إنهم رفاقك الخالدون.
فارغة الموائد
كقلب الليل
كمعادلات آينشتاين: وها أنت
تركض باتجاه سراب اللحظات
إنك ثمل . إنك ظمآن...
ثمل وظمآن أكثر مما ينبغي: وهذه الحياة
هذه هي اللانهاية
جان دمو
خلق الإنسان صعلوكا , ربما ذلك ما قاله جان دمو ذات يوم وهو يستحظر مقولة جان جاك رسو ( ولد الانسان حرا ) , خاصة وان هنالك ثمة تشابه بين جان الشاعر وجان الفيلسوف , فكلاهما عاشا مشردان , ناقمان , انفعاليان , وكلاهما خرج بمدرسة سيتخرج فيما بعد آخرون منها وهم يلوكون أفكار هذان المشردان ذاتها .
الصعلوك جان دمو النحيف كموسيقى , الصامت إلا من شتائمه , المخمور في الصباح والمساء , الشاعر الذي بلا قصائد ولا دفتر ولا قلم , هل كان جان دمو إفرازا حقيقيا لحقبة زمنية حيث حلقت أفكار الوجوديين الفرنسيين ممثلة بجان بول سارتر ( يا لها من مصادفة انه جان أخر ) كمندوب عن الفرنسية الفرنسية واليوت كمندوب عن الثقافة الإنكليزية , لتحط في ارض العراق مثلما حطت في بقية العواصم الحضارية سواء أكانت من العالم الأول او الثاني او الثالث , تلك الدول التي لديها كم من الحضارة يؤهلها لا تستقبل الأفكار وتتفاعل معها , هل ان جان دمو هو فعلا , وليد حقبة ثورة 1968 العالمية لا انقلاب البعثيين في العراق , هل كان جان دمو كل هذا العالم الذي دخله مخمورا وخرج منه واعيا بان العالم لا يستحق أكثر من بصقة بوجه شاعر على طراز حميد سعيد .
ترى لماذا نتذكر جان دمو الصعلوك بينما تعفى ذاكرتنا عن تذكر جان دمو الشاعر ؟
برأي لان ما يميز جان دمو هو صعلكته وصلعته لا شعره , فما عرف عن جان انه كان له تأثير في الشعر العراقي يوم من الأيام كما كما هو مع السياب وحسب الشيخ جعفر وزاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وجيل الثمانينات والتسعينات , وإنما كانت لصعلكته الفعل المدوي , انه من حقبة الستينات حيث كان التصعلك هو ديدن الثقافة العراقية ( يجب الاعتراف بان العراق دولة ثقافة شعرية لا سردية ) هكذا كان جيل الستينات , حتى المترفون منهم أولئك القادمون مما يسمى عائلات برجوازية في ذلك الحين فضل التصعلك على العيش في كنف العائلة البرجوازية , هكذا كان بلند الحيدري ,بينما جاء فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وعبد القادر الجنابي , من عائلات فقيرة , اي إنهم كانوا متصعلكين بالوراثة , جيل الستينات كان اخطر الأجيال وكان أوعاها أيضا , ففي حين كانت هناك غابة تنمو من التمرد في صحراء العراق بعد ان زرع السياب ونازك والبياتي أول أشجارها , كان هنالك أيضا ركاما من الأميين يجوب حضارة العراق , كان هذا الجيل يعي انه سيقلب تاريخ العراق الثقافي , لذلك تسلح بالوعي ليكون سيفه الذي يقاتل به الدينصورات الى جانب خرجوه الاجتماعي المسيج بالصعلكته كإحدى الخروج على نظم العائلة , القبيلة , الدولة , كان هذا الجيل يريد ان يخرج الحياة من نمطيتها لينفتح على الأخر والهم أشياء العالم كما طالبت بذلك سيمون دي بوفوار ذات يوم , كواحدة من مطالبهم الغير معلنة , كان من الصعب في ذلك الحين ان تسير بسيارة في خيام البدو , لكن هذا الجيل خرج بقصيدته ـ تصعلكه ـ سيارته , ليسير بين الخيام وبأقصى سرعة عرفتها البشرية , لكن رغم ذلك كان حذرا , كان يبحث عن الوعي فتلك هي أهم تعاليم الوجودية التي نطقوا بها ان تعي وجودك وان تكون مسئولا عنه , وعليه فانه كان يسير بخطين عموديين كان يعرف أنهما سيلتقيان ذلت يوم , كانت تهممهم تلك الصدمة التي نشروها داخل المجتمع المجتمع , ليكون بعدها خطهم الذي رسموه بتنظيراتهم المعلنة وغير المعلنة , وعليه أيضا كان نصهم هو حياتهم ومن ثمة كتابته ( الإسفار ـ لفاضل العزاوي مثالا ) . ولكن عندما تحرك العالم وفق ذائقتهم كان لزاما عليهم ان يخففوا من الضغط على الأخر والهم , ففاق أكثرهم من خمره الأمس , فاق باتجاه المعرفة ـ الوعي , لكن جان دمو بقى هناك وحده في ترك الأرض , بقى بأسلحته التي ابتكرها مع أشباهه ليحارب هناك , لكن الحرب انتهت يا جان دمو , والأطفال عادوا الى مدارسهم الأمهات الى أطفالهن والعاملات الى عمالهن , فلماذا بقيت هنالك وحدك في ارض المعركة ياجان دمو ؟
بقيت هناك بلا شعر و بصعلكتك فقط , تبحث عن أشباه من الشعراء ليكملوا حربك التي لم تقع لا حربهم , فأنتجت لنا كزار حنتوش , ونصيف الناصري وحسن النواب وحسين علي يونس .. أنتجت لنا أشباه أغرقونا بالشتائم التي ابتكرتها , وبالصراخ الذي ابتكرته أيضا , ليصرخوا في وسط حسن عجمي , أنا أفضل شاعر في العالم , شعراء بلا شعر , صعاليك بأمجاد زائفة . في حرب انتهت يا جان دمو , كدت ان تخرب الشعر الذي نحب , لولا حسب الشيخ ولولا زاهر الجيزاني ولولا كمال سبتي ولولا محمد مظلوم ولولا محمد تركي النصار , ولولا احمد عبد الحسين ولولا جمال الحلاق ..( وآخرون قبل هذا الوقت ) ....
هذه الكتابة ليست ذم بك يا جان فيجب على الجميع ان يعترف بأنك كنت مقاتلا نبيلا , فارسا من العصور الوسطي , أنت من ذلك الطراز الذي ما ان يدخل حربا لا يخرج منها إلا وهو جثة هامدة , هكذا كنت لكن حربك انتهت يا جان دمو , ومن يحملون الآن سيوفك ليس أكثر من دجالين , إنهم انتظروا موتك طويلا ليقولوا كنا محاربون مع جان دمو لم نتركه وحده في ارض المعركة , الجميع كان يعرف بان المعركة انتهت , لكن الكارثة إنهم لا يحملون وعيك , والادهى إنهم لا يحملون نبلك , شاهدناهم يرتزقون وشاهدناهم يبيعونك في الأزقة الخلفية , يبيعون المبادئ التي حملتها , تلك المبادئ التي جاء بها جيلك , لقد انتهى زمنك فلذا نراهم الآن بلا زمن , إنهم وحدهم من سيكونون بلا أمجاد , اما أنت فقد ذهبت بمجدك وبجسدك النحيل وفي يدك عشبة جلجامش .
أنني أريد ان اردد الآن
أغنية ( غافروش ) الساخرة في رواية ( البؤساء) لفيكتور هيجو إنها غلطة ( فولتير) إنها غلطة ( روسو)..".
لأقول إنها غلطة جان دمو
علاء مهدي
[email protected]