعت شالا على كتفها. عيناها منتفختان قليلا من أثر النوم، وصفرة خفيفة تغمر وجهها. لم أفهم، أول الأمر، كيف أنها وحدها في البيت واليوم يوم أحد. شرحت لي بأن هناك مناسبة عند أحد الأصهار، وأنها متوعكة فبقيت لتستريح. حاولت أن أكون مرحا معها كما اعتدت في السنوات الأخيرة، لكنها لم تستجب كثيرا، ربما لأنها أحست أنني أيضا على غير عادتي مقلوب المزاج. ران صمت ثقيل قطعته قائلا أنني سأحضر لها برادا من أتاي الفاعل التارك، وسأقرأ على رأسها لتصح من توعكها"
ينقل الكاتب في هذين المقطعين كلام الشخصية( لالة نجية/ وكلام الهادي/ وكنزة)، بصيغة غير مباشرة على الغم من وجود تلفظ مباشر وحوار حر. أي أن الخطاب المنقول عبر أسلوب غير مباشر حر هو تحويل خطاب داخلي للشخصية بحيث يصبح خطابا للسارد. وترى دوريت كوهين أن الغرض" من هذه التقنية تجلية الحياة الداخلية للشخصية باحترام لغتها الخاصة"
ويلاحظ أن الكاتب قد استعمل عدة أساليب للتعبير عن اختلاف المنظورات وتعدد الأصوات وجدلية الداخل والخارج واحترام الصراع بين الراوي والشخصيات بطريقة تعددية حوارية، وهذا ما تدعو غليه الرواية الحديثة التي ابتعدت عن الصوت الواحد والموقف المنفرد: " إن سيطرة أحادية الراوي العالم بكل شيء أصبحت غير محتملة في العصر الحديث مع التطور الثقافي العريض للعقل البشري، بينما أصبحت النسبية المتشبعة في النص القصصي أكثر ملاءمة" . وبالتالي، فتعددية الأساليب على مستوى الصياغة السردية يماثل التعددية الإيديولوجية وديمقراطية المواقف؛ لأن الشكل يعبر عن المضامين والمقاصد. ويقول في هذا الصدد أوسبنسكي " عندما نتحدث عن المنظور الإيديولوجي لانعني منظور الكاتب بصفة عامة منفصلا عن عمله ولكن نعني المنظور الذي يتبناه في صياغة عمل محدد، وبالإضافة إلى هذه الحقيقة يجب أن نذكر أن الكاتب قد يختار أن يتحدث بصوت مخالف لصوته، وقد يغير منظوره- في عمل واحد- أكثر من مرة، وقد يقيم من خلال أكثر من منظور".
وعلى مستوى لغة الرواية فهي لغة متنوعة إذ تجمع بين لغة الفصيح ولغة العامة عبر التهجين والأسلبة والسخرية، كما أنها تستعين بالفرنسية( البون/ )، Il est dans la poche
للتعبير عن الاختلاف والحوار وخصائص كل متكلم وطبيعته النفسية وسماته الثقافية ومنطلقاته الإيديولوجية. وتتسم اللغة كذلك بعدة خاصيات منها:
1/ التقريرية/ الموضوعية؛
2/ الرمزية والإيحائية؛
3/ الشاعرية الإنشائية؛
4/ التناصية؛
5/ لغة السخرية والباروديا.
وتتفاعل في الرواية عدة خطابات تناصية ومستنسخات مكونة لنسيج الرواية ويمكن حصرها في الأنماط الأنماط التالية:
1- الخطاب الديني والصوفي: آيات الذكر- الجذبات الصوفية- العمارة
2- الخطاب الأسطوري: كرامات الأولياء وخاصة الشريف...
3- الخطاب الموسيقي: نوبة العشاق- الاستهلال...
4- الخطاب الإعلامي: التقارير الصحفية والإذاعية....
5- الخطاب الشعري: أورد نصوصا شعرية.....
6- الخطاب التراسلي: أورد رسائل خاصة مثل: رسائل الهادي.....
7- الخطاب النقدي الواصف: فضح اللعبة الروائية....
8- الخطاب التاريخي: يورد الكاتب أحداثا تاريخية خاصة بالمغرب...
9- الخطاب السياسي: التأشير على الصراعات السياسية والإيديولوجية بالمغرب....
10- الخطاب الفلسفي: ماركوز- سارتر- فرويد....
11- الخطاب السينمائي: مناقشة فيلم ( حكاية أو....)...
12- الخطاب الاجتماعي: فلسفة الأزياء والموضة وأسماء الملابس واستحضار أحداث المجتمع...
13- الخطاب الغنائي: استحضار أغاني أم كلثوم والطرب الأندلسي والجذبات الصوفية والملحون...
كما تحضر خطابات أخرى كالخطبة السياسية والمثل والأحلام والسيرة الذاتية والخطاب الفانطازي....
وعلى مستوى التناص أيضا، تتحاور الرواية مع عدة نصوص إبداعية ونقدية داخلية وخارجية، إذ من خلالها نتذكر سهيل إدريس( الحي اللاتيني)، وطه حسين( أديب)، وتوفيق الحكيم( عصفور من الشرق)، والطيب صالح( موسم الهجرة إلى الشمال)، ومحمد شكري ( الخبز الحافي)، وعبد الكريم غلاب( دفنا الماضي/ المعلم علي)، وعبد المجيد بن جلون( في الطفولة)، وعبد لله العروي( أوراق)، وميخائيل باختين في ( الخطاب الروائي وشعرية دويستفسكي)، وسلخ الجلد للكاتب نفسه( الجنس/ الموت...).
وهذه الحوارية بين اللغات والخطابات يشكل خطاب الأسلبة والباروديا، إذ يقول باختين: " إن اللعب المتعدد الأشكال بحدود الخطابات واللغات والمنظورات يعتبر أحد أهم سمات الخطاب الساخر" .
وعليه، فقد أبدع محمد برادة رواية بوليفونية قائمة على التناصية وتعدد الخطابات وتفاعل الأجناس الأدبية والفنية وتلاقح اللغات واللهجات مما جعل هذه الرواية تستجمع جميع الأصوات الاجتماعية لتعبر بكل حرية وديمقراطية عن وجهات نظرها مع حضور المتلقي والمؤلف الوهمي الذي أجبر على التنازل عن سلطته للراوي الرواة والشخوص لتعبر عن عوالمها الداخلية ومواقفها تجاه الموضوع.
إذا، تتبنى الرواية التعدد اللغوي والتجريب البوليفوني ولاسيما أن الكاتب يعد من أنصار هذا التيار النقدي في العالم العربي الحديث، ويبدو ذلك واضحا في ترجمته لكتاب باختين ( عن جمالية الرواية ونظريتها) إلى اللغة العربية، ومقاله المنشور في كتابه أسئلة الرواية/ أسئلة النقد( التعدد اللغوي في الرواية العربية).

10- البـــــــــعد الاجتــــــــماعي:

رصد لنا محمد برادة في روايته مجتمع المغرب ماقبل الاستقلال حيث الصراع ضد الاستعمار الذي حاول استغلال المغرب وإذلاله. وكان التفاوت الاجتماعي صارخا بين فئة المعمرين التي استفادت من جميع الامتيازات وفئة المغاربة التي عانت من الإقصاء والتهميش. وقد نافست الصناعة الاستعمارية المعاصرة الصناعة الحرفية التقليدية مم ألجأ الحرفيين إلى ترك صناعاتهم والاشتغال إما بالتهريب وإما في معامل المعمرين الفرنسيين. وكانت الحياة المعيشية غالية الثمن حيث تشترى السلع خاصة إبان الحرب بالبون والصف والطوابير أمام معارض المقتنيات الأساسية من المواد الغذائية.
هذا، وإن الشعب المغربي في هذه المرحلة كان يحافظ على قيمه ومثله الاجتماعية وقيمه الأخلاقية والتشبث بالمبادئ الدينية والإسلامية.
ومع مرحلة الاستقلال وما بعدها بدأ المغرب يعرف تحولات سوسيو -اقتصادية على جميع المستويات كتناوب الحكومات وخيانة المؤطرين وقيادي الحزب للشعارات الحزبية والوطنية وضربهم للنضال التقابي عرض الحائط، وتفاوت الطبقات الاجتماعية، إذ يوجد هناك طبقة الكادحين وطبقة المثقفين والطبقة الثرية. وبدأ الصراع يحتد بين هذه الطبقات بسبب الإثراء غير المشروع بسبب الرشوة والمحسوبية وتفويت الصفقات والاستثمارات. كما أصبحت القيم مادية وكمية في مجتمع منحط تنعدم فيه القيم الكيفية والأصيلة، وتغيرت العلاقات بين الناس والأفراد وأصبحت مبنية على المصالح وتبادل المنافع وتسهيلها بواسطة المال.
ومن الظواهر التي تفشت في مجتمع ما قبل الاستقلال من خلال الرواية ظهور جماعة من الملياردية اغتنت بطرق غير قانونية، وتصدير الفتيات إلى دول الخليج وأوربا لجلب العملة الصعبة ومغازلة الغربيين على حساب قيمنا وعاداتنا، وانتشار البطالة بين صفوف خريجي الجامعات وانفصال الأجيال، إذ كان الجيل الأول يؤمن بالوطن ويدافع عن هويته واستقلاله، فإن الجيل الجديدلايهمه هذا الوطن ولا يعترف به بل ما يهمه هو الجانب الاجتماعي: العمل والكرامة وحقوق الإنسان. كما تغيرت بعض الأعراف الاجتماعية خاصة الزواج الذي أصبح يعقد في أماكن عامة ( فيلا في شارع إيموزار)، ويقسم المكان إلى عدة غرف حسب الطبقات الاجتماعية الموجودة في المجتمع المغربي. وهذا التقسيم مبني على أساس النفاق الاجتماعي وترجيح قيم: المال- الوظيفة السامية- الإثراء غير المشروع.
ولم تعد المرأة كما في السابق تحافظ على الأصالة وتتشبث بعاداتها وتقاليدها بل تعلمت وحصلت على شواهد عليا، وتعصرنت إلى حد التمرد على ما يربطها بالماضي وأعرافه التقليدية، وبدأت بعض الظواهر تغزو المجتمع المغربي كظاهرة الاختلاط في العرس بين الجنسين، وشرب الخمر في الحفلات أ وغيرها، والرقص الجماعي:ذكورا وإناثا ن شبابا وشيوخا.
هذه هي القيم الاجتماعية التي عكستها الرواية على جميع المستويات والأصعدة.

11- البـــــــــــــعد النفــــــــسي:

في هذه الرواية نجد نفسيات متناقضة ومتذبذبة ولاسيما نفسيتي الطايع والهادي الذين عانيا من الإحباط والفشل، فالأول نتيجة إخفاقه سياسيا ونقابيا مما جعله يهرب إلى ذاته واهبا حياته للأسرة وعبادة الله، والثاني لم يجد سوى حياة عبثية أبيقورية قائمة على اللذة واللهو والمجون والجنس. وإلى جانب هاتين النفسيتين هناك نفسية راضية مطمئنة كما لدى سي إبراهيم ولالة الغالية ولالة نجية.
وتحضر كذلك في الرواية عاطفة الحب بأشكالها كحب الأم عند الهادي والطايع ولالة نجية، وحب الوطن أثناء الاستعمار، وحب الجسد عند الهادي وسيد الطيب بالخصوص. وبعد الاستقلال، يظهر حب جديد هو حب المال على حساب القيم والمبادىء الأصيلة. ويختلط في الرواية حب الأبوة بحب البنوة.
وقد أثر التطاحن الاجتماعي والصراع الطبقي والتخلف الاقتصادي على نفسيات الشخصيات مما يجعلها تلتجىء إلى المنولوج والمناجاة والحوار الداخلي لتعبر عن تمزقها النفسي وصراعها الداخلي وانفصامها وارتمائها في الشخصية المزدوجة المتناقضة كالسيد الطيب مثلا.
وتوجد عاطفة سلبية طاغية في النص الروائي كعاطفة الحقد والثورة والتمرد كالحقد على الاستعمار أثناء الحماية، والحقد على الوطن بعد الاستقلال بسبب البطالة والتفاوت الاجتماعي و الخيانة الحزبية والنقابية. ويعد هروب الشخصيات إلى الاستذكار وتفتيت الذاكرة واللاشعور بمثابة رد فعل على العنف الاجتماعي والتهميش والإقصاء والانتقام من المقاييس المختلة وتفادي المواجهة المباشرة مع الواقع.
















خاتـــــــــمة البـــــــــحث:

رواية لعبة النسيان لمحمد برادة رواية جديدة ذات منحى حداثي وتجريبي؛ لاعتمادها على تشظية المتن الروائي إلى عدة حكايات صغرى نووية، وتوظيف تقنية الاسترجاع من خلال التذكر والتداعي والاستيهام، وتحقيق البوليفونية من خلال تعدد السراد( راوي الرواة/ الهادي/ الطايع/ سي إبراهيم/ نساء الدار الكبيرة...)، وتعدد الضمائر والأصوات والأجناس، وغلبة الحوارية، وتداخل الأزمنة، والتخييل الذاتي والموضوعي ، وتناول تيمات جريئة كتيمة الجنس والسلطة والاستبداد، كما أن الرواية ذات أطروحة وطنية ووجودية. وتهدف الرواية كذلك إلى إدانة الوعي الوطني المزيف والتركيز على الوعي الاجتماعي للجيل الجديد الذي يتمثل في الثورة والرفض والتغيير.
















المصادر والمراجع:
1- PH-LE JEUNE : L’Autobiographie, Armand Colin, 1970 ;
2- محمد برادة: لعبة النسيان، دار الآمان، الرباط، ص:80؛
3- محمد برادة: لعبة النسيان، ص:119؛
4- أحمد فرشوخ: جمالية النص الروائي، دار الأمان، الرباط، ط1، 1996، ص: 69؛
5- أحمد اليابوري: دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1، الرباط 1996، ص: 62؛
7- أحمد اليابوري: نفسه، ص: 63؛
8- محمد أقوضاض: لعبة النسيان لمحمد برادة النص والميتانص، دار البوكيلي للطباعة، ص:84-85؛
9- أحمد اليابوري: نفسه، ص: 60؛
10- أحمد اليابوري: نفسه، ص:57؛
11- محمد أقضاض: نفسه، ص:70-71؛
12- محمد برادة: لعبة النسيان، ص:5؛
13- نفسه،ص:5؛
14- G. Genette : Figures3, Ed. Seuil, Paris, 1972, P : 194 ;
15- محمد برادة: نفسه، ص:62؛
16- نفسه، ص:65؛
17- - Dorrit Cohen : La Transparence Intérieure , ed , Paris 1977 .P : 21 ;
18- Bakhtine /M : Esthétique et théorie du roman, Trad. Daria olivier, Paris, Gallimard, 1987. P : 29.
19- محمد برادة:أسئلة الرواية/ أسئلة النقد، شركة الرابطة، ط1، الدار البيضاء، 1996، ص:103-1




فــــــهرس الدراســـــة:

1- عتبة المؤلف.............................ص:2
2- عتبة الجنس..............................ص:2
3- دلالات الرواية..........................ص:3
4-الشخصيات..............................ص:18
5- الوصف.................................ص:24
6- الفضاء الروائي........................ص:25
7- المنظور الروائي......................ص:28
8- بنية الزمن..............................ص:30
9- الصياغة الأسلوبية....................ص:36
10- البعد الاجتماعي.....................ص:41
11- البعد النفسي..........................ص:42
الخاتمة.................................ص:44
المصادر والمراجع.................ص:45
الفهرس



#جميل_حمداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليات التجديد في رواية - أبجدية الموت حبّا ً - لجاسم الرصيف


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - جميل حمداوي - لعبة النسيان لمحمد برادة بين الزمن الضائع والتجريب البوليفوني