أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - صدقي كبلو - في الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس: لماذا أنا ماركسي















المزيد.....


في الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس: لماذا أنا ماركسي


صدقي كبلو

الحوار المتمدن-العدد: 5866 - 2018 / 5 / 6 - 17:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


في الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس
الدكتور صدقي كبلو، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني
لماذا أنا ماركسي؟
إضاءة أولى
يردد بعض الناس قول ماركس "من المؤكد أنني، أنا، لست ماركسيا" خارج نطاق السياق التاريخي الذي قال فيه ماركس ذلك القول وهو الخلاف بينه وبين قادة الحزب العمالي الفرنسي الذي أسسه غيد وبول لافارغ (الأخير هو زوج إبنة ماركس) حول البرنامج الاقتصادي للحزب والذي ساهم ماركس في صياغته والذي احتوى على مطالب مباشرة للطبقة العاملة حول يوم العمل وعطلة نهاية الاسبوع والحد الأدنى للأجور وكيفية تحديده والأجر المتساوي للعمل المتساوي وتحريم عمل الأطفال تحت عمر 14 عام وتحديد ساعات عمل الأطفال بين 14 و16 سنة وغير ذلك من قضايا الحركة العمالية في ذلك الوقت، وكان الخلاف حول الغرض من البرنامج فبينما يرى ماركس أنه برنامج قابل للتنفيذ عبر نضال الحركة العاملية تحت الرأسمالية، رأى غيد ولافارغ أن المقصود ليس تحقيقه، بل تعبئة العمال لإنجاز ثورة عمالية، وكانا يدعيان انهما ينطلقان من مواقع الماركسية فكان رد ماركس ساخرا إذا كانت تلك الماركسية فمن المؤكد "أنني لست ماركسيا". وهذا يوضح زيف من يرددوا حديث ماركس ليبرهنوا أنه ليست هناك منظومة فكرية اسمها الماركسية.
إضاءة ثانية
عند زيارته للندن للمشاركة في إحتفال الحزب الشيوعي السوداني بعيده الخمسين 1996، تناول الزميل الراحل محجوب عثمان، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حينها، معي قضية المناقشة العامة وعبر عن قلقه عن انها غير منظمة وطلب مني أن أكتب لقضايا سودانية، النشرة الفكرية التي كان يصدرها الحزب من القاهرة والتي فتحت على مصراعيها للمناقشة العامة، مقالا إفتتاحيا يحض على تنظيم المناقشة العامة، وقد فعلت ذلك ونشر المقال ككلمة للعدد الثالث عشر الصادر في سبتمبر 1996، أي قبل ما يقارب العشرين عاما.
وقد تذكرت ذلك المقال القصير لأني طرحت فيه بشكل موجز فكرتي عن المنظومة المغلقة والمفتوحة وأبنت حينها أن تعريفي للمنظومة باعتبار أنها علاقة بين مكوناتها، وأن المنظومة المغلقة تفترض ثبات مكوناتها بينما المنظومة المفتوحة تتغير وتتشكل بالتغيرات الكمية والنوعية بين مكوناتها وبتغيير العلاقات بين هذه المكونات ولعل هذا يشكل اضاءة تسمح بالاجابة للسؤال عن لماذا أنا ماركسي.
اضاءة ثالثة
يقول عبدالخالق محجوب:
"لقد كان توقيع الاتفاقية المصرية-البريطانية الخاصة بالسودان نقطة تحول عميق في تفكير الشيوعيين السودانيين ومدار تفكير عميق للمفاهيم التي كانوا يضعونها لتطور الحركة الوطنية السودانية. ومنذ ذلك الوقت جرى تفكير مناوئ للنقل ولعدم التحليل كما أصبحت التجارب الخارجية تناقش بعين ناقدة وعدم النقل الأعمى." ( عبد الخالق محجوب ، آفاق جديدة، دار عزة 2005، ص37)
مفتاح
الماركسية بالنسبة لي ليست دينا أو عقيدة، هي منهج للتفكير، ليست نموذجا أو قالبا اصب فيه الواقع، إنما منهجا لدراسة الواقع وفهمه وصياغة نظرية لتغييره، تلك النظرية بالنسبة لي هي النظرية الثورية التي أصل لها مع رفاقي من خلال عملية التنظير ودراسة الواقع والنضال العملي وتلخيص نتائجه وتعميمه نظريا لتصبح نظرية للثورة السودانية، وليست هي نقل للنموذج السوفيتي او الصيني او الكوبي او الناصري او البعثي.
هل الماركسية منظومة مفتوحة؟
أنا من دعاة أن الماركسية منظومة مفتوحة، وينبع انفتاحها من منهج ماركس بالذات، لعل من أهم إشارات ماركس لمنهجه هو ما ورد في مقدمته الشهيرة الملحقة بكتابه "مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي" أو ما عرف بمخطوطة 1857. والباحث يجد أن المقدمة قد أصبحت شهيرة رغم أن المقدمة نفسها قد كتبت عام 1857 وأستبعدها ماركس من طبعة 1859 ووجدت ضمن أوراق ماركس بعد موته ونشرت أول مرة 1903 في مجلة الزمان الجديد الألمانية ثم ظهرت في أول طبعة للمخطوطات صدرت في موسكو عام 1939 وأعيد نشرها في ألمانيا عام 1953 والحقت كملحق في الطبعات اللاحقة لكتاب ماركس "مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي". وهناك عدة طبعات لها ولكن في الإنجليزية فهناك طبعتين يمكن الإعتماد عليهما، الأولى ضمن كتاب ماركس "مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي" والذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى من دارالتقدم بموسكو بالإشتراك مع لورنس آند ويشارت في لندن وقام بتحريرها وقدم لها موريس دوب في عام 1970 والثانية ظهرت في طبعة المخطوطات التي أصدرتها البنقوين بالإشتراك مع النيولفت ريفيو عام 1973 .
وتعرض ماركس من جديد لمنهجه في مقدمتيه الأولى (25 يوليو 1867) والثانية (24 يناير 1872) للمجلد الأول من كتابه رأس المال.
يقول ماركس أن منهج التقدم من المجرد إلى المحدد هو منهج البداية بالتجريد ثم إعادة تجميع المحدد وإعادة إنتاجه كمفهوم للمحدد في الذهن. وأن ذلك النهج في الأرتقاء من المجرد إلى المحدد هو السبيل الوحيد للفكر لمعرفة المحدد. ولكن عملية التجريد نفسها تنطلق من معطيات المحدد /الواقع (ماركس المخطوطات، طبعة البنغوين بالإنجليزية ص 101) ويعطي ماركس مثالا فيقول: لعله يبدو صحيحا في الإقتصاد أن نبدأ من الواقع، من المحدد، من الواقع المشروط مسبقا مثلا من السكان وهم أساس وموضوع كل النشاط الإنتاجي. ولكن إذا أمعنا النظر فنجد أن تلك بداية غير صحيحة. إن السكان هو تجريد إذا تركنا جانبا مثلا الطبقات التي تتكون منها السكان. ولكن هذه الطبقات أيضا تعابير بلا محتوى إذا لم أعرف الأساس الذي تقوم عليه مثلا راس المال والعمل المأجور والتي هي الأخرى تفترض التبادل، تقسيم العمل، الأسعار ... الخ. فإذا بدأت بالسكان فسيكون هذا مفهوم فوضوي للكل، مما يجعلني أبحث عن مزيد من العناصر التي تحدده، وهكذا من هذا المحدد الخيالي أتحرك محللا نحو المزيد من التجريدات الأصغر حتى أصل إلى أبسط مكون له. ومن هناك تعود بي رحلتي حتى أصل إلى السكان مرة أخرى ولكن هذه المرة ليس كمفهوم فوضوي للكل بل كتركيب غني لمحدداته وعلاقاته. أن المنهج السابق تاريخيا هو الذي سلكه الإقتصاديون الأوائل. لقد كان الإقتصاديون في القرن السابع عشر يبدأون دائما بالواقع الحي، يبدأون بالسكان، بالأمة، بالدولة، بعدة دول ...الخ. ولكنهم كانوا دائما يخلصون من خلال التحليل إلى عدد أصغر من المكونات التجريد والعلاقات العامة مثل تقسيم العمل، النقود والقيمة، ... الخ. ولكن ريثما تم التأسيس لهذه اللحظات الفردية بشكل أو بآخر، تظهر النظم الإقتصادية، والتي تصعد من العلاقات البسيطة كالعمل وتقسيمه، الحاجة، القيمة التبادلية إلى مستوى الدولة والتبادل بين الدول والسوق العالمي. إن المنهج الأخير لهو بالتأكيد المنهج العلمي الصحيح" (المرجع السابق ص ص 100-101)

هكذا يمكن تلخيص منهج ماركس على أساس أنه يعتمد على الانتقال من المجرد للمحدد، أي منهجه للمعرفة يبدأ بالتجريد ثم ينتقل للتحديد والتجريد هو عملية عزل عنصر من الكل، سواء كان العنصر من كل ملموس طبيعي او اجتماعي او فكري(فكرة أو مفهوم) والغرض من التجريد هو دراسة العنصر في ذاته، بدون علاقاته مع المنظومة التي هي عنصر فيها، ثم الانتقال به تدريجيا من خلال تركيبه من جديد مع العناصر الأخرى في منظومته لإكتشاف تأثير علاقات العناصر الأخرى به وتأثيرها عليه وتأثره بها وتأثيره عليها، وبإكتمال كل علاقته يظهر الكل من جديد ولكن هذه المرة كفكرة عن الملموس إلا في العلوم الطبيعية حيث يعاد انتاج الكل. والمفكرون والعلماء والأدباء والسياسيون والناس العاديون يفعلون هذه العملية آلاف المرات بوعي أوبدون وعي ويطلقون عليها اسماء مختلفة مثل التحليل والتركيب والتفكيك والتركيب، والنفوذ إلى جوهر الأشياء، والنظرة الكلية. وماركس اختصرها بانها الانتقال من المجرد للملموس. وبالتالي يصبح لدينا منهج لدراسة كل شئ تقريبا.
إن تطور التكنلوجيا والعلوم يجعل من هذه العملية (الانتقال من المجرد للملوس) واسعة ويحدث ثورة في المعارف والعلوم وتطبيقاتها خاصة في مجالات الكيمياء والكيمياء الفيزيائية والكيمياء الحيوية بما في ذلك علوم الوراثة والجينات، وكلها تقوم على التجريد واعادة التركيب، بل أن ذلك فتح مجالا جديدا لخلق كليات جديدة لم تكن موجودة في الواقع والطبيعة اما باعادة تركيب عناصر لم تكن هناك علاقات طبيعية بينها أو بعزل عناصر من كليات بعينها لتشكيل كليات جديدة أو باعادة تركيب نفس العناصر بعد احداث تغيير محدود في احدها أو بعضها كما يحدث الأن في تجارب الكيمياء الحيوية وعلوم الجنات من محاولات لتعديل بعض الصفات الوراثية وتحويرها كما يحدث في علم النبات والطب وغيرها. وكل هذا يثري الفكر الماركسي كمنظومة مفتوحة.
أما في العلوم الإجتماعية فمعروف أن ماركس قد فعل ذلك في دراسته للإقتصاد الرأسمالي بعزله لمفهوم السلعة (المجرد) وأعادة بنائه لمفهوم الإنتاج الرأسمالي (الملموس) بإعادة التركيب بين السلعة بسماتها وخصائصها التي درسها كنتاج لعمل يجسد قوة عمل عضلية وذهنية أنتجت للتبادل ولها قيمة استعمالية وتبادلية مع عناصر الانتاج الرأسمالي الأخرى فأكتشف تحول قوة العمل نفسها لسلعة وبذلك اوضح الانتاج السلعي البسيط والموسع نظريا مكتشفا في إعادة تركيبه أن الإنتاج الرأسمالي بطبيعته هو انتاج موسع فاتحا بذلك الباب لمفهوم التراكم الرأسمالي، مما اضطره للعودة لدراسة تاريخ نشوء الرأسمالية ليكتشف كيف حدث التراكم البدائي لراس المال وعرفه بأنه هو طلاق المنتج عن وسائل انتاجه وبالتالي اضطراره لبيع قوة عمله لكي يعيش وبالتالي أصبحت قوة العمل سلعة فتعمم الانتاج السلعي، ثم عاد لمخططه التركيبي في محاولة لدراسة كيف يعمل الانتاج الرأسمالي ككل وهذا هو محتوى المجلدين الثاني والثالث من كتابه رأس المال.
طبق ماركس منهجه في حياته في قضايا سياسية ملموسة مثل كومونة باريس والحرب الأهلية في فرنسا وكتابه الشهير "الثامن عشر من برومير ولويس بونابارت" وفيه تحليل سياسي للوضع في فرنسا ولأحزابها ومواقفها.
وفي تقديري أن لينين قد نقل ذلك الجهد العظيم خطوات للأمام بكتابين مهمين، يوضحان أن الانتقال من المجرد للملموس لا يتم مرة واحدة في مكان واحد من العالم وفي زمن ما بحيث تصبح نتائجه مطلقة، بل هو مهمة نظرية في كل زمان ومكان مختلفين لأن الملموس (الكلي) يتغير من مكان لمكان ومن زمان إلى آخر. لذا فهو درس تطور الرٍاسمالية في روسيا والذي يعتبر مثالا لاستعمال منهج ماركس في زمان ومكان مختلفين. وقد فعل نفس الشئ مستفيدا من محاولات هيلفردينج وروزا لوكسمبيرغ وبوخارين بدراسة الرأسمالية كنظام عالمي في كتابة الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. وبذلك وضع أساسا للماركسية كمنظومة فكرية مفتوحة في مجال الاقتصاد.
ولكن اسهام لينين لم يقف في مجال الاقتصاد بل تعداه لمجال الفلسفة في كتابه المادية والنقد التجريبي ليحرر المادية من مفهومها الفيزيائي المغلق ليفتحها كمفهوم فلسفي باعادة تعريفه للمادة بانها الوجود خارج الوعي "إن مفهوم المادة كما أوضحنا من قبل، لا يعبر معرفيا عن شيء سوى الواقع الموضوعي الموجود بشكل مستقل عن عقل الإنسان" (المادية والنقد التجريبي،الطبعة الإنجليزية، دار النشر باللغات الأجنبية موسكو، 1952، ص 270). إن هذا التعريف يفتح المنظومة الماركسية لتناول كل ما هو موضوعي خارج عقل الانسان باعتبارها مادة بما في ذلك الفكر المعبر عنه، النشاط الانساني المبذول، إلى جانب العناصر والكليات الاجتماعية والطبيعية.
وهكذا فقناعتي بانفتاح نظام ماركس المعرفي يعتمد على منهجه بالذات وعلى مفهوم للمادة فلسفي وغير فيزيائي.
الماركسية والديمقراطية
أنا أنظر لقضية الماركسية والديمقراطية على مستويين، المستوى الأول يتعلق بطبيعة ماركس التي تفتح الباب لتعدد الرزايا التي يمكن للإنسان أن ينظر بها للأشياء منطلقا من أين بدأ التجريد، فليس هناك قانون ماركسي يحدد من أين نبدأ التجريد، وبالطبع القدرات الفكرية المختلفة والمتعددة لا تجعل من الممكن بدأ التجريد من أشياء وجزئيات ومفاهيم مختلفة ومتعددة، بل إن إعادة بناء الكل قد تأخذ طرقا مختلفة وقد يكون ما توصل له باحث مختلف عما وصل إليه الآخر، وبينما هذه المسائل في العلوم الطبيعية قد يكون متاح حل بعضها معمليا وبالتجريب وإعادة الإنتاج، إلا أنها في المجتمع تحل بالنقاش والحوار والنشاط والممارسة والتقييم واستخلاص التجارب الاجتماعية. الماركسية نظريا تقبل تعدد التحليلات المختلفة للواقع وبالتالي تقبل تعدد الآراء حول البرامج والتكتيكات والخطط المستندة اليها.
أما المستوى الثاني فهو مستوى المجتمع والديمقراطية فيه،

ليس من قضية تعرضت للتزييف الأيديولوجي مثلما تعرضت قضية ديكتاتورية البروليتارية، ولعل اهم ما ساعد في ذلك التركيب السلبي للفظ المقولة نفسها، التي استخدمت بدلا عن ديمقراطية الطبقة العاملة (او ديمقراطية كل الشعب)، يقول البروفسير ديفيد هيلد، استاذ العلوم السياسية بالجامعة المفتوحة ببريطانيا وهو باحث متمكن في قضايا الدولة والديمقراطية والطبقات، "بديكتاتورية البروليتارية كان ماركس يقصد السيطرة الديمقراطية على المجتمع والدولة بواسطة اولئك الذين هم اغلبية الناس الراشدين، الذين لا يملكون او يسيطرون على وسائل الانتاج" (ديفيد هيلد، نماذج الديمقراطية، البوليتي برس، ط 1995، ص 128).
ان ماركس وانجلز في البيان الشيوعي يتحدثان عن البروليتارية المنظمة كطبقة حاكمة والتي تنتصر نهائيا في معركة الديمقراطية. بل أن انجلز في خطاب له لبيبل (يشير اليه لينين في "الدولة والثورة" ص ص 78 و79 من الطبعة الإنجليزية لدار النشر باللغات الأجنبية ببكين عام 1976)، ينتقد فيه برنامج غوتا للحزب الاشتراكي الألماني مطالبا حذف اي اشارة للدولة في البرنامج واستبدالها بكلمة المانية تعطي معنى كلمة الكميونة الفرنسية ، باعتبار ان الدولة بمعناها الطبقي تنتهي بعد الثورة وتضمحل تاركة مكانها للجان لإدارة الشئون العامة والاقتصاد. ويقول انجلز ان البروليتارية عندما تستعمل الدولة فإنها تستعملها لمواجهة اعدائها ولكنها عندما تنشر الحرية تختفي الدولة كجهاز قمعي. إن هذا التحول النوعي في طبيعة الدولة والذي يعرف في الادب الماركسي باضمحلال الدولة، اي فقدها لطبيعتها كجهاز طبقي قمعي، لم يتم في البلدان الاشتراكية. وهذه في تقديري تتعلق بمسالة الظروف المحلية والعالمية لانجاز الثورة في تلك البلدان. إذ أن المسألة الأساسية فيما يبدو ليست هي دولة البروليتارية، بل كيف تصل البروليتارية للسلطة؛ اي كيف تنجز ثورتها وتقيم مجتمعها الجديد: الاشتراكية؟ اذ انه على حل هذه الإشكالية السياسية الاجتماعية، يعتمد ليس فقط شكل، بل جوهر ما يسمى بدولة البروليتارية او دكتا توريتها، وعما اذا كانت هذه الدولة ديكتاتورية بمعنى البسيط السياسي، اي سلطة سياسية لأقلية تحكم عبر العنف والإجراءات الاستثنائية، بما في ذلك مصادرة حقوق الإنسان المدنية والسياسية؛ ام انها دكتاتورية بالمفهوم التاريخي لهيمنة وسيادة طبقة اجتماعية بمعنى انها استطاعت عبر اقناعها لأغلبية الجماهير ان تلفهم حولها باعتبارها المعبر التاريخي عن تطلعاتهم في تشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة؛ وبالتالي تتحول ديمقراطيا للجان لإدارة الشئون العامة والاقتصاد، اي تضمحل كدولة بمفهوم الدولة السابق، الأداة الطبقية لقهر الطبقات الاخرى وبالتالي تنتفي صيغتها كدكتاتورية.



اسهام الماركسية في دراسة الواقع السوداني ونشر الوعي
ٍسأل نميري عبد الخالق محجوب: ماذا قدمت للشعب السوداني؟ فرد عبد الخالق: الوعي الوعي قدر ما أستطعت.
وبينما كنت عائدا في 1971 مع الأستاذ التجاني الطيب من إجتماع لمكتب الجامعات والمعاهد العليا، سألني فجأة عن مقال كتبه شقيقي الأكبر محمد عوض كبلو المعيد حينها بقسم الفلسفة جامعة الخرطوم في إحدى الصحف اليومية عن البنيوية وكان ذلك أول مقال يكتب عنها في الصحف السودانية، سألني الأستاذ التجاني الطيب: ما هذا الذي يكتبه محمد كبلو، قلت له مدرسة فكرية جديدة يبدو أنها موضة هذه الأيام، فقال لي الأستاذ التجاني: يا بختكم لديكم الآن فلاسفة متخصصين في الفلسفة والإقتصاد والسياسة، عندما بدأنا نشاطنا كنا نكتب في الإقتصاد والفلسفة والأدب ونحضر الإجتماعات ونطلع في المظاهرات ونجتمع لنتفاوض مع قادة الحركة الوطنية وكانوا أكبر عمرا منا.
وذكرت الأستاذ التجاني ذلك الحديث ذات مرة ونحن نجلس في ردهات فندق في أسمرا بعد عودتنا من مؤتمر مصوع وقلت له بالحرف تقريبا: الشخص لا يكتشف عظمة المساهمة الفكرية للشيوعيين السودانيين إلا عندما يتعمق في الدراسات الإقتصادية والإجتماعية والمدارس الماركسية والفكرية المختلفة، وقلت له دعني أعطيك مثالا هل تتذكر الشيوعي الذي خصص لدراسة مشروع الجزيرة على أيام نميري، قال لي نعم. قلت له وأنا أحضر للدكتوراة وأحاول دراسة البنية الإقتصادية الإجتماعية في عهد دولة الحكم الثنائي إهتديت لإحدى النظريات الماركسية التي تتحدث عن مفصلة أساليب الإنتاج (Articulation of Modes of Production) وقد ساعدتني تلك النظرية في فهم كيف إستطاع الحكم الثنائي أن يمفصل أسلوب الإنتاج الرأسمالي وأساليب الإنتاج قبل الرأسمالية في منظومة واحدة تدار تحت دولة سلطوية هي دولة الحكم الثنائي وكيف أن البراعة في المفصلة هذه ظهرت في مشروع الجزيرة وإستلاف علاقة الشراكة التي كانت تستعمل في الأساليب الإنتاجية السابقة لمشروع الجزيرة مع تلك الرأسمالية التي تمثلها شركة السودان الزراعية والدولة الإستعمارية كممثلة لمصانع لانكشير، وقلت له أنني عندما رجعت وقرأت الشيوعي من جديد وجدت أن الشيوعيين إكتشفوا هذه المفصلة وأن برنامجهم قائم على أنها فقدت مقوماتها و لابد من إعادة صياغتها من جديد بحيث تحكمها القوانين الإقتصادية. و لا أظنني أحتاج لشرح مدلول الحكاية.
الشيوعيون السودانيون إستخدموا الماركسية كمنهج لدراسة الواقع السوداني، لذا كانوا سباقين مثلا في إقتراح الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب منذ عام 1955 وأصبح جزءا من البرنامج المقر في المؤتمر الثالث في فبراير 1956. وإقترحوا العصيان المدني (الإضراب السياسي العام كأداة لإسقاط حكومة 17 نوفمبر) وأقترحوا جبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن كأداة تنظيمية لإسقاط نظام نميري.
وفي دراستي التاريخية عن كيف يطرح الشيوعيون البديل توصلت لإستنتاج نظري يلخص منهجهم فقلت:
ان صياغة البديل تتطلب فهما موضوعيا لحركة المجتمع السوداني - اي للصراع الاجتماعي في السودان بتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون الوقوع في شرك التفكير الميكانيكي او الاقتصادي الذي يعيد كل الظواهر الاجتماعية والسياسية لاصول اقتصادية بحتة، اذ انه رغم اهمية الاصول الاقتصادية هذه فلا بد من اخذ مسالة الاستقلال النسبي لبعض الظواهر وللآثار الايدولوجية والثقافية في الاعتبار.
ان عملية الفهم الموضوعي تتسم ايضا بانها عملية تاريخية غير جامدة (لااستاتيكية) لان الواقع الموضوعي يتغير باستمرار، ولكنه لايتغير في خط مستقيم، فهناك الانقطاع بشكليه "الردة والقفزة"، وذلك في اللغة السياسية والتنظيمية الحزبية يتطلب التكتيك المناسب: دفاعي ام هجومي، وفي التحليل السياسي والاجتماعي يتطلب رؤية واضحة للمستمر والمؤقت، للنهوض والتراجع، للعام والخاص؛ فانتقال الحكم في السودان بين مدني وعسكري يشمل عناصر عامة واخرى خاصة، حالات للنهوض والتراجع، عناصر استمرارية وعناصر مؤقتة، والفترات الديمقراطية في السودان ليست متطابقة ولايمكن اختزالها بانها حكم الطائفية، فالتطابق بين الفترات التاريخية مستحيل، رغم وجود الاستمرارية في بعض العناصر والسمات، والتشابه similarity لا يرقى في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية لان يكون تطابقا identity.
وهكذا لايكون الفكر الماركسي بالونة فارغة معلقة في الهواء و لايكون المثقفون الماركسيون السودانيون عاطلي مواهب ومغرورين وبدون إسهامات.
الستالينية
لقد ارتبطت أخطاء الستالينية عند الكثيرين بالأخطاء السياسية والاقتصادية وبالموقف من قضية الديمقراطية داخل الحزب والمجتمع السوفيتيين، ولكن كثيرين لم يهتموا بدور الستالينية في تخلف العلم في الاتحاد السوفيتي وبالتالي وسط معظم الماركسيين الذين كانوا، بشكل عام، ينظرون للتجربة السوفيتية بإعجاب ودون أي نقد يذكر. لقد حولت الستالينية الماركسية من منهج علمي يهدف لدراسة وفهم الواقع وتغييره وتطويره إلى أيديولوجية للدولة السوفيتية تبرر وجودها وسياساتها وأخطاءها، وعلى هذا الأساس نستخدم تعبير ماركوز الشهير عن "الماركسية السوفيتية".
وقد انعكس كل ذلك في ظاهرة ما يسمى بالجمود العقائدي في الاتحاد السوفيتي حيث أدت مصادرة الديمقراطية في المجتمع والحزب لما يمكن تسميته وجود علم رسمي أو وجهة نظر "علمية رسمية" ترقى إلى مستوى التفسير الرسمي للماركسية (مما يذكر بسلطة الكنيسة أو العلماء الرسميين للإسلام). ففي علم الوراثة مثلا كانت توجد نظرية رسمية قفلت الطريق أمام تطور ذلك العلم باعتبار أن النظريات الجديدة حينها ليست ماركسية (انظر عرض هذه القضية في كتاب:آ.ت. فر ولوف، الفلسفة وتاريخ علم الوراثة، ماكدونالد، لندن، 1991). وشمل ذلك علوما أخرى مثل السبيرنطيقيا والتي اعتبرت معادية للطبقة العاملة في العهد الستاليني. وفي العلوم الاجتماعية اعتبر علم الانثربولوجيا الاجتماعية علما استعماريا، واعتبر الاقتصاد القياسي محاولة لإضفاء العلمية على الاقتصاد البرجوازي. وهكذا أصبحت الأيديولوجيا هي التي تحكم النظرة إلى العلوم، بدل أن تكون المعرفة العلمية هي أساس صياغة الثقافة الجديدة للمجتمع السوفيتي.
وكان لكل ذلك انعكاساته على الفكر الماركسي وتطوره على نطاق العالم. وكان أثره الأكبر على الحركة الشيوعية العالمية والتي ظلت تعاني من ممارسة الحزب السوفيتي لدور المركز رغم الحل الرسمي للكومنترن واتخاذ منهج الاجتماعات التداولية للأحزاب الشيوعية العالمية. فما ظل يصدر من الاتحاد السوفيتي (الدولة والحزب والأكاديميين)، ظل بمثابة النظرية الرسمية، والقرار السياسي الصائب، والإجراء الضروري للدفاع عن الاشتراكية ومواجهة الإمبريالية. بل واصبح الخلاف مع القادة السوفيت، وفقا لوجهة النظر الرسمية السوفيتية، يعرض وحدة قوى الاشتراكية العالمية وحركة الطبقة العاملة وحركة التحرر الوطني للخطر. واصبح هناك محظور يسمى "العداء للسوفييت" (بعد أن جرد مفهوم العداء للسوفيت من محتواه التاريخي)، وتحت مقصلته تجز رؤوس المنتقدين لما يحدث في الاتحاد السوفيتي والمنتقدين لتجربته ونموذجه في بناء الاشتراكية، أو لما يقترحه أكاديميو وسياسيو الاتحاد السوفيتي كحلول لمشاكل البشرية العالمية. ومع استحالة أن يدرك العلماء السوفييت مشاكل العالم كلها، وان يضعوا لحركتها الثورية الحلول والتكتيكات الملائمة فان المركز السوفيتي كان إلى جانب ذلك يسوده الجمود العقائدي لسيادة الستالينية وجوهرها مصادرة الديمقراطية في الحزب والمجتمع السوفيتي. وأصبحت مدارس فكرية ماركسية كاملة مستهجنة ومعزولة لأنها تنتقد الاتحاد السوفيتي: مدرسة فرانكفورت، وماركسيي النيو لفت ريفيو، وماركسيي المنثلي ليبر ريفيو، والتيارات التروتسكية المختلفة، بل وشخصيات ومفكرين كانوا في أحزاب شيوعية غربية مثل روجيه غارودى ومساهماته ‘ماركسية القرن العشرينُ’، و ‘المنعطف الاشتراكي الكبير’، و ‘ نحو نموذج وطني للاشتراكية’ . أو الموقف السوفيتي الرسمي من العالم الاقتصادي البولندي أوسكار لانجة.
أن هذا الموقف قد حرم الماركسية من حوار ثر، بل انه حرم السوفيت من نظرة ناقدة من مواقع الصداقة والحرص على تطور الثورة الاشتراكية. أن تعدد التيارات والمدارس الماركسية والاشتراكية هو أحد حقائق العصر التي يجب إلا يتم تجاهلها وان وحدة الحركة الثورية العالمية لا بد أن تنطلق من حقيقة تعددها وتنوعها وضرورة الحوار الثر بين فصائلها. إن حركة الطبقة العالمة العالمية والقطرية تتعدد وتتنوع فصائلها وتنظيماتها ووحدتها تتم من خلال الاعتراف بهذا التعدد والتنوع وليس بإلغائه
خلاصة
ماركسي لأن الماركسية كما أوضحت فيما سبق فيما تقدم لي منهجا لدراسة الواقع وتغييره وتسمح لي أن أفهم المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية على كافة المستويات الاقتصادية أنا والسياسية والعلمية والفكري,



#صدقي_كبلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار حول السمات الأساسية للدستور الديمقراطي ‏
- ملاحظات أولية عن الدروس المستفادة من الانتفاضة التونسية
- في الذكرى الثانية والتسعين لثورة أكتوبر: اللينينية ماركسية ا ...
- تحالف اليسار أم تحالف واسع من أجل الديمقراطية :إجابة على أسئ ...
- حول نظرية الثورة السودانية ( 2) الشيوعيون السودانيون وقضية ا ...
- حول نظرية الثورة السودانية (1) تجاربنا في صياغة البديل
- وداعاً مصطفى الشيخ ...وداعاً أيها الصديق العزيز .. وداعاً أي ...


المزيد.....




- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...
- كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة القوة في اعتقال متظاهرين مؤي ...
- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - صدقي كبلو - في الذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس: لماذا أنا ماركسي