|
ما هي العدالة ؟
عقيل عيدان
الحوار المتمدن-العدد: 1480 - 2006 / 3 / 5 - 11:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد يظهر مفهوم العدالة مرتبطاً بمفاهيم أخرى كالحق ، والحرية والمساواة إلى غير ذلك من المفاهيم ذات الصلة ؛ مما يؤدي إلى التساؤل حول أهمية العدالة وحضورها في المجتمع وارتباطها بحقوق الإنسان وبالأخلاق ، ومن ثمة تطرح التساؤلات الآتية نفسها : هل هناك فعلاً عدالة ، أم أن العدالة مجرد "مثال" يصعب تحقيقه والوصول إليه ؟ هل العدالة قيمة مطلقة أم نسبية ؟ وأخيراً ، ما هو البُعد الأخلاقي للعدالة باعتبارها قيمة ؟ كان السَّفْسَطائيون من أوائل من عالجوا "إشكالية" العدالة ؛ وقد كانت قناعاتهم الفلسفية تقوم على اعتبارات ترتبط بالشك المذهبي ، فكانوا يعتبرون الفرد مقياس كل شيء . وعلى هذا الأساس اعتقد السَّفسطائيون أن العدالة غير موجودة أو على الأرجح ، إنها مفهوم غامض وقيمة لا يؤمن بها إلاّ الضعفاء . وكان (غلوكون) يعتمد – في شرحه للموقف السَّفسطائي – على أسطورة جيجاس ذلك الراعي البسيط الذي اكتشف أن تحريك خاتم في إصبعه وجده في مكان ما يُخفيه عن أنظار الناس ، فجعله ذلك يتنكّر لمبادئه الأولى حول العدالة . وقد أتت الطروحة الأفلاطونية لتدحض الفكر السَّفسطائي ، علماً بأنه (أفلاطون) لا يؤمن بالمفهوم الديموقراطي للعدالة . حيث أكد أفلاطون ، بصريح العبارة ، أن العبيد واهمون حينما يعتقدون في المساواة ، لأن العدالة لا يمكنها أن تكون كذلك أبداً لأن الناس خلقوا غير متساوين بطبعهم ، حسب أسطورة المعادن . ومن ثمة ، فإن العدالة تتجسّد عملياً في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه . فيجب أن يكون التقسيم الطبقي للمجتمع ، متطابقاً مع تقسيم قوى النفس (القوة الشهوانية ، القوة الغضبية ، القوة العاقلة) . والحكمة تقتضي أن تخضع القوتان الشهوانية والغضبية إلى القوة العاقلة ، لتصل القوة الشهوانية إلى فضيلتها التي تتجلى في العفة والاعتدال ؛ وتسمو القوة الغضبية إلى فضيلتها التي تتمثّل في الشجاعة . إن قيمة العدالة هي التي توجه قوى النفس وتضمن تراتبيتها باعتبارها فضيلة الفضائل . وعلى غرار النفس ، لا يمكن أن نضمن مدينة مثالية – في نظر أفلاطون – دون أن يضم المجتمع ثلاث طبقات – علاوة على طبقة العبيد – وهي ؛ طبقة العامة ، وطبقة الجند ، وطبقة الحكام ، وهم الفلاسفة الذين عليهم الانصراف إلى إدراك العدالة كقيمة عليا ترتبط بعالم المُثُل . أما (أرسطو) ، وإن كان هدفه محاربة الفكر السَّفسطائي ، إلاّ أنه يختلف مع أفلاطون في تمثّله للعدالة ، حيث يرى أرسطو أن العدالة تتمثّل نظرياً في الوسط الذهبي (لا إفراط ولا تفريط) الذي يستطيع وحده أن يضمن الفضيلة . وعلى هذا تتأسس العدالة العملية ، التي تتجلى بالخصوص في توزيع الثروات بين الأفراد بطريقة رياضية (حسابية) تناسبية ، بمعنى أن العدالة تقتضي أن يتقاسم الأفراد بينهم بطريقة عادلة الصالح والطالح ، كما تتجلى في سنّ قوانين قمينة بضمان الأمن والسَّكينة والإنصاف لسكّان المدينة وتقوم العلاقات بين أفراد المجتمع على صداقة حقيقية ومثالية . وقد خرج مفهوم العدالة من الإطار الميتافيزيقي ، مع الفلسفة السياسية التي دشنتها "فلسفة الأنوار" ، حيث نجد الفيلسوف الإنكليزي (ديفيد هيوم) يحاول أن يتكلم انطلاقاً من تبعات الثورة الصناعية وروح الثورة الفرنسية ، فربط العدالة بالرفاهية التي يجب تحقيقها للفرد بوصفه مستهلكاً مما سيؤدي إلى احترام القوانين والالتزام بها . وهذا – في اعتقاده – لن يتحقّق إلاّ بضمان الحرية الفردية ، التي يمكنها أن تتبلور مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج علاوة على التصنيع ، والتقنية . وهذا فعلاً ، يجسد تلك الروح الليبرالية التي تعتقد أن الدولة توجد في خدمة الفرد وليس العكس . ويعتقد (مونتسكيو) أنه لا يمكن ضمان العدالة الفردية إلاّ بفصل السلطات الثلاث : التشريعية ، التنفيذية والقضائية . إلاّ أن (بانجمن كونستان) يعتقد أن على الفرد كذلك واجبات تجاه الدولة ، فعلى الفرد أن يضحي بجزء من حريته ، وبجزء من ثروته خدمة للصالح العام . إذا تجاوزنا هذا الطرح الفلسفي السياسي ، فإننا نصادف الفيلسوف الألماني (كانتْ) يحاول أن يؤطِّر العدالة في إطار معياري أخلاقي . لأن العدالة – في تقديره – قيمة أخلاقية ترتبط بثلاثة معايير أخلاقية هي ؛ الحرية ، الكرامة والواجب . فالإنسان موجود حرّ يملك كرامة تفوق كل سِعر ، ويعمل كذلك بمقتضى الواجب الأخلاقي الذي يتطلّب من الفرد أن يعمل كما لو كان أسوة لغيره من الأفراد ، وأن يسلك كما لو كان مشرّعاً وفرداً ، وأن يتعامل مع الآخرين عبر احترام متبادل يمليه عليه احترامه لنفسه . لا يمكن للعدالة أن تتجسد – إذن – إلاّ عبر إعمال عقل أخلاقي عملي ، يسمو به الإنسان فوق كينونته الطبيعية . إن هذه المواقف وغيرها لم تكن دون أن تشهد اعتراضات من بعض المفكرين ، فنجد (نيتشه) يشك في إمكانية وجود عدالة . حيث يعتقد أن منطق القوة وحده يحدّد السلوك البشري ، فإرادة القوة تفترض هيمنة أخلاق القوة (أخلاق السادة) . أما المساواة والحرية، فهي من شيم الضعفاء ؛ ومن "الطوباوية" أو الخيال الاعتقاد بأن العدالة يمكنها أن تؤطّر العلاقات بين الأقوياء والضعفاء . فالعدالة – كما قال – لا تكون إلاّ بين الأقوياء الأنداد. أما المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو) ، فيعتقد أن العدالة ليست قيمة أخلاقية ، لأنه يغلب عليها الطابع المؤسسي (أو المؤسساتي) ؛ فالمجتمع يعمل عبر مؤسسات تعمل بطريقة سلطوية ، تقوم بنشر مفهوم معيّن للعدالة ، وتسهر على احترامه وتنفيذه ، ولا تطلب من الفرد إلاّ أن يكون خاضعاً . يلاحظ من الطروحات السابقة ، أن الأفكار توزَّعت بين من يؤمن إيماناً قطعياً بالعدالة ومن يشك في وجودها دون أن يعني ذلك أن هناك إجماع حول تمثّل العدالة بصورة واحدة . ولكن ألاَ يحق لنا ، أن نواجه من يشك في وجود العدالة كقيمة أخلاقية بالتأكيد أن المجتمع الذي يتأسَّس على العدالة يضمن أكثر للإنسان إنسانيته ويحفظ له كرامته ؟ فمن الأفضل أن يأمل الإنسان في مُثُل وقيم من أن يعيش بدون مبادئ .
#عقيل_عيدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في العلاقة بين الشرق والغرب - في ذكرى انا ماري شيمل
-
حدود الحرية
-
التسامح الديني مطلب إنساني
-
في مفهوم الثقافة العربية
-
الاجتهاد .. وراهنية التغيير
-
تأسيس المجتمع المدني .. وصراع المجتمع والدولة
المزيد.....
-
في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
-
وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
-
مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
-
أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
-
قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
-
عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح
...
-
بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل
...
-
غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
-
لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار
...
-
حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|