أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد بدر الدين - الانتحار ودوركايم















المزيد.....



الانتحار ودوركايم


أحمد بدر الدين
كاتب وباحث، ومدرس فلسفة، ومحاضر تنمية بشريه

(Ahmed Badr Eldeen)


الحوار المتمدن-العدد: 6406 - 2019 / 11 / 12 - 09:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ان دراسة إميل دوركايم لظاهرة الانتحار (1952) نشرت في الاصل عام 1897، وتمثل هذه الدراسة معلما بارزا في بحوث علم الاجتماع التي تتقصى العلاقة بين الفرد والمجتمع. فعلى الرغم من ان البشر يعتبرون انفسهم افرادا يتمتعون بكامل الارادة والحرية، الا ان انماط سلوكهم كثيرا ما يجري تشكيلها وصياغتها مجتمعيا. وتهضر الدراسة التي نحن بصددها انه حتى فيما يبدو انه فعل وقرار شخصي محض مثل الانتحار، فإن العالم الاجتماعي المحيط به له اثره الكبير. وقد اجريت قبل دراسة إميل دوركايم، عدة دراسات عن الانتحار، غير انه هو الذي اصر على تقديم تفسيرات سوسيولوجية لهذه الظاهرة. فكما اعترفت الدراسات السابقة بتأثير العوامل الاجتماعية على الانتحار، غير انها تطرقت الى اعتبارات من نوع العرق، والمناخ، والاضطرابات العقلية لتفسير ميل فرد ما الى الاقدام على الانتحار. اما بالنسبة الى إميل دوركايم، فإن الانتحار لديه هو حقيقة اجتماعية لا يمكن تفسيرها الا بحقائق اجتماعية اخرى، فالانتحار اكثر من مجرد حقائق مفردة، لا نه يمثل ظاهرة تحمل انماط متعددة من الخصائص. وفحص إميل دوركايم السجلات الرسمية للانتحار في فرنسا، فوجد ان فئات محددة من الناس كانوا اكثر ميلا لا قدام على الانتحار من غيرهم،. اذ وجد على سبيل المثال، زيادة معدلات الانتحار في اوساط الرجال بالمقارنة مع النساء، وفي اوساط البروتستانت مقارنة مع الكاثوليك، وبين الاثرياء مقارنة مع الفقراء، وبين العازبين اكثر من المتزوجين. ولاحظ كذللك ميل معدلات الانتحار الى الانخفاض في اوقات الحرب، والى الانخفاض في اوقات التغير او عدم الاستقرار الاقتصادي.

نبذه عن حياته ومؤلفاته
ولد إميل دوركايم سنة 1858 بمدينة إبينال بفرنسا حيث نشأ في عائلة من الحاخامين. وكان تلميذًا بارعًا وما لبث أن التحق بـمدرسة الأساتذة العليا (وهي من أفضل مؤسسات التعليم العالي في فرنسا.) سنة 1879 حيث احتكّ ببعض شبان فرنسا الواعدين مثل جان جوريس أو هنري برغسون غير أن الأجواء بالمدرسة لم تعجبه فالتجأ إلى الكتب ليتجاوز الفلسفة السطحية (في نظره ) التي كان يدين بها رفاقه. هكذا اكتشف أوغست كونت الذي أثرت مؤلفاته عليه تأثيرًا عميقًا فاستقى منها مشروع تكريس علم الاجتماع كعلم مستقل قائم بذاته يهدف إلى كشف القواعد التي تخضع لها تطورات المجتمع. فنجد لهذا الاهتمام صدى في أعماله عن قواعد المنهج السوسيولوجي وعن الانتحار وعن التربية حيث تتجلى رغبته في أن يواجه المشاكل المختلفة بمناهج خاصة ومن منظور اجتماعي منزّه من إشكاليات العلوم الأخرى (الفلسفة والتاريخ مثلا) ومقارباتها. كان دركايم يكره التأملات الفلسفية العقيمة والعلم لأجل العلم فقط ولذلك ابتغى أن يجعل من علم الاجتماع علمًا يسلّط الضوء على آفات المجتمع ويستعان به لحلّ بعض مشاكله عن طريق تحسين العلاقات بين الفرد المجتمع. فلذلك أولى عناية كبرى للمشاكل التربوية إذ أن التربية تلعب دورًا أساسياً في اندماج الفرد في المجتمع. قد تفسر لنا هذه التصورات اهتمام دركهايم بمشاكل زمنه إذ أن اثنين من أهم كتبه تتناول الاضطرابات الاجتماعية المتولدة عن التصنيع المفاجئ والكثيف الذي انتاب مجتمعات عصره ..

من أهم مؤلفاته
ولقد ترك دوركايم مؤلفانا وبحوثا كثيرة نشر بعضها في حياته ونشر أتباعه البعض الآخر بعد وفاته والمؤلفات التي نشرها في حياته يمكن ترتيب ظهورها كما يلي :تقسيم العمل الاجتماعي (1893م),قواعد المنهج الاجتماعي (1895م), الانتحار دراسة اجتماعية (1896م), الإشكال الأولى للحياة الدينية(1912)م.
أما مؤلفاته التي نشرها أتباعه فهي التربية وعلم الاجتماع, علم الاجتماع والفلسفة, التربية الأخلاقية, كتاب الاشتراكية.
كما انشأ دوركايم مجلته الاجتماعية المعروفة باسم السنة الاجتماعية أو التقويم الاجتماعي عام 1896م .


التضامن الاجتماعي
ساهم هذا الرائد في كثير من الأعمال العلمية و الاجتماعية إذ تظهر جهوده في دراسته لظاهرة تقسيم العمل.
وقد صنف دوركايم التضامن الاجتماعي إلى نوعين:
1- التضامن الآلي : ويتميز هذا النوع من التضامن بالبساطة و السذاجة أحيانا حيث انه غير مركب وغير مميز وغير خاضع لمبدأ توزيع العمل.
2- التضامن العضوي : ونلاحظ على هذا النوع أنه يتميز بالتعقيد وله مميزات في الوظائف، ويخضع لمعيار مبدأ تقسيم العمل،وتقدر فيه توزيع الوظائف على الجماعات و الأفراد بالإضافة إلى تميزه بزيادة التحصص ويكون هذا النوع عنصرا أساسيا في الحياة الاجتماعية ويسود عموما داخل الوسط الاجتماعي الذي يطغى عليه هذا النوع سلطة القانون و احتكام الجميع إلى مبادئ القانون بمعنى أن حياة الناس تتجه إلى التنظيم الرسمي وتساير صلاحيات السلطات بين مختلف الأدوار الاجتماعية في مفهوم التنظيم وتدرجه.
صنف دور كايم الظاهرة الاجتماعية على أنها ضرب من السلوك ثابتا كان أو غير ثابت. ويمكن أن يباشر نوعا من الضغط الخارجي على الأفراد، كما يعتبر كل سلوك يعم في المجتمع بعمومه.
وبهذه المميزات يمكن أن نحدد خصائص هذه الظاهرة في النقاط التالية
1- جماعية : أي أنها تختص بسلوك وبنية الجماعة وليس الفرد وتظهر هذه الظاهرة في السلوكيات الجماعية ذات اتساق و انسجام، ولها أبعاد منهجية تختص بعلم الاجتماع عنده وهي علم الجماعة وليس علم الأفراد وبذلك يميزه عن علم النفس.
2- الالتزام : ويكون بمعنى حالة القهر و الجبر التي يمارسها السلوك الجماعي كظاهرة اجتماعية على الأفراد وانتقال التقليد والسلوك الاجتماعي بما يسمى العدوى الاجتماعية.
3- الطابع الإنساني : هذه الخاصية تميزه حيث أن الظاهرة الاجتماعية تتعلق بالمجتمع الإنساني دون غيره من المجتمعات الأخرى كما يتميز منهجها الذي يختص بالبحث الاجتماعي الإنساني عن غيره من البحوث و المناهج التي تختص عن بقية المناهج البحثية الأخرى.
4- التلقائية : وتشكل هنا الظاهرة الاجتماعية حالة تلقائية وطبيعية لوجود الحياة الاجتماعية وعادة التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
5- الترابط : ويكمن في الظاهرة الاجتماعية الترابط أي أن عناصرها تترابط ترابطا عضويا ووظيفيا وعموما فالظاهرة الاجتماعية تشتق بين المظاهر الجمعية-المعتقدات، الممارسات الجمعية.ويمكن التعرف عليها بواسطة القوة القاهرة التي تمارسها على الأفراد والمتجسدة في أنماط السلوك.
الانتحار والتيارات الاجتماعية
قدم دوركايم مفهوماً أكثر تحديداً وحيوية وأقل تبلوراً ذلكم هو التيارات الاجتماعية. وهى أيضا حقائق اجتماعية غير مادية وعرّفها كحقائق اجتماعية غير مادية لها نفس الموضوعية والهيمنة على الفرد مثل الحقائق الاجتماعية التى ناقشناها سابقاً لكن " بدون ذلك الشكل المتبلور". وقدم لذلك عدداً من الأمثلة "مثل الحماس, السخط والغضب داخل تجمع ما. بالرغم من أن التيارات الاجتماعية الأخرى أقل تحديداً من الحقائق الاجتماعية الأخرى لكنها تبقى حقائق اجتماعية وقد أوضح دوركايم ذلك عندما ذكر"إنها تأتى لكل منا من حيث لا يدرى ويمكن أن تحملنا بعيداً رغم أنفسنا".
شرح دوركايم فكرة التيارات الاجتماعية في كتابه (قواعد المنهج الاجتماعي) لكنه استخدمها كمؤشر توضيحي أساسي في دراسة ميدانية أصبحت نموذجاً لتطور الدراسات الميدانية الأمريكية. في الحقيقة إن البحث الوارد في الانتحار يمكن اعتباره محاولة لاستخدام الأفكار التى طورت في (قواعد المنهج الاجتماعي) في دراسة ميدانية عن ظاهرة اجتماعية محددة هى الانتحار. في (الانتحار) أوضح دوركايم أن الحقائق الاجتماعية وخاصة التيارات الاجتماعية مستقلة عن الفرد وقاهرة له. ولقد اختار دراسة الانتحار بدلاً عن العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى لانه ظاهرة ملموسة ومحددة. كما أن هنالك قدر جيد من المعلومات عن الانتحار ويعتبر بواسطة العديد من الناس فعلاً خاصاً وشخصياً. يعتقد دوركايم أنه إذا تمكن من توضيح أن لعلم الاجتماع دور يلعبه في توضيح ما يبدوأنه فعل فردى مثل الانتحار فإنه يصبح من الممكن توسيع مجال علم الاجتماع لدراسة ظواهر هى أكثر انفتاحاً للتحليل السوسيولوجى. أخيرا اختار دوركايم دراسة الانتحار لأنه إذا تمكن من إقناع المجتمع العلمي بدراسته لهذه الظاهرة سيكون لعلم الاجتماع فرصة أكبر في الحصول على الاعتراف من العالم الأكاديمي.
كعالم اجتماع لم يكن دوركايم مهتماً بدراسة لماذا أن شخصاً محددًا ينتحر. هذا يجب أن يترك لعالم النفس. لكن دوركايم كان مهتماً بتوضيح التباين في معدلات الانتحار، أي أنه كان مهتما بلماذا نجد أن مجموعة معينة لها معدل انتحار أعلى من الأخرى. يفترض دوركايم أن العوامل البيولوجية، والنفسية الاجتماعية تبقى ثابتة من مجموعة لأخرى ومن وقت لاخر. وإذا كانت هنالك اختلافات في معدل الانتحار من مجموعة لأخرى أو من وقت لأخر يرى دوركايم أن الاختلاف يرجع إلى الاختلاف في العوامل الاجتماعية وتحديدا ً التيارات الاجتماعية.
وكملتزم بالبحث الميداني لم يكتف دوركايم بإبعاد الأسباب الأخرى التى ربما تؤدى إلى الاختلاف في معدلات الانتحار وإنما قام باختبار تلك الأسباب ميدانيا ً .
بدأ كتابه عن الانتحار بسلسلة من الأفكار المغايرة عن أسباب الانتحار. من ذلك الحالة المرضية النفسية للفرد، العرق، الوراثة والمناخ .
في حين أن دوركايم عرض قدراً واسعاً من الحقائق ورفضها كمسبب لاختلاف معدلات الانتحار، لكن حجته الأوضح والتي تنسجم مع مجمل تصوره كانت حول علاقة العوامل العرقية مع تلك الاختلافات. أحد أسباب رفض العرق هو أن معدلات الانتحار تتباين وسط المجموعات ذات الأصل العرقي الواحد. وإذا كان العرق سبباً مؤثرا في تباين معدلات الانتحار فيمكننا أن نفترض أن له أثراً مشابها على مختلف المجموعات. دليل آخر ضد أهمية العرق في تباين معدلات الانتحار هو التغير في تلك المعدلات وسط عرق معين عندما ينتقل من مجتمع إلى آخر. وإذا كان العرق حقيقة اجتماعية ذات علاقة يجب أن يكون لها نفس الأثر في مختلف المجتمعات. بالرغم من أن حجة دوركايم هنا ليست كافية جداً وربما تكون حججه حول العوامل الأخرى التى رفضها أضعف ، لكن هذا يعطينا فكرة عن طريقة ومدخل دوركايم في الرفض المدعم بمعلومات ميدانية لما يعتبره عوامل إضافية مما مكنه من الانتقال إلى ما يعتقد أنه العوامل الأكثر أهمية. إضافة إلى رفضه للعوامل سابقة الذكر، فقد درس دوركايم نظرية التقليد التى تنسب إلى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي جابريل تاردا ورفضها. تقول نظرية التقليد أن الناس ينتحرون ( ويدخلون في نطاق واسع من الأفعال الأخرى ) لأنهم يقلدون أفعال الآخرين الذين انتحروا. هذا المدخل النفسي الاجتماعي غريب على علم الاجتماع وعلى تركيز دوركايم على الحقائق الاجتماعية. لذلك لم يأل دوركايم جهداً في رفضها. سبب دوركايم ذلك بأنه إذا كان التقليد مهماً كان يجب أن تكون الأمم التى تجاور بلداً ذا معدل انتحار عال هى نفسها لها معدلات عالية، ثم نظر في المعلومات الخاصة بهذا العامل الجغرافي و خلص إلى أنه ليس له أي أهمية. قبل دوركايم أن انتحار بعض الأفراد ربما يكون بسبب التقليد، لكن هذا عامل ضعيف جداً وليس له أي تأثير على معدلات الانتحار الكلية. أخيراً رفض دوركايم نظرية التقليد كعامل هام لرؤيته أن حقيقة اجتماعية ما تكون فقط نتيجة حقيقة اجتماعية أخرى. وبما أن التقليد عامل اجتماعي نفسي لن يكون له في نسقه أية أهمية في تباين معدلات الانتحار لاجتماعية، وخلص إلى أن "معدلات الانتحار الاجتماعي يمكن توضيحها فقط سوسيولوجيا.ً".بالنسبة لدوركايم، العوامل الأهم في التغير في معدلات الانتحار يجب أن توجد في الاختلافات على مستوى الحقائق الاجتماعية. بالطبع هنالك نوعان من الحقائق الاجتماعية - مادية وغير مادية. وكما هو دائما ًالحقائق الاجتماعية تحتل موقع الأهمية الرئيسية لكن ليست الأساسية. مثلا ً نظر دوركايم في أهمية الكثافة الحيوية في تباين معدلات الانتحار لكنه وجد أن أثرها غير مباشر. لكن التباين في الكثافة الحيوية وفى الحقائق الاجتماعية المادية الأخرى يؤثر على التباين في الحقائق الاجتماعية غير المادية وهذا له أثر مباشر على التباين في معدلات الانتحار. هنا يقدم دوركايم حجتين مترابطتين، من ناحية فهو يقول أن المجموعات المختلفة لها ضمير جمعي مختلف وتمثلات جمعية مختلفة أيضاً. من الناحية الأخرى هذا ينتج تيارات اجتماعية متباينة ذات أثر تبايني على معدلات الانتحار. إحدى طرق دراسة الانتحار هي المقارنة بين مختلف المجتمعات أو الأنواع الأخرى من المجموعات. من ناحية أخرى يري دوركايم أن التغير في الضمير الجمعي يقود إلى تغير في التيارات الاجتماعية والتي بدورها تؤدي إلى التباين في معدلات الانتحار. أدى هذا إلى الدراسة التاريخية للتغيرات في معدلات الانتحار ضمن مجموعة معينة. في كلتا الحالتين، ثقافياً أو تاريخياً فأن منطق الحجة هو نفسه التباين أو التغير في الضمير الجمعي الذي يؤدي إلى تباين أو تغير في التيارات الاجتماعية وهذا بدوره يؤدي إلى تباين في معدلات الانتحار. بمعني آخر، التغير في معدلات الانتحار يرجع إلى التغير في الحقائق الاجتماعية، وبشكل أساسي التيارات الاجتماعية. كان دوركايم واضحا حول الدور الأساسي الذي تلعبه التيارات الاجتماعية في تسبيب الانتحار" كل مجموعة اجتماعية لها استعداد جماعي للفعل، خاص بها، وهو مصدر الاستعداد الفردي وليس نتيجته. وهو يتكون من تيارات من الأنانية، الإيثار أو اللامعيارية تتخلل كل المجتمع. هذه النزعات للجسم الاجتماعي ككل، وبتأثيرها علي الأفراد تدفعهم إلى الانتحار .





أنواع الانتحار الأربعة
نظرية دوركايم عن الانتحار وبنية تنظيره السسيولوجي يمكن أن يري بوضوح عند دراستنا لكل واحد من أنواع الانتحار الأربعة. الأناني، الإيثارى، اللامعيارى والقدري. 
الانتحار الأناني :
المعدلات العالية من الانتحار الأناني غالبا ما توجد في المجتمعات، التجمعات أو المجموعات الذي يكون فيها الفرد غير مندمج تماماً في الوحدة الاجتماعية الكبرى. المجتمعات ذات الضمير الجمعي القوي تمنع التيارات الاجتماعية الوقائية والشاملة التي تنبع من ذلك الضمير حدوث وانتشار الانتحار الأناني فيها. عندما تضعف هذه التيارات الاجتماعية يتمكن الأفراد وبسهوله من تجاوز الضمير الجمعي ويفعلون ما يريدون. في الوحدات الاجتماعية الكبرى ذات الضمير الجمعي الضعيف، يترك الأفراد للجري وراء مصالحهم الخاصة بأي طريقة يريدونها. مثل هذه الأنانية غير المكبوحة "غالبا ما تقود إلى قدر كبير من الاستياء والضجر بما أنه لايمكن إشباع كل الحاجات وحتى التي يمكن إشباعها تنتج حاجات أكثر وأكثر، كما أنها تنتج الاستياء المطلق للعديد من الناس كما تدفع بعضهم إلى الانتحار. لكن الأسر المندمجة بقوة، (المجموعات الدينية، الجماعات السياسية) تتعامل كهيئات ذات ضمير جمعي قوي ولا تشجع الانتحار "الدين يحمي الإنسان من الرغبة في تحطيم الذات. ما يكّون الدين هو وجود عدد من المعتقدات والممارسات التقليدية المشتركة بين كل المؤمنين، و لذا فهي ملزمة. وكلما تعددت هذه الحالة العقلية الجمعية وقويت كلما ازداد الاندماج في المجموعة الدينية وكذلك ازدادت القيمة الواقية ." 
تفكك المجتمع ينتج تيارات اجتماعية مميزة وهي السبب الأساسي في تباين معدلات الانتحار. مثلا تحدث دوركايم عن تفكك المجتمع الذي يقود إلى تيارات من الكابة والخيبة " التفكك الأخلاقي للمجتمع يعرض الفرد لارتكاب فعل الانتحار، لكن لابد من وجود تيارات الكآبة لحدوث التباين في معدلات الانتحار الأناني. ما هو مثير للاهتمام أن دوركايم هنا يعيد تأكيد أهمية العوامل الاجتماعية، حتى في الانتحار الأناني الذي يعتقد فيه أن الفرد حر من كل قيود اجتماعية. الفاعلون ليسوا أحراراً أبداً من قوة الجماعة " مهما كان الإنسان فرديا يبقي هناك دائماً شئ جماعي- الكآبة والسوداوية الناتجة من المبالغة في الفردية. إن الأنسان يؤثر علي المشاركة من خلال الحزن عندما لا يكون لديه ما يمكن تحقيقه بها " 

الانتحار الإيثاري :
النوع الثاني من الانتحار الذي ناقشه دوركايم هو الانتحار الإيثاري. في حين أن الانتحار الأناني غالباً ما يحدث عندما يكون الاندماج الاجتماعي ضعيف جداً. الانتحار الإيثاري يحدث عندما يكون "الاندماج الاجتماعي قوي جداً." الفرد يجبر حرفيا علي ارتكاب فعل الانتحار.
ربما يكون أفضل نموذج للانتحار الإيثاري ذلك الانتحار الجماعي لاتباع "ريفيرنيد جيم جونز " في جونزتاون، غيانا. لقد تناولوا وبوعي كامل مشروب سام وفي بعض الحالات سقوا أطفالهم أيضا. من الواضح أنهم ارتكبوا الانتحار لأنهم دفعوا, بقوة أو بهدوء إلى الموت من أجل اتباع جمعية جونز المتعصبة. بشكل عام إن الذين يرتكبون فعل الانتحار الإيثاري يفعلون ذلك لأنهم يحسون أن ذلك هو واجبهم.
وكما في حالة الانتحار الأناني درجة التكامل ( في هذه الحالة درجة عالية) ليست السبب الرئسي في الانتحار الإيثاري ولكن التباين في درجة الاندماج ينتج تيارات اجتماعية مختلفة تؤثر في معدلات الانتحار. مثلما في الانتحار الأناني اعتبر دوركايم أن التيارات الاجتماعية السوداوية هي سبب معدلات الانتحار الإيثاري العالية. في حين أن معدلات الانتحار الأناني العالية تنتج من التمزق والاكتئاب الحزين فإن الزيادة في معدلات الانتحار الإيثاري " تأتى من الأمل لأنها تعتمد علي الاعتقاد في التصور الجميل لما بعد هذه الحياة ." 
الانتحار اللامعياري :
النوع الأخير والأساسي من أنواع الانتحار الذي نوقش بواسطة دوركايم هو الانتحار اللامعياري ويحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع. وترتفع معدلات الانتحار اللامعياري إذا كانت طبيعة الاضطراب إيجابية (الانتعاش الاقتصادي مثلا ) أو سلبية (الكساد الاقتصادي ). كلا النوعين من الاضطراب يؤدى إلى التعطيل المؤقت للجماعة عن أداء دورها السلطوي علي الأفراد. فترات الاضطراب تطلق العنان لتيارات اللامعيارية ـ الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعاييرـ وتقود هذه التيارات إلى الزيادة في معدلات الانتحار المعياري. من السهل تصور هذا في حالات الكساد. إغلاق مصنع نتيجة للكساد الاقتصادي ربما يؤدي إلى فقدان وظيفة ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن تأثير ضوابط الشركة والوظيفة. الانفصال عن مثل هذه البنيات – لأسرة, الدين, الدولة مثلاً – يترك الفرد فريسة لأثر تيارات اللامعيارية. يبدو أنه من الصعب تخيل أثر الانتعاش الاقتصادي. في هذه الحالة يمكن القول أن النجاح المفاجئ ربما يقود الأفراد بعيداًً عن البنيات التقليدية التى نشأوا فيها. النجاح الاقتصادي ربما يقود الفرد إلى ترك عمله والانتقال إلى مجتمع جديد وربما يتخذ زوجة جديدة. كل هذه التغيرات تؤدى إلى اضطراب أثر ضوابط البنيات الموجودة وتترك الفرد في فترات الانتعاش الاقتصادي فريسة للتيارات الاجتماعية اللامعيارية. الزيادة في معدلات الانتحار اللامعيارى خلال فترات اضطراب الحياة الاجتماعية منسجمة مع رؤية دوركايم عن الأثر الضار لنزوات الفرد عندما يتحرر من القيود الخارجية. فعندما يتحرر الناس يصبحون عبيداً لنزواتهم ونتيجة لذلك، يرى دوركايم أنهم يقومون بسلسلة واسعة من الأفعال المدمرة تشمل قتل أنفسهم في أعداد أكبر مما هو معتاد .
الانتحار القدري :
هنالك نوع رابع من الانتحار لا يشار إليه كثيرا - الانتحار القدري – والذي ناقشه دوركايم في إحدى حواشي كتابه (الانتحار). ففي حين أن الانتحار اللامعيارى يحدث في الحالات التى تضعف فيها الضوابط فان الانتحار القدري يحدث في الحالات التى تكون فيها الضوابط متجاوزة للحد المرغوب فيه. وصف دوركايم الذين يرتكبون فعل الانتحار القدري بأنهم "أشخاص مستقبلهم مغلق بقسوة ونزواتهم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري " المثال التقليدي هو الرقيق الذى يقتل نفسه بسب عدم الأمل المصاحب للضوابط القاهرة لكل أفعاله. الزيادة في الضوابط – القهر – تطلق العنان لتيارات السوداوية والتي بدورها تتسبب في ارتفاع معدلات الانتحار القدري. قدم ويتن بوب ملخصاً مفيداً لأنواع الانتحار الأربعة التى ناقشها دوركايم. قام بذلك من خلال التداخل الذى أجراه بين درجات مرتفعة ومنخفضة للاندماج والضوابط على النحو التالي :
الاندماج عال : انتحار إيثاري
الاندماج منخفض : انتحار أناني
الضوابط عالية : انتحار قدري 
الضوابط منخفضة : انتحار لامعيارى




أسباب الانتحار 
أعطى دوركايم خلاصة لأسباب الانتحار بعد تحليله للظاهرة ومنها :
الزواج المبكرغالبا ما يؤدي إلى الانتحار خاصة بين صنف الرجال.
يقل الميل إلى الانتحار إبتداءا من سن العشرين للمتزوجين من الجنسين عنه من غير المتزوجين.
تزداد نسبة الانتحار بين غير المتزوجين من الجنسين منها بين المتزوجين.
تقل نسبة الانتحار بين النساء عنها بين الرجال.
تقل نسبة الانتحار بين النساء غير المتزوجات عنها بين الرجال وذلك لأنه في نظره الرجل يستفيد من الزواج أكثر من المرأة.
تقل نسبة الانتحار بين الأرامل عنها بين المتزوجات .
تقل نسبة الانتحار بين المتزوجين الذين لديهم أطفال عنها بين المتزوجين الذين ليس لديهم أطفال.
تقل نسبة الانتحار بين الأرامل الذين لديهم أطفال عنها بين من لا يوجد لديهم أطفال.
تقل نسبة الانتحار بين الأرامل اللواتي لديهم أطفال عنها بين المتزوجات اللواتي ليس لديهن أطفال.
تقل نسبة الانتحار كلما زاد حجم الأسرة.
تقل نسبة الانتحار في فترات الاضطراب السياسي و الحروب.

المدخل التفسيري ) الاجتماعي( لظاهرة الانتحار
بعدما فند “دوركايم” الأصل النفسي للانتحار وبين العوامل الاجتماعية المحددة للظاهرة، مستخلصًا النماذج الأكثر انتشارًا للانتحارات، بدأ التفسير من أطروحته المركزيه بأنّ الظاهرة تنجم عما هو سوسيولوجي حيث يؤكد أنّ "المعدل الاجتماعي للانتحارات لا يجد تفسيره إلا سوسيولوجيًّا، ذلك أنّ البنية الأخلاقية للمجتمع هي التي تحدد في كل لحظة القسط العددي للموتى الإراديين"، فكيف يمكن فهم هذا العامل التفسيري؟ وهل يستقيم عاملاً محددًا ووحيدًا للظاهرة المعقدة والمركبة والملغزة في آن واحد؟
اعتبر أنّ من خصائص الظاهرة السوسيولوجية، كونها خارجية عن الفرد، وليس ثمة من شيء خارجي سوى المجتمع.
ولهذا نفهم لماذا شدد “دوركايم” على رد تفسير ظاهرة الانتحار إلى هذا المعطى، مبينًا أنّ “الاعتراف بحقيقتها الواقعية، وتصورها كمجموع من الطاقات التي تدفعنا من الخارج إلى الفعل، على غرار القوى الفزيا-كميائية والتي نتعرض لتأثيرها، وهي أشياء من نوع خاص، وليست جواهر لفظية، بحيث يمكن قياسها، ومقارنة حجمها النسبي مثلما نفعل مع قوة التيارات الكهربائية أو المصادر الضوئية”.
لهذا إذا كان هناك من خلاصة، يمكن استخلاصها من هذه الأطروحة، هو أنّ دوركايم كان ينظر إلى الظواهر الاجتماعية، ومن بينها الانتحار بمنظار السوسيولوجي الذي يرجع الظاهرة إلى موضعها الأصلي الذي تخلقت فيه وتولدت عنه، وذلك عبر موضعتها، وعبر استنطاق كل الإحصائيات والمؤشرات الرقمية التي تظهر إلى أي حد أنّ الشروط الاجتماعية هي المحددة أولاً وأخيرًا في إبراز الظاهرة، على هذا النحو يتوضح الطابع المزدوج للانتحار، فحينما ننظر إليه عبر جميع تجلياته الخارجية، نميل إلى ألا نرى فيها سوى مجموعة من الحوادث المستقلة عن بعضها، لأنّه لا يحدث في مواقع منفصلة (أي الانتحار)، دون روابط مرئية فيما بينها، ومع ذلك فالمجموع المكون من كل هذه الحالات الخاصة المجتمعة يمتلك وحدته وفرديته، ما دام المعدل الاجتماعي للانتحارات يمثل سمة مميزة لكل شخصية جمعية".


وما يستشف من هذا التحليل، هو أنّ “دوركايم” عندما يحلل ظاهرة الانتحار وكيف تقع في المجتمع، يربط بشكل جدلي بين الاستعدادات القبلية للمجتمع لتخلق الظاهرة، أي العوامل الفاعلة فيها، وبين الميل الجمعي لتوليد الظاهرة، وهذا يعني أنّ هناك مستويين من التحليل:
الأول يركز على ما هو واقعي عملي، متمثلاً في الشروط البنيوية التي تسبق ظهور أي ظاهرة، وبين القبول الاجتماعي لها، وبكلمة جامعة، مادام المجتمع هو الذي يصنع الفرد وليس العكس، فهذا يعني أنّ “القوة الجمعية التي تدفع الإنسان إلى الانتحار لا تتغلغل فيه إلا قليلاً قليلاً، فكلما تقدم الإنسان في العمر، غدا أسهل تأثرًا بهذه القوة، ذلك لأنّه يلزمه -من دون شك- تجارب متكررة لكي تقوده إلى الشعور بالخواء المطبق لوجود أناني، وبِعَبَثِية طموحات لا نهاية لها، لهذا فإنّ المنتحرين يملؤون مصيرهم بطبقات متعاقبة من الأجيال”، وكما أنّه لا يسقط مطر إلا بعد توفر الشروط الموضوعية له، فكذلك الفعل الإنساني لا يقع على أرض الواقع، إلا إذا استنفد كافة الشروط القبلية التي تدفع إلى بروز سلوك وممارسات في الواقع، ولعل الانتحار واحد من هذه السلسلة المجتمعية التي لا تتخلق إلا بوجود هذا الشرط القبلي، وهو المجتمع،
وكذلك الاستعداد الشخصي الذي يتفاعل بشكل جد معقد مع مختلف الاستعدادات ليعطينا سلوكًا بهذا النوع.
يجب أن نقر، أنّ هذا التحليل الذي ساقه دوركايم لظاهرة الانتحار، سوف يعرضه لمجموعة هائلة من الانتقادات، والتي شككت في مصداقية تفسير الظاهرة بما هو اجتماعي محض، لأنّها تقع على أرض مشتركة من مجموعة من العوامل، منها ما هو مرئي وملاحظ وهو لا يمثل إلا جزء الجليد البارز، ومنها ما هو خفي وكامن لا يظهر إلا عبر سنوات وبعد إعمال آليات منهجية جد صارمة وأكثر مطابقة لظاهرة تنفلت من كل تفسير.





عناصر الحل المقترح من طرف “ دوركايم”
لا شك أنّ عملاً بحثيًّا بهذا الحجم، إلا وينتهي إلى مجموعة من التوصيات أو الحلول أو مقدمات للعلاج من ظاهرة مؤرقة للمجتمعات، هذا على الرغم من أنّ السوسيولوجيا لا تهتم بوضع الحلول، بقدر ما تهتم بفهم الظاهرة وتحليلها وتجلية غوامضها، إلا أنّ دوركايم -وهو الذي تعلمنا منه هذا المنهج في التعامل مع الظواهر الاجتماعية- يفاجئنا بتقديم رؤية خاصة للعلاج من الظاهرة.
فما هي وجهة نظره في الموضوع؟ وهل يمكن التعويل عليها للتغلب على الظاهرة اليوم؟
بعدما يستعرض بعض الإجراءات القانونية والدينية التي اعتمدتها بعض الشعوب في مواجهة ظاهرة الانتحار بشتى أنواعه، فإنّ “دوركايم” لا يميل إلى “تجريم” الانتحار، نظرًا لأنّه لا يقدم أيّ فائدة في مواجهته، بقدر ما يؤزم الوضع أكثر.
بل أقصى ما يمكن الوصول إليه، هو الحرمان من استفادة المنتحر من الطقوس الدينية المصاحبة للميت، وهذا ما يتوافق مع ما تنص عليه الكثير من الديانات السماوية.
بيد أن “دوركايم” لا يستسلم لهذا الطرح، معتبرًا أنّه غير كاف للقضاء على الظاهرة، فما سيتفيد المجتمع إذا ما وضع قانونًا زجريًّا أو رسخ طقوسًا تدين الانتحار؟
لهذا نجده يتتبع بعض الحلول التي عبر عنها من سبقوه بالدراسة للموضوع، أمثال “فرانك” والذي اعتبر أنّ أهم ما يمكن الاستثمار فيه لتجنيب المجتمع معضلة الانتحار، هو عبر “الاشتغال على تطوير الطبائع والقناعات” بما يستقيم مع ميلاد قيم جديدة تقدس الحياة وتدنس الموت كيفما كان.
وعلى الرغم من أنّ هذا الطرح، قد يعتقد البعض أنّه يتماشى من التوجه الدوركايمي في سوسيولوجيا التربية -على اعتباره من أوائل من بلور هذا التخصص- لكن الشيء المفاجئ هو أنّ “دوركايم” يتساءل: أليست “التربية سوى صورة عن المجتمع وانعكاس له، فهي تحاكيه وتعيد إنتاجه بنحو مجمل، ولكنها لا تخلقه؟”.

ولهذا لا يمكن عمليًّا الاعتماد على شيء هو جزء من “أزمة” المجتمع، لأنّ هذا الأمر يعيدنا إلى جدل لا يتوقف: من يصلح من: التربية أو المجتمع؟
ويتساءل بعد ذلك “دوركايم” هل يمكن التعويل على المجتمع السياسي لإصلاح المجتمع وبالتالي لإيقاف آفة الانتحار؟ أم وجب الاعتماد على المجتمع العائلي) الاسري( في تدعيم قيم الترابط المجتمعي وإعادة اللحمة له؟ أم أنّه وجب اللجوء إلى الدين، باعتباره يتضمن معاني سامية وقيمًا عليا تستطيع أن ترفد المجتمع وتخرجه من براثن التفكك والترهل إلى العافية والتلاحم؟
بخصوص التعويل على الجماعة السياسية، فهو غير مأمون العواقب، نظرًا لترهل العلاقة بين المواطن وهذه الجماعات التي ابتعدت عن تأطير الفرد وتربيته بشكل واضح ومستمر، وعلى الرغم من بروز بعض حالات التشبب بهذه الجماعات في حالات استثنائية، كالحروب والنزعات والاضطرابات، فإنّها تبقى موسمية ولا تعكس التجذر الحقيقي لهذه المؤسسات في بناء المواطن الفرد.
ولهذا فإنّ هذه الحالة المتقطعة والمتوترة بين الفرد والجماعات السياسية، لا تمنع من حصول انتحارات بشكل مضطرد، ولعل في هذا المثال ما يذكرنا بما آلت إليه الأوضاع اليوم، من موت السياسة ومن فقدان الثقة بين المجتمع السياسي والمواطن العادي، لدرجة يصعب معها تصور علاقة متداخلة ومتلاحمة.
لعل قائلاً يقول: عن العاصم من هذه الآفة الاجتماعية، هو الدين فهو الأمضى سلاحًا مقارنة ببقية العناصر؟ وهذا القول نجد من يكرره اليوم في المحافل العلمية واللقاءات الأكاديمية والنقاشات العمومية، بل إنّ بعض جماعات الإسلام السياسي اليوم، تؤكده، نظرًا لأنّه يشكل الصمغ التي تنضغط فيه كل الآفات و”الأمراض”.
لكن “دوركايم” وإن كان يتحدث في سياق الانتقال من الفكر الكنسي إلى الفكر العلمي في أوربا القرن (18) و(19) فإنّه مع ذلك، حاول أن يبين أنّ هذا الرابط (الدين)، فقد الكثير من عناصر قوته وامتداده داخل المجتمع الحديث، فعلى الرغم من “التفوق الأخلاقي والفكري للعقيدة، لا يمكنه أن يمارس أي تأثير في الانتحار”.
بالموازاة مع ذلك، هناك من طرح أنّ الحل، يكمن في الجماعة العائلية، والتي تعد البيت الدافئ لاحتضان الفرد ولتعزيز روابط التلاحم بين مكونات المجتمع؟
وبالفعل، فقد توقف “دوركايم” عند هذا العنصر، شارحًا له ومقدمًا مجموعة من التوضيحات بشأنه، حيث يرى “دوركايم” أنّ العائلة طرأت عليها تغيرات كبيرة في بنيتها وفي وظيفتها، ولم “تعد تمارس التأثير الواقعي نفسه الذي كان لها فيما مضى". ويضيف أيضًا: “ففي حين كانت العائلة قديمًا تصون أغلبية أعضائها الذين يعيشون في كنفها منذ ولادتهم وحتى مماتهم، مكونة كتلة متراصة عصية على الانقسام، موهوبة نوعًا من الخلود، لم يعد لها اليوم سوى ديمومة عابرة، فما تكاد تتشكل حتى تتشتت، وما إن يترعرع الأولاد جسديًّا حتى يذهبوا ليتابعوا حياتهم في الخارج”؛ ونحن لا نستغرب من هذا التحليل، فعلى الرغم من أنّنا نتباعد زمنيًّا وسياقيًّا مع زمن الدراسة، فإنّ هذا التحليل، ينطبق بأجلى صوره في واقعنا المعاصر، سواء في المجتمعات الأوربية والأمريكية أو حتى في المجتمعات العربية الإسلامية، حيث فقدت العائلة الكثير من أدوارها ووظائفها التنشيئية والتثقيفية والتربوية، لتحل مكانها وسائط جديدة، رسخت تلك القطيعة بين أفرادها، ولعل المثال الصارخ على ذلك، هو بروز الأسر النووية، والتي تعد مؤشرًا على انحلال الروابط الأسرية، مما أصبح معه الفرد يتيمًا في مجتمع فيه إفراط في الأنانية المجتمعية، ولهذا لا نستغرب إذا ما وجدنا الانتحارات تكثر في السنوات الأخيرة، في جل هذه المجتمعات.

لكن ما هو الحل بالنسبة إلى دوركايم؟
يقدم “دوركايم” حلاًّ -قد يعتبره البعض بعيدًا عن العلاج الحقيقي للظاهرة- إذ أنّه يتحدث في نهاية بحثه عن “الجماعية الوظيفية” أو ما يمكن أو نطلق عليه “النقابات العمالية والوظيفية” ذلك “أنّ التماثل في الأصل والثقافة والاهتمامات يجعل النشاط المهني المادة الأكثر ثراء لحياة مشتركة، إنّها أكثر من إطار تنظيمي، بل إنّها وسط أخلاقي قادر -حسب دوركايم- على أن يقدم عناصر التلاحم والترابط لأفراد المجتمع؛ لأنّ التنظيم الحرفي (أو النقابي)، لا يجسد -دائمًا حسب دوركايم- وحدة تنظيمية فحسب، بل إنّه كيان يتوفر على قيم أخلاقية وآداب وأعراف وله حقوق وواجبات، يمكنه إذا توفرت بعض شروط إصلاحه وتأهيله، أن يؤدي أدوارًا جد طلائعية في التخفيف أو القضاء على معضلة الانتحار.
طبعًا، يمكن القول إنّ هذا الحل قد يواجه اليوم على الأقل بعدة اعتراضات جد وجيهة، وهي أنّ هذا التنظيم لم يعد بدوره يستقطب الكثير من الموظفين والعمال والمستخدمين، فقد غدا بدوره – أي التنظيم النقابي – جد متأخر عن السيرورات والديناميات المجتمعية المتسارعة، وبدا وكأنه غير قابل للإصلاح أو الرجوع إلى اختلال مكانته السابقة، في ظل منافسات شرسة يقدمها الإعلام الجديد، والشبكات الافتراضية وكل الوسائط الجديدة، علاوة على أنّ هذا التنظيم لا يشمل الحياة المجتمعية ككل، فهو يقتصر على شريحة من العمال والموظفين والمستخدمين (أي شريحة متوسطة أو متوسطة عليا من المجتمع) في حين أنّ باقي الفئات غير ممثلة فيه.
زد على ذلك هامشية حركيته في كل تفاصيل المجتمع، مما نعتقد معه، أنّه يصعب التعويل عليه في القضاء على معضلة بل هي آفة تحتاج في نظرنا إلى تظافر الكثير من العوامل والمداخل، منها ما ذكره “دوركايم” كالعامل السياسي والديني والعائلي والتربوي، بتجديد وظائفها بإعادة موضعتها التموضع المطابق، ونضيف إليها اليوم العامل الإعلامي، باعتباره عاملاً حاسمًا في صناعة الرأي والأذواق والاتجاهات والميول والممارسات.

الـخاتـمـة:
دراسة دوركايم عن الانتحار مثال جيد لأهمية الحقائق الاجتماعية غير المادية في عمله. في نموذجه الأساسي، التغيرات في الحقائق الاجتماعية غير المادية تسبب التباين في معدلات الانتحار. ميز دوركايم بين أربعة أنواع من الانتحار – الأناني، الإيثارى، اللامعيارى والقدري – ووضح كيف أن كل منها يتأثر بمختلف التغيرات في التيارات الاجتماعية. دراسة الانتحار اعتبرت بواسطة دوركايم ومؤيديه دليل على أن لعلم الاجتماع مكانة شرعية بين العلوم الاجتماعية. وذكر أيضاً، إذا كان باستطاعة علم الاجتماع توضيح ذلك الفعل الفردي – الانتحار فإنه يمكن استخدامه وبكل تأكيد لتوضيح جوانب في الحياة الاجتماعية أقل فردية.
يسعى دوركايم إلى إبعاد علم الاجتماع كبقية بعض المفكرين الاجتماعيين عن الفلسفة وهي القطيعة التي أحدثها قبله رجال الفكر أمثال توماس الاكويني وكوبرينيك و غليلي ,في حين أن شغفه يتطلع إلى الفلسفة الوضعية التي خاض فيها أوجست كونت أشواطا . وقد طرح دوركايم العديد من الأسئلة في حين بقيت الإجابة غائبة نظرا لكثرة التناقضات التي وقع فيها ولم يفسر بعض الاستفهامات الاجتماعية كتقديمه للمجتمع على الفرد وانتقاله من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي بدون أي صيغة ايجابية تهدف إلى توضيح أو تفسير الظاهرة...من جهة أخرى ينسب لنفسه اعتبارات الفرد سابقا للمجتمع بالتأكيد ملاحظة أكد عليها ابن خلدون قبله ويستشف من خلال القراءات المتعددة لمضامين فكره نجده متأثرا بالفكر الماركسي في كل من الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي في الأنساق الاجتماعي عموما ...




المراجع
1- أحمد زايد ، النظريات الكلاسيكية والنقدية ، دار نهضة مصر ، مصر : القاهرة ، ط1، 2006 .
2- السيد عبد العاطي السيد ، النظرية في علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية ، مصر: الإسكندرية، 2000

3- الانتحار تأليف: “إميل دوركايم” ترجمة: حسن عودة، وزارة الثقافة، الهيأة العامة السورية للكتاب (دمشق) سنة: (2011 م)



#أحمد_بدر_الدين (هاشتاغ)       Ahmed_Badr_Eldeen#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الشعراوي لا ينطق عن الهوي ؟
- الأغتراب
- مصر مش هبة النيل
- أنا أفكر إذًا الشيطان موجود


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد بدر الدين - الانتحار ودوركايم