أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية















المزيد.....



ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية


معن الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 1467 - 2006 / 2 / 20 - 09:22
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


استمر مفهوم النص في الهيمنة على الفضاءات المعرفية والنظرية لما بعد البنيوية ومركزا لالياتهم التحليلية والاجرائية. وكما في البنيوية لم يتجاوز معظم اعلام ما بعد البنيوية امثال رولان بارت وجاك لاكاز وجوليا كرتسينا وجاك دريدا اشكاليات النص، بل انهم مضوا بعيدا في اطروحاتهم لتاكيد انغلاق النص على ذاته واستقلاليته على معطيات واقعة المادي بارجائه المختلفة بالفيلسوف التفكيكي جاك دريدا دائما يكرر بانه لا يوجد شي خارج النص. وكان تمايزهم الاساسي عن البنيوية هو خروجهم على بنيتها الشكلية والفعلية الثابتة نحو لا يقينية شكوكية تختفي بطرح الاسئلة وتقويض القناعات التقليدية الراسخة.
كما ان مفهوم الخطاب موجود عند البنيوين وما بعد البنيوين كما هو عند المفكر الفرنسي الكبير ميشيل موكو ايضا. الان ان هناك اختلافا جوهريا في نمط مقارنة تحديد المفهوم والاليات الاجرائية المتبعة في دراسته وتحليله فالخطاب وفن التصوير البنيوي هو بنية ذات طابع شكلي وخلق قادرة على انتاج انماط مختلفة من الفعل. وهم في دراساتهم يسعون نحو الكشف وتفسير طبيعة هذه البنية الادراكية السكونية والتي هي اساس انماط مختلفة من الفعاليات الاجتماعية والثقافية الاربعة. اما ما بعد البنيوين فانهم يتفقون مع البنيوين في تصورهم للخطاب على انه بنية ذات طبيعة مخلقة ومستقلة عن حركية الفعل الاجتماعي داخل التاريخ، الا انهم يفترقون في الهدف. فهدف الدراسات ما بعد البنيوية هو الكشف عن بنية الخطاب الداخلية وتقويضها وتفكيك بديهية تماسك فرضياتها النظرية والمعيارية والتي تحاول ان تطرح نفسها باعتبارها الممكن المعرفي والاجتماعي الوحيد لفهم وتمثيل الواقع.
اما ميشيل موكو فهو يتخذ له مسارا فريدا متمايزا عن البنيوين وما بعد البنيوين في رفضه مبدا استقلالية الخطاب وانغلاقه وتحديد الخطاب بالمستوى الابستمولوجي الثقافي الضيق. فالخطاب عند فوكو هو ليس بنية ادراكية او لا شعورية ذات طابع فكري خالص نمو وتتطور وفق دير الكتيك داخلي خاص فقط، وانما هو اداة ووسيلة لقوة كذلك تتبناه مجموعة افراد داخل المجتمع يتمتعون باهداف ومصالح مشتركة ويمثلون نسيجا اجتماعيا وثقافيا متميزا داخل المجتمع الانساني في لحظة تاريخية محددة وقد استفاد فوكو من افكار الفيلسوف الالماني فردريك بتشه بخصوص ارادة الفعل والقوة في ربطه لمفهوم الخطاب بالقوة داخل المجتمع وسعيه نحو الهيمنة والاقتصاد(1). وسيرا على خطى بتشه الفلسفية يرفض فوكو امكانية وجود معرفة موضوعية بالتاريخ كما انه يرفض وجود حقيقة موضوعية ذات طابع عقلاني. فهو يرى بان الاختلاف بين الخطابات لا يمكن في مدى تمثل احدها للحقيقة الموضوع الموضوعية وانما في الخطابات التي يتمتع بها الخطاب داخل الفضاء الاجتماعي والثقافي(2). ويكتسب الخطاب قوته من خلال قوة وهيمنة الطبقة الاجتماعية او الشريحة التي تتبنى ذلك الخطاب وتماسكه وتطرحه بصنفيه خطابا رسميا. وبذلك يدخل فوكو البعد التاريخي على مفهوم الخطاب ويجعله المرجعية المعرفية الرئيسية التي تقوم بتنظيم وترتيب الممارسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية لمجتمع معين داخل حقبة تاريخية محددة. وقد رصدت الباحثة بايدت كروز ويل ثلاث مراحل رئيسية لتطور كتابات فوكو:
"ونستطيع ان نتتبع تطور فوكو الخاص من خلال كتبه، فقد ركزت هذه الكتب في البداية على الجوانب المنهجية وعلى تاسيس حقب ابستمولوجية للمعرفة، ثم ركزت على اللغويات النظرية، لتنتقل منها-اخيرا- الى التركيز على مراكز القوة في حقبة من حقب المعرفية"(3)
ولا تقتصر على معارضة فوكو لاعلام ما بعد البنيوية على مفهوم القوة وادخال البعد التاريخي على مفهوم الخطاب وكسر اخلاقيته، بل بشكل اساسي في طرحة لفكرة الانقطاعات المعرفية والعق الابتسمولوجية في التطور التاريخي للثقافة والمجتمع الانساني. فالبنيوين وما بعد البنيوين فيوكدون على وجود نمط واحد من انماط البنية ذو طابع شمولي يمكن اختصار جميع اوجه النشاط الاجتماعي في شبكة علاعقته الداخلية، وعلى هذا المفهوم يلتقي ليفير شتراوس وجان ياكبسون وجاك دريدا وجان لاكان وكريستيفا، وهم يموضعون هذه البنية خارج التاريخ ويعطونها استمرارية وتواصل وفوكو بمقولاته حول الانقطاعات المعرفية ينقض امكانية وجود مثل تلك البنية الادراكية الشمولية خارج التاريخ ويطع استمراريتها. انه لا يتحدث عن معرفة شمولية عالمية بل عن (حقبا سادتها معرفة بعينها)(4) ووفقا لفوكو فان كل حقبة في تاريخ الثقافة الانسانية تنتج منظومتها القيمية والمعيارية والمفاهيمية الخاصة، أي بعبارة اخرى تنتج خطابها المعرفي الخاص الذي يحدد جميع الممارسات والفعاليات داخل ذلك المجتمع. ويتم على اساس ذلك الخطاب تقييم ما هو مقبول اجتماعيا وما هو غير مقبول او موسوم (بالانحراف) داخل تلك الحقبة الاجتماعية التاريخية.
وبذلك تجاوز فوكو ايضا المفاهيم الماركسية التقليدية التي تؤمن بوجود خط تطوري تصاعدي للنشاط الحضاري الانساني قائم على فكرة الصراع الطبقي وتفاقم التناقضات الداخلية وصولا الى نموذج مثالي تختفي فيه الصراعات وتتلاشى التناقضات يمثل قمة الخط التطوري للحضارة الانسانية كما انه تجاوز كذلك نظرة الماركسية الى الثقافة كجزء من البنية الفوقية ونمط الانتاج. وقبل فوكو كان الفيلسوف الاجتماعي الالماني ماكس فيبر قد اكد من خلال كتابه (الاخلاق البروتستانية وروح الراسمالية) (1905) على ان:
"التغيرات في المجتمع تستلزم اكثر من العلاقات الاقتصادية المجردة ويرى فيبر ان الافكار الدينية كانت حاسمة في نمو الراسمالية في اوربا(5).
وبذلك فان كل من فيبر وفوكو يتفقان على ان للافكار (حسب مفهوم فيبر) او للخطاب (حسب مفهوم فوكو) القدرة على التاثير على النظام الاقتصادي ووسائل الانتاج وعلى تغييرها بطريقة تتلائم وطبيعة تلك الافكار او الخطابة.
غير اننا لا نستطيع تجاهل تاثير الافكار الماركسية عل فوكو وخصوص في اطروحاته الخاصة (بالخطاب) حيث يشير جان بلومارت في كتابه (الخطاب) الى ان اقتراه مفهوم الخطاب بمفهوم القوة والهيمنة يقودنا حتما الى (الايدلوجيا)(6) وكارل ماركس كان قد تحدث كثيرا في كتاباته المبكرة عن الايديولوجيا ووصفها (بالوعي الزائف) لانها تظل عاجزة عن الوصول الى الحقيقة في مجتمع برجوازي يمارس الاستقطاب الطبقي ويسعى لاستخدام الايديولوجيا كسلاح لحماية مصالحة الطبقية والاقتصادية. وبناء على ذلك يمكن ان يكون فوكو قد تاثر ببعض المقولات الماركسية عند صياغته لمفهوم الخطاب وقد اشارت إديت كروزيل في دراستها لميشي فوكو الى :
"اننا نادراً ما نجد ذكرا لماركس في اعمال فوكو الاولى، وذلك على الرغم من انه استغل افكار ماركس استغلالا ضمنيا في الاعمال اللاحقة بالقدر الذي انطوى تحليله النقدي على الاهتمام بالطبقة والوعي الزائف"(7).
الا ان ذلك لا يجب ان يوحي للقارئ بالتطابق التام بين مفهوم فوكو للخطاب ومفهوم الايديولوجيا عند ماركس. فاذا كان المفهومان يلتقيان في نقطة الوعي الزائف وارادة القوة، فانهما يفترقان في جوانب عديدة ليس اهمها البعد الحضاري والاساس الاجتماعي ومدى التاثير التاريخي لكل منهما.
لقد كان لمقولان فوكو حول الخطاب ومفهوم الحقب الابستمولوجية اثرا كبيرا على الدراسات النقدية والادبية وتاريخ الادب وكان اول من نقل افكار فوكو من الحقل الاجتماعي والثقافي العام الى الحقل الادبي والنقدي هو الناقد الفلسطيني ادوارد سعيد. فقد استفاد من مفهوم الخطاب وتداعياته في دراسة ظاهرة (الاستشراق) باللغة الانكليزية عام (1978) وهو يدرس تلك الظاهرة باعتبارها نوع من انواع الخطاب الذي تبنته المؤسسة الثقافية والسياسية المهيمنة في الغرب لايجاد بعدا ثقافيا واخلاقيا لحركات التوسع العسكري الاستعماري واحتلال اجزاء واسعة من قارة افريقيا وقارة اسيا ويتفق سعيد مع فوكو في ان ان للسياق التاريخي والاجتماعي والحضاري اثرا كبيرا على النص وعلى قدرته في توليد المعنى ويؤكد سعيد على "ان السياق مدروج في النص كجزء لا يتجزاء من قدرته على نقل المعنى وانتاجه"(8) ويذهب الى القول بان:
"للنصوص طرائق للبقاء، لدرجة اننا نجدها دائما في اكثر حالاتها نقاءً، متشابهة مع الظروف والوفق والمكان والمجتمع"(9).
الا ان سعيد يختلف مع فوكو في تصوره لطبيعة هيمنة الخطاب المؤسساتي داخل الثقافة في مجتمع معين وفي لحظة تاريخية محددة، اذ ان سعيد يؤكد في كتاباته عل عدم امكانية وجود هيمنة تامة للخطاب على مجتمع انساني في حقبة تاريخية، ويرى امكانية، بل ضرورة تشكل خطاب ادبي وثقافي مضاد ومعارض للخطاب المؤسساتي الرسمي. وهذا التصور مكنه من استقصاء ودراسة وتحليل الخطابات المابعد كولونيالي ولعل ذا المحور يشكل العمود الفقري لكتابه المهم (الثقافة والامبريالية) والذي صدر في امريكا عام (1993) وفيه يتابع الناقد نفس القضايا التي طرحها كتابه (الاستشراق) بشكل اكثر عمقا وبسياق اوسع.
وقد كان لمفهوم الخطاب عند فوكو ومقولاته حول الحقب الابستمولوجية والانقطاعات المعرفية اثرا كبيرا على ظهور التاريخانية الجديدة في منتصف الثمانينات من القرن الماضي في امريكا.
وشكلت دراسات الدكتور ستيفن غرينبلاث، الاستاذ في دامعة بركلي، حول عصر النهضة الانكليزي بصورة عامة وادب شكسببير بصورة خاصة وتوظيف للمفاهيم الفوكوية في دراسته لتاريخ الادب، بدايات هذا الاتجاه في الجامعات الامريكية.
ويشير غرينبلات مقال له بعنوان (نحو شعرية الثقافة) الى ان مصطلح (التاريخانية الجديدة) لم يكن صياغة واعية مقصودة لوصف منهج محدد في دراسة تاريخ الادب. وانما اقتبس من مقال له ورد كمقدمة لمجموعة دراسات ادبية حول عصر النهضة جمعها وحررها غرينبلات في كتاب. ويوضح ان استخدام هذا المصطلح جاء بصورة عفوية ومن غير سابق دراسة وتخطيط، وانه قد فوجئ بان هذا المصطلح شاع وانتشر واصبح متداولا فس الدراسات الادبية ونظرية الادب للدلالة على اتجاه نظري خاص في دراسة الادب. ويرفض غرينبلات في نفس المقال اعتبار التاريخانية الجديدة اتجاه نظري وينظر اليه على انه ممارسة وتطبيق(10).
وبغض النظر عن اعتقاد مؤسس هذا الاتجاه في دراسة التاريخ الادبي فان التاريخانية الجديدة نهضت منذ عام (1985) كمدرسة نظرية لها اسسها النظرية وتنظيراتها النقدية والفكرية واطروحاتها حول مفهوم التاريخ والتطور التاريخي والثقافة واليات قراءة وتاويل النصوص الادبية. ومن اعلام هذه المدرسة بالاضافة الى غرينبلات لويس مونترو وجوناثان غولدنبرغ وستيفن اورغل وليونارد نيتنهاوس. ود انصبت دراساتهم على ادب عصر النهضة والادب الرومانسي، الا ان تاثير كتاباتهم تجاوز مجرد اعادة النظر بادب تلك الحق التاريخية.
اصبح من الواضح فيما بعد ان ظهور التاريخانية الجديدة، في احد جوانبه على الاقل، كان ردة فعل ضد هيمنة التفكيكية على الجامعات الامريكية ومحاولة لكسر النمط النقدي الذي ابتدا بالتبلور مع ظهور مدرسة (النقد الجديد) في الثلاثينات من القرن العشرين وايتمر مع تاثيرات البنيوية الفرنسية وصولا الى جماعة مدرسة بيل التفكيكيون امثال حارولد بلوم وبول دي جان وهارتمان وميللر.
وتعد تسمية التاريخانة الجديدة تمييزا لها عن التاريخانة التقليدية والتي ظهرت في القرن التاسع عشر في انكلترا وكان من ابرز ممثليها توماس كارليل وماثيو ارنولد. وتمثل المثالية الهيغيلية. وتلتقي التاريخانية الجديدة مع التاريخانية التقليدية على مفهوم (روح العصر). حيث تؤمن المدرستان بان الادب هو جزء من السياق التاريخي العام للمجتمع وبان النصوص الفردية قادرة على امتصاص ذلك السياق والاحتفاظ به كجزء من بينها الداخلية ومن ثم اعادة انتاجه من خلال عمليات القراءة المتكررة. غير ان التاريخانية الجديدة استوعبت العديد من اطروحات ميشيل فوكو وبلورت رؤيتها الخاصة لمجموعة من المفاهيم الاساسية والتي تقاطعت فيها مع التاريخانية التقليدية للقرن التاسع عشر.
حيث رفضت التاريخانية الجديدة مفهوم الحقيقة التاريخية وامكانية استعادتها كما هي من خلال قراءة النصوص الادبية وغير الادبية. ان الحقيقة التاريخية قد تلاشت مع تلاشي اللحظة التاريخية التي ولدت داخلها، ولم يتبقى لنا الا سرديات وروايات عن التاريخ والثقافة. ان تلك التمثلات للحقيقة التاريخية لا يمكن ان توصلنا الى نقطة فهم موضوعي لها لانها هي نفسها (السرديات والمرويات) لم تكتب بصيغة موضوعية بريئة، وانما كتبت وصيغت ضمن خطاب ايدلوجي ومؤسساتي وتشكلت عناصرها الشكلية والمضمونية على وفق اشتراطات ذلك الخطاب وبما يتلائم ومنومته القيمة المعيارية.
كما ان التاريخانية الجديدة لا تنظر للتاريخ على انه كيان موحد ومتجانس يتمتع بخاصية التطور الجدلي التاريخي. وان هذه المدرسة تتبنى مقولة فوكو بخصوص الحقب الابتسمولوجية والانقطاعات المعرفية. وترى بان ما يعرف بالصيغة الثقافية او النمط الثقافي السائد والذي يمكن ان تصف من خلاله حقبة تاريخية ما، ان هو الا تمظهرات الخطاب التي تبنته الطبقة الحاكمة في ذلك العصر وان هناك خطابات اخرى مضادة وغير رسمية تم قمعها واسكاتها وتهميشها. وبالمحصلة فلا وجود لثقافة متجانسة منسجمة مع ذاتها بشكل صافي ونقي.
ومثلما لا توجد حقيقة تاريخية موضوعية ويقينية، لا توجد كذلك قراءة بريئة وموضوعية للتاريخ لاننا انفسنا واقعون تحت تاثير خطاب ثقافتنا السائد، ولابد ان تكون قراءتنا انتقائية ومتحيزة تلتقط بعض الخطابات وتتجاوز خطابات اخرى لا تتلائم ومعتقداتنا. ولا تعتمد صحة مقولة ما على مقدار منطقيتها وتماسكها الداخلي بقدر ما تعتمد على طبيعة السياق الثقافي والتاريخي لها. وغالبا ما يتم تجاوز مقولان علماء الفيزياء والطبيعة في عصور مختلفة لعدم انسجام دلالات تلك النظريات العلمية الصرفه مع الخطاب الثقافي والديني السائد في نفس اللحظة التاريخية. بل ان سلطة الخطاب تتحدى في الكثير من الاحيان الاقصاء والتهميش الرمزي الى العنف والتصفية الجسدية. ودائما يستطيع القائمون على الخطاب المؤسساتي السائد ان يقنعوا الجماهير بن هولاء المعارضون يشكلون خطرا على استقرار وتوازن المجتمع وان قتلهم وتصفيتهم كفيلا بان يعيدان النظام والاستقرار والتوازن سواء اكان دنيويا ام دينيا. وما عمليات القتل والحرق والابادة الجماعية الممتدة من القرون الوسطى والى الوقت الحاضر الا المظهر الفعلي لهذه الفكرة.
وتؤكد التاريخانية الجديدة على الانفتاح على جميع اشكال النصوص داخل الثقافة دون اعطاء صفة التفوق للنصوص الادبية الابداعية فكتابات المحامون والصحف اليومية والاطباء والادب الشعبي كلها تشكل جزء من سياق تاريخي واحد خاضع لسلطة نفس الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني(11).
ان التاريخانية الجديدة في الوقت الذي تعيد الاهتمام بالسياق الثقافي والتاريخي لا تتجاوز النص الادبي ولا تتعامل معه كوثيقة تاريخية مثلما تفعل بعض مدراس تاريخ الادب. حيث ان السياق لا يؤثر فقط في طبيعة المضمون وانما يحدد بشكل حاسم البنية الشكلية للنص الادبي ونمط التشكل اللغوب والدلالي واليات القراءة والتاويل كذلك ان الناقد المنتمي الى هذه المدرسة لم يعد يكتفي بالمقارنة السطحية لظاهر النص، بل يفكك بنية النص سعيا وراء ما يحاول النص اخفاءه والسكوت عنه محاولا رسم صورة تخطيطية لنمط الخطاب الذي يمثل سياق النص قيد البحث. وبذلك تستفيد التاريخانية الجديدة من العمليات الاجرائية والتحليلية والتفكيكية التي طرحتها العديد من المدارس النقدية ضمن فضاء النظرية الادبية مثل البنوية وما بعد البنوية ومدرسة استجابة القارئ والتاويل. غير ان المرجع الرئيسي للصياغات النظرية للتاريخانية الجديدة يبقى ميشيل فوكو، كما سبق الاشارة اليه.
ولا تكتمل الصورة عند الحديث عن فوكو والتاريخانية الجديدة كتيارات نظرية ونقدية هامة في ثقافة ما بعد الحداثة الا بالتطرق لما يعرف بالمادية الثقافية. وذلك لانها استفادت من مقولات فوكو الرئيسية ايضا وعالجت نفس القضايا التي تناولتها التاريخانية الجديدة، ولكن من رواية نظرية مغايرة نوعا ما.
ظهرت المادية الثقافية في بريطانيا من خلال كتابات الناقد الثقافي البريطاني رايموند وليامز. وقد استفاد الباحث جونثان دوليمور مصطلح المادية الثقافية من احدى كتابات وليامز(12). وبالاضافة الى فوكو تشمل المرجعية المعرفية للمادية التاريخية الكتابات الماركسية الجديدة لتيري ايغلين وفلسفة الفرنسي لوي التوسير ومفهوم الكارنفالية عند ميخائيل باختين وبعض مفاهيم المفكر الفرنسي مايكل بيكو لم يتجاوز المادية الثقافية حقائق الصراع الطبقي والتناقضات الثقافية والاجتماعية في المجتمع كما فعلت التاريخانية الحديثة وتكاد تتفق مع الافكار الماركسية حول اهمية البنية الاقتصادية ودورها في نشر اخلاقيات وقيم خاصة والسعي لفرض هيمنتها على النسيج الاجتماعي. ولذلك فهي لم تمارس قطيعة تامة مع الماركسية كما تظاهر بذلك فوكو والتاريخانية الجديدة. وكانت الماركسية التي تبنتها المادية الثقافية هي ماركسية التوسير. وكان توسير قد اصبح نفكرا مرموقا منذ عام (1965) أي بعد فترة طويلة من بروز سارتر وليفي شتراوس، عندما جمعت مقالاته في كتاب (من اجل ماركس (1965) وكتاب (قراءة راس المال) (1968) فاحتل مع روجيه غارودي موقع القيادة الفكرية في الحزب)(13).
ويتفق التوسير مع فوكان حول كرة الانقطاعات المعرفية ويعتمد كل من البنيويين والوظيفيين لنزعتهما الانسانية الشمولية وذلك لان النظريات التي تسلم بالاستمرار التاريخي، او تسلم باستبعاد الممارسات التي فقدت دورها الوظيفي، لا يمكن لها ان تتقبل فكرة التوسير بامكانية قيام خطاب مضاد ضمن الثقافة الواحدة وان همينة الخطاب مرتبطة بالمؤسسات الدينية والاجتماعية والسياسية وهذه المؤسسات تمارس فعل هيمنة عبر الخطاب وتخضع الافراد لسلطتها. ولهذا فان التوسير لا يتفق مع افكار سارتر الوجودية حول (الذات) وحريتها في ممارستها لبناء نفسها داخليا وتحديد خياراتها. فالذات عند التوسير هي عبارة عن معطي اجتماعي يتكل وجدانيا ومعرفيا كمحصلة لمجموعة من القوى المادية داخل المجتمع والتي تعبر عن نفسها من خلال الايديولوجيا وليس منتجة لعمليات سيرورة الوعي الذاتي المستقل.
ومثلما استعاد فوكو من مراس ضمنياً ولم يشير الى ذلك في كتاباته استعار التوسير الكثير من الافكار من المفكر الايطالي الماركسي انطونيو غراشي دون الاشارة الصريحة الى ذلك فقد استخدم التوسير مفهوم (المثقف العضوي) من غراشي ولكنه وسع من المفهوم ليشمل شريحة اجتماعية او حزب سياسي بعدما كانت دلالة المفهوم فروعية عند كراشي(15).
ان كل من التوسير وغراشي قد تميزا لكونهما مفكرين ومناضلين في صفوف الحزب الشيوعي. وقد سعي التوسير عدة مرات للمقاربة بين الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الايطالي وكان كلا منهما ينطلق من مقولة ماركس بان ليس على الفلسلفة ان تفسر العالم وانما عليها ان تغيره. غير ان المادية الثقافية اقتبست الجانب الثقافي من افكار التوسير وغرامشي ولم يكن لها نشاط عملي او حزبي يذكر. فرايموند وليامز كان استاذ الدراما في جامعة كامبرج وقد تنوعت دراساته لتشمل النظرية الثقافية وتاريخ الثقافة والتلفزيون والصحافة والراديو والاعلانات(16).
وفد حقل الخطاب المضاد وجدلية صراع الخطابات داخل الثقافة الواحدة استثمرت المادية الثقافية مقولة باكتين الخاصة (بالكرنفال). فهذا العالم اللغوي والناقد والمفكر الروسي الفذ استطاع ان يقدم منظومة من المفاهيم المتكاملة شملت اللغة والثقافة والتاريخ والادب ومثلت تلك المنظومة الباختينية مخرجا معرفيا للمازق النظري والتاريخي الذي جاء نتيجة الصراع ما بين الشكلية الروسية والماركسية اللينية في الربع الاول من القرن العشرين. الا ان تاثير كتابات باختين في صداها الحقيقي الا من خلال النظريات المابعد بنيوية في نهاية الستينيات من القرن الماضي. فقد عارض باختين التصور البنيوي للغة وفهمها على انها سيرورة مستمرة داخل التاريخ والمجتمع وليس (نظاما) قارا او ساكناً يمكن تحليله بنيويا بذلك يسمح بدخول السياق التاريخي والاجتماعي كعنصر فاعل في عمليات تشكل البنية.
ويؤمن باخين بوجود ثقافة مضادة غير رسمية تتشكل على المستوى الشعبي وتعمل على تفكيك وتقويض اسس الخطاب المؤسساتي الرسمي المهيمن على الثقافة السائدة ويجد هذا العالم في (الكرنفال) ظاهرة بارزة جديرة بالدراسة والتحليل العلميين، فالكرنفال ممارسة قديمة تعود الى بدايات تكون المجتمعات البدائية واستمرت عبر القرون الوسطى وصولا الى المجتمع الحديث. ويعتبر الكرنفال ممارسة شعبية لتحرر فيه الجماهير من سلطة الكنيسة والنظام الملكي والاجتماعي وتنطلق الفعاليات الاحتفالية في وقت محدد من السنة مرتبط بدلالة طقوسية او دينية في الغالب. والكرنفال هو المساحة الزمانية والمكانية المحددة الذي ينطلق فيه الشعبي والعام ليحل محل السلطة بانواعها دون الخوف من خطر العقوبة الاضطهاد. وفي فترة زمنية معينة شكل الكرنفال نوعا من الخطاب المضاد تتم باذن من السلطة المهيمنة وتحت رعايتها الا انها تكشف عن رغبات وامال ومخاوف مترسبة في اللاوعي الجمعي للشعب.
وفي العصر الحديث ما زال هنالك الكثير من الدول الغربية تقييم احتفالات كارنفالية ضخمة في وقت محدد من السنة، مثل كرنفال ريودي دي جانيرو في البرازيل، الا اننا نستطيع ان نلاحظ ان وسائل الاعلام بمختلف انواعها قد حلت محل الكرنفال من حيث الدلالة الوظيفية. فالثقافة الشعبية اصبحت تجد لها متنفساً من خلال النكتة والكاريكاتير والاغاني الشعبية وحتى الكتابة على الجدران في الشوارع العامة. هذا يفسر بالطبع اهتمام الدراسات المادية الثقافية بكل تلك الوسائل ودراستها بنفس الجدية والمنهجية التي تدرس فيها النصوص الادبية والابداعية الراقية. وقد عمدت الباحثة انجيلا مكروبي ف كتابها الموسوم (ما بعد الحداثة والثقافة الشعبية) الى دراسة حركية النشاط الشبابي داخل المجتمع واثره على الثقافة الشعبية والرسمية داخل المجتمع، وذلك من خلال ظواهر متنوعة ومتباينة مثل الرقص والاغاني والملابس المستعملة وحتى النكات البذيئة(18).
كان هدف الباحثة هو محاولة التعرف على نمط من انماط الخطابات المضادة داخل المجتمع وفهم اليات تشكلها وتحديد اثارها. ولم تتناول الباحثة ظاهرة الشباب وممارساتهم من منطلق وعظي اخلاقي او من موقع اعلى سلطويا لغرض الادانة والشجب. لان قراءة متعالية لان تقوم باكثر من الاستجابة لسلطة الخطاب الرسمي بالاقصاء والتهميش.
اختلفت الدراسات المادية الثقافية عن التاريخانية الحديثة في تناولها للعلاقة بين النص والسياق التاريخي والحضاري بينما تركز الدراسات التاريخانية الجديدة على الكشف عن تجليات الخطاب الثقافي والاجتماعي والسياسي في لحظة تاريخية معينة على النص الادبي بالتحديد، تحت المادية الثقافية عن مظاهر تشكل نوع الخطاب المضاد للثقافة الرسمية داخل النص الادبي وغير الادبي، ان اقصاء التاريخانية الجديدة لفكرة الصراع داخل الحقبة الابستمولوجية يعكس نوع من السكونية وتجاوزا لحقيقة الصراعات الطبقية والثقافية القائمة داخل المجتمع. حيث ان سكونية السح الاجتماعي لا يعني بالضرورة عدم وجود تيارات حادة متصارعة في الاعماق.






المراجع:
1- Roman Selden: A Reader’s guide to Contemporary Literary Theory. Harvester Wheatseaf, Second Edition; 1989. P100.
2- Ibid, P102.
3- إديث كروزيل: عصر البنيوية. ترجمة جابر عصفور دار سعاد الصباح. ط1، 1993. ص290.
4- المصدر السابق. ص 291.
5- تيمونز روبيرتس وايميلي مايت: من الحداثة الى العولمة ترجمة سمير الشيخلي. عالم المعرفة. نوفمبر 2004. الجزء الاول. ص105.
6- Jan Blommaert: Discourse. Cambridge University Press. First Published 2005. P158.
7- إديث كروزيل: عصر البنيوية. ص289.
8- رالف ب لوك: العجائية والاستشراق في الموسيقى: مشاكل للناقد الدنيوي. في كتاب: الحق يخاطب القوة. تحرير بول بوفيه. ترجمة د. فاطمة نصر. ط1 . 2001. ص333.
9- المصدر السابق. ص331.
10- Stephen Greenblatt: Towards a Poetics of Culture> In Murrary Krieger, ed: The Aims of Representation. New York. Columbia University Press. 1987.
11- See: Roman Selden: A Reader’s Guide to Contemporary Literary Theory. PP 103-105.
12- Ibid, 105.
13- أديث كروزيل: عصر البنيوية ص 67-68.
14- المصدر السابق: ص82.
15- John Storey: Culture Theory and Popular Culture, An Introduction. Pearson Education Limited, 2001. 3rd edition P105.
16- Ibid, P44.
17- Mihaela Irimia: The Stimulating Difference. Editura Universitatii Bucuresti 1995. P87.
18- See: Amgela Macrobbie: Postmodernism and Popular Culture. Routledge, First Published 1994.



#معن_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قال الحوثيون عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجام ...
- شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول ...
- الجيش الأميركي بدأ المهمة.. حقائق عن الرصيف البحري بنظام -جل ...
- فترة غريبة في السياسة الأميركية
- مسؤول أميركي: واشنطن ستعلن عن شراء أسلحة بقيمة 6 مليارات دول ...
- حرب غزة.. احتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية
- واشنطن تنتقد تراجع الحريات في العراق
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بعد احتجاجات مناهضة لح ...
- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معن الطائي - ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية