أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل العتاوي - البنية المفاهيمية لمقاربة موضوع الهجرة















المزيد.....



البنية المفاهيمية لمقاربة موضوع الهجرة


نبيل العتاوي

الحوار المتمدن-العدد: 5763 - 2018 / 1 / 20 - 19:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بقلم كل من الطلبة الباحثين:
نبيل العتاوي
حسن البياضي
 تقديم:
تمثل إشكالية الهجرة اليوم أحد إشكالات العصر، وكذلك موضوع انشغال ونقاش، بل ومصدرا مثيرا للجدل لدى مختلف الدارسين المنتمين لعدة قطاعات وتيارات، نذكر منهم علماء الجغرافيا البشرية، والاقتصاد والسياسة والتاريخ وعلماء النفس والإحصائيين...أما علم الاجتماع فقد سعى من خلال تبنيه لسوسيولوجيا الهجرة إلى بلورة نظرية معينة أي بناء مفاهيمي منظم يسمح بتشخيص المحددات والحوافز المتحكمة في الحركات الهجرية، ومن أهم المفاهيم التي طرحت وشكلت رصيدا سوسيولوجيا عن الهجرة، الاندماج والاستخلاف والاستيعاب والمواطنة والتكيف وكذلك براديغم الهوية الاجتماعية للمهاجرين و يمكن القول أنها شكلت إسهاما علميا وقيمة مضافة لإماطة اللثام عن سوسيولوجيا الهجرة والتحضر.
إذن، ما هي الهجرة؟ ما هي أنواعها؟ وكيف درست العلوم الإنسانية (الجغرافيا، السياسة، الاقتصاد، الديموغرافيا، علماء السكان، الإحصائيين، موضوع الهجرة عامة)، والسوسيولوجيا خاصة؟ إلى أي حد ساهمت مدرسة شيكاغوا بإرثها في تشكيل خلفية سوسيولوجيا لمفهوم الهجرة؟
قبل الغوص في تحديد الإطار المفاهيمي للهجرة لا بد من تقديم لمحة تاريخية حول ظاهرة الهجرة.
I:لمحة تاريخية عن الهجرة:
من الوجهة التاريخية، تعتبر المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ مسرحا دائما لتنقل السكان في ما بينها، وأقدم الهجرات البشرية خرجت من جنوبي غربي آسيا. وربما كان ذلك من وسطها نحو أوروبا في الغرب ونحو الأمريكيتين في الشرق، ونحو إفريقيا في الجنوبي الغربي. وكان السبب الرئيسي لحدوث تلك الحركات السكانية التي ساعدت على انتشار الجنس البشري يتمثل في التغيرات المناخية التي كان من نتيجتها تكرار فترات الجفاف، أو نقص الغداء، أو طرد السكان من مناطق استقرارها بتأثير الجماعات الغازية.
و يلاحظ أن هذه الهجرات القديمة البدائية لم تكن هجرات أفراد كما هو الحال في معظم الهجرات الحديثة، بل إنما هي هجرات جماعية، تقوم بها جماعات كبيرة أو شعوب وقبائل بأكملها، بصرف النظر عن مستواها الحضاري أو الفترة الزمنية التي عاشت فيها.وبذلك يمكننا أن نصنف، ضمن هذه الهجرات البدائية تحركات جماعات الصيد والقنص، في العصور المبكرة من تاريخ الجنس البشري، ونزوح الجماعات التي تعيش على الزراعة المتنقلة والتي تضطر إلى تغيير مكان إقامتها كل عدة سنوات، بعد أن يتم استنزاف خصوبة الأرض، فتنتقل إلى مناطق جديدة، وهجرة القبائل الجرمانية بين القرنين الرابع والسادس من منطقة بحر البلطيق جنوبا بحثا عن الأراضي الزراعية، وهجرات بعض القبائل العربية الشهيرة التي اتجهت نحو شمال إفريقيا، نكتفي بهذا القدر لتوضيح ما يراد بالهجرة البدائية التي ضمت عددا كبيرا من البشر الذين غيروا موطنهم الأصلي نتيجة الظروف القاهرة.سواء كانت هذه القوى طبيعية أم بشرية.
أما الهجرات الحديثة فتنقسم تاريخيا إلى مرحلتين: المرحلة الأولى وهي تمتد منذ الكشوفات الجغرافية والاستعمار حتى القرن الثامن عشر. و خلال هذه الفترة لم يشهد العالم إلا قليلا من الهجرات السكانية الدولية حيث لم تزد جملة المهاجرين عن بضع مئات من الألوف، وذلك بسبب طغيان عامل المسافة. ويعد تعمير الأوروبيين لقارات العالم الأخرى غير قاراتهم، من أعظم نتائج الهجرات البشرية في التاريخ.
أما المرحلة الثانية، فهي تمتد من القرن الثامن عشر حتى وقتنا الحاضر، أي منذ الثورة الصناعية التي عمت أوروبا في تلك الفترة، والتغيرات التكنولوجية، التي أفرزتها هذه الثورة، والتي ساعدت، بشكل فعال، على تقريب المسافات، بسبب تقدم المواصلات, وقد حدثت هذه التغيرات، ولكن في وقت مبكر في كل من بريطانيا ودول غرب أوروبا. ثم عمت تلك الظاهرة سائر أنحاء العالم، وخاصة في القرن العشرين.
ظلت أوروبا حتى اكتشاف العالم الجديد نقطة انتهاء كل الهجرات القادمة من الشرق، ولكنها صارت بعد اكتشاف العالم الجديد نقطة انطلاق إليه، إذ توجه في بداية القرن التاسع عشر ما يقارب 57 مليون مهاجر إلى القارة الأمريكية، منهم زهاء ثلاثين مليونا توجهوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد دخلا الولايات المتحدة الأمريكية، في فترة قياسية، مابين 1901 و1910، زهاء تسعة ملايين مهاجر، ولقد سبق أن تلتها ثاني أكبر هجرة في فترة قصيرة وهي مابين 1881 و1890، وكانت ما يقارب خمسة ملايين مهاجر وكان ما يدنو85°/° من هؤلاء قد قدموا من أوروبا. وتأتي هذه الهجرة الجماعية نتيجة للفرص الاقتصادية الهائلة في الأراضي الجديدة، وتطلع الأوروبيين إلى نقل الاقتصاد الصناعي إلى تلك الأراضي.
ولكن مع هذا، لم تكن أوروبا وحدها هي التي تبعث بالمهاجرين إلى أمريكا، فقد قامت هجرات من إفريقيا وآسيا وجزر المحيطات. ونذكر على سبيل المثال، أن نسب عدد المهاجرين اللبنانيين حسب البلاد التي قصدوها فيما بين سنتين 1926 و1938 كانت كالآتي:29°/° قصدوا أمريكا و10°/° توجهوا نحو أمريكا الشمالية، أما أمريكا الوسطى فكان من نصييبها10°/° من جملة المهاجرين اللبنانيين. ويمكن أن نوجز الأسباب التي ساعدت على هجرة اللبنانيين نحو البلاد الأمريكية في ما يأتي:
أ:كثافة السكان مع ضيق الموارد الاقتصادية وخاصة في الجبال اللبنانية.
ب:اضطراب الأحوال السياسية في البلاد منذ أوائل القرن التاسع عشر، والثورات المتعاقبة بالحكم العثماني، ثم الحكم الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى.
ج:التفاعل الثقافي بين حضارة الشرق والغرب، وسيادة التيارات التحررية ونبذ التواكل والقدرية والرغبة في المغامرة.
أما أفريقيا فكان دورها في تاريخ الهجرات البشرية سلبيا، فقد استقبلت الوافدين إليها من أرويا وآسيا.ونكبت خلالها ونكبت خلال العصور الحديثة بهجرات قسرية، حيث خرج الملايين من أبنائها للعمل كرقيق في العالم الجديد، وإذا كانت أستراليا قد أسهمت في يوم ما في تعمير أمريكا الجنوبية، فقد أصبحت اليوم بلدا يستقبل الوافدين من أوروبا ، ومن سائر أنحاء العالم.
وإذا ما اتجهنا نحو العالم العربي وجدنا دول الخليج العربي التي تعتبر بحق نموذجا للهجرات الدولية في العصر الحديث، فقد أصبحت محطة الأنظار من قبل المهاجرين، بعد اكتشاف النفط، واستغلال عوائده في بناء الدولة الحديثة، ليس من الناحية الاقتصادية والسياسية فحسب، بل إنما في بناء دولة حديثة، وتأسيس الهيكل التنموي، وإرساء دعائم الخدمات الأساسية الاجتماعية.
وكانت المشكلة الأساسية التي واجهتها هذه الدول هي أن عمليات الهجرة هذه قد أدت إلى قلب الميزان السكاني، وتحول السكان الوطنيين في فترة وجيزة إلى قلة في بلدانهم.ولم تقتصر هذه الهجرة على مصدر واحد أو عدد قليل من، بل إنما جاءت من مصادر كبيرة العدد وصلت إلى مائة جنسية.وبما أن العمل هو الدافع الرئيسي لهذه الهجرة، تفوقت العمالة الوافدة على الوطنية، إلى أن وصلت هذه الأخيرة، في بعض دول الخليج إلى أقل من 10°/°، وشكلت في الكويت عام 1985 ما يقارب 22°/° من مجموع القوى العاملة فيها.
هذه الهجرات الدولية أثرت ولاشك، في التركيب السكاني والاقتصادي والاجتماعي لسكان العالم، كما سامحت باحتكاك الحضارات والأخذ والعطاء.
1:تحديد مفهوم الهجرة لغويا، لسان العرب، ومن مختلف التيارات:
في كل بحث تدعو الضرورة إلى تقديم المفاهيم والمصطلحات لتوضيح مفاتيح عنوان الموضوع وما ترمي إليه حتى يتعرف المتتبع مند البداية على دلالاتها وعمقها. لذلك فخطوة تحديد المفاهيم تكتسي أهمية كبرى في علم الاجتماع لتفادي الوقوع في نسق الأحكام المسبقة والجاهزة، وعليه فمرحلة تحديد المفاهيم المستخدمة في أي موضوع نتناوله هي أمر أساسي، وذلك لضرورتها في تحديد الموضوع والمتطلبات النظرية والمنهجية التي يستخدمها الباحث، كما أنها تمكنه من إيجاد مفاتيح لفهم الموضوع البحث بطريقة سليمة وموضوعية. وفي بحثنا هذا سنحاول أن نزيل الستار عن ظاهرة الهجرة من خلال تحديدها لغويا، ومن قاموس لسان العرب لابن منظور ومن مختلف باقي العلوم الإنسانية الأخرى.
إذن الهجرة، في اللغة، تفيد معنى الترك والمغادرة. ويقال هجر الشيء إذا تركه.
وورد في لسان العرب لابن منظور:"أن الهجرة ضد الوصل"وأنها أيضا"هي الخروج من أرض إلى أرض.قال الأزهري"أصل المهاجرة عند العرب هي خروج البدوي من باديته إلى المدن.يقال هاجر الرجل إذا فعل ذلك.وكذلك كل مخل بمسكنه ومنتقل إلى قوم آخرين بسكناه.فقد هاجر قومه.وسمي المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشئوا بها لله ولحقوا لدار ليس لهم بها أهل ولا مال حين هاجروا إلى المدينة.فكل من فارق بلدة من بدوي أو حضري أو سكن بلدا آخر فهو مهاجر، والاسم منه الهجرة.
وتعتبر الهجرة أحد أشكال انتقال السكان من أرض تدعى المكان الأصلي أو مكان المغادرة إلى أخرى تدعى مكان الوصول أو المكان المقصود.ويتبع ذلك الانتقال، بطبيعة الحال، تبدل في مكان الإقامة. ويفرق الدارسون في موضوع الهجرة، بين الانتقال المؤقت والانتقال المستقر والانتقال النهائي، وذلك في ضوء الغيبة عن المكان الأصلي، أو مدة الإقامة في المكان المقصود أو المهاجر إليه.
والهجرة كذلك ليست نقلة جسدية من موطن لآخر، وإنما أيضا هي موقف عقلي، واتجاه ذهني، وتوجه نفسي من الشخص ذاته، كما أن قرار الهجرة هو قرار شخصي يعتمد في الأساس على الفرد ذاته الذي يرجع القرار إليه في الانتقال إلى المكان الذي يريد العيش فيه.
كما أنه في حديثنا عن الهجرة ينبغي التمييز بين الهجرة والتنقل الاجتماعي، كون هناك فرقا واضحا يتجلى في:
أن التنقل الاجتماعي يعتبر من قبيل تغير المركز الاجتماعي والاقتصادي.
والهجرة باعتبارها عملية تغيير فيزيقي في مكان الإقامة المعتاد تغير جدري في حياة المهاجر، تنطوي على عملية تنقل الاجتماعي، لأن المهاجر قد يحقق، في أثناء إقامته في منطقة المهجر، مستوى من الحياة الاجتماعية، ويصل غلى بعض المراكز، ويتمتع بمكانة اجتماعية واقتصادية، لم تكن له في المنطقة التي هجرها وهكذا.
ويفرق بعض الدارسون بين الهجرة إلى البلاد أو الوفود Immigration و الارتحال أو النزوح والخروج Emigration أي الهجرة من البلاد. وهذا ما يسمى بالهجرة الخارجية أو الدولية.أما إذا انحصرت الهجرة في داخل المنطقة أو الإقليم أو البلد فتدعى الهجرة الداخلية Migration intérieur.
وبالتالي فمن خلال هذه التفرقة ينبغي أن نوضح للمتتبع كذلك أهم أنواع الهجرات التي عرفها العالم. إذن ما هي أنواع هذه الهجرات؟
2: أنواع الهجرة:
هناك أنواع كثيرة من الهجرات ولا يتسع المجال للوقوف عليها كاملة فهناك تصنيفات متباينة للهجرة، ويمكن القول بأن البشر يتوجه غالبا للمناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، حيث يكون الدخل مرتفعا، وفي هذا الإطار يمكن تصنيف الهجرة على النحو الآتي:
ت‌- تصنيف الهجرة من حيث الكم:
ويتجزأ هذا التصنيف إلى ثلاثة أجزاء وهي أولا هجرة فردية، حيث هجرة أفراد متفردين قريبا أو بعيدا من مسكنهم الأصلي.
ثانيا،هجرة أسرية حيث يصطحب المهاجر أسرته للمهجر حيث يقرر الاستقرار.وثالثا، هجرة جماعية تكون غالبا ناتجة عن الحروب أو الكوارث الطبيعية.
ث‌- تصنيف الهجرة من حيث الكيف:
وهنا تصنف الهجرة إلى هجرتين، الأولى شاقولية، حيث يسعى المهاجر لتحسين ظروف عيشه مع إختصاصه بمجال تخصصه في مجال العمل،أما الهجرة الثانية من هذا الصنف فهي هجرة أفقية حيث يقصد بها تغير مكان الإقامة مع الاحتفاظ بالعمل نفسه، كأن ينتقل مزارع من قريته، لضيق أرضه، أو جفافها، ليذهب إلى قرية أخرى تتوافر فيها الأرض الخصبة والمياه، وفي كلتا القريتين يعمل مزارعا.
ج- تصنيف الهجرة حسب الزمن:
تصنيف الهجرة حسب المدة الزمنية التي تستقر فيها،إلى هجرة نهائية أو دائمة، وأخرى مؤقتة.
فالبنسبة للهجرة النهائية أو الدائمة:تعني استقرار المهاجر في بلد المهجر بشكل نهائي.وهي من أقدم أصناف الهجرة،مثل الهجرات التي تلت الغزوات، الإمبراطوريات القديمة ومنها الرومانية والصليبية والغزوات الإسلامية،وكذلك هجرة اليهود إلى فلسطين.بالإضافة غلى هذه الهجرات هناك هجرة الأدمغة التي يقوم بها الأفراد ذوا الشواهد العليا في الاتجاه نحو الدول الأوروبية أو أمريكا الشمالية بما فيها كندا والولايات المتحدة الأمريكية.أما بالنسبة لهجرة التجار فكثيرة هي البلدان التي تشجع تجارها على الهجرة على سبيل المثال اللبنانيين، السوريين،الصينيون...
أما فيما يخص الهجرة المؤقتة حسب الزمن،منها على سبيل المثال حركات السكان اليومية من المسكن إلى العمل وعكسه ويطلق عليها بالفرنسية اسم Navette.مثل تلك التي يقوم بها الفرنسيون من فرنسا إلى سويسرا.وهناك نوع آخر من الهجرات الموسمية، التي تقام من بلد لآخر، مثل تلك التي تتم من دول افريقيا إلى فرنسا أو اسبانيا لجني العنب،أو التفاح، التوت...وتوجد أنواع أخرى من الهجرات المؤقتة،وهي الهجرة من أجل العمل والتي تتم بعقد عمل محدود الأجل.أو الهجرة قصد إتمام الدراسة بالنسبة للطلاب.أو الهجرة إلى الحج,أو الهجرة المعاكسة التي يقوم بها في وقتا الحالي العديد من المغاربة فيعودوا للوطن الأم من أجل إقامة مشاريع.
ويبرر من خلال هذا التحديد لأنواع الهجرة.على العموم أنها ناتجة عن تنقل وحركية، وتدفقات بشرية مرتبطة بالعامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والطبيعي الذي تعيشه المجتمعات البشرية.
كذلك أثناء تحديدنا لمفهوم سوسيولوجيا الهجرة لا يمكننا أن نتجاوز إسهامات مختلف التيارات في تحديد مفهوم سوسيولوجيا الهجرة، كون السوسيولوجيا تتداخل مع جميع العلوم الأخرى.
- فالبنسبة للجغرافيين فهم يهتمون بدراسة أثر العوامل الطبيعية من مناخ وتربة وكوارث طبيعية في أحداث الهجرة.
- علماء السكان:يركزون على الآثار والمشكلات السكانية المصاحبة لعملية الهجرة(خلخلة التركيب السكاني العام، تغير هائل في الخارطة السكانية للمجتمع العالمي أو القومي أو المحلي).
- الاقتصاديون:يركزون على دراسة العلاقة المتبادلة بين الهجرة ودورة العمل بالإضافة إلى مدى تأثير الهجرة على سد احتياجات المجتمع المستقبل للمهاجرين المهرة وغير المهرة، وتأثير الهجرة على النمو الاقتصادي أيضا وأخيرا يهتمون بدراسة الوضع المهني والوظيفي للمهاجر.
- المشرعون والسياسيون:يركزون على صياغة القوانين ووضع السياسات ذات العلاقة المباشرة بالهجرة.
- الإحصائيين: يعتبرون الهجرة كل حركة من خلال الحدود، ماعدا الحركات السياحية.
 يسعى كل من علم الجغرافيا والاقتصاد إلى موضعة الهجرة في مستوى خصائص مكان الانطلاق ومكان الوصول وظروف التنقل وهذا هو المستوى الموضوعي الذي يعتبر جانبه الآخر الذي لا يقل ضرورة عنه هو عمل عالم الاجتماع.
على العموم ومن خلال الصفات التي يتميز بها هذا المفهوم ألا وهو الهجرة كونه يحمل صفات الظاهرة الاجتماعية تتمثل في كونها إنسانية، إلزامية، عمومية، تلقائية، ترابطية، موضوعية، إذا كيف حددت أو درست السوسيولوجيا تيمة الهجرات؟

3: السوسيولوجيا ودراسة الهجرات
للجواب على السؤال السالف ذكره ارتأينا الرجوع إلى كتاب عبدالرحمان المالكي المعنون بالثقافة والمجال دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب وبالضبط في محور السوسيولوجيا ودراسة الهجرات، حيث استأنس الباحث بفكرة مهمة لفرانكفيل الذي أكد على فكرة مفادها أنه ينبغي على جميع العلوم الإنسانية أن تتعاون لدراسة الهجرات. ولقد سبق وأن وضحنا سالفا كيف ساهمت مختلف العلوم في دراسة موضوع الهجرات.
بعد هذه الإجابة سيطرح كذلك الباحث سؤلا في غاية الأهمية وهو كالتالي:
هل لا بد من تضافر جهود كل هؤلاء العلماء ومساهماتهم في نفس الوقت لفهم ظاهرة الهجرة؟
أجاب عبد الرحمان المالكي على أنه من المؤكد ينبغي تضافر كل هاته العلوم لتجاوز النظرة الأحادية وتجنب التجزئة، والهدف كذلك راجع إلى الوصول إلى نظرة تركيبية التي بدونها تظل معرفتنا للظواهر الاجتماعية ناقصة.
فإذا كانت مسألة تعريف السوسيولوجيا وتحديدها كموضوع من الأمور الأساسية والمستعصية التي اعترضت الدارس لهذا العلم، فإنه سيكون أمر صعب كذلك في تحديد فرع من فروعها، ومنه يمكن أن نتساءل متى التقت السوسيولوجيا بظاهرة الهجرات، ومتى ظهر فرع من فروعها يسميه علماء الاجتماع بسوسيولوجيا الهجرات؟
لقد بدأ علماء الاجتماع يهتمون بظاهرة هجرة السكان(وخصوصا الهجرة من البوادي إلى المدن) مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.وذلك نظرا لاتساع هذه الظاهرة وما بدأ ينجم عنها من مشاكل اجتماعية(أزمة السكن، التضخم الحضري، الاندماج، الانحراف).ولقد كانت هذه المشاكل مرتبطة بمتطلبات ظهور وانتشار الظاهرة الصناعية وما بدأ يتطلبه المجتمع الصناعي من يد عاملة عجزت المراكز الحضرية القديمة عن توفيرها. ولذلك كانت الهجرات الداخلية مرتبطة في الدول الأوروبية آنذاك بالعمل الصناعي.لتصبح في ما بعد العامل الديناميكي في تكوين سكان المدن. وفي هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية ستصبح ظاهرة الهجرة الداخلية تستقطب اهتمام العديد من الدارسين من مختلف التخصصات.
لقد خصص كذلك روني ديشاك الفصل الثاني من كتابه"سوسيولوجيا الهجرات في الولايات المتحدة الأمريكية"لمسألة نشأة سوسيولوجيا الهجرات.
ويعتقد روني ديشاك أن الهجرات يمكن أن تشكل الموضوع المحدد بالنسبة لكل السوسيولوجيا.يقول"كما أن الظواهر النقدية تشكل بالنسبة للاقتصاد القاسم المشترك بالنسبة لكل العملية الاقتصادية.وكما أنه لا يمكن تصور علم للسياسة بدون مفهوم الحرية.فكذلك الشأن بالنسبة لعلاقة السوسيولوجيا ككل بسوسيولوجيا الهجرات.ونظرا لكون الحراك Mobilité)) والحركات الهجرية تشكل اليوم بالخصوص إحدى الخصائص الأساسية لتعريف الموضوع الاجتماعي.ونظرا لكون الظواهر الهجرية من الشمول بحيث أنها تحدد وتوجه إلى حد كبير التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمعات الحديثة.
وفي هذا الصدد أكد الباحث على أن تدشين الدراسة العلمية لسوسيولوجيا الهجرات لا يعود الفضل فيها إلى علماء الاجتماع الأمريكيين وإنما للأنجليز ، وذلك راجع بطبيعة الحال كون انجلترا كانت هي المهد للثورة الصناعية.وعرفت بالتالي هجرة قروية كثيفة من البوادي في اتجاه المدن نتج عنها تضخم حضري غير مسبوق في تاريخها,ولذلك ظهر الاهتمام الفكري الأول بالهجرات في انجلترا وعلى يد عالم يدعى رافنستاين Ravenstein منذ سنة 1885.
ويرجع مؤرخو علم الاجتماع بداية الاهتمام السوسيولوجي الفعلي بظاهرة الهجرات الإنسانية إلى مدرسة شيكاغو وبالخصوص إلى روادها الأوائل وليام طوماس وفلوريان زنانيكي. من خلال دراسة أعداها بعنوان:"الفلاح البولوني".وروبرت بارك ودراسته عن الهجرات الإنسانية والإنسان الهامشي.ولقد تأثر هؤلاء الرواد في دراستهم للهجرات بالأيكولوجيا وذلك يتضح جليا من خلال تركيزهم على مفاهيم مثل:الاستخلاف، التنافس، الصراع، التوازن، التكيف، والعلاقة بين الموارد والسكان، وقوى الجدب والطرد في المجال...ومع رواد هذه المدرسة ومن خلال أبحاثهم ودراساتهم ستظهر أسس وملامح سوسيولوجيا الهجرات.
إذا كيف ساهمت مدرسة شيكاغو في تشكيل خلفية سوسيولوجيا لمفهوم الهجرة؟
للجواب عن هذا السؤال خصصنا محورا يتضمن كيفية مساهمة مدرسة شيكاغوا في تحديد مفهوم الهجرة،ويعنون هذا المحور ب:
II:إرث مدرسة شيكاغو وتشكيلها خلفية سوسيولوجية لمفهوم الهجرة:
لعبت مدرسة شيكاغو دورا هاما في تأسيس أحد أهم فروع السوسيولوجيا المعاصرة في مطلع القرن الماضي وبالتحديد إبان العشرينيات منه، ومن ثم ظهر الاهتمام بدراسة أثر الهجرة والمهاجرين وتداعياته على البنى الاجتماعية للمجتمع ولدول الاستقبال، مركزة بذلك على التيمات الكلاسيكية، مثل النزاع بين الأفراد والمجتمع وسلوك الأفراد داخل الجماعة والعلاقات البين إثنية الاجتماعية، والفعل الاجتماعي، وفي هذا الإطار تلك المقولات التحليلية التي تتضمنها المؤسسات والطبقات الاجتماعية، والتنظيمات الاجتماعية، والاندماج والتضامن والنظام والصراع الاجتماعي، كما تجاوزت دراستها هذه التيمات لتدرس مواضيع أخرى جديدة مثل اشتغالها على إشكاليات جديدة كالنوع والإثنية ثم الهوية والشبكات والاقتصاد والاندماج الاجتماعي، وكذلك اهتم سوسيولوجي الهجرة بدراسة أنساق إيديولوجية للدول المستفيدة والمستهلكة للهجرات.
أ‌- مساهمة وليام طوماس وفلوريان زنانيكي
إن أهم ما يميز مدرسة شيكاغو كاتجاه نظري وامبريقي، حيث تناولت هذه المدرسة إشكالية الوفود في ثلاثينيات القرن الماضي بتقديم طرح سوسيولوجي وبمقاربة إثنوغرافية للتحضر والهجرة، هي الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا لطوماس وزنانيكي ابتداءا من عام 1918 وهي الدراسة التي كانت رائدة في استخدام بعض المناهج والأدوات الجديدة آنذاك( كالمذكرات الشخصية وتواريخ الحياة والخطابات).كما كانت رائدة في استخدام المعامل الإنساني الذي يأخذ في الاعتبار دائما معاني المشاركين في التفاعل الاجتماعي وكذلك كانت هذه الدراسة البديات الأولى للوصف المنظم للمجتمع. ويعتبر هذا الكتاب حسب قول جون ميشيل برطلو"شهادة ميلاد السوسيولوجية الأمريكية الحديثة" وهو بحث ميداني مكون من خمسة أجزاء يضم وضعية ونمط العيش للبولونيين في كل من موطنهم الأصل، وبعد ذلك هجرتهم لأمريكا ويرصد أنماط التفاعل وعلاقاتهم مع باقي المهاجرين القادمين من دول أخرى. ومدى قدرة هؤلاء المهاجرين البولونيين على الاندماج والانصهار وما هي القيم والمعايير الاجتماعية ومظاهر سوء التنظيم الاجتماعي وإعادة التنظيم ، وقد اعتمد وليام طوماس وزنانيكي في دراستهما لهذه المواضيع على مقاربة تلبي الحاجة لدراسة هذا الواقع، وذلك من خلال منهجين وهما تقنية دراسة الحالة التي تعتمد على المنهج البيوغرافي وتقنية تحليل المضمون والمعطيات المجمعة وكانت عبارة عن وثائق ورسائل شخصية متبادلة. بين المهاجرين البولونيين وذويهم في الوطن الأم.
كما تم الاعتماد على وثائق أخرى ومنه مقالات الجرائد ولوائح الانتساب لجمعيات المهاجرين، وتقارير من المحاكم، ومراكز الشرطة.
أما التقنية الأخرى التي تم الاعتماد عليها فهي السيرورة الذاتية أي البيوغرافيا فشكلت ما يقارب من ألف وثيقة.شكلت بداية لسوسيولوجيا أمبريقية طبقت المنهج الكيفي وجانبا مفاهيميا ونظريا، شكل هذا الإنجاز دورا رياديا في علم الاجتماع الهجرة.
ب‌- مساهمة روبير إيزرا بارك:
من بين الإسهامات الأخرى التي قدمها رواد هذه المدرسة السوسيولوجية للهجرة، نجد مفهوم التمثل عند"بارك"حيث نشر هذا الأخير سنة 1914 مقال حول مسألة التمثل ، تتطلب تجانسا إثنيا، بل التمثل هو سيرورة مشاركة جماعة من الأفراد في عمل المجتمع بشكل نشط مع حفاظها على خصوصيتها."فبارك"سعى من خلال وصفه لعملية إختلال النظام الاجتماعي وإعادة تنظيمه في كتابه"مقدمة لعلم الاجتماع"الذي كتبه هو و إرنست بيرجيس والذي سعيا من خلاله إلى تحديد التفاعلات بين المجتمعات الأصلية والمهاجرين حيث حدد أربعة مراحل تمثل كل مرحلة منها تقدما بالنسبة إلى المرحلة السابقة وهي:التنافس، الصراع، التكيف والتمثل. وخلصا إلى أن التعلم هو الحل لإعداد المهاجرين لمواطنتهم الجديدة، حيث سيتعلم اللغة والثقافة والإيديولوجيا الديمقراطية وخصوصا التاريخ الأمريكي، وبالتالي سيعرف المهاجرون أن لهم مستقبلا فعليا في هذا البلد.
كما استلهم بارك للنموذج الإيكولوجي واعتبر على أن الهجرات الإنسانية هجرات طبيعية كما هي هجرات النباتات والحيوانات، وفي هذا الإطار سيسعى للبحث عن مفاهيم إيكولوجية للتأكيد على أن ظاهرة الهجرات الإنسانية قابلة للدراسة العلمية، وكان من بين تلك المفاهيم مفهومان أساسيان هما مفهوم الخلافة أو الاستخلاف (succession) ومفهوم التوازن(équilibre).
إن مفهوم الاستخلاف قد استعمل بهدف إيجاد الأساس النظري لدراسة الهجرات"فماهي الهجرات-يتساءل بارك- إن لم تكن استخلاف جماعة لجماعة أخرى على أرض معينة".
إن هذا المفهوم مقتبس من الأيكولوجيا النباتية، ووجد تطبيقاته العملية في المجهود الذي كان يسعى لإيجاد تبرير علمي لموجات الهجرات الاستيطانية في عهد الاستعمار المباشر الذي شهدته مناطق عدة من العالم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكذا لتبرير الاستيطان بالعالم الجديد، وهكذا فإن المهاجرين الأوائل لأمريكا جاؤوا لاستخلاف الهنود الحمر في إطار التحولات طبيعية. وهذا الاستخلاف ليس جغرافيا وديموغرافيا بل هو حسب بارك استخلاف ثقافي أيضا استبدال نمط عيش بآخر،وبهذا الصدد يدكر بارك بمبدأ شهير عند الإثنوغرافين(وعند دوركايم) أيضا مفاده"أن كل ثقافة بقدر ما تكون بدائية بقدر ما تكون الأرض التي تعيش عليها شاسعة بالنسبة لعدد أفرادها" الشيء الذي يعني"أن تركز السكان في المناطق الحضرية يبدو من وجهة نظر الأيكولوجيا الإنسانية كمؤشر تقدم الحضارات.
وبالإضافة إلى مفهوم الاستخلاف هذا هناك مفهوم آخر ساهم في دراسة الهجرات هو مفهوم التوازن.ولتوضيح استعمالات هذا المفهوم يبدأ بارك بالتذكير بأن عدد من الناس لا يشكلون مجتمعا إلا إذا كانوا منظمين على مستوى المجال، وكانت تربطهم علاقات اجتماعية وميكانيزمات واضحة للضبط والتنافس، تكون نتيجتها الحفاظ على التوازن الطبيعي. وتعتبر الهجرة إحدى تلك الميكانيزمات، ولذلك فالهجرة حسب بارك هي أولا وقبل كل شيء ظاهرة تعمل على إعادة التوازن للمجتمع.فإذا ما أذى تغير ما على المستوى شروط الحياة الإيكولوجية في جماعة ما إلى اختلال التوازن الطبيعي بها، فليس أمام أفرادها من خيار سوى الهجرة أو الفناء.وفي هذا المعنى يقول بارك لما يصل ضغط السكان على الموارد الطبيعية مستوى معينا من الكثافة فإن شيئا ما سيحدث:فإما أن يتشتت السكان ويتحررون من ذلك الضغط عن طريق الهجرة.وإما أن يتحطم التكيف السابق للنوع تماما.إن مثل هذه الحالة ظاهرة طبيعية، ولذلك فهي في نفس الوقت إيجابية وميكانيكية وتعرفها مختلف المجتمعات سواء كانت نباتية أو حيوانية أو إنسانية، ولكن الإنسان يسمو كما يستدرك بارك على النبات والحيوان بالثقافة التي تمنح الإنسان هامشا من التحرر بالنسبة لمحيطه الطبيعي. ولذلك يقول"إن المجتمع الإنساني، على كل حال، وفي صورته الأكثر عقلانية، والأكثر اكتمالا، لا يشكل نظاما إيكولوجيا فقط، ولكنه أيضا نظاما سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا.
ج‌- تقييم المساهمتين:
نلاحظ أن رواد سوسيولوجيا الهجرة قدموا بعض المقاربات السوسيولوجية التي تحمل مفاهيميا من أجل مجابهة الوضع الاجتماعي الذي أنتجه الأجانب في بلد الاستقبال، وهذا ما ساهم في إنتاج كتابات وتحليلات متعلقة بظاهرة الهجرة، وبإشكالياتها المعقدة.فشكلت قيمة علمية بكونها درست مشكلات وسيرورات وعوائق ومظاهر الاندماج واللاندماج للمهاجرين في بلدان الاستقبال.
ومن بين النماذج المدروسة مشاكل السود في الولايات المتحدة الأمريكية، ومشاكل الجريمة la criminalité نسبة للإجرام، على اعتبار أن الجريمة هي كذلك ساهمت في تفسير عملية الهجرة لا سيما وأنها اهتمت بدراسة التغير الاجتماعي والأشياء التي تقاوم أو تعيق هذا التغير كالتحضر والهجرة والحراك السكاني بالإضافة إلى التغيرات الإقتصادية. ففي مدينة شيكاغو حيث استقر مهاجرون من الألمان والإيرلنديين والبولونيين والطليان في مطلع القرن العشرين.وثانيهما هجرة اسبانية وأمريكية وزنجية بعد ثلاثينيات القرن العشرين فقدرت دراسة قدمت عن تلك الفترة وهي عبارة عن أطروحة في كتاب"لفريديريك تراشير"، عدد عصابات شيكاغوا حوالي 25 ألف مراهق وشاب، مما يظهر اختلال النظام الاجتماعي آنذاك، وبحسب تراشير فمن بين العوامل التي أدت إلى هذا الوضع هناك عدة عوامل ومنها:حياة عائلية غير ملائمة، الفقر، محيط فاسد، ديانة غير فعالة، تربية فاشلة، عدم وجود أوقات للراحة, وهذه كلها عوامل تشكل الرحم الذي تنمو فيه العصابات، فحاولت معظم الدراسات معالجة الاختلافات الإثنية والثقافية والعرقية لدى المهاجرين/الموطنين، وما أفرزته من مشاكل وأزمات واختلال في البنية الاجتماعية.والجدير بالذكر فالبحث المعرفي السوسيولوجي عن الهجر.قد لعب دورا هاما في إنجاح سياسات الدولة، وبرامجها لإدماج المهاجرين في سياق الدولة –الأمة التي تحفظ للأقليات المهاجرة وحضورها وتواجدها فما يميز مدرسة شيكاغو هو أن روادها والباحثين بها، وقد درسوا وحللوا الظواهر والمشاكل الاجتماعية في مدينة شيكاغو التي اتخذوها كمختبر اجتماعي في عشرينيات القرن الماضي، فكانت ظاهرة الهجرة وما يرتبط بها كالإطار المتعلق بالتحضر، فكان العمل الميداني المبني على البحوث العلمية بمنهجية كمية وكيفية، وتحليلات لإشكالات معقدة ومختلفة، كالتهميش والإقصاء والعنصرية والجريمة والفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمؤدية لتوثر المجتمعي.

III:مفهوم الهوية الاجتماعية للمهاجر
يشير مفهوم الهوية الاجتماعية والثقافية إلى التراكم الثقافي والاجتماعي المكتسب، لثقافة المهاجر الأصلية بالإضافة غلى الخبرات والتجارب والممارسات والقيم التي يكتسبها في المجتمع الجديد أي بلد الهجرة، فيحاول هذا الأخير الانفتاح على ثقافة البلد الذي استقبله من أجل التكيف والشعور بالانتماء لجماعة إنسانية جديدة يتفاعل معها فظروف الحياة في بلد المهجر تحثم عليه أن يكون على أتم الاستعداد للفهم والتقبل وبناء علاقات اجتماعية من أجل الاندماج في هذا المجتمع الجديد.
وتعتبر الهوية الاجتماعية والثقافية للمهاجر اليوم من المواضيع التي يهتم بها الباحثون لما تشكل من تداعيات اجتماعية،ولانعكاستها السلبية والإيجابية،على بنية المجتمعات،وتغيير سياساتها الاجتماعية والقانونية والاقتصادية. والأهم من ذلك كله هو المعيار الثقافي وما يحدثه من أثر على كلا الجانبين والذي يتجلى بوضوح في هوية وثقافة الأجيال الصاعدة ببلدان الاستقبال.فمغادرة المهاجر لبلده الأصلي تحت وطأة ظروف اقتصادية أو دينية أو اجتماعية لا تعني تخليه عن أصوله الثقافية والهوياتية،فهو يحرص على التزود الدائم من ثقافته الأصلية وكمثال على ذلك حرص الجالية المسلمة المقيمة بالخارج على إحياء طقوس عيد الأضحى، مع سعيها للإنفتاح على الثقافة الغربية،كإتقان اللغة والتفاعل والعيش المشترك مع سكان بلد المهجر وهذا أمر أدى من جانب آخر إلى تهميش اللغة الأم بالنسبة للأجيال الصاعدة، مما سيؤدي مع مرور الوقت إلى إضعاف العلاقة والانتماء للوطن الأم، وبالتالي الذوبان في ثقافة الآخر.
ولابد من الإشارة إلى أن دراسة إشكالية الهوية الاجتماعية والثقافية للمهاجر هو أمر صعب ومعقد وذلك نظرا لاتساع حجم الظاهرة زمكانيا ولتمددها اجتماعيا،ولكونها غير مستقرة فهي ظاهرة ديناميكية متغيرة باستمرار.
وهذا التطور الذي عرفه مفهوم الهوية الاجتماعية للمهاجر رصده عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك الصياد حيث حدد الهوية الاجتماعية للمهاجر في كونها هي مجمل مساره منذ لحظة انطلاقه من بلده الأصلي إلى لحظة وصوله وإقامته ببلد الاستقبال ومن الصعب على المهاجر إضمار إحدى تلك اللحظتين الممتدتين على طول تاريخ حياته ومساره،وهذا ما تحدث عنه الباحث في كتباه الغياب المزدوج، وقد ابتكر الصياد الغياب المزدوج وهو من إحدى المفاهيم التي ركز عليها بكون المهاجر يظل دائم التفكير في العودة إلى بلده الأصلي وخصوصا المنتمي للجيل الأول، ويظل هذا المهاجر في حالة صراع مع ثقافة بلد الإقامة لحين تحقق عودته وبالمقابل هناك من اتخذ القرار بالبقاء والاستقرار لأسباب عدة منها الزواج في بلد الإقامة.وتسعى البلدان المستقبلة إلى إشراك المهاجرين في الحياة الثقافية وضمان تفاعله الإيجابي في بنيات المجتمع الجديد،واضعة قوانين وبرامج ومخصصة ميزانية من أجل تأهيل الكوادر بغية تحقيق الاندماج.
في مواجهة تحديات تفرضها عليهم هذه البلدان التي هاجروا إليها والإمكانيات التي تتيحها لهم وفقا لما تمليه أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية، وفي هذا المجال يشير"الدكتور حميد الهاشمي" إلى أن مدرسة الهوية الجماعية، قد أفضت إلى تطورات عديدة لدى أكثر من الباحثين في علم النفس في أمريكا ومنهم الباحثة جين فيني التي تتبعت دراسة الهوية الإثنية لدى جيل المراهقة من أبناء الأقليات الإثنية، وطورت نموذجا من ثلاث مراحل يجمع بين ما أورده" تاجفل" وبين نظرية ل"إركسون "في علم النفس التطوري،وهذه المراحل في تطور الهوية هي:
• الهوية الإثنية غير المميزة أو المفحوصة والتي تقبل قيم الأغلبية بما فيها السلبية.
• هوية مرحلة البحث والاستكشاف والتي يكون أصحابها قادرين على التمييز بين المواقف الايجابية والسلبية.
• الهوية المتعددة وهي تشكل مرحلة إنجاز أو استعمال بلورة الهوية الإثنية، وهي التي تملك أصحابها الفهم والوعي بما تعنيه الثقافة الكونية ومتطلباتها من أجل التعايش والمشاركة ويبدو من خلال هذا الطرح لمدرسة الهوية الجماعية أنه اختزل مفهوم الهوية في الأثر الذي تحدثه الثقافة والتكيف في دول الاستقبال الذي يحدث أثرا عميقا في تركيبة هوية المهاجر في حين أن عبد المالك الصياد يؤكد من خلال دراساته أنه من الصعب طمس الهوية الأصلية للمهاجر وخصوصا الصنف المنتمي للجيل الأول.
فالهوية الاجتماعية للمهاجر تطرح سؤال التعددية الثقافية، وقد حاولت بلدان الاستقبال جاهدة القيام بالاحتواء الشامل لمجتمع متنوع، ومع التزايد الديموغرافي للمهاجرين ودون إدماجهم كما يلزم بإعطاء أولوية للبعدج الثقافي والهوياتي للهجرة، وخصوصا ضعف الانسجام من الناحية الدينية الثقافية، مما أدى إلى تدهور التماسك الاجتماعي وجسر الهويات القومية، فبرزت إشكالية جديدة وهي العنصرية والتوظيف السياسي للهجرة من طرف جميع المكونات السياسية في مجمل دول أوروبا الغربية وكذلك في أمريكا الشمالية، وذلك ما نشاهده في سياسة "ترامب" الرئيس الأمريكي الجديد الذي جعل من أولوياته معاداة المهاجرين سواء العرب والمسلمين أم القادمين من أمريكا الشمالية وخصوصا من المكسيك.
ومن هنا يجب الحرص على الأخذ بالاعتبار عند الحديث عن الهوية الاجتماعية بمسارات التحول، والاستمرارية من كلا الفضائين، الأصلي والمستقبل، وما يتعلق بالجانب الثقافي والذي يشكل الهويات الاجتماعية ومنظومة القيم للمهاجرين.

لائحة المراجع:
1:عبد القادر القصير، الهجرة من الريف إلى المدن، دراسة ميدانية اجتماعية عن الهجرة من الريف إلى مدن المغرب،دار النهضة العربية للطباعة والنشر،بيروت.
2: عبد الرحمان المالكي، الثقافة والمجال، دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب، منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية الاج،ط،الأولى:2015.
3: عبدالرحمان المالكي، مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة،إفريقيا الشرق،ط،2016.
4: آلان كولون، مدرسة شيكاغو،ترجمة مروان بطش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت،ط،الأولى:2012.
5: إبراهيم حمداوي، مدخل إلى سوسيولوجية الجريمة،مطابع الرباط نت،ط:2017،ص:16.
6 :Abdelmalek Sayad,la double absence .Des illusions aux souffrances de l’immigré. Preface de Pierre Bourdieu.Paris,seuil,1999,448p. ISBN2-020385-96-
7: حميد الهاشمي، جدل الهوية، مؤسسة الحوار الإنساني بلندن، ندوة فكرية،27/11/2012.



#نبيل_العتاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل العتاوي - البنية المفاهيمية لمقاربة موضوع الهجرة