أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد اقشيرة - التربية الأولى للطفل















المزيد.....


التربية الأولى للطفل


سعيد اقشيرة

الحوار المتمدن-العدد: 6359 - 2019 / 9 / 23 - 22:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تعد قضية التربية من القضايا التي استأثرت باهتمام الفلاسفة سواء القدامى منهم أو المحدثون كان يقصد بها التغذية لكونها عملية نرمي من ورائها تنمية وتطوير قدرات الإنسان والانتقال به من حال إلى حال. والموقف الذي سنتطرق إليه في معرض حديثنا يأتي في سياق عرف فيه اوربا تحولات كبرى سواء على مستوى الفكري والاقتصادي والسياسي، كل هذه العوامل مجتمعة دفعت روسو إلى محاولة بناء وصياغة مفهوم جديد للتربية يتلاءم مع مشروعه الفلسفي القاضي ببلورة تصور جديد لإنسان، لقد دعا بحسه الإنساني المناهض لكل الأشكال الظلم، القهر، العبودية، إلى روح جديدة إيمانها الحرية، والتمرد على هاته الأشكال. وتجلى هذا في مختلف كتبه من بينها كتاب "إميل"، الذي أحدث ثورة شاملة في بنية التصورات والعقائد التربوية في عصره مما مكنه من فتح الباب لكل إبداع لاحق في ميدان التربية والتعليم.
من خلال هذا سنحاول تسليط الضوء على بعض الجوانب الحساسة من مراحل حياة الإنسان وهي مرحلة الطفولة لهذا سيكون، ليس معرفة كيف تطورت التربية من المفهوم كلاسيكي إلى المفهوم الحديث؟ ولا حتى ما معنى التربية؟ أو المؤثرات التي بلورت الفكر التروية عند روسو؟ وإنما هل الهدف من التربية عند روسو هو معرفة كيف يعيش الإنسان؟ هو الأمر الذي سنقتصر عليه انطلاقا من مرحلتين، المرحلة الأولى من الولادة إلى السن الخامسة، وفيها سنحاول استنباط مبادئ التربية الطبيعية للطفل. أما المرحلة الثانية من الخامسة إلى سن الثانية عشر سنعالج من خلالها تربية الحواس والأخلاقية.

I- التربية الطبيعية

ينطلق روسو في الكتاب الأول من كتابه "إميل" على أن الإنسان في مرحلته الأولى، أي حين يقذف به في الوجود، يوجد بطبيعة خيرة ما إن تتدخل يد الإنسان والمجتمع يصير بعد ذلك شريرا، بمعنى يفقد تلك الطبيعة الخيرة التي وجد عليها، وهو الأمر الذي يقر عليه من خلال قوله: "يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في أيدي البشر يلحقه الاضمحلال"([1])
يشير هذا القول إلى أن الطبيعة الإنسانية تكون خيرة بذاتها، وما يأتيها من شر وفساد فهو نتاج للسلوك الإنساني بالأساس. لهذا جعل وظيفة التربية في هاته المرحلة (المرحلة الأولى من الطفولة والتي حددها من مولد الطفل إلى سن الخامسة من عمره) مقصورة على إزالة كل الصعوبات وكل ما يعوق أو يفسد الطبيعة البشرية الخيرة عن نموها الطبيعي.
لمعرفة كيف يمكن للطفل أن يتخطى هاته العوائق، سنحاول الوقوف على أهم مبادئ الطبيعية للتربية التي تتمثل في مبدأين:

أولا- مبدأ الحرية:

لماذا الحرية؟ لأن الطفل حينما يولد يكون في حاجة إلى مد أطرافه وتحريك يديه حتى يتمكن من منح لنفسه استراحة أو استرخاء لما قضاه في بطن أمه من انطواء وانكماش. فمن الخطأ أن نضعه في قماط أو قماش ونشد أطرفه، سيجعله الأمر يبذل جهدا كبيرا لا طائلة منه في تحريك أعضائه المقمطة، قد يؤدي بت هذا الفعل إلى الهلاك من خلال استنزاف قوته. لهذا يدعو روسو غير ما مرة إلى ترك الحرية للطفل عند ولادته ، إذ يقول: "عندما يأخذ الطفل أنفاسه الأولى، لا تكبلوه في الأقمطة المحكمة. ولا تضعوا على رأسه تلك الطواقي بل اجعلوا لفائفه واسعة فضفاضة بحيث تتاح لأطرافه الحرية التامة ومن قماش غير ثقيل حتى لا يعوق حركته"([2]).
هذا، ويذهب لإعطاء أربع وصايا إلى كل من سيتولى أمر تربية الطفل، ففي الوصية الأولى يدعونا إلى ترك الحرية للطفل في استخدام جميع قواه التي منحتها له الطبيعة، وبالتالي لا ينبغي أن نحد له من هاته القوى بل يجب منح له الحرية في استخدامها مادام غير قادر على إيذاء نفسه.
ويؤكد في الوصية الثانية على تقديم يد المساعدة في كل ما ينقصه سواء تعلق الأمر بالذكاء أو القوة، بمعنى ينبغي نساعده في كل ما يكفيه في احتياجاته البدنية. وهذه المساعدة يجب أن تكون في حدود المنفعة الفعلية ولا في نزواتهم الغير المعقولة التي قد تكون ليست من صنع الطبيعة، وهذه هي الوصية الثالثة.
أما في الوصية الأخيرة يدعو فيها إلى دراسة لغة الصوتية وكذلك إشاراته حتى نستطيع في السن الذي يكون عاجزا عن التمويه أن نميز في رغباتهم بين ما هو طبيعي وما هو نزوة.
إن الغرض من هذه الوصايا الأربع هو:" الإطلاق مزيد من الحرية الحقيقية للأطفال، مع الإقلال من سيطرتهم وتحكمهم. وأن يتعلموا العمل بأنفسهم لا أن يحملوا الآخرين على العمل لهم "([3]). هذا ما يُمَكن الطفل على التعود منذ البداية أن تكون رغبته على مقدار قوته، حتى إذا اقتضى الأمر وحرم من شيء ليس في متناوله، يشعر على أن هذا أمر طبيعي.
ما يمكن أن نسجله من خلال هذا المبدأ هو منح الحرية للطفل منذ ولادته سواء تعلق الأمر بالأقمطة التي تشل حركة أطرافه، أو في السنوات الأولى التي تتطلب بدورها الحرية في تصرفات الطفل.

ثانيا- مبدأ التربية السلبية:

إن التربية السلبية ليست بالمعنى ألقدحي للكلمة "سلبي"، وإنما تأخذ معنى أخر مع روسو، لهذا نتساءل معنى التربية السلبية؟ والمقصود بها ؟ ثم لماذا هاته التربية؟.
ينادي روسو في هذا المبدأ بأن تكون التربية الأولى للطفل، ألا تكون بالتلقين لمبادئ الفضيلة والخير وما إلى ذلك، وإنما ينبغي أن تكون في نمو حر لطبيعة الطفل، بمعنى أن تكون هاته الحرية مطلقة تتمشى مع قواه الداخلية وميوله الفطري، ويبدو أن التربية التي يعلنها هنا قد لا تتمشي مع التربية القديمة أو التي كانت سائدة في عصره، بحيث يرى أسالبيها تكن العبودية للطفل، تجعله مقيدا ينمو نموا منمطا وفق الأنظمة والمجتمع، وبهذا تكون التربية التي يدعو إليها بمثابة ثورة تقطع مع أساليب التربية القديمة، أو التقليدية، داعيا إلى أسلوب جديد هو ترك الطفل ينمو وفق فطرته وطبيعته الخيرة.
من خلال هذا نقول إن التربية السلبية، لا تعني الكسل أو كل ما قد تحمله كلمة سلبي من معنى، وإنما تعني ترك الطفل ينمو حرا دون تدخل فيه أحد، دعه مع الطبيعة الداخلية والخارجية، هما من سيتوليان شأنه. وتعني الطبيعة الداخلية هي الطبيعة التي يولد عليها الطفل بالفطرة، أما الطبيعة الخارجية فالمقصود بها هي التي يوجد فيها الطفل، ومن هذه الأخيرة ينبغي أن يتعلم الطفل. فكيف للطفل أن يتعلم من خلالها؟.
يرى روسو أن تعلمه منها يكون عن طريق المحاولة والخطأ، بشكل تلقائي دون أن يتدخل فيه أحد، فقط نبعد عنه كل ما قد يؤذي به نفسه ويشكل عليه خطرا، ونترك شأنه بين أحضان الطبيعة. حتى إن كسر نوافذ حجرة نومه الزجاجية فلا ينبغي أن نعاقبه ولا حتى إصلاح النوافذ، بل دع الريح تهب عليه ليلا ونهارا حتى يشعر بالبرد ويعرف مال ارتكبه ليس في صالحه. ومنه نقول إن الطبيعة الداخلية دفعت به إلى تكسير الزجاج، والطبيعة الخارجية عاقبته بالبرد على الخطأ الذي اقترفه. بهذا يتعلم إميل دون تدخل أي طرف كان حتى لا يفسد طبيعته الخيرة. هو ما يعلنه روسو من دعوته إلى عدم الدفع بالطفل إلى التفكير وإعداده عقليا، وإنما نتركه يتحمل نتائج الطبيعة مثلما فعل مع النافذة.
من خلال هذا، نقول إن المقصود بالتربية السلبية هي التربية بالمعنى الحر، فإذا كان المبدأ الأول ينص على إعطاء الحرية للطفل وإزاحة كل العوائق التي قد تحد من حريته، فإن المبدأ الثاني هو أيضا يدعو إلى نمو الطفل في حرية دون تدخل أي طرف فيه إلا إذا اقتضت الضرورة، حتى لا تفسد طبيعته الخيرة، و يصير مثل الإنسان المتمدين: "فالإنسان المتمدين يولد ويعيش ويموت في رق العبودية، حين يوثقونه بقماط، وحين يموت يسمرون عليه تابوتا، ومادام على وجه الدنيا، فهو مكبل بشتى النظم"([4]). ومنه يكمن القول إن هذا ما دفع بروسو إلى تبني مفهوم التربية السلبية كثورة تربوية تجعل من الإنسان إنسانا متحررا من كل القيود والأغلال، لهذا نادى روسو بالتربية السلبية للطفل حتى لا ينمو في نير العبودية.

II- التربية البدنية والأخلاقية :

بعد أن تجاوز الطفل المرحلة الأولى التي تطرقنا إليها سلفا، ينتقل إلى المرحلة الثانية من عمره (الطفل)، هي التي سنتحدث فيها عن التربية البدنية والأخلاقية، وذلك من خلال معرفة كيف يمكن إعداد إميل أو الطفل إلى الحياة الأخلاقية؟ ثم لماذا التربية الجسدية؟ فمعرفة كيف يمكن أن نربي الطفل في هذه المرحلة ونُعده بدنيا وأخلاقيا تستدعي من الوقوف على ثلاث نقاط أساسية وهي:

النقطة الأولى: الدروس الأولى في الشجاعة.

يجب أن نترك الطفل يبكي دون أن نهتم لأمره، لأنه أصبح قادر على التعبير عن ألمه، سواء كان الإحساس بالجوع أو الخوف... فهو بمقدوره أن يقول إني أتألم، وبالتالي لا ينبغي أن نتركه يستمر في البكاء كتعبير عن ألمه، الذي اتخذه في المرحلة الأولى كأداة للتعبير، وإنما ينبغي أن نجعل بكاءه بغير فائدة، فمادام هو يبكي لا نذهب إليه ولا نلفت له حتى الانتباه، فحين يستنفذ كل طقاته سيكف عن الصياح لا محال آنذاك نذهب إليه حتى يتعود على هذا. ومنه سيتعلم أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نذهب إليه هي سكوت، لأن الأطفال في نظر روسو لا يميزون معاني سلوكهم إلا بالآثار المحسوس لذلك السلوك، ودليله على هذا هو:"مهما كان الألم شديدا على الطفل، فمن النادر أن يبكي إذا كان بمفرده، إلا إذا وجد عنده الأمل أن يسمع بكاءه أحد من ذويه"([5])
أما إذا سقط على رأسه وظهرت فيه بعد الجروح أو نزل من الدم، لا ينبغي أن نذهب إليه مسرعا، أو نصرخ أمامه، وإنما يجب أن نحافظ على هدوئنا وعدم الذهب إليه حتى تمر فترة من الزمن رغم ما نحسه بته في دواخلنا تجاهه إلا أن الأمر يستدعي عدم التدخل حتى يتحمل ما تعرض إليه. فروسو يرى أن ما يؤلم المرء كثيرا ليست الحديثة أو ما يتعرض إليه من جروح وإنما الخوف أو الصدمة تجاهه لأنه يحكم على ألمه انطلاقا مما يراه على وجوهنا، في هذا المقام يقول روسو:"فإن رآني أجري ملهوفا كي أرفه عنه وأتحسر عليه فسيظن نفسه هالكا. أما إذا رآني أحتفظ بهدوئي فسيثوب سريعا إلى هدوئه ويعتقد أن إصابته يسيرة"([6]). وبهذا يكون الطفل قد بدأ في أخذ الدروس في الشجاعة بحيث كلما تعلم كيف يتعذب بآلام هينة من غير فزع أو تحصر فسيتعلم بالتدريج التحمل الألم، وما هذا سوى الشجاعة في جوهرها الأصيل.
فالطفل الذي يكبر من غير ألم فسيظل بدون خبرة وبدون شجاعة مما يجعله يتوهم الموت من أول وخزة أصابته، وقد يغمى عليه، إذا رأى قطرة دم تنزل من جسده، وهذا راجع إلى سوء تربيته. فهناك أخطاء كثيرة ترتكب في عملية التربية، من بينها أن نعلم الطفل المشي، ونبذل جهدا في تعلمه ذلك، فالطفل ينبغي أن نتركه حرا يجري ويقع مائة مرة كل يوم حتى يتعلم كيف ينهض من سقطته بنفسه كلما وقع.

النقطة الثانية: الحياة الأخلاقية.

فمع نمو قوة الطفل تنمو معرفته التي تمكنه فيما بعد على استخدام قوته وتوجيهها، بهذا تبدأ بصورة دقيقة حياة الفرد. بحيث يصبح قادر على الوعي بذاته، وقادر على الشعور بالسعادة أو الشقاء، لذا يتحتم علينا حسب روسو أن نعتبره انطلاقا من هذا كائنا أخلاقيا. الأمر الذي دفع بروسو إلى نقد التربية القديمة التي تضحي بالحاضر في سبيل مستقبل مجهول وغير مضمون فلا أحد يدري هل سيعمر هذا الطفل في الحياة كثيرا أم لا؟ فلماذا هاته التربية التي تكبل الطفل بالأغلال وتجعله شاقيا في طفولته من أجل إعداده لمستقبل بعيد معتبرة على أنه سيكون سعيدا فيه؟ دون وعي هل سيصل الطفل إلى هاته المرحلة التي تعده لها أم لا؟ لكن ما تعرفه هو جعل الطفل يتعذب مما يتلقاه من أعمال شاقة، وعقوبات وتهديدات في سبيل مستقبله دون معرفة أن الموت قد يأخذه في أية لحظة. إن المزاية الوحيدة التي يمكن أن يحصل عليها من عذابه وألمه في سبيل التربية الأخلاقية هي أن يموت غير آسف على الحياة لأنه لم يعرف عنها سوى المعاناة.
يدعو روسو إلى عدم انتزاع من الطفل استمتاعه بطفولته، فما هي إلا فترة قصيرة من العمر سرعان ما تنقضي، لا يجب أن نحرمه من هذا الخير الذي ليس له مثيل، يعبر عن هذا من خلال قوله:"أنتم تحرمونهم من اللحظات السعيدة الضئيلة التي تمنحهم الطبيعة إيها، يجب عليكم متى استطاع أبناؤكم أن يشعروا بذواتهم، أن تجعلوهم يستمتعون بحياتهم"([7]). دعوة روسو إلى كل من يتولى أمر الطفل أن تجعله يستمتع بحياته دون حرمانه من ذلك بسبب التربية الأخلاقية التي سيحظى بها في المستقبل، فحتى إن أخذته الموت قبل أن يصل إلى المستقبل يكون قد عاش حياة طفولته بسعادة وتذوق لذة الحياة.
التربية الأخلاقية هي أن نجعله يخشى تلك الألفاظ التي قد تتكرس في قاموسه مثل الطاعة، الواجب و الالتزام، وذلك خوفا من عدم الطفل مدلولاتها، وتكرس بشكل خاطئ في ذهنه، يصعب القضاء عليها فيما بعد، لهذا يقول:"إن أول فكرة خاطئة تتسرب إلى رأس الطفل ستكون هي الجرثومة الخطأ والشر والعيب"([8]). يحذر روسو من الخطوة الأولى التي قد يقدم عليها الطفل أي إقباله في ترسيخ تلك المفاهيم التي لا يستطيع إدراك مدلولاتها، فتغدو بمثابة جرثوم، لذا ينبغي ألا يفطن فيما حوله في جميع النواحي باستثناء لما هو مادي أو بدني فغير هذا يؤكد على أنه:" لن يلقي بالا إلى ما تقولون، أو سيفعل ما هو أسوأ فيكون في ذهنه للعالم الأخلاقي والروحي الذي تتحدثون عنه مفهومات خرافية لن تستطيعوا محوها من ذهنه مدى الحياة"([9]).
انطلاقا منم النقطة الأولى والثانية نقول إن التربية في هذه المرحلة التي حصرها روسو بين سن الخامسة إلى الثانية عشر تكون تربية أخلاقية، ليس بالتلقين أو بالعادات، وإنما عن طريق الطبيعة، فما قدمنه في الشجاعة هو في نفس الآن يمثل ما هو أخلاقي، فعندما يسقط يتألم، وعندما يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام... يشعر في كل هذا أن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا نابع من طبيعة الأشياء ذاتها، لهذا يؤكد روسو على أن التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي.

النقطة الثالثة: تربية الجسد والحواس.

لماذا اقتصر روسو على تربية الحواس والجسم؟ لأن هاته المرحلة غير مناسبة لتعليم الطفل تعليما نظاميا، فالكتاب الوحيد الذي يمكن للطفل أن يقرأه هو الطبيعة، هي وحدها التي يمكن أن يتعلم منها لهذا الغرض اقتصر على أن تكون التربية تربية الحواس والجسد. إذن كيف تكون أو تتم تربية كل واحدة منهما؟.
يقول:"إن تمرين الحواس أو رياضيتها ليس مجرد استعمالها، بل هو في الواقع تدربيها على تكون وسيلة صالحة للتميز، فرياضة الحواس هي بعينها أن نتعلم كيف نحس، لأننا لا نعرف كيف نلمس أو كيف نرى أو كيف نسمع إلا كما تعلمنا ذلك"([10]). إن تربية الحواس أو رياضتها لا يعني استعمالها أو تدربيها على ذلك، وإنما هي أن نتعلم كيف نحس، وكيف نميز بين الأشياء. فرياضة الحواس تمكن الطفل ألا يبذل جهدا في حمل شيء ما أكثر من قوته، ويتم ذلك من خلال تعوده على توقع نتيجة لجميع حركاته، انطلاقا من تجربته في رفع الأثقال فسيتعلم من تلقائي ذاته الكم الذي سيستطيع رفعه، وهو الأمر الذي يعبر عنه في قوله:" لنفترض أن المطلوب هو زحزحة كتلة ثقيلة من موضعها، فعلى الطفل أن يستخدم رافعة فإن تناول رافعة أطول مما ينبغي احتاج إلى حركة أكثر مما ينبغي، وإن استعمل رافعة أكثر مما ينبغي لم يتوفر له الجهد الكافي لاستخدامها، فيجب أن يتعلم من التجربة اختيار الرافعة بالذات"([11]).
إن عملية تصحيح الخطأ بالتجربة تجعله يزداد تميزا بالأشياء، وتمنحه خبرة في ذلك، مما تمكنه معرفة تقدير الأثقال بالنظر ومعرفة الكتلة والفرق بين كتلة أخرى في الوزن، وبهذا يتعلم دروسا عملية في الوزن النوعي حسب روسو.
يشير إلى وجود حاسة لا يتوقف عملها طوال مدة يقظتنا، لكن فتدريبها أقل من الحواس الأخرى وهي حاسة اللمس، يؤكد على أهميتها والتدريب عليها، حتى يستطيع أن يمشي كالعميان في الظلام، ونتعرف على الأجسام ونميز بينها، لهذا يقول:"أما أنا فأفضل لإميل أن تكون له عينان على أطرافه بنانه على أن تكون عيناه في حانوت بائع الشموع"([12]).
يوضح هذا القول على أن إميل يجب أن نريض له تلك الحاسة لطالما سيجد نفسه في حاجة لها، حينما لم تكن الآلات أو الأدوات التي تضيء بها ميسورة له، فليس هناك ضامن يضمن بوجود ما ينير بت طريقه في ذات يوم. وبالتالي لا يجب أن نجعل عيناه على الشموع، بل في رياضة تلك الحاسة، حتى إن وجد نفسه في بناء ما وفي جوف الليل، فعن طريق اللمس سيعرف مدى ضخامة البناء وهل في الوسط أم في الركن وما إلى ذلك من يمكن أن يصل إليها عن طريق اللمس.
يضيف إلى هذا، رياضة أخرى وهي رياضة طبيعية ميكانيكية تجعل الجسم قويا دون تأثير على التمييز، وهي السباحة، الجري القفز، وقذف الأحجار، إلا أنه يؤكد على رياضة السباق التي تتيح للجسم الحركة من غير أن يرهقه.
من خلال هذا نقول إن جعل التربية تتم عن طريق الحواس والتجربة والاحتكاك المباشر مع الطبيعة، فلا مجال للكتابة ولا للقراءة في هاته المرحلة.
انطلاقا مما سبق نخلص إلى القول، إن روسو جعل من التربية في المرحلتين الأوليتين مقتصرتين لا على القراءة والتعلم وإنما على كيفية نربي الطفل، من خلال الطبيعة، ففي المرحلة الأولى للطفولة توصلنا إلى الهدف منها هو إعداد الطفل ليصبح قادر على ضبط حريته وضبط نفسه حين يقوم بعمل ما، الذي يأتيه انطلاقا من حريته وإرادته، ثم منح الحرية للطفل. أما المرحلة العمرية الثانية، فقد توصلنا من خلال ما تم التطرق إليه، إلى أن الطفل يجب أن يستمد معلوماته وخبراته عن طريق الحواس والتجربة ثم الاحتكاك المباشر مع الطبيعة. أما فيما يخص التربية الخلقية ينبغي أن تتم عن طريق النتائج الطبيعية، أي العقاب الذي يمكن أن نعاقب بت الطفل على أخطائه، نتركه للطبيعة تفعل فعلتها. ثم تدريب الحواس والجسد لا تدريب العقل، فلا مجال للقراءة والكتابة هنا. كل ما في الأمر هو أن ينمو الطفل حرا، وأن تكون تربيته طبيعية، من خلال التركيز على التربية البدنية، والحسية أي الحواس.



________________________________________
[1]) جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، ص 24.
[2]) المصدر نفسه ص68.
[3]) المصدر السابق، ص 71.
[4]) المصدر السابق ص، 34.
[5]) المصدر السابق، ص 76.
[6]) المصدر السابق، ص 77.
[7]) المصدر السابق، ص 81.
[8]) المصدر السابق، ص 92.
[9]) المصدر السابق، ص 93.
[10]) المصدر السابق، ص 134.
[11]) المصدر السابق، ص 134. 135.
[12]) المصدر السابق، ص 136.

سعيد اقشيرة، سيدي رضوان وزان.


{فس}



#سعيد_اقشيرة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد نيتشه للأخلاق المثالية: سقراط وأفلاطون نموذجا
- السياق العام ل هاربت ماركيوز


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد اقشيرة - التربية الأولى للطفل