أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل عبد العاطي - زرع الخاتم بذرته ورحل فمن يرعى البذرة؟















المزيد.....

زرع الخاتم بذرته ورحل فمن يرعى البذرة؟


عادل عبد العاطي

الحوار المتمدن-العدد: 1560 - 2006 / 5 / 24 - 10:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


عوالم الخاتم:
حين طلب مني الأخ محمد عبد الرحمن أن أساهم في هذا التأبين؛ تحيرتُ من أي مدخل ينبغي أن ادخل؛ للحديث عن الخاتم عدلان.. وحين سألني الصديق أمجد إبراهيم عن موضوع كلمتي؛ قلت له إنها عن الخاتم كإنسان؛ وعن الخاتم كموقف؛ وعن الخاتم كمُلهم؛ فقال لي أذن تريد أن تتحدث في كل المواضيع؛ وقد صدق؛ وما صدقتُ.
صدق أمجد لأن الخاتم ليس عالما واحدا؛ وإنما هو جملة من العوالم المتعددة؛ من أي باب دخلت إليه؛ تجد عنده كنوزا ذاخرة من المعرفة والمواقف والإنسانية؛ ومن حياة الفكر والشعور؛ وأنا اسعي أن أتحدث عن كل هذه العوالم؛ وأكثر. ولم أصدقُ أنا من الجهة الأخرى؛ لأنه لا أنا؛ ولا جمعنا هذا؛ ولا أي شخص؛ يستطيع أن يغطي هذه العوالم جميعها.. فقد احتككنا بالخاتم قليلا؛ ورأينا فقط ما أُتيح لنا من عوالمه الغنية؛ في تلك التوهجات الخاطفة التي اُتيحت لنا؛ في لحظة من الزمان؛ وغاب عنا الكثير؛ ولا يزال الخاتم أمامنا؛ رغم رحيله؛ كتابا عميقا نقرأ فيه؛ وطريقا طويلا علينا اكتشافه؛ واكتشاف أنفسنا فيه.
كان الخاتم فيما يتعلق بمتاع الحياة؛ فقيرا بسيطا؛ لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب؛ أو من فضة؛ بل ولد وترعرع في دكة الجعليين؛ قرية بسيطة مثل غيرها مكن قرى السودان؛ وظل حياته كلها ابن دكة الجعليين المخلص؛ لم يتغير؛ ولم يتبدل؛ وان تبدل عيشه عديدا في الزمان والمكان.
لم يبحث الخاتم في طول عمره القصير عن ثروة او جاه؛ ولو وقعا له اتفاقا؛ لما اهتم بهما؛ وكما ولد فقيرا وبسيطا؛ رحل بسيطا وفقيرا؛ ليحتضنه قبر بسيط في أم دكة الجعليين. ولكن الخاتم وان كان فقيرا وبسيطا بمعيار الماديات؛ فقد كان غنيا باذخ الغنى؛ في شعوره؛ وعميقا بالغ العمق؛ في فكره؛ وكان كريما حد الكرم؛ حين أتاح لنا من نفسه؛ ومن حياة فكره وشعوره؛ ومن تجربته ومن وعيه؛ مناهلا نغترف منها؛ في حياته ومن بعد مماته.

موت الخاتم:
كتب الخاتم مرة؛ وهو يعلق على موت عبد الخالق محجوب؛ إن ميتته كانت ميتة عظيمة؛ كلنا نتمناها؛ وكذلك كان موقفه من موت الأستاذ محمود محمد طه؛ وكان دائما يحتفي برجال الفكر والمواقف؛ الذين وهبوا الحياة بسيطة؛ لقاءا ما يؤمنوا به من فكر؛ وما ناضلوا من اجله من حلم؛ وربما كان يتمني ميتة كهذه.
إلا إن موت الخاتم في الحق قد كان مشابها؛ فهو إن لم يمت على أعواد المشانق؛ فانه قد مات في ساحات الفكر والنضال؛ وهو مثل سابقيه؛ ممن احتفي بموتهم من رجال؛ قد وهب نفسه لما يؤمن به؛ وما يحلم به؛ وكانت حياته في هذا الطريق جميلة ونبيلة وعظيمة؛ وكانت ميتته في هذا الطريق جميلة ونبيلة وعظيمة.
مات الخاتم وهو في عز عطائه؛ مات تحت تأثير داء عضال ألم به؛ نازله الخاتم بكل ما يملك من قوة ومن مقدرة على الصراع؛ وما انهزم له؛ وان انهزم الجسم. عاني الخاتم في مرضه من آلام مروعة ألمت به؛ فلم يركع أمامها؛ وان ركعت لها الجبابرة. وحينما رأى الخاتم مرأى العين الموت متوجها إليه؛ لم يجزع؛ وإنما تسائل فقط – في دهشة وبراءة- عن مصير كل تلك المشاريع التي لم تنجز في حياته؛ والتي كان يحضر لها؛ فما أمهله الموت.
إن الخاتم قد مات بحسن الخاتمة؛ وهو قد لخص في لحظاته الأخيرة؛ عمق المعني الذي كان يناضل من أجله؛ وان اختلفت الرايات والأشكال؛ حين قال في إحدى كلماته الأخيرة؛ فيما نقله عنه صديقه ورفيقه الباقر العفيف؛ انه قضى كل حياته يناضل من أجل الاستنارة؛ وانه لو بقي من حياته عامين؛ أو يومين؛ أو ساعتين؛ فانه سيعمل من أجل ذلك الهدف النبيل.
في تلك الجملة لخص الخاتم مشروع ومحتوى حياته وحلمه؛ وكذلك الطريق إليه. فما كان مشروع الخاتم ولا محتوى حياته هي الشيوعية؛ ولا الحزب الشيوعي؛ وان قضي فيهما ثلاثين عاما؛ كما لم يكن مشروع حياته استعادة الديمقراطية؛ ولا حركة القوى الديمقراطية؛ وان قضي كل حياته يناضل من أجل الديمقراطية؛ وقضي العقد الأخير من عمره يبني حركة القوى الديمقراطية؛ وإنما كان مشروع حياته ومحور نضاله أن يتنور الناس؛ وان يعرفوا حقوقهم؛ ويناضلوا من اجلها؛ وهذا هو الطريق لكل ما عداه؛ من عدالة اجتماعية ومن حريات ومن تطور؛ وهو ما اسماه بالاستنارة؛ والتي قال انه لو بقي من عمره ساعتين؛ لناضل من أجلها.
أعلم أيضا؛ من مصادر غير رسمية؛ أن الخاتم لما اقترب منه الموت؛ لم يتراجع عن خياراته الفلسفية والوجودية؛ وانه في مواجهة الطلبات التقليدية للأقرباء؛ للتوبة عن ذنوب لم يرتكبها؛ والرجوع عن معاص ليست له؛ وقف موقفا غير تقليديا؛ متمسكا بشجاعة المفكر أمام اللاهوت؛ وعظمة العالِم أمام البهموت؛ ولم يساوم أمام الموت؛ كما لم يكن يساوم في الحياة؛ فكره ومواقفه؛ كما يفعل الكثيرون؛ ردة ورجوعا إلى ما لا يؤمن به؛ ولا يشكل خياراته المعرفية؛ وهو الذي كان يحترم خيارات كل إنسان؛ وكان يتمسك بخياراته كاملة وسط العواصف؛ طالما كان يؤمن بصحتها.
بهذا المعني؛ فان الخاتم لم يمت؛ وان مات منه الجسد. بقى من الخاتم العقل الجبار؛ وبقيت الروح العظيمة؛ وبقيت سيرته الحافلة بالإلهام؛ وتجربته المورثة للحكمة؛ وأعماله ونضاله في درب الاستنارة؛ علامات مضيئة تتوهج كلها على الطريق؛ تنير لنا الدرب؛ وتعلمنا المنهج العلمي والموقف المبدئي وعظمة الإنسان؛ في خضم الحياة أو في مواجهة الممات.

بذرة الخاتم:
ينظر المرء غير المتابع إلى حياة الخاتم القصيرة؛ فيكاد يظنها حياة أُهدِرت؛ وإمكانيات أُجهِضت؛ إذا عدّ منها حوالي العشرة أعوام قضاها الخاتم عدلان في السجون؛ وحوالي عشرة سنوات قضاها الخاتم في الاختفاء؛ وعشرة سنوات قضاها بالمنفي؛ فماذا تبقى إذن من الحياة؛ وقد رحل الخاتم في شرخ الشباب؟
وإذا نظر المرء غير المتابع إلى حياة الخاتم من اتجاه آخر؛ فربما تكرس عنده وهم الإهدار؛ لو عرف إن الخاتم قد أمضى ثلاثين عاما في صفوف حزب قد شكل أملا للناس ذات يوم؛ وانتهى إلى أن يكون ألما اليوم؛ واقصد الحزب الشيوعي السوداني؛ ثم خرج عنه في عملية هي أشبه بقطع الإنسان للحمه الحي كما قال.. وكذلك لو راقب عمل الخاتم في خلال العشرة سنوات الأخيرة من عمره؛ في بناء البديل؛ في شكل حركة حق؛ وهي محاولة انتهت بتشظي التنظيم الذي بناه وأسسه إلى جناحين؛ وتآمر الأعداء و"الأصدقاء" عليه؛ وانتهائه أحد التنظيمات الصغيرة على الساحة السياسية؛ رغم الآمال العظيمة التي علقت عليه ذات يوم.
ونمضي مع وهم الإهدار؛ إذا نظرنا للتراث الفكري للخاتم؛ وهو ضائع مفقود؛ أو موزع بين الأضابير وعلى صفحات الصحف وفي الإرشيفات المتفرقة؛ لا تضمه صفحات كتاب أو كتب؛ مع غزارة ما كتب.. وإذا علمنا بان أكثر ما كتبه عمقا من أفكار؛ لا ينسب إليه اليوم؛ لأنه نشره تحت إسم أحزاب كان ينتمي إليها؛ فضاع إسمه وجهده بين التنظيمات؛ والتي وان حفظ بعضها جهده وحقه – كحركة حق مثلا-؛ فان بعضها قد سرق جهده السابق واللاحق؛ ثم لم يزل يحارب الرجل – مثل الحزب الشيوعي واستالينيه-.
ولكن الأمور لا تقاس هكذا؛ والخاتم لم يكنن يقيسها هكذا؛ فقد كان الخاتم إنسانا متفردا؛ لا يغلب الخاص على العام؛ وهو مثله مثل غيره من رجال الفكر والتغيير؛ كانت له معايير أخرى؛ تختلف عن معايير أهل الحكم والمال والسياسة؛ وهو في تجربته في الحزب الشيوعي؛ وفي حركة حق؛ وفي العمل العام عموما؛ إنما كان باحثا عن التغيير والتنوير؛ وليس عن المجد الشخصي؛ وكان مساعدا لكل التضحيات في هذا الطريق؛ وكان مدركا لفداحة الثمن الذي يمكن أن يدفع في هذا الدرب.
كان الخاتم رجل الخيارات الصعبة؛ وذلك لان الخيارات الصعبة في واقع السودان؛ وفي عالم الإنسان عموما؛ هي الخيارات الحقيقية.. كان ذلك عندما انضم إلى صفوف الحزب الشيوعي وهو غض صغير؛ وكان ذلك عندما خرج من صفوف الحزب الشيوعي؛ وهو أحد أهم قادته بلا منازع؛ دون أن ينظر لحسابات الربح والخسارة. كان ذلك عندما أسس حركة حق؛ وعندما ثابر عليها؛ رغم المغريات والضغوط؛ التي ستتكشف تفاصيلها ذات يوم؛ من قبل الأعداء المعلنين و"الأصدقاء" المزعومين.
نفس الشيء يقال عن الخيارات الفكرية للخاتم؛ والتي كانت خياراته التنظيمية انعكاسا لها؛ فقد كان الرجل باحثا جادا عن العدالة الاجتماعية؛ وعن قيم الاستنارة؛ ومثابرا في موقفه من حرية وكرامة الإنسان؛ وفي كل هذا لم يساوم قط؛ في كل حياته القصيرة والعميقة في آن؛ وكان في ذلك غفاريا؛ سائرا في طريق الكبار من المفكرين والمصلحين الاجتماعيين والأنبياء؛ ممن انتهت حيواتهم على أعواد المشانق؛ أو انقضت في عزلة وحرمان؛ فما لمفكر من اعتبار في زمنه؛ ولا لنبي من تصديق في قومه.
كان الخاتم منحازا للبسطاء من الناس؛ وقت كانت الصفوة منحازة إلي نفسها والى أنانيتها؛ والى مصالحها الصغيرة؛ تبحث عن المنصب والنقود تحت ظل جنرال أرعن أو تاجر دين انتهازي أو طائفي دعي.. لم يبحث عن المال ولا عن السلطة لنفسه؛ وإنما بحث عن تحسين أحوال الناس جميعا؛ ورأى في تحقيق هذا الهدف تحقيقا لمعني الحياة؛ الذي يغيب عن صغار النفوس وعَبدة المال أو الجاه أو الرجال.
كان الخاتم علمانيا وعلميا؛ وكان يؤمن بتحرر الناس من ربقة الجهل والخرافة؛ وحقهم في نور المعرفة وحرية العقل. في اختياراته هذه لم يساوم الخاتم ولم يجامل؛ ولم يلعب بالبيضة والحجر؛ مثل دهاقنة السياسة السودانية؛ والمدعين من "قادة" وسادة؛ المنكسرين إمام الضغوط والراكضين وراء السلطة؛ والملتحفين لها كل يوم ثوبا جديدا؛ فتجدهم كل يوم هم في حال عضير من التبدل الانتهازي وبيع الفكر – أن كان هناك فكر- في سوق السياسة والنخاسة؛ لا فرق بينهم إن اسموا أنفسهم سياسيين أو قالوا عن أنفسهم مثقفين.
كان الخاتم مؤمنا بحرية الإنسان؛ متحررا من قيود الأيدلوجيات ومن عبادة الشخصيات؛ وكان يؤمن بشعبه وجيله ونفسه؛ ولذلك لم يتردد في أن يسير طريقه الذي اختار؛ وان يقطع مع كل وهم ومع كل قيد؛ وان يدعو للمبادرة تخرج من بين البسطاء ومن بين الشباب ومن بين النساء؛ هؤلاء المبعدون تاريخيا في لعبة السلطة والثروة في السودان وفي كل مكان؛ والذين مع ذلك وثق فيهم الخاتم والتزم معهم وبهم؛ حين وثق الآخرون بالمال والعقائد والأنبياء الكذبة والأصنام البشرية.
في كل هذا كان الخاتم يزرع البذرة؛ موقنا أنها ستورق ذات يوم؛ وواثقا أن من يأتي بعده ومن خلفه سيتعهد هذه الشجرة بالرعاية؛ فالرجل مع ما توفرت له من إمكانيات ومواهب؛ كان يعرف زمنه وقدره؛ وكان من المتفائلين بمستقبل السودان والإنسان؛ رغم إن كل الإشارات تدفع إلى التشاؤم العميق؛ ولذلك كان رائدا في الدرب الصعب؛ الذي دميت في طريقه قدماه؛ عسى أن يضرب لنا المثال؛ رغم التضحيات العظام؛ لكيما نسير في ذات الدرب الذي عمده بتضحياته وحياته؛ وان نلتزم بالخيارات الصعبة؛ لأنها هي الاختيارات الحقيقية؛ أو كما قال هي ما يبقى في الأرض؛ ويذهب الزبد جفاء.

نحن والخاتم:
رحل الخاتم إذن؛ وترك لنا بذرته نفعل بها ما نشاء؛ فإما أن نتعدها؛ وإما أن نتركها تموت؛ وعلينا وحدنا مسؤولية أن نلتزم بطريق الخاتم الصعب؛ أو نرجع للطرق السهلة والمريحة؛ ولكنها الخاسرة ما في ذلك ريب ولا شك.
قام الخاتم بما عليه وأكثر؛ وأنجز في حياته القصيرة ما عجز الآخرون الذين بلغوا أرذل العمر؛ من القادة المزعومين؛ عن أن يحققوا قسطا وفيرا منه؛ وذهب عن دنيانا وهو تارك فينا روح الأمل؛ وروح العمل؛ وارثا فكرا ومواقفا حياتية ومثالا يظل لنا منارة تحمينا من التوهان.
علينا إذن أن نلتزم بمسؤوليتنا تجاه الخاتم؛ ومسؤوليتنا تجاه أنفسنا؛ ومسؤوليتنا تاجاه مواطنينا؛ وان نبحث في تجربة الخاتم عن ما ينفع الناس؛ وعن الثابت من المواقف والمشاريع؛ وليس المتحول من الإشكال والهياكل؛ وهو ما عبر عنه الخاتم بوضوح؛ في أخريات أيامه وكتاباته؛ مما ازعم تلخيصه في التالي:
• وحدة القوى الديمقراطية: كان الخاتم مؤمنا بوحدة القوى الديمقراطية؛ وكان كل نضاله في سنواته الأخيرة؛ من اجلب تلاقي هذه القوى وتوحدها؛ والخروج بها من حالة التشرذم والتفتت. لم تكن "حق" عند الخاتم إلا محطة في الطريق؛ و إلا بذرة للمشروع الكبير؛ المشروع الوطني للنهضة والتنوير والتغيير؛ والذي لا نقوى عليه بتنظيماتنا الصغيرة وخلافاتنا الأصغر. نحن نعلم كيف إن الخاتم قد أسس حق في وجه صعوبات جمة؛ وأمام حرب شرسة؛ وأنا عندما أقول أسس فلا اسقط جهد الآخرين؛ فالبعض يري انه المبادر؛ وحق قد تكونت بمبادرة جهات عدة؛ وبعض فروعها قد قام قبل أن ينشط الخاتم في هذا الاتجاه.. ولكن الخاتم هو من جمع كل هذا؛ وهو من نفخ في الفكرة الروح؛ وهو من كان دينموها المحرك؛ وكان يؤمن مع ذلك بأنها مجرد خطوة صغيرة في الطريق الطويل. أن وحدة القوى الديمقراطية هي وصية الخاتم لنا؛ وفي إنجازها يكون الاختبار الحقيقي لنا؛ في السير في طريق الخاتم؛ أم التخلي عن طريق الخاتم.
• السلم وبناء المجتمع المدني: في كتاباته ومواقفه الأخيرة؛ وقف الخاتم عدلان بصورة واضحة ولا مراء فيها؛ مع خيار السلام في السودان؛ ورافضا لإهدار الحياة البشرية في مغامرات عسكرية لا تثمن ولا تغني من جوع. وان كان الخاتم ذات يوم قد دعا إلى العمل المسلح؛ فانه من حسن الحظ أن مشروعه هذا لم ينجح؛ وان يدا الرجل خاليتان من دماء أهل السودان. لم ينجح مشروع الخاتم في العمل المسلح فقط لان الآخرون – في انتهازيتهم وخوفهم – قد تآمروا عليه وعلى تنظيمه؛ وإنما فشل أساسا بسبب الخاتم وبسبب حق؛ لأنه لا الخاتم ولا حق كانا يصلحان لمثل تلك المغامرات الانتهازية؛ ولمساوماتها البغيضة ولبيع الاستقلالية السياسية؛ في سوق النخاسة المرافق لكل حرب؛ فكأنما هنا قاومت مؤسسة الخاتم ومنهج الخاتم؛ هذا الخطأ السياسي للخاتم؛ والذي لا شك كان مدفوعا إليه بنوايا نبيلة.
إن الخاتم في كتاباته الأخيرة؛ وفي نقده المعلن وغير المعلن للحركات المسلحة؛ قد أعلن انحيازه الكامل والتام لمنهج السلم وللمجتمع المدني طريقا للتغيير؛ وان كان الخاتم لم يقطع فكريا وسياسيا بشكل كامل مع تكتيك العمل المسلح بصورة موثقة ومؤسسية؛ فانه لا يخامرني الشك في أن هذه كانت ستكون خطوته التالية؛ لو أناحت له الحياة عمرا أضافيا؛ فالرجل كان محبا للحياة ومدركا لقيمتها؛ وكان مفتوح الذهن والقلب على التجارب وعبرها؛ وعلى عذابات الناس وانتهازية تجار الحرب؛ وكان مؤمنا بقدرة الناس على التغيير؛ وواجبنا هو التمسك بكل ذلك؛ وبناء مجتمع السلم المدني القادر على التغيير العميق؛ دون حروب أو مغامرات لا تولد إلا التسلط والدمار.
• مشروع النهضة الوطنية والعلمانية: كان الخاتم يدعو إلى مشروع كبير للنهضة الوطنية؛ والى التغيير العميق والشامل في البنية السياسية والاجتماعية في السودان؛ توجها نحو الحداثة والتطور.. لم تكن السياسة عند الخاتم لعبة كراسي؛ بل سبيلا لإصلاح حياة الناس وإنهاض البلاد من تخلف القرون واللحاق بالبشرية في سيرها الطويل من اجل الأفضل والأحسن للإنسان.
كما كان الخاتم علمانيا واضح الاتجاه؛ يعتقد بفصل الفضاء الديني عن الفضاء السياسي؛ ولم يكن يتهرب أو يخاف من كلمة العلمانية؛ أو يخضع للابتزاز الفكري والإرهاب الديني للطغاة والمهووسين. كان الخاتم يؤمن إن العلمانية السياسية والاجتماعية؛ هي المعادل الموضوعي لدولة المواطنة؛ ولم يكن يلعب بالألفاظ ليخفي ما يؤمن به من أفكار ومواقف؛ كما يفعل الكثيرون ممن باعوا المواقف والفكر بثمن بخس.
إن إخلاصنا لبذرة الخاتم؛ تحتم علينا أن نتمسك بمشروع النهضة الوطنية الشامل؛ مشروع تغيير وتحديث السودان؛ في إطار احترام حقوق وحريات المواطن؛ وعدم نسيان الهدف الرئيسي من عملنا العام. كما تحتم علينا الالتزام بالعلمانية والدفاع عنها وتعميم مفاهيمها؛ في مواجهة دعوات الهوس الديني والتجهيل والإرهاب؛ والتي لم ينكسر لها الخاتم أبدا؛ فاستحق بذلك غضب دعاتها غير المقدس؛ وذلك لأنه انتصر أمامهم دائما؛ في كل معركة للفكر خاضها غير هياب ولا مرائي.

كلنا الخاتم عدلان:
في خاتمة فيلم المخرج الأفروأمريكي اسبايك لي عن مالكولم اكس؛ هناك مشهد مؤثر من احد المدارس؛ حيث يقف التلاميذ واحدا وراء الآخر؛ ليقول كل منهم: أنا مالكولم اكس؛ في لقطة تعبر عن إن الأفكار العظيمة لا تموت؛ وان العظيمات من النساء والعظام من الرجال؛ لا يمتن ولا يموتون؛ وإنما يبعثن ويبعثون فيمن يأتي ورائهم من أجيال.
اليوم هنا وفي حفل تأبين الخاتم عدلان؛ وأمام رفاقه وأصدقائه وأحبائه؛ ممن عرفوا قدر الرجل وانصدموا لموته المفاجئ؛ وأدركوا الخسارة الفادحة لمعسكر التغيير والديمقراطية في السودان؛ بسبب رحيله الفاجع؛ وحيث لا يزال القلب ينزف دما؛ والدمع يجري سخينا؛ أقول إن الخاتم كان يؤمن بالناس؛ وبقدرتهم وفعاليتهم؛ وكان يؤمن إن زمان الإبطال قد انتهي؛ وانه قد أتى زمن المواطنين والجماهير. أقول انه لو أدركنا فعلا رسالة الخاتم؛ فان الخاتم لن يموت؛ لأن كل منا هو الخاتم عدلان؛ ولأننا كلنا الخاتم عدلان.



#عادل_عبد_العاطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إتفاق نيفاشا بعد مرور عام
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- هوامش على متن الرسالة المفتوحة لعضوية الحزب الشيوعي السوداني ...
- الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي: الحالة السودا ...
- رسالة مفتوحة الي عضوات واعضاء الحزب الشيوعي السوداني
- تضامنا مع وليد حسين: لا لارهاب الجبناء والاوباش باسم الدين
- وصية عبد الخالق محجوب المخفية ومسؤولية المؤرخ
- الخاتم عدلان كما عرفته
- الخاتم عدلان .. نبيّنا الآخير
- محمد إبراهيم نُقُد وإخفاء وصية عبد الخالق محجوب الاخيرة
- الطريق الثالث بين الحرابة والتسوية: خطوط عريضة في اتجاه بلور ...
- الخروج من عنق الزجاجة:اسقاط النظام كيف ولماذا؟
- تأملات في أفق المعرفة والشهادة: في نضال واستشهاد عبد الخالق ...
- لماذا يرفض الليبراليون السودانيون تعدد الزوجات والطلاق الاعت ...
- مرة اٌخري نحو قانون مدني موحد للاحوال الشخصية في السودان


المزيد.....




- شاهد أوّل ما فعلته هذه الدببة بعد استيقاظها من سباتها الشتوي ...
- تحليل: بوتين يحقق فوزاً مدوياً.. لكن ما هي الخطوة التالية با ...
- نتنياهو يقول إنه يبذل قصارى جهده لإدخال المزيد من المساعدات ...
- روسيا.. رحلة جوية قياسية لمروحيتين حديثتين في أجواء سيبيريا ...
- البحرية الأمريكية تحذر السفن من رفع العلم الأمريكي جنوب البح ...
- صاروخ -إس – 400- الروسي يدمر راجمة صواريخ تشيكية
- إجلاء سياح نجوا في انهيار ثلجي شرقي روسيا (فيديو)
- الطوارئ الروسية ترسل فرقا إضافية لإنقاذ 13 شخصا محاصرين في م ...
- نيوزيلندا.. طرد امرأتين ??من الطائرة بسبب حجمهن الكبير جدا
- بالفيديو.. فيضان سد في الأردن بسبب غزارة الأمطار


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل عبد العاطي - زرع الخاتم بذرته ورحل فمن يرعى البذرة؟