أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - عقبات تحقيق المشروع التنويري العربي ؟















المزيد.....



عقبات تحقيق المشروع التنويري العربي ؟


شاهر أحمد نصر

الحوار المتمدن-العدد: 482 - 2003 / 5 / 9 - 04:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



                                                      

في أواخر القرن العشرين أصاب حقل دكتور مهندس زراعي ، عضو فعال في أحد التنظيمات التي تقود مسيرة التنوير والتقدم ( أصاب حقله) فأر أرض (خلد) ، وأخذ يعيث به فساداً . اشترى الـ د.م.زراعي أدوية صنعت في ذلك البلد ـ الذي يُعدُّ من طلائع البلدان التي سارت على ركب النهضة والتنوير والتقدم ـ لم تفلح الأدوية في قتل فأر الأرض بل ازداد شراسة ، بينما الغراس تموت وتذبل أمام ناظريه أخذ الـ د.م. يقلب الرأي ويستشير .. أفاده أحدهم بأنّ الحل لدى شيخ شاب يعيش في قرية مجاورة .. توسل الـ د.م. إلى الشيخ الشاب أن ينقذ حقله ، فقبض الشيخ على حفنة من تراب ذلك الحقل وأخذ يتمتم عليها تمتمة مبهمة ، وهو يدور حول الأرض ويتوعد فأر الأرض سوء المصير إن استمر على فعلته النكراء ..

هكذا " يقُضى" على فأر الأرض ، الذي لم تستطع أحدث إنجازات العلم الموجودة بين أيدي الحائزين على " أرفع الدرجات العلمية " ، في بلدان الفساد ،  أن تؤثر فيه .

من لا يصدق هذه الحقيقة هاكم العنوان ليتأكد بنفسه : أي قرية أو مدينة في أي بلد من بلدان النهضة والتنوير العربية .

يبين العديد من الأمثلة المعاشة يومياً على مستوى الانحطاط الذي وصلته الشعوب العربية تحت قيادة تنظيمات النهضة والتقدم والتنوير . فلماذا ؟ لماذا انقلب التنوير انحطاطاً ؟

يقودنا التساؤل حول سبب مقدرة المشروع التنويري أن ينتصر في الغرب وفشل في بلداننا ؛ إلى التساؤل عن سبب فشل العلوم العربية في التطور في البلدان العربية ، ووصولها إلى أرفع المستويات في أوروبا ؟

للبحث في أسباب ذلك علينا التعرف أولاً على تاريخ وآلية نشوء وتطور المشروعين في كلا الجانبين . كيف حلّ التنوير في البلدان العربية وفي أوروبا ؟ وما هي أدواته ووسائله؟

سنتعرف في البداية على بعض جوانب سيرورة المشروع النهضوي الأوروبي ونقاط التمايز بين المشروعين علنا نصل إلى حقيقة تلك الأسباب .

لابد في البداية من الإقرار بأن تطورات اقتصادية واجتماعية ، مترافقة مع تقدم نوعي في مختلف العلوم والأدب والموسيقى والفنون الأخرى ، مهدت لظهور العقلانية والتنوير في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي ؛ وتأسيساً على ذلك فإنّ أهم ما قام به أعلام تلك النهضة ، بفضل تلك التطورات ، هو القطيعة شبه الكاملة مع فكر العصور الوسطى .. أما في البلدان العربية فلم تحصل أية تطورات اقتصادية أو اجتماعية تمهيداً لظهور التنوير ، وبنفس الوقت لم تتم أية قطيعة مع الفكر السلفي .. وفشل مشروع النهضة العربي على الرغم من أنّ بذور التنوير انتقلت إلى أوروبا بفضل الفلسفة والعلوم العربية ، التي تشكل فلسفة ابن رشد وابن سينا عمادها ..

دور الفلسفة والعلم العربيين في ولادة النهضة الأوروبية
بدأت ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوروبا إلى اللغة اللاتينية في طليطلة سنة 1130 بعدما ترجمت الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية . من ثم  ترجمت بعض كتب أبي نصر الفارابي والكندي .

كان لأعمال ابن رشد التي نقلت في عام 1230م  فضل في حصول أوروبا على مجمل فلسفة أرسطو بعدما كانت الفلسفة فيها عبارة عن تعاليم لاهوتية مجموعة من عدة كتب مختلفة مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية ..

ولما نفذت فلسفة العرب إلى أوروبا .. اشتغل الاكليروس الأوروبي بمقاومتها لأنّ أصولها مخالفة لقواعد الأديان الموجودة . وفي عام 1231م أصدر البابا غريغوريوس التاسع حرماً بمنع درس فلسفة العرب .

ولكن من حسن حظ أوروبا أنّها لم تصرّ على هذا الخطأ الفاضح الذي كان مقتل الفلسفة العربية . فإنّ اللاهوتيين فيها اضطروا بحكم الضرورة إلى تغيير سياستهم في مقاومة الفلسفة مقاومة عمياء وصاروا يتخذون منها سلاحاً لمحاربتها به .

كان القديس توما أعظم فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة . وكان أكبر خصوم فلسفة ابن رشد ..

تحمسّ القديس توما في الرد على مسألة وحدة العقل التي قال بها ابن رشد أكثر من تحمسه في مسألة الخلق . فقد كان يقول إنّ القول بوحدة العقل في الإنسانية خطأ عظيم لأنّه يفضي إلى الاعتقاد بأنّ القديسين والأبرار لا فرق بينهم وبين باقي الناس !

وجد في أوروبا علماء أشداء يناصرون فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد . .. وقد أثبت رينان أنّ هؤلاء النصراء لمبادئ العرب كانوا من رهبان الفرنسيسكان ومن كلية باريس الكبرى...

وأول علماء السكولاستيك ( أو الفلسفة المدرسية التي عرفت في القرون الوسطى ) (الفلسفة اللاهوتية ) الذين قبلوا هذه المبادئ ونشروا روحها بين الناس كان اسكندر دي هاليس زعيم المذهب الفرنسيسكاني .

كانت مدرسة السوربون مدرسة لاهوتية تعلم تعاليم القديس توما . ولكن كلية باريس كانت على خلاف ذلك . فإنّ كثيرين من أساتذة الفنون فيها كانوا من أنصار مذهب ابن رشد . وقد وجد في هذا العصر من آثار هذه الكلية تسعة دفاتر محتوية على تعاليم هذا الفيلسوف كانت تدرس في القرنين الثالث عشر والرابع عشر .

ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس " تعليم فلسفة ارسطو وشرح ابن رشد عليها لأنّه ثبت أنّ هذا الشرح صحيح مفيد ".

وكان بدء انتصار فلسفة ابن رشد في كلية بادو المشهورة بإيطاليا .. ونشأ تحت راية فلسفة العرب في ذلك الزمان البعيد جيل جديد كان يزدري الأديان ويدعي العصمة ولا يقابل آراء غيره إلاّ بكل وقاحة وخشونة . فقام يومئذ بترارك المشهور الذي كان من أشد أعداء فلسفة العرب لمقاومة تلك الأفكار الجديدة .

وقد اتخذت كلية بادو في مدة القرن السادس عشر مبادئ نيفوس الرشدية شعاراً لها لأنّه كان يمكن تطبيقها على الدين .

وفي عام 1487م بدء لأول مرة في كلية بادو بتعليم فلسفة أرسطو باللغة اليونانية.. فاصطلت يومئذ نار جدال بين الرشديين واليونانيين .. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز اليونانيين فلم تأت سنة 1631 حتى تنحت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة .

وقد كان من رواد هذه الفلسفة ودعاتها المؤسسين : غاليله الذي غير وجه الأرض . وفرنسيس بيكون (1561-1626) أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية  القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان ..

كتب بيكون عدة كتب منها كتابه "القياس الجديد " والإصلاح العظيم " عام 1597 :

ووضع بيكون "الترتيب" المشهور للعلم الذي قسمه إلى ثلاثة أقسام " الذاكرة ، والتصور ، والعقل ) وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث . فمن الذاكرة يشتق التاريخ ، ومن التصور يشتق الشعر ، ومن العقل تشتق الفلسفة . ثم اخذ باكون يأخذ " التاريخ ، والشعر ، والفلسفة "كلاً بمفرده ويفرع منه فروعه .

بناءً على ذلك كُنست جميع المبادئ القديمة والتعاليم التي من وراء العقل كنساً وحلّ محلها علم المحسوسات أو ما يسمونه العلم الوضعي . فحصل انقلاب كبير في أوروبا في أسس وآلية المنهج العلمي حين اعتمدت الأسس التجريبية والاستقراء كمنهج في علوم كثيرة ، وأصبحت الهندسة والرياضيات أساس تحديد صحة أي اكتشاف علمي جديد . وتحول العلم إلى قوة .. وهذا ما افتقدته العلوم العربية التي توقف تطورها منذ قرون ، لأسباب مختلفة يتم التطرق إليها في بحث مستقل .

طريق التنوير و النهضة الأوروبية
وفي التنوير الأوروبي لم تخرج الفلسفة خارج نطاق المنهجية الجديدة ، وجرت محاولات ربطها بالعلم .. أما على الصعيد العربي فقد ظلت النظرة الموجهة إلى الفلسفة نظرة شك وريبة . بل إن البعض ما يزال يرى في الفلسفة خروج عن الدين وطريق إلى الإلحاد .

وظهرت في أوروبا كوكبة من الأعلام المنورين تنامى دورها مع التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي السائد هناك . ربطت ما بين العقل والعلم والفلسفة وأسست لوعي جديد ساهم في رفعة أوروبا وسؤددها .

ففي المجال العلمي تم الانتقال مع يوهاس كبلر (1571-1630) إلى علم فلك جديد ، وعمل كل من غاليلو غاليلي (1564-1642) وتوماس هوبس(1588-1679) واسحق نيوتن (1643-1727) إلى إدخال الميكانيكا والهندسة والرياضيات إلى سائر العلوم .. وفي المجال العلمي الفلسفي ظهر فرانسيس بيكون  كما بينا سابقاً ليؤكد أن "العلم قوة" ... وأن كل معرفة يقينية لا بد أن تستمد يقينها من الواقع ومن قابليتها للتعميم عليه . وأكد رينيه ديكارت (1596-1650) أنّ الفلسفة تصير علماً في "التأملات". ( يمثل رينيه ديكارت العقلانية في القرن السابع عشر ومعه تبدأ الفلسفة الحديثة . اشتغل في العلوم الطبيعية والرياضيات ، وشغله هم  المعرفة الفلسفية لا عن طريق الحواس ولا الرياضيات ؟ بل نظر إلى فعل المعرفة على أنه وعي وأن الإنسان شيء مفكر ، وعبر عن تلازم الوعي والوجود بقوله : "أنا أفكر إذاً أنا موجود")

أما فيما يخص مسألة الدين وعلم الأخلاق ، وعلى الرغم من طغيان النزعة المثالية الذاتية على آراء جورج بركلي (1685-1753) الفلسفية ، إلا أن النظرة الحسية النابعة من طبيعة الإنسان كانت هي الغالبة في الفلسفة الأوروبية وهذا ما ظهر في الدعوة لفصل الأخلاق عن الدين باعتبار الأخلاق هي من معطيات الإنسان الفردية والاجتماعية وميوله الجمالية ... وتجاوب ذلك مع ما سمي "الدين الطبيعي" لدى المفكرين الفرنسيين والألمان .. ولم يكن هذا الأمر غريباً عن الفلاسفة في إنجلترا . ونتيجة تأثره الكبير بالتجريبية العلمية فقد كان الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم (1711-1776) من أكثر فلاسفة التنوير تأثراً بالعقلانية . لقد جعل الحواس والتجربة المصدر الوحيد لكل معرفة يقينية ونصب العقل وحده مسؤولاً عن معالجة معطيات الحواس . . ويرى هيوم أن لا وجود لقوانين أو معطيات قبلية ، سابقة على التجربة. .. وعند هيوم لا حقائق معرفية في مجال الدين .. الحقائق الدينية موضوع الإيمان وليست موضوع المعرفة . وقد ترك بصماته على فلاسفة أوروبا جميعاً بدءاً من الفلاسفة الفرنسيين ، حتى الألمان وفي طليعتهم إيمانويل كنت .

        تميز التنوير في ألمانيا عن فرنسا وإنجلترا باعتبار الأخلاق والوفاق مع السلطة السياسية عماد العقلانية في ألمانيا كما يتبين من أعمال كنت (1724-1804) وشيلنغ (1775-1854) وهيغل (1770-1831) في "فكرته المطلقة" . لم تتبع الفلسفة الألمانية قبل الماركسية الطرق العلمية التجريبية ، ولم تدعو إلى الثورة على النظام السياسي والدين ، بل اعتمدت سبيل الوفاق مع مبادئ الدين المسيحي والواقع السياسي على أسس نقدية على الرغم من الاستبداد المطلق ، وتضييق رجال الدين على الفكر ، داعية إلى إعمال العقل دون وصاية ، فمن دون الإيمان والفعل الأخلاقي لا يمكن فهم الهم الفلسفي الذي حملته الفلسفة النقدية ، حسب كنت الذي يرى أنّ فلسفة التنوير الألمانية " تضع حداً لكل الاعتراضات المضادة للخلقية وللدين .. لأنه كان يوجد في العالم دائماً ميتافيزيقا ما ، وستظل توجد بلا شك في المستقبل أيضاً ، إنما سيصحبها كذلك ديالكتيك العقل المحض لأنه طبيعي فيه .." (انظر كنت، إيمانويل : نقد العقل المحض ، ترجمة موسى وهبة ، بيروت ص39 )

ثبت للكثيرين " لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه " ( وهبة ، مراد : المعجم الفلسفي ، ط4 ، القاهرة 1998 ص231

 

 واعتبر  إيمانويل كنت الإنسان شخصاً لا يقيد  إلا بعقله وقناعته الحرة بمسلمات ثلاث هي : وجود الله والحرية وخلود النفس . ودعا كنت إلى إحلال "السلام الدائم" عند معالجته مسألة القانون والسياسة والدولة والسياسة .. مؤمناً بقدرة العقل على البحث عن الحقيقة بسلام ومن دون مواجهة مع الدين ومع السلطة السياسية المستنيرة ، وأنّ سعادة الإنسان تتحقق في الفعل الأخلاقي الجمالي  ..

" فالتنوير – كما يقول كنت – هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه . وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله (الفكر ) إلا بتوجيه من إنسان آخر ... لتكن لديك الشجاعة على استخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير "

" إنّ الخمول والجبن ، هما السببان اللذان يفسران وجود عدد كبير من الناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة (عنهم ) لكنّهم ظلّوا قصراً طوال حياتهم عن رضا منهم ، حتى ليسهل على غيرهم فرص الوصاية عليهم . وما أسهل أن يبقى المرء قاصراً . فإذا كان لديّ كتاب يحتلّ عندي مكان الفكر ، وقائد يعوض الوعي في وطبيب يقرر لي برنامج تغذيتي ، الخ .. فلا حاجة لي في أن أُحمِّل نفسي عناء (البحث) ، ولا حاجة لي في أن أفكر ما دمت قادراً على دفع الثمن لكي يُقبل الآخرون على هذه المشقة المملة .

إنّ ألغلبية الكبيرة من الناس ( بما في ذلك الجنس اللطيف إجمالاً ) تعتبر تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر ، فضلاً عن أنّها أمر مرهق . ويساعدهم على القبول بحالة القصور هذه ، أولئك الأوصياء الذي آلوا على أنفسهم ممارسة سلطة لا تطال على الإنسانية . فبعد أن أطبقوا ( سجن ) البلاهة على قطعانهم وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة ، حتى لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حُشرت فيه ، أظهروا لها هذا الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها . لكن الخطر ليس كبيراً في حقيقة الأمر لأنّها (لو أقدمت عليه ) فسوف تتعلم السير ، بعد عثرات قليلة . إلاّ أنّ مثل هذه الكبوات يولد الاحتراز وعادة ما يحملنا الخوف ، الذي ينتج عن ذلك ، على العدول عن محاولة أخرى . لذلك فإنّه من العسير على أي شخص بمفرده الإفلات من حالة القصور التي كادت أن تصبح طبيعة فيه ، إذ صار يرتاح إليها ، غير قادر في هذه الفترة على استخدام فكره الخاص ، وقد حرم من فرصة المحاولة . فالمؤسسات والصيغ (الجامدة) ، أي تلك الآلات المختصة باستعمال العقل ، أو بتعبير أدق ، باستعمال سيء للمواهب الطبيعية هي الجلاجل التي عُلقت على أرجل القاصرين ، في حالة القصور التي مازالت قائمة . وحتى إذا تخلص أحدهم من هذه الجلاجل فهو لا يستطيع القيام إلا بقفزة غير واثقة من فوق أصغر الأخاديد ، لأنّه لم يتعود بعد على تحريك ساقيه بحرية . لذلك فإنّ قلة من الناس توصلت من خلال إعمال ذهنهم الخاص إلى الانعتاق من حالة القصور والقدرة على السير بخطوة ثابتة .

أما أن يستنير جمهور بنفسه فهذا يدخل أكثر ( من أن يستنير شخص بمفرده  ـ المترجم ) في حيز المحتمل ، بل هذا الاحتمال لا يمكن تجنبه إذا ترك للجمهور قدر كاف من الحرية ..

أما بالنسبة للتنوير فلا شيء مطلوب غير الحرية ، بمعناها الأكثر براءة ، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين "

 ( انظر كنت ، إيمانويل : ما هو عصر التنوير؟ الكرمل ـ العدد 13/1984 ترجمة : يوسف الصديق . ص61)

وتتجلى العقلانية  الجديدة في دفاع الفلسفة الترانسندنتالية عن الوحي والدين بوجه ممارسات السلطات الكنسية ورجال الكهنوت ، وتنقية الممارسات الدينية مما لحق بها من شوائب وأساطير من جراء استخدام رجال الدين لها كوسيلة نفعية ..

 

        ومن المسائل الهامة التي عالجها التنوير في أوروبا مسألة السلطة ومصدر شرعيتها بالإضافة إلى القضايا السياسية والاجتماعية التي تلعب دوراً هاماً في تطور المجتمع . فهذا المفكر الإنجليزي روبرت أوين (1771-1858) يدعو إلى الإصلاح الاشتراكي ويقيم أول تعاونية في أوروبا . وهذا المفكر الفرنسي شارل فوريه (1772-1838) يدعو إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والإنساني بإنشاء التعاونيات الإنتاجية للعمال .سان سيمون .فيما يخص مسألة مصدر السلطة فقد أكد المفكرون الأوروبيون وفي طليعتهم جان جاك روســو (1712-1778) أن شرعيتها تستمد من " العقد الاجتماعي" . إن العقلانية التنويرية قد ساهمت مساهمة كبيرة في زعزعة طغيان الأنظمة حين خرج الناس يطالبون بالحرية وبالعدل والمساواة والحقوق وافلحوا في تحقيق البعض منها وحينما وقفوا في وجه سلطة الكهنوت ورفعت يد رجال الدين عن الوصاية على العقل والضمير .

 

عند الحديث عن التنوير في أوروبا لا يمكن إغفال حقيقة أنّ القرن الثامن عشر في فرنسا سمي  " عصر الأنوار" ... فشاعت الثقة الكلية بالعقل والإيمان بقدرته ورفض ما عداه من سلطة لتسود العقلانية في المواضيع التي نشرها المفكرون الفرنسيون والتي تناولوا فيها بروح نقدية الأوضاع السياسية والاجتماعية ونادوا بالتغيير الجذري والقضاء على الحكم الاستبدادي القائم ، وإنهاء تأثير رجال الدين وحلفائهم على الحياة السياسية والاجتماعية ..

من رواد التنوير الذين اشتهروا في فرنسا القرن الثامن عشر بيير بيل (1647- 1706 ) صاحب " القاموس التاريخي النقدي " (1696) رائد الأفكار التنويرية ، وداعية معاداة رجال الدين والكنيسة والعقائد التي تقوم عليها : فولتيير (1694-1778) رائد فكرة التقدم في دراسته لـ"فلسفة التاريخ" ، الذي بشر باسم العقلانية والحرية والتقدم بشر فولتير بدين جديد هو "الدين الطبيعي" المبني على طبيعة الإنسان والأخلاق التي يتمتع بها بالفطرة والتي يمكن أن تكون عماد المجتمع المنشود الذي تحكمه الأخوة والمساواة . والموسوعيين ، وأشهرهم : ديردو(1713-1784) ومونتسيكيو (1689-1755) ودالامبير (1717-1783) الذين جمعت موسوعتهم المكونة من سبعة وعشرين مجلداً تصوراتهم في جميع مواضيع العلوم مؤكدين على ضرورة الاعتماد الكلي على الحواس في مجال المعرفة ، وعلى النزعة الطبيعية لفهم التاريخ والإنسان ، نادوا بالإلحاد المطلق .. وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته في فلسفة كونديــاك (1714-1780) التي انتشرت انتشاراً واسعاً بانتشار كتابه "بحث في الإحساسات" (1754) و"مقال حول اللامبالاة في موضوع الدين" (1755)

ومن التيارات الهامة التي عرفتها فرنسا : وما يمكن أن يسمى " فلسفة الشعور" . هذا الفكر الذي يعتبره البعض مثالاً على مقاومة عقلانية الأنوار الصاخبة . ومن أهم مؤسس هذا الفكر جان جاك روسو صاحب "العقد الاجتماعي" و"أصل اللامساواة بين البشر" ، وبنفس الوقت نداء "العودة إلى الطبيعة " وكتاب "الاعترافات..

 

مهد هؤلاء المفكرون بكتاباتهم لقيام الثورة الفرنسية في الرابع عشر من يونيو 1789 التي ساهمت مع الأفكار العقلانية التنويرية مساهمة كبيرة في زعزعة طغيان الأنظمة وسلطة الكهنوت ووصاية رجال الدين على العقل والضمير ، نتيجة نضال الشعوب الأوروبية التي ألهمها مفكرو الأنوار للاستبسال في سبيل العدالة والحقوق الاجتماعية الإنسانية تحت شعار " الحرية والأخوة والمساواة ". ليمتد تأثيرها إلى ما وراء البحار . وانبرى من عانى من الاستبداد للدفاع بحماس عنها ، فأصدر يوهان غوتليب فخته على سبيل المثال بين عامي 1793 و 1794 كتابين دفاعاً عن الثورة الفرنسية ..

 

عند البحث في أسباب نجاح المشروع التنويري الأوروبي من المفيد الاطلاع على الدور الإيجابي المساعد الذي اضطلع به بعض الحكام الأوروبيين إزاء حركة التنوير في ألمانيا ، كحكم فريدريك الثاني (1712-1786) في دولة بروسيا ، الذي فتح أبواب بلاطه لكثير من المفكرين والأدباء وشجع الآداب والفنون فأقيمت الأكاديميات ونشطت الجمعيات العلمية والطلابية ..

في مقابل إخضاع الناس للوحدة الدينية لبناء الممالك والدول . ارتقت الإنسانية وصارت تطلب الوحدة الوطنية . .. وهذا ما قصدته فرنسا من إقفال المدارس الرهبانيات في فرنسا بموجب النظام الجمهوري . لأنها تخرج تلاميذ يكرهون الجمهورية والحرية ويستحسنون الحكومات الملكية والدينية .. أصبحت المدارس مقصورة على تدريس العلم " حتى رئيس الجمهورية لا يجوز له أن يذكر اسم الله والعناية الإلهية في خطبه ". (فرح أنطون)

وأكد رواد التنوير أن الدول لا ترقى ولا تتطور وتستقر وتصبح مهابة الجانب إلاّ بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية .

 

غير أنّ السبيل لم يك سهلاً والانتصار ليس نهائياً ، إذ حلَّ زمن قضي فيه على تلك الأفكار وأعيدت الهيمنة على مصير المجتمعات الأوروبية وكأنّها لم تشهد الثورة والتنوير .. إلاّ أنّ الشعوب الأوروبية ومنوريها لم ييئسوا وتابعوا سبيل النهضة والتنوير ، ساعد في ذلك بنيان اقتصادي اجتماعي ثوري يملك زمام المستقبل .

وفي طريق مليء بالأزمات والحروب والصعاب استمرت أوروبا في النهوض والارتقاء مع القفزات الهامة التي سلكها العلم حتى وصلت إلى القمة الحالية التي تعيشها والتي تحققت بفضل بنى اجتماعية سياسية اقتصادية ساهمت في تأمين المناخ المناسب لهذا التطور الباهر .

وعلى الرغم من الأهوال الكبيرة التي حلت بالبشرية عقب مرحلة التنوير الأوروبي ، حين بدت العقلنة المتزايدة للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث تقوض استقلال الفرد ، مما أفضى في النهاية إلى فظائع النزعة الشمولية في الدول الاشتراكية ، وجعلت الرأسمالية تنتج النازية التي أضحت مُثُلُ وقيم التنوير فيها لعنة وكوابيس مرهقة على كاهل الشعوب ... وأصبحت العقلانية سلاحاً مقيتاً  للاستعباد الوحشي الجديد  .. وعلى الرغم من الأشكال الجديدة من العبودية لوسائل الإعلام والثورة العلمية المعلوماتية والعولمة الأمريكية المفروضة قسراً على الشعوب ، تبقى مسألة النهضة والتنوير التي قادت إلى هذه الحالة ، قضية ملحة بالنسبة لشعوبنا العربية ، ولشعوب العالم الثالث .

وللإجابة على التساؤل المشروع حول أسباب عدم تحقق المشروع النهضوي العربي من المفيد دراسة السبل التي سلكها هذا المشروع والتعرف على الثغرات فيها وإجراء مقارنة بينه وبين المشروع النهضوي الأوروبي وتبيان الخصال التي امتاز بها الأوروبي وجعلته يتحقق خلافاً للعربي .

 

التنوير في العالم العربي نظرة تاريخية

إنّ فعل التنوير هو فعل إنساني مستمر ، ليؤتي ثماره يجب أن يتغلغل في أعماق المجتمعات والشعوب . يختلف توهج التنوير من عصر إلى آخر . ففي بعض الأزمان يهيمن الظلام والانحطاط وتبقى محاولات التنوير ومضات محصورة في بعض الجزر الاجتماعية ، مثال ذلك محاولات العديد من المفكرين الفردية والجماعية كمحاولات ابن رشد ، وابن سينا ،  وابن خلدون ، وأخوان الصفا ، والمعري وغيرهم ..

يمكن إرجاع بعض إرهاصات التنوير ، أو بشائر الصحوة الاجتماعية والسياسية العربية ، إلى أكثر من سبب ومؤثر ذاتي داخلي وموضوعي خارجي . من الأسباب والمؤثرات الذاتية : بعض المدارس ومراكز العلم كالجامع الأزهر على سبيل المثال ، الذي ضمَّ بعض المشايخ على دراية بالعلوم الطبيعية والهندسية والفلكية ، منهم الشيخ حسن العطار معاصر الجبريتي ، أو الشيخ حسن والد الجبريتي نفسه . وكان هناك تأثير "الشوام" الموارنة الذين كانوا على اتصال قوي بالثقافة الفرنسية بحكم التعليم والانتماء الديني ، ولم يلغِ هؤلاء الموارنة "الشوام" الوافدين إلى مصر رغبة الفرنسيين ، إبان حملة نابليون على مصر ، في الاستعانة بالأهالي المصريين بدلاً منهم مما لعب دوراً في الاستفادة من ذلك الاحتكاك الثقافي لصالح الثقافة الوطنية في مصر . بالإضافة إلى الحركات التي كان يقودها بعض الزعماء المحليين ضد الولاة العثمانيين ، والمطالبين بالاستقلال عن السلطنة العثمانية .. تلك الحركات التي ترافقت مع ولادة نمط جديد من التفكير المتنور والتقدمي نسبياً ، الذي استفاد من الانفتاح على الغرب ، وأيده . هذا ما تجلى بوضوح وجلاء في عهد محمد علي.

 

        فمشروع التنوير العربي تأسس على أساس التناقض والتحدي مع الاحتلال والتجهيل العثماني والتحدي مع الاستعمار الحديث والصهيونية و مرّ في عدة مراحل .

هكذا جرت محاولة تنوير وتغيير واسعة في الثقافة العربية الإسلامية مع الاحتكاك الثقافي المباشر واقتباس الأفكار والمفاهيم المميزة للتنوير الأوروبي في القرن التاسع عشر ، من قبل أعضاء الصفوة المثقفة العربية الإسلامية .. الذين جمعتهم مشاعر الإحباط والثورة على الأوضاع الإنحطاطية التي سادت مجتمعاتهم ورفض تلك الأوضاع ، مؤمنين بأنّ أفكار : العقلانية والعدالة والحرية والمساواة هي الطريق السليم إلى تقدم المجتمع الإنساني في كل المجالات .

 

لقد سبب الصراع ضد الاستعمار الحديث الاتصال والاحتكاك بالغرب المتطور ، بدء ذلك خلال الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر وما تبعها من بعثات علمية عربية إلى أوروبا ، ودخول الطباعة الحديثة إلى العالم العربي وانتشار الصحافة ، فالتنوير بمفهومه الإيجابي قد انتقل إلينا من أوروبا الناهضة ، التي سبقتنا في تطورها العلمي والثقافي ، لعب بذلك الأفق الواسع لرواد التنوير العرب ، الذين عملوا على استيعاب تأثيرات الثقافة الغربية من دون عقد موروثة تحول دون التفاعل والاستفادة الإيجابية من منجزات التنوير ، ولم يمنعهم ذلك من مجابهة ذلك الاستعمار.

فقد أثارت النهضة الأوروبية الفضول والرغبة لدى المستنيرين العرب في التعرف على الواقع وأسباب ومظاهر التقدم في الغرب . وفي نفس الوقت أصبح الحاكم المستنير محمد علي الذي تمتع بنظرة كلية شاملة إلى الوطن العربي كوحدة .. أصبح حاكماً على مصر ، وهو يتوق إلى نهضة المجتمع المصري ، فقام بسلسلة من الإصلاحات في مختلف جوانب الحياة .. استند في إصلاحاته على تشجيع التعليم المدني والديني ، وإدراك أهمية وفاعلية العلوم الحديثة ، وفتح المدارس بما في ذلك مدارس للبنات فضلاً عن إدخال الصحافة الرسمية ، كما اهتم بالحياة الاقتصادية ، ولم يغفل دور الجيش في مساندة هذه الإصلاحات إلاّ أنّه أخطأ في حرمان المصريين من الترقي في صفوفه إلى رتب معينة ..  واستعان في كلِّ ذلك بخبراء أجانب ، وقام بارسال "بعثة الأنجال" إلى فرنسا التي ضمت في صفوفها الطهطاوي الذي اتصل اتصالاً وثيقاً بثقافة الغرب وفكره .. وأسس بعد عودته صحيفة (روضة المدارس المصرية ) التي ساهمت في نشر العلم والاتجاه العقلاني في مصر .. واستند في دعوته على معرفته بالقواعد والقوانين الفرنسية التي تكشف عن قدرة العقول على الوصول إلى حقائق العدل والإنصاف وهي من إنتاج وإبداع العقل البشري كما يقول ..

 

أراد رواد التنوير في العالم العربي أن يكون التنوير عملية نهضة وتغيير إرادي  فاعل وشامل يؤكد على ضرورة الرجوع إلى العقل ، ويشمل أساليب التفكير والسلوك والقيم ونظام الحكم وقواعد تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، ومكان الفرد في المجتمع والنظرة إلى الحياة ، هذا ما نجده أولاً في حياتهم التي عملوا من خلالها على ربط القول بالفعل والفكر بالممارسة ، ومواجهتهم الواقع والتعرض في سبيل تغيره ، إلى واقع أفضل ، لكثير من المتاعب نتيجة الصدام مع الرأي المتخلف أو السلطة سواء أكانت سلطة وطنية ودينية ، أو سلطة أجنبية استعمارية . وثانياً في مؤلفاتهم بدءاً من الطهطاوي حتى محمد عبده والجزويتي ، وشبلي شميل الذي أدخل نظرية التطور لداروين ووجد في ذلك كثيراً من العنت من رجال الدين والسلفيين .. ويعقوب صنوع الذي امتاز بالمواقف العلمية ورفع شعار القومية العربية كفكرة أو كمبدأ يعلو فوق الاختلافات والفوارق الدينية ، ولم يكن غريباً على العديد من رواد التنوير اعتبار العقل هو المبدأ الذي تقوم عليه كل أنشطة الحياة الاجتماعية .. كمواقف أديب اسحق الذي اشتهر أيضاً بالمبادئ النهضوية المتطورة ودعا إلى تجاوز العصبية الدينية ، وإلى الرابطة العربية وأهمية دور مصر فيها ، ويمتاز في دعوته بهاجس الحرية والمساواة ، والتأكيد على حرية المطابع وحرية المجامع . كما تميز بعدائه لرجال الكهنوت وليس للدين .. وبالمواقف الرافضة للأخذ بالغيبيات ومحاربة الأساطير والشعوذة .

 

تعد الصحافة من أهم الوسائل التي اعتمدها رواد النهضة في نشر الوعي والتنوير  . نذكر منها على سبيل المثال صحيفة (الجنان) لبطرس البستاني في بيروت (1870) أو (النحلة) التي أصدرها لويس صابونجي في بيروت ، والمقتطف.. وصحف العديد من المفكرين والصحافيين السوريين واللبنانيين الذين وفدوا إلى مصر بعد أن تعرض المسيحيين لمذابح عام 1860 الذين عرفوا في مصر باسم (الشوام) " مثل سليم نقاش ، وميخائيل عبد السيد ،  وسليم العنجوري ،  ويعقوب صروف ، وفارس نمر ، اللذين أنشآ مجلة المقتطف (1876-1952) وهي مجلة تهتم بعلوم الغرب بهدف نشر المعرفة العلمية لأبناء الشرق.. كذلك كان هناك فرح أنطون صاحب صحيفة الجامعة ، وناشر فلسفة ابن رشد .. الذين استطاعوا بفضل الصحف التي أنشأوها أن يمهدوا للثورة العرابية على ما يقول غالي شكري .

ثورة أكتوبر والمشروع التنويري العربي :

        وفي أوائل القرن العشرين نشأ عامل هام من العوامل المهمة في استيقاظ شعوبنا العربية مع شعوب الشرق ألا وهو قيام ثورة أكتوبر في روسيا التي ترافقت مع نشر فكر تنويري جديد ذي صبغة أيديولوجية اشتراكية .

        " على الرغم من كل الملاحظات حول هذه الثورة وحول ما آلت إليه روسيا لاحقاً ،  فلا بد من الإقرار بأنّ ثورة أكتوبر وما تلاها من نظام في روسيا ، خلق وضعاً محلياً لمن له أبعاد وآثار دولية لا يمكن تجاهلها ، أو دراسة التطور التاريخي بمعزل عنها .

أثبت تطور التاريخ العالمي قبل ثورة أكتوبر وبعدها أنّ الرأسمال يبحث عن أسواق له ، والحروب (التي تأخذ أشكالاً مختلفة) حتمية بين الدول الرأسمالية في إطار تنافسها على الأسواق الجديدة ، وتوسيع رقعة مناطق النفوذ ، ومحاربة كل ما يعيق ذلك وما يعيق مصالحها وخاصة استيقاظ الشعوب المستعبدة ومحاولة تحررها ." (انظر كتاب : من خفايا ثورة أكتوبر 1917 في روسيا – ترجمة وإعداد : شاهر أحمد نصر – إصدار : قوس قزح –طرطوس 1998)

فثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا بالإضافة إلى الأثر الذي تركته على التطور العالمي بما في ذلك تطور الشعوب في البلدان الرأسمالية ذاتها ، فالعديد من الإنجازات الاجتماعية ( مثل حق العمل ، والضمان الاجتماعي والصحي والشيخوخة ، والتعليم ، وحق المرأة في الانتخاب ) طبقت لأول مرة في بلد الثورة البلشفية ومن ثم انتقلت إلى الدول الرأسمالية ونسب بعضها إلى الحضارة الغربية ، فإنّها ساهمت في استيقاظ الشعوب وخاصة شعوب الشرق بما فيها شعوبنا العربية ، وساهمت في دعم نضال هذه الشعوب ضد الاستعمار في سبيل تحررها ، وساعدتها في تدعيم الاستقلال والتقدم الاجتماعي .

كما أثرت ثورة أكتوبر في العالم الرأسمالي وعرَّت مثالبه وتآمره على الدول الضعيفة ففضحت الاتفاقات المبرمة بين الدول الرأسمالية الاستعمارية لاقتسام مناطق النفوذ والهيمنة على الدول والشعوب المستعمرة مثل اتفاقيات سايكس بيكو لاقتسام وطننا العربي بين تلك الدول ، وتقديم بريطانيا الاستعمارية وعد بلفور المشؤوم لإقامة الكيان الصهيوني كقاعدة للاستعمار في منطقتنا ..

ساهم ذلك في تعزيز نضال تلك الشعوب في سبيل استقلالها ، وفي نشر فكر تنويري جديد هيمنت عليه مبادئ التحرر من جميع أنواع الاستغلال والاستعباد تحت مظلة الفكر الماركسي . وأخذت عملية النهضة والتنوير طابعاً جديداً في النضال ضد الاستعمار ، وضد أشكال الاستغلال الداخلي المولدة للفقر والجهل والتخلف ، على خلفية تشكيل الأحزاب الوطنية ، وتطور عملية التنوير من فعل المفكرين إلى الفعل الجماهيري ، ولعب الفكر الاشتراكي دوراً جامعاً ومحرضاً فعالاً في تنوير هذه الشعوب .

وساهم انتصار الاتحاد السوفياتي وليد ثورة أكتوبر على ألمانيا الهتلرية في تعزيز انتشار الفكر التحرري القومي والاشتراكي ، الذي لعب لفترة دوراً تنويرياً هاماً في العالم بما في ذلك في بلداننا العربية .

كما ساهم انتصار حركة التحرر والاشتراكية في دول أوروبا الشرقية والصين ، ووصولها إلى الحكم عن طريق الثورة والجيش ومساعدة الجيش الروسي الأحمر ، في زيادة رصيد الفكر الاشتراكي في العالم ، ووصول ممثلي الأحزاب القومية والاشتراكية إلى الحكم في بعض الدول العربية عن طريق الانقلابات ، وليس الانتخاب ، لتنتقل حركة النهضة والتنوير إلى مرحلة جديدة ، أساسها بناء المجتمع وفق أسس جديدة رابطة التنوير بمعالجة القضايا الاجتماعية ، بالإضافة إلى الاستمرار في طرح القضايا القومية كالوحدة العربية والتحرير .

ترافق ذلك كله مع قيام الكيان الصهيوني والاعتراف به دولياً وما يمثله من بؤرة توتر ، ومشروع استيطاني مدعوم من الاحتكارات الرأسمالية العالمية ، تقوم أيدلوجيته على العنصرية والصراع المصيري مع المشروع القومي العربي .. بالإضافة إلى انتقال مركز الاستعمار الرأسمالي العالمي الجديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، الحامية الجديدة لإسرائيل التي أضحت قاعدة متقدمة للولايات المتحدة في المنطقة في حربها الباردة ، التي كان أحد أهم مبادئها وأهدافها محاربة الفكر الاشتراكي بكل السبل بشكل متمايز عمّا هو الحال في دول أوربا الرأسمالية التي كانت مهداً ومركزاً لانتشار الفكر الاشتراكي في العالم ، ووصلت بعض الأحزاب الاشتراكية والعمالية فيها إلى الحكم .

في ظل هذه الظروف والصراعات المحلية والدولية عدت الأحزاب القومية والماركسية العربية وقياداتها ، التي أصبحت حاكمة ، أن النهضة والتنوير قاب قوسين أو أدنى ، وأن لا نهضة ولا تنوير من دونها ، وبالتالي رأت في ذاتها الغاية والهدف ، وأخذت تنسخ تجربة لدول عاشت في ظروف غير ظروفها وتجارب غير تجربتها في أوروبا الشرقية ، عن طربق إقامة بنيان اجتماعي اقتصادي أوامري شمولي شبه عسكري ، صور وكأنّه الجنة الموعودة ، في الوقت الذي فقد فيه الأفق ، وأضحى عائقاً أمام التطور والتقدم . وزاد الطين بلة تراكم الأخطاء في تلك الدول دون معالجة حتى وصلت إلى مرحلة الانهيار .

إذا كانت حركة التنوير الأوروبية قد انطلقت من مبدأ فصل الدين عن السياسة والحكم ، فإنّ حركة التنوير العربية اعتمدت في البداية من قبل رجال الدين ثم جرت المطالبة بفصل الدين عن السياسة ، وانتصر هذا الاتجاه بانتصار الفكر العَلماني ووصول الأحزاب العلمانية عن طريق الانقلابات إلى سدة الحكم ، ففصلت الدين عن السياسة وأقامت حكم الأحزاب العلمانية التي تحول فكرها شيئاً فشيئاً إلى دين جديد . فأسوة بالمحرمات الدينية أوجدت الأحزاب التنويرية الجديدة محرمات ومقدسات لا يسمح المساس بها ، وأقرت نظريات عدت مسلمات لا تحمل أدنى ريبة أو شك ، وطالما الشك ممنوع فالإبداع مستحيل ، هكذا تحول الفكر التنويري إلى أداة تجهيل . كلّ ذلك بالإضافة إلى البنى الاجتماعية والسياسية المستوردة من أوروبا الشرقية والتي تخلت عنها شعوب تلك الدول نظراً للثبوت بالدليل القاطع والممارسة العملية أنّها معيقة للتطور ، والتي تتمسك بها الأنظمة التي تحقق مصالح الفئات والطبقات الاستغلالية الجديدة التي خلقتها ، بالإضافة إلى هذه البنى أُحيطت شعوب هذه الدول بشبكة عنكبوتية من الفكر الذي اعتبر فكراً تنويرياً إلاّ أنّه تحوّل إلى فكر الأنظمة وأضحت غايته الدفاع عن هذه الأنظمة ، وأحاط هذا الفكر قادة تلك الأنظمة بهالة من التقديس التي تفوق قداسة الآلهة . وأصبح من المنكر انتقاد هذه الأحزاب أو قادتها ، وبالتالي فالتنوير الذي بدأ بشعار فصل الدين عن الدولة وصل إلى الأزمة التي بدأ منها وهي تحوله في دين جديد متخلف عن الأديان السماوية يحظر ويمنع أية معارضة أو نقد ؛ إنّه دين متشدد ومتخلف عن الديانات التي عرفتها البشرية والتي عرفت بالتسامح ، فمن المعروف دينياً أنّه حتى الخالق العزيز القدير استمع إلى إبليس الذي عارضه ولم يلغيه ، بينما قادة هذه الأحزاب ترفض الاستماع حتى للأصدقاء إن وجهوا أقل ملاحظة ولو كانت لخدمة شعوبها .

من كل ما تقدم يتبين أن حركة التنوير والنهضة العربية وصلت إلى مرحلة جديدة تحتاج إلى مشروع تنويري جديد .

 

وقبل البحث في ملامح المشروع التنويري الجديد سنتطرق إلى أوجه الاختلاف بين المشروعين التنويريين العربي والأوروبي ، علّها تساعدنا في تلمس السبيل الصحيح للمشروع التنويري النهضوي العربي الجديد .

 

 من نقاط الاختلاف بين التنوير في العالم العربي وأوروبا :

من التساؤلات المشروعة التي ستبقى تتكرر لأجيال قادمة سبب انتصار المشروع التنويري الأوروبي وفشل المشروع التنويري العربي ووصوله إلى مأزقه الحالي ، والسبل والوسائل اللازمة لنجاحه .

 

من نقاط التباين الأساسية بين المشروعين أنّ مشروع التنوير في العالم العربي لم يترافق بوجود فلسفات تنويرية متكاملة وواضحة لها فلاسفتها ومذاهبها المحددة التي دخلت كجزء من التراث الفكري الإنساني كما هو الشأن بالنسبة للتنوير في أوروبا ..

 

إنّ الخلافات السياسية والتاريخية بين الدول الأوروبية لم تمنع التفاعل بين المفكرين الأوروبيين من مختلف الدول ، فالفلاسفة الألمان دافعوا عن الثورة الفرنسية ، والفكر الإنجليزي أسس لتطور الفكر الفرنسي ، بل إن الماركسية التي تعد قمة التنوير الأوروبي اعتمدت في مصادرها الأساسية على ما أنتجه العلماء والمفكرون والفلاسفة الأوروبيون جميعاً : من الاقتصاد السياسي الإنجليزي إلى الفلسفة الألمانية فالفكر الاشتراكي الفرنسي .. أما في العالم العربي ، الذي امتاز باختلاف الظروف والأوضاع الاقتصادية والسياسية بين دوله ،  على الرغم من أنّ الثقافة العربية تستمد مقوماتها من وحدة اللغة والدين في الدرجة الأولى فقد ظهرت ثقافات فرعية داخل إطار الثقافة الوطنية أو القومية ، و حصل تنوع واختلاف وتباين في التعامل مع الفكر التنويري القادم من الغرب .. ولمعالجة هذا التباين والاختلاف لم تستخدم وسائل الحوار المتحضرة والاعتراف بالآخر ، بل اعتمد أسلوب الغزو العسكري وسيلة لحل هذه الخلافات ، تحت راية الشعارات القومية ، كالوحدة العربية ، مما أدى إلى زيادة الفرقة وأثار العداوات بين الأنظمة العربية ، في مختلف المجالات بما فيها الفكرية . وأصبح الفكر سلاح يهاجم به كل نظام النظام الآخر .. وهكذا أخذ الفكر التنويري يفقد مشروعيته وتأثيره ..

وفي الوقت الذي لم يمنع الاختلاف بين المفكرين الغربيين علاقتهم واستفادتهم الواحد بالآخر والإقرار بالنقاط الإيجابية لدى الآخر على الرغم من عدم موافقته عليها كاملة ، فهذا ماركس يختلف مع فريدريك هيغل ولودفيغ فورباخ إلاّ أنّه ينوه بأهمية الفلسفة والمنهج الديالكتيكي الذي اتبعاه بل يأخذ به بعد إدخال لمساته المادية عليه ، أما الاختلاف في مواقف رواد التنوير العرب فيقود إلى التباعد بينهم . فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من الاتفاق الأساسي في الهدف بين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده " ألا وهو الإصلاح والتقدم والارتقاء بالعالم العربي كان هناك تباين في الرأي بينهما حول الأسلوب ... فقد اختلف الاثنان حول الوسيلة والأداة بل وحول المدخل الذي يساعد على تحقيق النهضة العربية والإسلامية ، وهل تكون الوسيلة هي الثورة الشاملة التي تستند إلى دعاوى الدين والسياسة (الأفغاني) ، أم تكون هي الإصلاح التدريجي (محمد عبده) ، وأدى هذا الاختلاف إلى التباعد بين الاثنين ".

 

        من المعروف أنّ حركة التنوير الأوروبية اعتمدت مبدأ فصل الدين عن الدولة كما بينا أعلاه . إلاّ أنّ حركة التنوير العربي عانت من الاختلافات حول المنطلقات الأساسية في التنوير ، أ يتم من خلال التمسك بتعاليم الدين بعد إحيائها وتجديدها ، أم بتبني النظرة العلمية المادية العقلانية ، وتبني عملية إصلاح النظام السياسي القائم والاستفادة من شكل التنظيمات السياسية في الغرب وتشريعاته وأجهزته ؟ إلاّ أنّ الاتجاهين لم يؤديا إلى فصل الدين عن الدولة . حتى الاتجاه القومي العربي والعلماني قاد إلى دولة تُقاد من قبل أنظمة لها مقدساتها ومحرماتها المحصنة ضد الشك والنقد ، أي أبعد المقدس الديني ليحل محله مقدس وضعي وأحياناً منحط ضمن بنى مشوهة وجامدة . أما التنوير في مفهومه الكلي والشامل.. فإنّه بنجاحه ينتج بنياناً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وجمالياً حيوياً مرناً متكاملاً .. وهنا تكمن أهم نقاط التباين والاختلاف بين البنيان العربي الذي ولّده المشروع التنوير العربي الجامد ، والبنيان الأوروبي الذي امتاز بالمرونة وقابلية التطور .

 

 

 

أي مشروع نهضة وتنوير عربي نريد

إن حالة اللاعقلانية التي يعيشها العالم وحالة الانحطاط التي نعيشها في الوطن العربي تؤكد الحاجة الماسة إلى مشروع تنويري جديد على الصعيدين العالمي والعربي . لنضمن موقعاً لنا في الحضارة العالمية المتجددة .

        لا شك بوجود علاقة متبادلة بين النهضة والتنوير . من الممكن أن يمهد الوعي التنويري للنهضة ، لكن النهضة لا يمكن أن تحصل من دون فعل تنويري في إطار حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية ، وترتبط تلك الحالة بالهوية الذاتية ، والعمق التاريخي ، والذاكرة التاريخية للأمة .

مع فشل مشاريع التنوير العربية يطرح البعض أسئلة تتعلق بشخصية "الإنسان العربي " ومدى تقبلها للجديد والتنوير . وفي هذا المجال لا بد من التأكيد على أن الإنسان العربي كالإنسان الأوروبي وبقية البشر يمتلك كل مؤهلات التحضر والتنوير . والإنسان الأوروبي مرّ في مراحل انحطاط ، في الوقت الذي كانت فيه الحضارة العربية في أوجها .

أما فيما يخص الممهدات الموضوعية والوعي التاريخي فهي ، وإن كانت تختلف عن الأوروبية ، متوفرة ، بل ذات بعد تاريخي عميق يمتد لقرون قلما تجده لدى أية أمة أخرى .

كما أنّ محفزات هذا المشروع كثيرة وملحة تكمن في التحديات الماثلة أمام العرب في معركتهم مع الصهيونية وتحديات العولمة وفي فشل المشاريع السابقة : القومي والاشتراكي والديني المستنير والليبرالي التحديثي .. وتعاظم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وحالة الفساد والانحطاط التي تحتم ضرورة البحث عن مخرج منها .. وبما أنّ الحالة والأزمة التي نعيش عامة تطال الجميع حكاماً ومحكومين وجميع فئات الشعب وتياراته الفكرية والسياسية ، وللجميع مصلحة في الخروج من هذه الحالة ؛ " فالحامل الاجتماعي (كما يقول الدكتور طيب تيزيني ) لمشروع النهضة والتنوير العربي يتمثل في الجسم الأعظم للأمة العربية من أقصى "يمينها الوطني" إلى أقصى "يسارها الوطني" .

 

ولتدارك الإخفاق الذي حلَّ بالمشروع التنويري العربي فقد قامت أطراف مختلفة بمحاولة التأسيس لمشروع تنويري جديد كل من موقعه : فظهر السلفيون الذين يروا في الماضي مصدر الحقيقة ومنتهاها ... ودعاة المناهج المعرفية المتأثرين بالمنهاج الغربية كالبنيوية والتفكيكية المنادين باللحاق بالدول المتقدمة ، وتقليد مشاريعها البنيوية والانسجام مع العولمة ، واحتلال موقع سليم في العالم للتأسيس لنهضة العرب . وعلى الرغم من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها دعاة المشروعين القومي والاشتراكي العلماني ، فإنّهم لم يفقدوا الأمل في القدرة على النهوض بالواقع العربي البائس .

       

إذا تعمقنا في وصف الحالة المطلوبة لنجاح التنوير والنهضة نجدها تنطوي على شُعَبٍ مترابطة ، لحمتها الأساسية الحرية والعقلانية والديموقراطية ضمن الأسس المعرفية والأخلاقية المميزة للأمة العربية .

والمنطلق الأساسي لأي فعل نهضوي يرتبط بالواقع السياسي الدينامي المتطور ؛ إذ أنّه في الحالات السياسية المغلقة ذات القيود المكبلة للتطور والإبداع لا مستقبل لأي مشروع تنويري مهما غُلِّف بنظريات اجتماعية واقتصادية ثورية أو تقدمية . والمدخل السياسي يتلخص بالديموقراطية كصيغة مناسبة وفاعلة في خدمة المشروع العربي ، تقر بمبدأ التعددية السياسية والحزبية والنقابية والثقافية أي الإقرار بالجميع ضمن حالة من المنافسة المضبوطة بين فرقاء المجتمع ، ومبدأ التداول السلمي للسلطة في الغرفة السرية للانتخاب ؛ سعياً إلى تحقيق مبدأ : في دولة القانون الجميع متساوون أمام القانون .

يبين البحث الدقيق والعميق في أسباب فشل المشروع النهضوي العربي إلى أنّ البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الجامدة التي أستوردها وحاول تطبيقها في بلداننا كانت أهم العوائق أمام نجاحه ، بالتالي للخروج من المأزق الذي أوصلنا ذلك المشروع إليه من الضروري تجاوز تلك البنى واعتماد صيغ وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية دينامية جديدة تتجاوز مآسي الماضي .

النهضة تحتاج إلى وضع اقتصادي متطور وسليم : النهضة تستدعي وجود اقتصاد دينامي متطور ، وهذا يؤكد ضرورة الإصلاح الاقتصادي في البلدان العربية . هناك بلدان أسيوية لا يتجاوز عدد سكانها أو مساحتها أو مواردها مثيلاتها في بعض الدول العربية ، بنت اقتصاداً متطوراً يقوم على الصناعة الثقيلة كصناعة السيارات والآليات الزراعية والميكانيكية وصناعة التقنيات المتطورة في مجال  الاتصالات وغيرها ، وتجد سوقاً لها في مثيلاتها من بلداننا العربية . فكل المقدمات متوفرة لبناء اقتصاد متطور ومتين في البلدان العربية والأسواق العربية تستوعب إنتاج تلك الصناعات ، مما يرفع من مكانة تلك الدول ويخلق فيها جيلاً واعياً يتعامل مع أحدث تقنيات العلم ويعيش حياة ميسورة تبعده عن التطرف والجهل ، ويخلق الممهدات المناسبة للتقدم والحضارة ، هذا يدل على أن التكامل الاقتصادي العربي هو حلقة أساسية في مشروع النهضة العربية . وفي الوقت نفسه لابد من وضع خطط ومشاريع لمكافحة النهب والفساد الذي تعيشه البلدان العربية .. وهذا يعيدنا إلى المشروع السياسي ؛ إذ أنّ الفساد في أغلب الدول العربية نما وترعرع في ظل أحوال استثنائية وطارئة ، فالخطوة الأولى لمعالجة الفساد هي في القضاء على المناخ الذي يفرخ ويعشش فيه ألا وهو مناخ الكبت والحكم الاستثنائي الطارئ .. بالإضافة إلى معالجة وتطوير القوانين والأنظمة التي وضعت لإفساد العباد .. مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة العدالة الاجتماعية في أساس جميع القوانين والأنظمة المعنية .

والبنيان الاقتصادي الاجتماعي الدينامي المتطور السليم يحتاج إلى بنى اجتماعية صحية ، نستطيع من خلالها تعريض كافة النشاطات للفحص والنقد والتصحيح .. ولقد أثبت التطور التاريخي أن تلك البنى تتوفر في صيغة المجتمع المدني . كما يقول التيزيني: "هناك ارتباط بين مشروع النهوض العربي وبين صيغة من صيغ مجتمع مدني يضبط آليات التحرك السياسي ضبطاً يجعله ذا بعد تاريخي مفتوح ومثمر .."

 

في الفكر التنويري المطلوب
لا بد من الإقرار بادئ ذي بدء بأنّ الدين هو اسم لجميع ما يُعبَد به الله ، وبالتالي هو حالة بين الإنسان والله ، يحتل مكانة محترمة ذات إجلال في الفكر والمجتمع ، ويساعد بني البشر في بحثهم عن الطمأنينة  .. وقد مرّت الديانات بمراحل متعددة مع تطور البشرية .. أما البنيان الاجتماعي العصري فهو بحاجة إلى فكر وعلم ينبثق من حاجته للتطور والتقدم ، فكر يعتمد على العقل وينطلق من الواقع ، بالتالي مع إعطاء الدين حقه وحفظ مكانته في العالم الروحي للإنسان ، يجب تبني نظرة علمية واقعية تستند على العقل لفهم سيرورة المجتمع وتطوره .

فالفكر الذي يساعد أبناء المجتمع على الرقي والتحضر هو زبدة ما أنتجته البشرية من الفكر العقلاني  العلماني .. هناك من يقول إنّ الأمة العربية جربت الفكر العقلاني العلماني ، لكنه لم يساعدها في معالجة مشاكلها . مما اضطرها إلى العودة إلى الفكر الديني . نقول بأنّ الفكر العلماني لاقى هجوماً شرساً من الاحتكارات الرأسمالية التي وجدت فيه مهدداً لمصالحها وحماية نفوذها في بلداننا ، مما جعلها تتجه إلى الفكر الديني لتواجه به الفكر العقلاني العلماني ، ولكن الفكر الديني والسلفي لم يساعدا في معالجة مشكلة تحضر شعوبنا بل على العكس نلاحظ نكوصاً كبيراً على مختلف الصعد . ولم تستطع أوروبا إنجاز نهضتها بمعزل عن الفكر العقلاني العلماني ، وطريقها لم يكن سهلاً ، أو مستقيماً ، بل عانى الكثير من الصعاب والمد والجزر ، واستمرت مسيرته لقرون ، بينما عمر المشروع النهضوي العربي لم يتجاوز القرن بعد ، والنكوص والقفزات والتقدم جميعها من خصائص تطور المجتمعات ، وما بعد النكوص إلاّ التقدم .

فلوضع مجتمعاتنا على الطريق الصحيح نحتاج إلى فلسفة التنوير التي تعيد الاعتبار للفكر العلمي والعقلاني والعلماني بجميع اتجاهاته بما في ذلك الماركسية ، بالإضافة إلى اعتماد خيرة المناهج التي أنجزتها البشرية ألا وهو المنهج الديالكتيكي .

ضمن منهجية وآلية ثقافية صحيحة تعتمد على حرية الرأي والعمل المؤسساتي المجتمعي في إطار تشريعات وقوانين تساهم في ولادة عقل وفكر لا يقبل بأي مقدس أرضي ويعرض كل ما يحيط به إلى التمحيص والشك والنقد .

 

                      طرطوس   صيف 2002               

 

 



#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل هناك من هو أقوى من حكام الولايات المتحدة الأمريكية الحالي ...


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - شاهر أحمد نصر - عقبات تحقيق المشروع التنويري العربي ؟