أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أسامة عرابي - عشتُ مرتيْن..حُريَّة مُتجدِّدة للعقلِ والرُّوحِ والتَّاريخِ















المزيد.....



عشتُ مرتيْن..حُريَّة مُتجدِّدة للعقلِ والرُّوحِ والتَّاريخِ


أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 6189 - 2019 / 4 / 2 - 00:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تستمدُّ مذكرات الإعلامي الكبير المرحوم حمدي قنديل "عشتُ مرتيْن" الصادرة عن دار الشروق (2014) أهميتها عندي من تجربته العريضة في حقل الإعلام: صحافة كانتْ أوإذاعة أوتلفزيونًا، وتمرُّسِه بالعمل الإعلامي في فروعه وفنونه المختلفة: مذيعًا ومقدِّمًا ومُعِدًّا للبرامج الإخبارية والسياسية ، ومحاورًا جيدًا يهتمُّ دومًا بتحديث معلوماته عن القضايا الرئيسة وثيقة الصلة بالمشاهد، متوكئًا على مهنية عالية عرفت طريقها منذ البدء إلى الموضوعية والحياد والمبادئ الأخلاقية التي تحكم علاقته بالجمهور لصالح الحقيقة ، ومواكبًا لتطور التكنولوجيا الرقمية واتصالات الفضاء، ومؤلفًا لعدد من الكتب والدراسات المهمة في مضمار "الميديولوجيا"، أي علم دراسة الوسائط التي تغدو الفكرة بفضلها قوة مادية فاعلة ، على نحو ما نلمسه في كتابيْه: "اتصالات الفضاء" (1985) الذي قرَّر اتحاد الجامعات العربية تدريسه في كل الكليات المعنية ، و"عربسات" (1989) ، وأبحاثه "نحو شبكة فضائية خليجية" (19990) و"حول أوضاع الإعلام في المنطقة"(2009) وسواهما، فضلًا عن انتخابه عضوًا في المجلس الاستشاري الدولي لرابطة العاملين في مجال الفضاء بواشنطون ، وعضوًا في المكتب الاستشاري لمجلس مؤسسات الاتصالات الفضائية الأمريكية بواشنطون أيضًا لسنوات عدَّة، بالإضافة إلى عمله خبيرًا إعلاميًّا في المنظمات الدولية ومعاهد التدريب، وقيامه بالتدريس لطلبة الدراسات العليا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لدورة واحدة حول اتصالات الفضاء، وإشرافه على إدارة الإعلام في دورة 1991لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومشاركته الدءوب في المؤتمرات والمنتديات والمؤسسات المختلفة في المِنْطقة العربية وخارجها، والكتابة في الصحف السيَّارة، وإنشائه عددًا من المشروعات الإعلامية الخاصة مثل: المكتب العربي للاتصال وشركة البيت العربي مع صديقه الميلياردير الكويتي الشيخ جواد بو خمسين وشركة الشرق لاتصالات الفضاء مع د.علي السمان وسعد لبيب وعلي شمو ومحمد السنعوسي ومحمود الشريف وريمون إسكندر ود.محمود مدكور خبير المعلومات وجيرار بولا مدير عام اليونسكو الأسبق وولفجانج سيليج الرئيس الأسبق لاتحاد الصناعات الإلكترونية الألمانية وجان دي ليبكوفسكي وزير الدولة الأسبق للشؤون الخارجية الفرنسية، ومستشارًا لبعض الشركات الإعلامية من طراز شركة سورياد المغربية التي يملكها فؤاد عبد اللطيف الفيلالي نجل وزير الخارجية ورئيس الوزراء المغربي الأسبق، وعضوًا منتدبًا لبعضها الآخر مثل شركة تيبازا للسمعيات والبصريات الجزائرية.. كما طرق باب الإعلان بشركة كان قد تقدَّم لاعتمادها بين الشركات التي تجلب الإعلانات للقناة الفضائية المصرية التي أطلقت عام 1990، غير أنه ما لبث أن غادر هذا المجال الذي لايتناغم وما يؤمن به من قيم ومبادئ ، أو على حد تعبيره "بسبب التربيطات والدهاليز التي لم يكن لي قِبَل بها، وعدم استراحتي للتعامل مع بيروقراطية ماسبيرو، على الرغم من أن المسئولين عن القطاع المختصّ كانوا يعاملونني معاملة خاصة بوصفي زميلًا قديمًا لهم". علاوة على مغامراته الإعلامية التي عرَّضته للموت أربع مرات؛ مرتيْن في اليمن عندما ذهبت قواتنا المسلحة إلى هناك عام 1962؛ وعندما حاصرته واللواء عبد المحسن كامل مرتجي قوة مناهضة للثورة؛ والثالثة في العراق حينما وقع انقلاب1963؛ والرابعة في الأردن خلال معركة "الكرامة" التي هُزم فيها الإسرائيليون هزيمة ساحقة على يد قوات الصاعقة الفلسطينية عام 1968، ونجاحه في التسلُّل إلى "عدن" المحتلة عام 1961 ضمن وفد لاتحاد المحامين العرب، ودخوله إلى قاعدة المرسى الكبير البحرية الفرنسية قبل استقلال الجزائر، وسفره واقفًا في طائرة نقل روسية من طراز أنتونوف إلى بنزرت لنقل زيارة الرئيس عبد الناصر إلى هناك عام 1963 ليهنئ تونس بجلاء القوات الفرنسية، وكان قاب قوسيْن أو أدنى من خوض غمار التمثيل عندما رشَّحه المخرج حسن حلمي مدير برامج التلفزيون لدور عميد الأدب العربي د.طه حسين في فيلم "الأيام" الذي كان ينتوي إخراجه، لولا أن ظروفًا طارئة أو أسبابًا غامضة أفضت إلى تأجيله .. وكان قطبًا مؤسِّسًا للجمعية الوطنية للتغيير ولجبهة الإنقاذ الوطني.. ثم تنوَّعت اهتماماته وتعدَّدت لتشمل رئاسته جمعية "محبي الفنان صباح فخري" في القاهرة والاقتران بنجمة السينما اللامعة نجلاء فتحي . نحن – إذن - أمام تاريخٍ حيٍّ ثريٍّ.. وتراثٍ عريقٍ ممتدٍّ يحقُّ لأجيال الإعلاميين كافَّة النَّهْلَ منه والإفادة من دروسه، لرجلٍ عاش حياته كلها مدافعًا صلبًا عن الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير واستقلال الإعلام وحقه في الحصول على المعلومات من مصادرها الأصلية ومدِّ الجماهير الشعبية بها؛ بوصفه حقًّا من حقوق الإنسان الأساسية يُسمَّى "حقَّ المواطن في الإعلام"، بما يُتيحُ له (المواطن) المشاركة في القرار السياسي وصنع مستقبله، مع تأكيده على ضرورة التطوير المهني والتقني، والالتزام بضوابط المهنة ومعاييرها، والنأي عن الفبركة والفضائحية اللتيْن يلجأ إليهما البعض طلبًا للشهرة، والعمل على محاربة الفساد والاستبداد. لهذا وصفته تقارير أمن الدولة التي عثر عليها ثوار 25 يناير 2011 الذين اقتحموا المبنى الرئيس لجهاز أمن الدولة بـ "المناهض"، بينما نعته المنصفون مثل محمد فائق وزير الإعلام الأسبق : "لا أعرفُ شخصًا لا ينظر إلى الأمام قبل أن يتخذ قراره مثل حمدي قنديل"، أي أنه يستحيل عليه الاستمرار في موقع أو مكان ما يتعذر عليه التواؤم معه وأداء عمله فيه وفق ما يؤمن به ويعتقد، غير عابئ بما يلحقه من خسائرَ أو أضرارٍ تترتب على قراره بالرحيل والمغادرة.. لذا لم يحتملْه هامشُ الحرية الهزيل في أقطارنا العربية، وظلَّ بينهما ودٌّ مفقود طَوال الوقت، كما حدث له في مِصرَ بقنواتِها المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص، أو في تلفزيون الأردن أو في تلفزيون دبي أو قناة الليبية وسواهم، لكنه بقيَ مهمومًا ببلده وقضاياها ، حتى إنه عندما سافر في منحة دراسية من الحكومة الألمانية لأشهر أربعة في نوفمبر 1964 إلى "معهد برلين للإعلام في الدول النامية"، أصرَّ على زيارة برلين الشرقية على الرغم من تحذيرات مدير المعهد له ، ومطالعة تجربتها عن كثبٍ، وعاد من هناك بسؤال لم ينِ يؤرقه : أيُّ النظاميْن أفضل، ولماذا هو أفضل، وفي أيِّ الجوانب بالذات، وأيُّ نظام بالضبط ذلك الذي يجب على بلادنا أن تتبعه؟ يقول حمدي قنديل: لم تكنِ الإجابة واضحة، كلّ ما كنتُ متأكدًا منه أنه لا بدَّ من طريقٍ ثالثٍ.. ويُضيف: الأدهى من ذلك أننا الآن في مِصرَ، بعد ثلاث سنوات من ثورة نادت بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لم نستطعْ بعدُ أن نكتشفَ هذا الطريق. غيرَ أنه لم يحدِّدْ لنا ماهية الطريق الثالث الذي يعنيه.. هل هو الطريق الذي تحدث عنه "أنتوني جيدنز" في كتابه "الطريق الثالث..تجديد الديمقراطية الاجتماعية"، شارحًا هدفه بأنه مساعدة المواطنين على أن يشقّوا طريقهم عبر الثورات الرئيسة في هذا العصر: العولمة والتحوُّل في الحياة الشخصية والعلاقة بالطبيعة، من خلالِ شعاري دعاته : لا حقوق دون مسئوليات..ولاسلطة دون ديمقراطية.. أم هي مشاطرة لدعوة المفكر اللبناني كريم مروة في حيوية استضاءة القومي بالأممي عند إعادة النظر في الثوابت القديمة.. أم أن الطريق الثالث لديه محاولة لتطوير الاشتراكية الديمقراطية أو لنهج يسار الوسط الأوروبي؟ على كل حال..لا أشكُّ في أن دعوته هذه نابعة من إيمانه بضرورة خلق واقع جديد، يتخطَّى الإستراتيجيات السياسية القائمة وأزمتها الحادة؛ من أجل التمكين للثقافة المدنية، والمشاركة في الاقتصاد الاجتماعي، وإشاعة الشفافية والديمقراطية في كل مناحي الحياة.
بَيْدَ أن كتاب حمدي قنديل "عشتُ مرتيْن" غلبت عليه تقاليد كتابة المذكرات، وما وسمَها من طرائقَ تحفل بالتسجيليِّ الذي يطغى عليه الحدث الخارجي والتوثيق التاريخيّ للمواقف والممارسات؛ مستنطقًا الأحداث والوقائع، مسائلًا التجارِبَ والرؤى، باحثًا عن مغزى جدل الخاص والعام، مترجمًا العصر وفضاءه الزمنيّ، منفتحًا على الماضي والمستقبل في آنٍ، داعيًا إلى إعلام يُحرِّرُ المواطن العادي من سطوة الرأي الواحد، والحزب الواحد والوصاية الإيديولوجية، ويصونه من أخطار التلاعب بالأنباء، ويحافظ على حريته (الإعلام) ونزاهته في الوقت ذاته؛ نشدانًا لمجتمع ديمقراطي قادر على خلق حالة توازن بين السلطات المختلفة، حاثًّا على المواجهة والتصدي في شرط عام يعمد إلى أمركة الثقافة والعالم، وتنميط المجتمعات، وتسويق المعايير والسلوكيات، مؤكدًا على حيوية الإيمان العميق برسالة إعلامية لها حضورُها الفاعلُ في ثقافتنا الوطنية. عندئذ ندرك أن أزمة الإعلام المصري هي أزمة النظام السياسي القائم الذي يشكو من اختلالات هيكلية أو اعتلالات بنيوية؛ جعلت الصورة التي يقدِّمُها إعلامه ثمرة العلاقة الإلحاقية بين المعرفة والسلطة؛ من أجل إعادة إنتاج الهيمنة السياسية. وهنا يُقدِّم لنا حمدي قنديل وثيقة تاريخية دامغة عن الأدوار التي لعبها ويلعبها الإعلام في البنية الراهنة للوطن العربي، فضلًا عن تبايُن الإعلام من حيث مستوياته وأهدافه وتقنياته؛ لنكتشفَ طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والتاريخية للقوي التي تقف وراءه، وماهية مصالحها. لهذا يُشدِّدُ النَّبْرَ على معايير أربعة يراها ضرورية لنجاح التلفزيون أو أيِّ وسيلة إعلامية أخرى: أن يكون للدولةِ مشروعٌ قوميٌّ..أن يتحلَّقَ حول رسالتِها إجماعٌ شعبيٌّ.. أنْ ينبعَ من رحم نهضة فكرية وثقافية وفنية.. أنْ يعملَ بمستوًى مهنيٍّ عالٍ. وبذلك يتمحورُ الإعلام حول أهداف قومية عامة تنهض بدور كبير في التطوير والإصلاح والتحديث الوطني الديمقراطي، ويسعى إلى إيجاد توازن بين المجتمع والدولة عبر ممارسته الرقابة، وإدارة حوار عقلاني مفتوح بين قوى المجتمع الحية. لذا كان إعلام مصر الستينيات مشغولًا بقضايا التحرُّر الوطني، وفي القلبِ منه الصراعُ العربيُّ- الإسرائيليُّ بوصفِه جزءًا من صراعٍ أشملَ بين قوى التحرُّرِ والتقدُّم العربية، وبين الاستعمار العالمي الساعي إلى السيطرة والاستغلال.. وبالتقدُّم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وبالوحدة العربية والثقافة الإنسانية الرفيعة التي تؤمِّن للإنسان الانخراط في ملكوت الحرية وامتلاك القدرة على التأثير في محيطه ومستقبله.. بينما انصرف إعلام مصر السبعينيات وما تلاها من عقود إلى تمييع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتجميل صورة أعدائنا التاريخيين : أميركا بمحافظيها الجدد وصهيونيتها العالمية، والاحتفاء بالدعاية والإعلان وبرامج المنوعات الفجة والترفيه السفيه، في عصر تحرير السوق والتجارة وخصخصة المشروعات الحكومية. لهذا وجد حمدي قنديل في مناخ مصر الخمسينيات والستينيات الوطني النهضوي من يُعينه على مواجهة عسف البيروقراطية الغشوم وشططها الأمني الذي أوقف برنامجه اليومي "أقوال الصحف" بعد الحلقة الخامسة؛ لأنه أورد خبرًا عن الرئيس عبد الناصر في نهاية البرنامج وليس في بدايته؛ جريًا على مأثور عادة الأخبار في هذا الصدد. فذهب إلى مكتب الرئيس في منشية البكري، ولم يكنْ قد ذهب إليه من قبلُ، والتقى سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، وعرض عليه المشكلة "ضحك سامي شرف، وطلب منه الانتظار في استراحة مكتبه، ثم ناداه بعد قليل، فوجد في مكتبه نجلي عبد الناصر: عبد الحكيم وعبد الحميد اللذيْن جاءا للفرجة عليَّ بعدما كانا قد شاهداني على الشاشة.. وبعد دقائقَ جاء سامي شرف ليقول لي : الريس بيقولك خد الجرايد، وروح على الإستديو على طول من غير ما تكلِّم حد. واستمرَّت إذاعة "أقوال الصحف" نحو ثماني سنوات دون متاعبَ تُذكر".. في الوقت الذي عاتبه فيه صفوت الشريف وزير الإعلام الأسبق؛ لأنه الوحيد على شاشة التلفزيون الذي يُطلق على مبارك اسم "الريس"، هكذا "حاف" بدلًا من "سيادة الريس".. وهذا لا يجوز من وجهة نظره. فقال له حمدي قنديل : لأن برنامجي يتحدَّث مع المشاهدين كما لو كنتُ جالسًا معهم في بيوتهم، والناس في بيوتهم عندما يتحدثون مع بعضهم البعض ويأتون على ذكر الرئيس فهم يلقِّبونه بالريس، وليس سيادة الريس. قال صفوت الشريف : أنت تُجادل والسلام. فردَّ عليه حمدي قنديل : لا يا صفوت بك.. يعني سيادتك مثلًا وأنت تتكلَّم في البيت مع الهانم عن الرئيس، هل تقول : الريس، أم تقول سيادة الريس؟ ضحك الوزير ضحكة مجلجلة، وقال : طبعًا باقول سيادة الريس.. دي عايزة كلام.. وهذا -لا ريب- يعكسُ الفارق الكبير بين مرحلتيْن وتوجهيْن، بل بين عقليتيْن! غيرَ أن حمدي قنديل لم يرمِ من وراء مذكراته هذه إجراء مقارنة بين عهود مصر المختلفة، وما أصاب البلاد من تغيُّرٍ أفضى إلى تنامي ظواهرَ جديدةٍ على صعيد السياستيْن الداخلية والخارجية، بل كتبها استجابة لرغبة طالبٍ أردنيٍّ يدرُس الإعلام، أنصتَ إلى كلمته التي ألقاها في حفل الختام الذي أقامه "ملتقى الإعلاميين الشباب العربي" الذي يرأسه الصحفي الأردني الشابُّ هيثم يوسف؛ احتفالًا بمنحه جائزته له؛ بوصفه أبرز شخصية إعلامية عربية رائدة عام 2009، فتمنَّى عليه بعد أنِ استمعَ إلى وصاياه للجيل القادم من الإعلاميين، أنْ يرويَ تجرِبته حتى يستخلصَ منها جيلُه العِبرَ بنفسِه.. فحرَصَ الرجلُ على أنْ تأتيَ مذكراتُه موضوعية.. منصفة.. بمنأى عن تصفية الحسابات، أو إحياء الثارات القديمة، أو إعطاء الدروس المجانية، أو ادعاء بطولات زائفة بغية تمجيد الذات، ولم يسجِّلْ إلَّا ما رآه بعينه أو سمعه بأذنه، مكتفيًا بـ"دور الصحفي الذي جاهد طويلًا كي يعبِّرَ عمَّا في صدور الناس على الرغم من كل قوى القمع والطغيان"، وظلَّ على "مسافة تفصله عن السياسة"، خاصة بعد أن طلب منه ضابط مصري شابٌّ كان يعمل في مكتب الاتصال المصري بوزارة الداخلية السورية إبَّان الوحدة المصرية - السورية عام 1958عدم ترشيح نفسه في انتخابات الاتحاد القومي (كان حمدي قنديل المصري الوحيد في سوريا الذي رشَّح نفسه في انتخابات الاتحاد القومي)؛ حتى لا يُستغلَّ سقوطه لوحدث للنَّيْل من الوحدة، فكتب حمدي مقالًا في جريدة "الجماهير" التي أسَّسها قطبا حزب البعث الشهيران د.جمال الدين الأتاسي ود.عبد الكريم زهور يروي ما حدث من الضابط؛ فصودرت بطاقته الشخصية وعُدَّ ترشيحه لاغيًا.. فزهد في السياسة، حتى إنه رفض الانضمام إلى التنظيم الطليعي عندما طلب منه سامي شرف ذلك، وتركه في غرفةٍ ليختارَ أسماء العشرة الذين سيرأسهم في خليتِه..مؤثرًا استقلالية الموقف، وصفاء الرؤية، والابتعاد عن السياسة مهما كانت إغراءاتها.. سعيدًا بانتمائه إلى"جيل في التلفزيون لم يلهثْ وراء المال، محترمًا مهنته ونفسه"، مؤمنًا بأن"مقدم البرامج السياسية أو مذيع النشرات الإخبارية يجب ألَّا يبيعَ صوته، وليس من اللائق أنْ يروِّجَ لمبيد للصراصير أو لمعجون أسنان"، حتى إنه رفض"التعليق على الأفلام التي كانت تتابع العدَّ التنازلي لبناء السد العالي؛ لأنها أنتجت بواسطة "شركة المقاولون العرب"، على الرغم من أنها كانت شركة قطاع عام".. مُفيدًا من درس "حاجي جوزيف" نائب مدير عام التلفزيون القبرصي الذي قال له إنه يرفض أنْ يتركَ للمعلنين حرية التصرُّف في البرامج والتأثير في مضمونها، ليس فقط للحدِّ من نفوذِهم، وإنما أيضًا بسبب الذوق العام، وضربَ له مثلًا بما حدث للأسقف مكاريوس عندما زار أميركا عام 1962، وأجرت معه إحدى المحطات حديثًا بدأه المذيع بالقول : مساء الخير، وما إن ردَّ الرئيس التحية حتى قُطع البرنامج لإذاعة إعلان عن حمَّالة صدر للسيدات، ثمَّ استؤنف مرة أخرى! كما أن جيله عمل مع بعض من أفراد الجيل السابق عليهم، كانوا "رموزًا لنا ويتصرفون كرموز، ويُحيطوننا نحن المذيعين الجدد بالرعاية والاهتمام ( تماضر توفيق وسميرة الكيلاني)"، وكان جيله "يعملُ بدأبٍ، ويتنافسُ بشرفٍ، ويؤمنُ برسالةٍ.. كنا نُحسُّ - على عكس ما رأينا فيما بعد - أننا فريقٌ واحدٌ يُنجزُ مهمة سامية بإخلاصٍ وهمَّةٍ".. الأمرُ الذي جعله عُرضة للاصطدام ببعض مراكز القوى وأجنحة الفساد، كما حدث له مع الصاغ محمد أبو نار الذي كان يمتلك شركة باسم"شركة الأخشاب والمساكن الجاهزة" تُنتجُ بين ما تُنتجُ أعواد ثقاب رديئة تفرقع، فهاجم في برنامجه بضاعته الفاسدة، فاتَّصلَ به أبو نار مهدِّدًا متوعدًا مُلمِحًا إلى أنه من "شلة المشير عبد الحكيم عامر"، وأن هذه آخر حلقة له في التلفزيون.. فما كان من حمدي قنديل إلَّا أن روى على الشاشة ما دار بينهما، "فذهب أبو نار بأمر المشير نفسه"، وتوقَّفَ التلفزيون عن الإعلان عن شركته، وحصل برنامج "أقوال الصحف" على المرتبة الأولى بين برامج التلفزيون على مدى سنوات. واستمرَّ البرنامج يواصلُ دوره الانتقادي الرامي إلى تصويب الأوضاع الخاطئة، ودراسة الظواهر العامَّة في شمولها، متحمِّلًا مسئوليته تُجاه مجتمعه، حتى باتَ يُمثّلُ "البذرة المبكرة لما يُعرفُ اليوم ببرامج التوك شوالمسائية"، مقدِّمًا درسًا ثمينًا لأجيال الإعلاميين الشباب مُفاده : أن مُقدِّمَ البرنامج يتعيَّن أنْ يكونَ هو المعدَّ في الوقت ذاته، ومَنْ لا يمتلك القدرة على ذلك، فليُحجمْ عن تقديمِه، قبل أنْ تُصبحَ ظاهرة الاستعانة بالصحفيين من خارج التلفزيون لإعداد البرامج معروفة؛ للكتابة عن البرنامج والقائمين عليه! لذلك اندهش سمير التوني رئيس الأخبار بالتلفزيون عندما سأل حمدي قنديل يومًا عن أسماء المُعدِّين الذين سيحتاجهم في برنامجه الجديد يومئذ "رئيس التحرير"، فأجابه : ولا واحد.. برنامجي الذي أقدِّمُه هو قراءتي الشخصية للصحف؛ لذلك ليس بي حاجة إلى من يُساعدُني في قراءتِها. وأنا في معظم الأحوال أعرفُ الضيوف المناسبين للتعليق على كل حدث، وأفضِّل أنْ أتصلَ بهم بنفسي لأنني أعتبرُهم كما لو كانوا ضيوفًا عليَّ في بيتي". فقد آمن جيل حمدي قنديل بحيوية تكامل شخصية الإعلامي الذي ينهل من بحار معرفية شتى، ويرتادُ آفاقًا بكرًا، ويتفانى في العمل. ألم يكنْ كاتبنا الكبير بهاء طاهر مذيعًا ومخرجًا ومُقدِّم برامج ومدير ندوات في الإذاعة المصرية، وكذلك كان محمد مرعي رئيس إذاعة صوت العرب الأسبق : مذيعًا ومُقدِّمًا للبرامج الإخبارية والثقافية والمنوعات ومخرجًا للدراما ؟ وبقيَ حمدي قنديل معتزًّا بحبِّ الناس له، والتفافهم حول برنامجه، حتى كانت تصله بشكل دائم باقات ورد ممن يعرفهم ولا يعرفهم، بل إن مواطنة عادية كانت حريصة على إهدائه مساء الثلاثاء من كلِّ أسبوع "قفصَ مانجو فاخرًا"؛ تعبيرًا عن تقديرها له، وللدورالذي يضطلعُ به برنامجه في حياتنا العامة، وهو ما دفع د.محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام الأسبق إلى التفكير في ترشيحه لعضوية مجلس الأمة أسوة بالإذاعي الكبير الراحل طاهر أبو زيد.
إذن.. ما الذي يُشيرُ إليه عنوان كتاب حمدي قنديل "عشتُ مرتيْن"؛ بوصفه العتبة الأولى التي ندلفُ منها إلى عالم مذكراته، وما يضجُّ به من رؤًى وأفكارٍ تُسهمُ في إغناء الحياة بمضامين جديدة ؟ إنها الحياة التي منحها العقل والروح حرية متجدِّدة، ودنيا جديدة قائمة على حرية الاختيار، والتصالح مع الذات، وترسيخ الهُوِيَّة الوطنية.. أو بتعبيره هو: إنها الحقيقة بلا أقنعة، والقدرة على الحلم باليوم الجميل الآتي.
وفي الواقع.. يُقدِّمُ لنا حمدي قنديل صورة بانورامية دقيقة للإعلام العربي في سنوات مجده الستينية، وعقود انحداره التي تلتها بدءًا من السبعينيات؛ إثر التحوُّلِ إلى الليبرالية الجديدة المتوحشة، وبروز الدولة الكومبرادورية التي تستجيبُ لمتطلبات التوسُّع الرأسمالي المعولم، بعد أنْ تمَّ إدماجُ الاقتصاد الوطني في البنية الداخلية الملائمة لتطور الاحتكارات الدولية وشركاتها المتعدية الجنسيات؛ مما أدَّى إلى تخفيض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والعصف بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتراجع الحريات الفكرية على نحو خاص، وصعود الاتجاهات الرجعية المتخلِّفة، مشدِّدًا على أن الفيصل في تقويم "دور التلفزيون العربي إذا ما تحدَّثنا عن تلفزيون الأمس واليوم، هو ما يراه المشاهد على الشاشة، وأن تلفزيون الستينيات كان يُشبعُ احتياجات المشاهد الرئيسة الثلاثة؛ الإعلام بمعنى تزويده بالأخبار وخلفياتها، والتعليم والتثقيف، والترفيه النظيف"، مؤكدًا أنه كانت "للتلفزيون وقتها رسالة بدءًا من برامج محو الأمية حتى برامج الثقافة الراقية".. وهنا يستدعي حمدي قنديل مقالًا له نشره بجريدة الشروق في عام 2010 بمناسبة اليوبيل الذهبي للتلفزيون، يفضحُ فيه فِرية إطلاق قناة باسم "التلفزيون العربي" خُصِّصت لبثِّ تراث تلفزيون الستينيات، لكنَّها لم تستمرّ سوى أيامٍ قلائلَ؛ بعد أن تمَّ تبديد تراث التلفزيون من أفلامٍ وأغانٍ "في صفقات شائنة، بيعَ فيها إلى قنوات عربية خاصة، فضلًا عن خشية التلفزيون من أنْ يُذكِّرَ مشاهديه بالأيام الخوالي، ويُثيرُ المقارنات بين شاشتها وشاشة أيامنا هذه".. ورأى أن تلفزيون اليوم "ليس في حاجة إلى تجميل، بل هو في حاجة ماسَّةٍ، شأنه شأن النظام القائم، إلى تغيير، وأن الحلَّ هو أنْ يرحلَ النظام قبل أنْ يحتفلَ هو بيوبيله الذهبي".. وتحقَّقت نبوءته، وإن لم يتغيَّرْ حال الإعلام الزري، ولا قوانينه السالبة للحرية. وهنا نتعرَّفُ على العقبات الكأداء التي تعترضُ طريق الإعلامي العربي؛ جرَّاءَ سلطة الدولة العربية الاستبدادية وقبضتها البوليسية، وتوازناتها السياسية، والآثار السلبية التي تتركُها حركة رأس المال الخاصّ وسعيه إلى الربح والاستثمار على أداء القنوات الفضائية؛ حتى غدا خادمُ الحرميْن الشريفيْن رئيسَ تحريرِ جميعِ الصحف العربية، والعضو المنتدب للفضائيات كافَّة! وأدرك حمدي قنديل أن برنامجه "مع حمدي قنديل" الذي كان يُقدِّمه في art يُدارُ من الرياض، وليس من القاهرة. اكتشفَ ذلك عندما أجرى حواريْن أحدُهما مع العقيد القذافي، والآخرُ مع طارق عزيز، فأخبره الشيخ صالح كامل أن : الجماعة زعلانين في الرياض، وكان في مقدمتِهم : الأمير سلطان بن عبد العزيز؛ لأنه ترك القذافي يهذي دون أن يُجادله، بتعبير صالح كامل نقلًا عن حكامه في الرياض.. فقد كان المأمول منه أن يردَّ حمدي قنديل على القذافي ويُعرِّيَ تهافتَ منطقِه، متبنيًا وجهة نظر الأسرة السعودية المالكة المشارِكة بحصة من المال وفيرة في أسهم art التي تحملُ في الظاهر اسم صالح كامل كظهيرٍ متقدِّمٍ! لذا أضحى من الطبيعي في هذا المناخ الموبوء، أنْ يُصبحَ المرحوم حسين عنان رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري الأسبق، مستشارًا للشيخ صالح كامل، وألَّا يجدَ حرجًا ولا بأسًا في أنْ يعقدَ اجتماعات شركته في مكتبه بماسبيرو، وبحضور الشيخ صالح كامل نفسه! وأنْ تُؤمَّمَ قناة "الليبية" إثر حلقاتٍ خمسٍ من برنامج حمدي قنديل "قلم رصاص".. وأنْ يتلّقى د.أحمد بهجت مكالمة تلفونية من جهة سيادية تلومُه على ظهور حمدي قنديل على شاشة "دريم"، على الرغم من هجومه الدائم على نظام مبارك ، ويُفتح ملف قروضه التي لم تُسدَّدْ للبنوك المُقْرِضة.. وأنْ تُصرِّحَ سناء منصور للصحف أنها قبلت العمل في قناة "دريم" بعد أنِ استأذنتْ صفوت الشريف باعتبارِها "ابنة الوزارة"! وأنْ يقولَ الشيخ وليد البراهيم لحمدي قنديل وهما يجلسان بجوار حمَّام السباحة في لندن : عندما أقمت مع الشيخ صالح كامل mbc، علمتُ منه بالطبع باتفاقه معك الذي ينصُّ على الـ 300 ألف دولار، وسدَّدتُ له المبلغ من حسابي الشخصي، وأرجو أنْ يكونَ قد وصلك في حينه . فأجابه : لا، للأسف! وأنْ يضعَ الشيخ صالح كامل بين أسنانه "دبوس إبرة" عندما يعملُ، وبالذات عندما يُقابلُ ضيوفه، حتى كشفَ السرَّ لحمدي قنديل ذات يومٍ بأنه "يفعلُ ذلك ليشتِّتَ انتباه الضيف إذا ما كان يتفاوضُ معه على أمرٍ هامٍّ"! وأنْ يبلُغَ الهزلُ مداه؛ فيعلن صفوت الشريف أن الأطباق أو الدشَّ يتعارضُ مع المواثيق الدولية التي تحمي حقوق المؤلفين والفنانين؛ "للضغط على القنوات الفضائية الجديدة وتهديدها. وحاولتْ وزارة الإعلام حصار هذه القنوات بتحذيرٍ تكرَّرَ نشرُه في الصحف، أن أجهزة فكِّ الشَّفرة التي تُوزَّعُ في الأسواق غير قانونية"! لهذا رأى حمدي قنديل بحقٍّ أن فشل "عربسات "القمر الصناعي العربي الذي كان يؤملُ من وراء إطلاقه قيام صناعة فضاء عربية يُلخِّصُ"أزمة سياسية وأزمة سياسات في آنٍ واحدٍ، تكمنُ في أزمة قضية العروبة والوحدة".. الأمرُ الذي جعل سعادة حمدي قنديل مضاعفة بفوزه بجائزة "ملتقى الإعلاميين الشباب العربي"؛ لأنَّها - على حد تعبيره - جائزة نقية مبرأة من الهوى، جاءتْ "من شبابٍ يتطلعُ إلى رمز، ثم إنها مُنحتْ عن عام 2009 الذي لم يظهرْ فيه من "قلم رصاص" سوى خمس حلقات فقط على قناة "الليبية" ثمَّ أمُمتْ بسببه؛ مما يشي بأن الجائزة مُنحتِ احتجاجًا على الغياب وليس حفاوة بالحضور".. وقد ضربَ لنا حمدي قنديل أنموذجًا مشرِّفًا للإعلامي المصري حين رفض مظروفًا مغلقًا وجده في غرفته بفندقه الكويتي به مائة وخمسون دينارًا، وأعاده إلى مرافقه شاكرًا.. كما اعتذر في زيارته الثانية إلى الكويت عام 1964 من قراءة نشرة الأخبار؛ لأنَّ بها خبرًا لا ينسجم وتوجُّهَ مِصرَ السياسي، حين أخذه من يده صديقه محمد السنعوسي مراقب البرامج وقتها إلى الإستديو ليقدِّمَ أول نشرة يقرؤها هناك، في الوقت الذي لم يتوانَ فيه عن مساعدة محمد السنعوسي وزير الإعلام الكويتي في 2006 بمعاونةِ عددٍ من الخبراء، في مهمة إعداد خطة برامجية وهندسية للإذاعة والتلفزيون في الكويت بعد العودة، إثر الغزو الصدامي للكويت. ومن موقعه هذا المسئول وداعيه الوطني، اهتمَّ حمدي قنديل بالبحث عن الوسيلة الناجعة لإعداد الإعلامي الناجح؛ ليخلُصَ إلى ضرورة توفُّرِ الموهبة أولًا، وصقلها بالدراسة، من خلال دراسةٍ عُليا في علوم الإعلام وفنونه لمدَّة سنتيْن، بعد حصوله على مؤهِّلٍ جامعيٍّ في أيِّ فَرْع من فروع العلم؛ وبذلك يُصبحُ لدينا الإعلاميُّ المتخصِّصُ القادرُعلى التعامُلِ مع الإستراتيجيات الإعلامية ، أو ما يُطلقُ عليه المفكِّرُ الفرنسيُّ الكبيرُ "ريجيس دوبريه" "دوائر التواصل الإعلامي"، في عصر الإنتاج السمعي- البصري، وركيزته الصورة، أي السينما والتلفزيون والكمبيوتر، بعد أنْ حققتْ وسائط الإعلام المتعددة multi medias دمجًا تاريخيًّا بين عالم الاتصال والقطاع السمعي والمرئي والمعلوماتية، خاصة - كما يقول حمدي قنديل - "بعد بدء عصر الفضاء ودخول الاستثمار الخاص إلى ميدان الإذاعة والتلفزيون، وإطلاق العديد من المحطات المتخصِّصة في الاقتصاد والصحة والرياضة والسياحة والتاريخ والفنون وغيرها".. وضربَ لنا مثلًا بـ"معهد الإعلام الأردني" الذي يرأسُ مجلسَ إدارتِه المهندسُ"راضي ألخص"؛ بوصفه نموذجًا رائعًا للمعهد الذي كان يحلم به منذ منتصف السبعينيات، وترعاه الأميرة"ريم علي" التي كانت تعملُ قبل زواجِها بشقيق العاهل الأردني في قناةcnn .. لكنْ يظلُّ السؤالُ الملحُّ الذي يشغلُ الكافَّة إثر تردي مهنة الإعلام في مصر، وسياسة التعيين العشوائية، وسيطرة الأجهزة الأمنية على المؤسسات الإعلامية هو: ما السبيلُ القويمُ في ظروف مِصرَ الحالية إلى انتشال الإعلام من وهدة التخلُّف، وانعدام الخبرة المباشرة بالعالم الخارجي، وتكريس الفقر المعرفي؟ أو بتعبير حمدي قنديل: ما الضوابطُ للسماح بممارسة هذه المهنة، وإلى متى يظلُّ الإعلامُ مستباحًا للهواة والمشبوهين وأولئك الذين دفعتهمُ الوساطة إلى الصدارة؟ داعيًا إلى انعتاق الإعلام من سيطرة الدولة، وتمتعه بقدرٍ أكبرَ من الحرية، كما جاء في محاضرته التي ألقاها في "مكتبة الأسد" بعنوان "تحديات أمام الإعلام العربي"؛ مما أحرج وزير الإعلام السوري يومئذ "د.محسن بلال".
غير أن أثمن ما في مذكرات حمدي قنديل"عشتُ مرتيْن"، قدرتُه على المراجعة النقدية لمسيرته المهنية والسياسية، وجسارتُه في إعلان الحقيقة ومحاسبة النفس عن الأخطاء السابقة من خلال عمليتي النقد والنقد الذاتي، على نحو ما نراه جليًّا في آرائه المبثوثة في تضاعيف الكتاب مثل: قدَّمتُ برنامجًا فاشلًا باسم "دقت الساعة" لم تُذعْ منه لحُسنِ الحظِّ سوى خمسِ حلقاتٍ فقط.. الاختلاف الوحيد بيننا وبين آخرين، كان أننا ذهبنا مباشرة إلى الإخوان المسلمين الذين تتركز المخاوف من احتمال لجوئهم إلى العنف إذا ما فاز شفيق، وأننا ذهبنا إليهم في العلن، وأننا ذهبنا إليهم بسرعة.. هكذا قرَّرتُ أنَّ المغامرة تستحقُّ، خاصة أنَّ ضررَها يقعُ عليَّ وحدي، ولم أزعمْ أنني أمثّل أحدًا..مضيتُ في طريقي إلى "فيرمونت". كان للثورة أخطاؤها ولا شكَّ، وفي مقدمتِها مصادرة الحريات وسيطرتُها على الإعلام..عن نفسي فقد اعتذرتُ للإخوان المسلمين منذ سنوات عن الأحاديث التي أجريتُها مع المعتقلين منهم في السجن الحربي عام 1965.. ذهب عنفوان الشباب، وفي لحظة حساب مع النفس، أيقنتُ أنني ارتكبتُ خطأ مهنيًّا وأخلاقيًّا باستجواب معتقلين قُيِّدتْ حرياتُهم، فاعتذرتُ، ورحَّبَ الإخوان باعتذاري بامتنانٍ، وكنتُ أحضرُ دائمًا مناسباتِ خروج أقطابهم من السجن.. وعندما اختلفتُ مع مرسي في 2012 وهاجمتُه، عادوا عن طريق تنظيمِهمُ الإلكترونيِّ يذكِّرون بلغةٍ لا علاقة لها بدينٍ ولا خلقٍ بحكاية السجن الحربي، ويُضيفون إليها رواياتٍ ورواياتٍ عن عبد الناصر وحكمه وأيام الستينيات .. لا أريدُ أنْ أترافعَ عن الحريات في عهد عبد الناصر، ولكني أومنُ بأنه من المستحيل أنْ نُحاسبَ عصرًا بمقاييسِ عصرٍ آخرَ.. في ذلك العصر لم تكنِ الديمقراطية ومعاييرُها مطروحة على الأجندة العالمية على النحو الذي نجده اليوم، ولم يكنِ المصريون مشغولين بها كما همُ اليومَ.. وهنا نختلف؛ لأنَّ الديمقراطية هي الحلقة الرئيسة في النضال من أجل تفعيل الحركة الجماهيرية.. وهي المدخلُ إلى النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار.. وهي الوحيدة القادرة على تفكيك السياسي والاجتماعي، وإعادة تركيبهما في ضوء المتعيِّن والملموس في الظروف الراهنة.. ولا يُمكنُ بحالٍ من الأحوال تبريرُ التضييقِ على حريات الناس في القول والتفكير والعمل. كنتُ أنتظرُ من حمدي قنديل بسعة أفقه أنْ يدعوَ إلى تطوير نظرة الحركة الناصرية إلى الديمقراطية؛ لتُلبيَ مقتضياتِ المستقبل، بدلًا من لغة التبرير التي لا تجُدي شيئًا. بَيْدَ أنَّ حمدي قنديل - والحق يُقال - استطاع باقتدارٍ تشريحَ شخصية د.محمد البرادعي السياسية، وأنْ يكشفَ هشاشتَها وعدمَ تأهُّلِها للعملِ العامِّ، بل عدمَ قدرتِها على التعامل مع الزُّمر السياسية قاطبة، وتعاليها البرجوازي المقيت، متحصنًا طَوال الوقت بنخبويته التي تحتقرُ الجماهيرَ الشعبية؛ الأمرُ الذي أسهمَ في إفشال تجرِبة الجمعية الوطنية للتغيير وما سُمِّيَ بحزب الدستور، وأصابَ من خُدعوا فيه وفي قدرته على إحداث التغيير المنشود بالإحباط و"القرف" وخاصة الشباب الذين انشقوا عليه ؛ مما دفعَ المناضل جورج إسحق إلى أنْ يصرِّحَ يومًا للصحف :"الله يحرق البرادعي.. لا نُريدُ معرفة أيِّ شيء عنه".. يقولُ حمدي قنديل : عندما حاول الشباب الأنقياء الذين ظلّوا على ولائهم للبرادعي مرة أخرى الانتصار على الإحباط بدفع زعيمهم ثانية إلى واجهة المشهد السياسي، أطلقوا فكرة قيام مجلس رئاسي يضم عددًا من مرشحي الرئاسة، برئاسة البرادعي، وعضوية حمدين صباحي وعبد المُنْعِم أبو الفتوح.. وبعد أنْ راجتْ هذه الفكرة في سوق السياسة أيامًا، انطفأتْ لمَّا تبيَّنَ للجميع أن مصيرَها الفشلُ، وانطفأ معها اسم البرادعي- الذي وصفتُه بأنه كشمس الشتاء لا يظهرُ إلَّا لِمامًا". بقيتْ بعد ذلك ملاحظتان .. الأولى : سقطَ سهوًا من بين الأسماء التي سردها حمدي قنديل لمن حملوا شعلة النهضة التلفزيونية، اسم الرائدة "علية إحسان" المذيعة ومقدِّمة البرامج ذائعة الصيت مثل : حدوتة كلّ يوم.. مع ماما علية.. ونادي الأطفال.. وأرشيف التلفزيون.. ولقاء كلّ يوم.. وأوائل الطلبة.. وكانتْ أوَّلَ مَنْ قدَّمتْ "سهرة منوعات" مع المخرج محمد سالم، وهي عقيلة المرحوم صلاح زكي أحد المذيعين اللامعين في الفترة التي شهدت صعودكم. أما الملاحظة الأخرى، فهي دفاعُ حمدي قنديل المجيد عن د.محمد عبد القادر حاتم وزيرِ الإعلامِ الأسبق، وجهوده في إنشاء مسرح التلفزيون، وإصدار كتاب كلّ ستّ ساعات عن هيئة الاستعلامات.. إلخ. وفي الواقع.. أغفل رأيه هذا بعض الحقائق التي محَّصَها لنا أحدُ نقادِنا الكبار؛ المرحوم فاروق عبد القادر في كتابه المهم "ازدهار وسقوط المسرح المصري" الصادر عن دار الفكر المعاصر للنشر والتوزيع بقوله : "وفي عام 1961، تولَّى مهندسُ الدعاية عبد القادر حاتم أمر وزارتي الثقافة والإعلام، فراح يُدمجُ مؤسساتهما معًا على نحو وضع الأساس القوي لتخريب الثقافة المصرية في وجوهها المختلفة. وقد سادَ في هذه الفترة هذا الشعار الفاضح "كتاب كلّ ستّ ساعات"؛ فأدمجتْ هيئات النشر التي كانت موجودة في هيئة واحدة تابعة لمصلحة الاستعلامات، وتمَّ إخضاع عملية النشر بكاملها لمقتضيات الدعاية والإعلام، وصدرتْ سلاسلُ متعدِّدةٌ : كتب قومية، كتب سياسية، اخترنا لك، اخترنا للعامل،اخترنا للفلاح... إلخ، وكان الارتجال والتخبط هما طابَعَ اختيارِ ما يُنشر، وللولاءِ الشخصيِّ والعلاقاتِ بالمسئولين الدورُ الأكبرُفي تقريرِ ما ينشر، حتى سادَ وقتها القولُ بأن المسئولين في تلك الدار القومية "يتخلصون من الأعمال بنشرها".. وطبيعي أن معظم ما كان يصدر عنها كان يتجه من المطابع إلى المخازن، حتى بلغ عدد النسخ المكدَّسة من هذه السلاسل في المخازن 2 مليون نسخة".. ويُضيف فاروق عبد القادر: "وفي الوقت نفسه عمدت الوزارة إلى إصدار عددٍ من المجلات الإعلامية والدعائية - باللغات المختلفة حتى الإسبانية - بلغ عددُها حوالي العشرين مجلة، وكان الأمر المؤسي بالنسبة إلى هذه المجلات الإعلامية - والتي بلغ حجمُ الإنفاق عليها أكثر من 300 ألف جنيه في السنة- أن الوزارة نفسها كانت هي المشتري الأوحد لما تُصدرُ من مجلات، أما التوزيعُ الحرُّ فلم يتجاوزْ في بعضها مائة نسخة أو مائتيْن. ولكي نعرفَ ما يجري في نموذجٍ واحدٍ من هذه المجلات نشير إلى أن "الآداب - أوبزرفر"ظلَّت كلَّ أسبوعٍ حتى مايو 1964 تطبعُ 11 ألف نسخة، منها 2500 للبيع، و8 آلاف اشتراكات للاستعلامات وغيرها من أجهزة الوزارة ذاتها، وكان متوسط ما تبيعُه للجمهور 175 نسخة من كل عدد... إلخ". غيرَ أن هاتيْن الملاحظتيْن لا تنالان على أيِّ نحوٍ من الأنحاء من مكانة مذكرات "عشتُ مرتيْن" وأهميتها للإعلامي الكبير الرائد حمدي قنديل، يكفي أنها تنتصرُ لقيمِ التحرُّرِ الوطنيِّ والاستقلالِ والتَّنميةِ المستقلّةِ والتقدُّمِ، في زمن العولمة الأمريكية، داعية إلى اجتراحِ أشكالٍ جديدةٍ تُعينُ البشرية على تخطي أزماتِها الحادَّةِ بعُمْقٍ ومسئوليةٍ وجهدٍ نظريٍّ ونضاليٍّ كبيريْن.
رحمه الله.



#أسامة_عرابي (هاشتاغ)       Osama_Shehata_Orabi_Mahmoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المؤرِّخ عُبادة كحيلة.. عاش أندلسَ الماضي والحاضرِ بين موسى ...
- محمد سعيد العشماوي... وتحديثُ العقلِ الإسلاميِّ
- جلال أمين في -محنة الدُّنيا والدين في مصر- ازدواجيةُ الطَّبق ...
- في عيد ميلاده الثامن والستين.. محمود درويش.. ربيع التجدُّدِ ...
- الغزالة..خصوصية التجربة، وفرادة طريقها في تذوق الحقائق
- الصقر الفلسطيني -أول أوبرا عربية- لمهدي الحسيني
- في الذكرى التَّاسعة لأستاذ الفلسفة المرموق د.فؤاد زكريا
- حبل الوريد.. ولانهائية المرويّ
- الشَّمندر.. رواية المتعدِّد الإنساني، والمساءلة النَّقدية لح ...
- جدل الحكاية والمكان
- على هامش الرحلة، وإصلاح الجامعة المصرية
- بطل من زماننا
- الكتابة الإفريقية بالخط العربي-عجمي-، ونمو الهوية الثقافية ا ...
- مذكرات الغرفة 8 مع أمل دنقل.. وفروسية أمل دنقل شاعرًا وإنسان ...
- دور التمثُّلات الثقافية والتشكيلات الاجتماعية في التمييز الج ...
- ثقافة الحوار..وحوار الفنون
- مسرح الجُرن..والتنمية الثقافية المنشودة
- مصر ورأسمالية المحاسيب
- في ذكرى مفكِّر جسور
- فن الكوميكس..وتعميق الوعي بالمصير المشترك


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أسامة عرابي - عشتُ مرتيْن..حُريَّة مُتجدِّدة للعقلِ والرُّوحِ والتَّاريخِ