أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح23















المزيد.....



تناقضات العهد الجديد المنقح23


مهرائيل هرمينا

الحوار المتمدن-العدد: 5408 - 2017 / 1 / 21 - 11:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تناقضات في روايات ميلاد المسيح وحياته


يمكننا الآن أن نتناول بالدراسة عددا من التناقضات بين روايات الأناجيل فيما يتعلق بحياة يسوع التي تبدأ من لحظة الميلاد. لقد قسمت هذه التناقضات تقسيما اعتباطيا إلى حد ما ليظهر أمامنا نوعان من الاختلافات: اختلافات تصيب المرء بالدهشة باعتبارها ذات أهمية خاصة وأخرى قد تبدو نسبيا غير ذات أهمية أو مثيرة للفضول. مرة أخرى أجد نفسي ملزما بالتشديد على أنني لن أتناول كل أمثلة التناقضات التي يمكن رصدها، فهذا يستدعي تأليف كتاب يفوق كثيرا حجم كتابي هذا.


ميلاد المسيح




لدينا روايتان فحسب عن ميلاد المسيح بين دفتي العهد الجديد وهما يتشكلان من الإصحاحات الافتتاحية لإنجيلي متى ولوقا. أما مرقس ويوحنا فيلتزمان الصمت تجاه هذه المسألة(أعني الميلاد من عذراء وأن بيت لحم هي مسقط رأسه وعناصر أخرى من تلك التي تشتمل عليها قصة ميلاد المسيح)؛ في مرقس ويوحنا يطل علينا يسوع كشابِّ يافع. كما لم تُذْكَرْ تفاصيل ميلاده في أي من كتابات بولس أو كتابات المؤلفين الآخرين لأسفار العهد الجديد. من أجل ذلك ما يعرفه الناس عن قصة عيد الميلاد، أو ما يظنون بالأحرى أنهم يعرفونه عنها، مصدره على وجه الحصر إنجيلا متى ولوقا. والقصة التي يتواصل سردها في شهر ديسمبر من كل عام هي في حقيقة الأمر مزيج من الروايتين اللتين وردتا في هذين الإنجيلين، أي أنها توليفة تجمع تفاصيل ذكرت في الإنجيل الأول مع تفاصيل أخرى من الإنجيل الآخر، والهدف من هذا الصنيع هو خلق إنجيل أكبر يحمل بين طياته رواية محكمة متناغمة. وفي الحقيقة، هذه الروايات بحد ذاتها ليست متناغمة على الإطلاق. فهي لا تقدم فحسب قصصا مختلفة تمام الاختلاف عن كيفية ميلاد يسوع، بل إن بعضا من هذه الاختلافات تبدو متناقضة(والبعض الآخر لا يجتاز اختبار المصداقية التاريخية كذلك، لكن هذه قضية أخرى).

أيسر السبل لتوضيح الاختلافات الواقعة بين الروايات هو أن تضعهما في صورة مختصرة. فالأعداد من 1: 18 إلى 2 : 23 من إنجيل متَّى تسير فيها أحداث الرواية كالتالي: مريم ويوسف مخطوبان وفي سبيلهما للزواج وفي هذا الوقت تُرَى مريم حبلى. يوسف الذي يفترض أسوأ الافتراضات يخطط لتطليقها لكن يوحى إليه في حلم أن مريم حبلى من الروح القدس. ثم يتزوجان ويولد المسيح. بعد ذلك يصل الرجل الحكماء من الشرق مقتفين أثر نجم قاد خطاهم إلى أورشليم حيث يسألون عن مكان ملك اليهود المزمع أن يولد. يستوضح الملك هيرودس الأمر فيخبره العلماء اليهود أن ثمة نبوء بظهور ملك يولد في بيت لحم. يخبر الملك هيرودس الرجال الحكماء الذين وصلوا إلى بيت لحم ومرة أخرى يقودهم نجم، هذا النجم يتوقف فوق البيت الذي يسكنه آل يسوع. يقدم الحكماء هدايا من أجله ثم يحذرون في حلم من العودة إلى الملك هيرودس كما قد طلب منهم، بل ليسلكوا سبيلا آخر في طريق عودتهم إلى وطنهم. هيرودس، لأنه الملك، يصيبه هذا الذي سيولد ليصير ملكا بالرعب فيرسل جنوده ليذبحوا كل طفل ذكر من سن عامين فما يزيد في بيت لحم وما حولها. لكن الملائكة تنذر يوسف في حلم رآه. فيهرب ومريم ومعهما يسوع من المدينة قبل أن تبدأ المذبحة ويسافرون إلى مصر. ويبلغ يوسف فيما بعد وهو في مصر في حلم أن هيرودس قد وافته المنية وأن بمقدورهم العودة. لكنهم حينما يكتشفون أن أرخيلاوس، ابن هيرودس، هو الحاكم على اليهودية، يقرران ألا يعودوا، بل أن يذهبوا عوضا عن ذلك إلى الجهة الشمالية من الجليل، إلى مدينة تدعى الناصرة. وهناك في هذه المدينة يترعرع يسوع.

واحدة من الميزات التي ينفرد بها متَّى، والتي تجعله متميزا عن لوقا هي الطريقة التي يؤكد بها المؤلف باستمرار على أن كثيرا من الحوادث قد وقعت «لكي يتم ما قيل بالأنبياء»(الأعداد 1: 22 ، 2 : 6 ، 2 : 18 ، 2 : 23 ).
هذا يعني أن ميلاد يسوع كان تحقيقا لنبوءات الكتاب المقدس. لم يكن لوقا على الأرجح لينكر هذا، لكنه لاذ بالصمت فيما يتعلق به. فثمة مسألتان لم يتفق عليهما لوقا مع متَّى: أن مريم كانت عذراء وأن يسوع ولد في بيت لحم. لكن المثير للدهشة هو تلك الكيفية بدت عبرها رواية لوقا مختلفة عن رواية متى في الطريقة التي أظهر بها هاتين النقطتين.

النسخة الأكثر إسهابا من رواية الميلاد التي للوقا(لوقا 1 : 4 – 2 : 40) تبدأ برواية مطنبة عن إعلان الملاك للمرأة العاقر إليصابات أنه ستلد يوحنا المعمدان الذي هو، وفقا لما ورد في لوقا، أحد أقرباء يسوع(فإليصابات ومريم تربطهما علاقة قرابة ولوقا هو المؤلف الوحيد في العهد الجديد الذي أشار لهذا). يقول لوقا إن مريم هي عذراء مخطوبة ليوسف. فيما بعد سيظهر ملاك لها ليخبرها أنها، كذلك، ستحبل بالروح القدس وستنجب ابن الله. تقوم مريم بزيارة إليصابات التي مضى على حملها ستة شهور والتي يقفز جنينها في رحمها فرحا بزيارة «أم [الـ]سيد.» فتبدأ مريم في ترنيم الرب بطريقة عفوية. ويولد يوحنا ويبدأ أبوه زكريا بعفوية أيضًا في التنبوء. وبعيد ذلك تبدأ قصة ميلاد يسوع في البروز أمامنا.
ويصدر قرار من قِبَل الإمبراطور الروماني أغسطس بوجوب أن يتقدم كل فرد في الإمبراطورية للاكتتاب العام من أجل التعداد ؛ يقال لنا إن هَذَا الاِكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. وكان على كل فرد أن يعود إلى وطنه الأصلي لكي يتم الاكتتاب. ولأن أجداد يوسف كانوا من بيت لحم(فهو ينحدر من نسل الملك داوود الذي كان قد ولد هنا)، يسافر إلى هناك برفقة مريم خطيبته. وبينما هي هناك تلد يسوع فتقمطه بقطع من الأقمشة وأضجعته في مزود« إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي النزل». وفي أحد الحقول تزور الرعاةَ جمهرة ملائكية تخبرهم أن المسيح قد ولد في بيت لحم؛ فيذهبون ويسجدون للطفل الوليد. بعد ذلك بثمانية أيام يختن يسوع. وبعدها يقدم يسوع إلى الرب في الهيكل ويقدم والداه الأضحية التي عينتها الشريعة الموسوية من أجل هذه المناسبة. وهناك يتعرف عليه باعتباره المسيح أحدُ الرجالِ الأتقياء الصالحين واسمه سمعان وامرأةٌ طاعنة في السن تقية اسمها حنَّة. وعندما أديا، مريم ويوسف، كل ما طلبته منهما شريعة الرب فيما يتعلق بميلاد الابن البكر، يعودان للناصرة حيث سيتربى يسوع.

«شريعة الرب» التي تتكرر الإشارة إليها طوال هذه الرواية هي سفر اللاويين الإصحاح 12 والذي ينص على أن التقدمات التي تساق إلى الهيكل ينبغي تقديمها بعد ميلاد الطفل بثلاثة وثلاثين يوما.
قبل أن أفحص الاختلافات الموجودة بين الروايتين، لابد أن أشير إلى أن الناقد التاريخي يجد صعوبات حقيقية في الروايتين كلتيهما. في متَّى، على سبيل المثال، ماذا يعني قول البشير إن نجما دل الرجال الحكماء وإن هذا النجم يتوقف فوق أورشليم، ثم ينطلق ثانية ويقودهم إلى بيت لحم، ويقف مرة ثانية فوق البيت المقصود بعينه والذي يعيش فيه يسوع؟ أي نوع من النجوم يفعل هذا بالضبط؟
أهو نجم يتحرك حركة بطيئة لدرجة تكفي لأن يقتفي أثره الرجال الحكماء الماشين على أقدامهم أو الممتطين ظهر بعير لهم ثم يتوقف ليبدأ من جديد، ثم يتوقف ثانية؟ وكيف تحديدا يقف النجم فوق بيت؟ أقول عادة لطلابي أن يخرجوا في بعض الليالي التي تكون فيها النجوم ظاهرة وأن يختاروا واحدًا من أكبر النجوم حجما في السماء وأن يتخيلوا أي بيوت الحي الذي يعيشون فيه سيقف فوقه هذا النجم. جلي أن ما يجري سرده هنا هو حادث إعجازي، ومع ذلك فيصعب جدا استيعاب ما كان يقصده المؤلف من هذا الكلام. لا يبدو أنه نجم حقيقي أو نجم مستعر أو مذنب أو أي ظاهرة فلكية يعرفها الناس من قبل.

من حيث التسجيل التاريخي، لابد أن أشير كذلك إلى أنه ليس ثمة رواية في أي مصدر عتيق من أي نوع تحدثت عن الملك هيرودس وقيامه بقتل الأطفال في بيت لحم أو فيما حولها أو في أي مكان آخر. وليس هناك مؤلف آخر، سواء أكان كتابه جزءًا من الكتاب المقدس أو لم يكن، يذكر هذه الحادثة. فهل هي، مثل رواية وفاة يسوع بحسب يوحنا، عنصر في القصة اختلقه متَّى اختلاقا لكي يثبت قضية لاهوتية ما؟

إن المشكلات التاريخية التي نصطدم بها في إنجيل لوقا هي أكثر وضوحا من هذه. فأولا لدينا سجلات جيدة نسبيا لفترة حكم قيصر أغسطس وليس هناك ذكر في أي مكان من أي تسجيل منها لتعداد للسكان يشمل الإمبراطورية جمعاء فرض لإتمامه على جميع الأفراد أن يتقدموا للاكتتاب العام من خلال العودة لأوطانهم الأصلية. وكيف يمكن لأمر كهذا أن يتصوره عقل؟ أعني أن يعود يوسف إلى بيت لحم لأن جده الأعلى داوود كان قد ولد هناك. لقد عاش داوود قبل ميلاد يوسف بألف عام. أعلينا أن نتصور أنه كان على كل مواطن في الإمبراطورية الرومانية أن يعود إلى وطن أجداده الذين عاشوا منذ آلاف السنين؟ لو أن تعدادًا سكانيا يشمل سكان الكرة الأرضية جرى تنظيمه اليوم وكان لزاما علينا أن يعود كل منا إلى المدن التي عاش فيها أجداده منذ ألف سنة، فأين كنت ستذهب؟ هل يمكنك أن تتخيل الارتباك الشامل الذي سيضرب الحياة الإنسانية الذي سيفرضه هذا النوع من الهجرة الكونية؟ وهل يمكنك أن تتصور أن لا يرد لمثل هذا المشروع ذكر في أي جريدة من الجرائد؟ ليس ثمة أي إشارة وحيدة فريدة لأي تعداد في أي مصدر قديم، باستثناء إنجيل لوقا. فلماذا إذن يقول لوقا إنه كان ثمة تعداد؟ ربما تبدو لك الإجابة واضحة وضوح شمس الضحى في كبد السماء. لقد أراد أن يستولد المسيح في بيت لحم مع أنه على يقين من أن الناصرة هي موطنه. لقد فعل متى الشيء ذاته، لكنه فعله بطريقة مختلفة.

والفروق التي بين الروايتين صادمة للغاية. فكل شيء في الواقع كان قد قيل في متَّى لا نجد له ذكرًا في لوقا، وكل القصص التي رواها لوقا، لا نعثر لها على وجود في متَّى. يذكر متَّى الأحلام التي رآها يوسف والتي لا نجد لها مثيلا في لوقا؛ ولوقا يذكر زيارات الملائكة لإليصابات ومريم والتي نجدها غائبة في إنجيل متَّى. أما متى فينفرد بذكر قصة الرجال الحكماء، وذبح هيرودس للأطفال، والرحلة إلى مصر، وتخطي العائلة المقدسة لليهودية في طريق عودتهم إلى الناصرة- كل هذه القصص مفقودة في لوقا. أما لوقا فقد انفرد بذكر ميلاد يوحنا المعمدان والتعداد الذي نظمه قيصر والرحلة إلى بيت لحم والمزود والنُزُل والرعاة والختان وتقديم الطفل يسوع في الهيكل ثم أخيرا العودة إلى الوطن مباشرة- كل هذه الأمور مفقودة في إنجيل متَّى. ربما متى الآن يقصد ببساطة أن يحكي طرفا من القصة ولوقا يرمي إلى سرد بقيتها حتى إذا حل ديسمبر من كل عام يكون لدينا مبررنا في دمج الروايتين لتكون النتيجة موكب عيد الميلاد ترى فيه الرعاة والرجال الحكماء جنبا إلى جنب ومعهما الرحلة من الناصرة والهروب إلى مصر كلاهما. المعضلة تكمن في أنك لو تنظر إلى الروايات عن كثب، فستجد أمامك اختلافات في وجهات النظر وتناقضات يصعب، بل يستحيل، أن تبعث في أرجائها التناغم.

لو أن الأناجيل كانت على صواب حين صرحت بأن ميلاد يسوع حدث في فترة حكم هيرودس، فإن لوقا لا يمكن أن يكون مصيبا هو الآخر حين زعم أن الميلاد قد وقع حينما كان كيرينيوس واليا على سورية. فنحن نعلم من عدد من المصادر التاريخية الأخرى، من بينها تاسيتوس المؤرخ الروماني ويوسيفوس المؤرخ اليهودي إلى جانب العديد من النقوش القديمة، أن كيرينيوس لم يعتل سدة الولاية في سورية قبل عام 6 ميلاديا، أي بعد وفاة هيرودس بعشر سنوات.

إن مقارنة دقيقة بين الروايتين تظهر كذلك وجود تناقضات داخلية بينهما. إحدى طرق استيعاب حقيقة المشكلة تتمثل في توجيه السؤال التالي: وفقا لإنجيل متَّى، أي مدينة على وجه التحديد كانت هي مسقط رأس الزوجين مريم ويوسف؟ إجابتك التلقائية هي أن «الناصرة» هي تلك المدينة. لكن لوقا وحده ينفرد بهذا القول. لا يذكر متى أي شيء بهذا الصدد. فهو يذكر يوسف ومريم للمرة الأولى لا فيما يتصل بالناصرة، بل ببيت لحم. فالحكماء الذين تبعوا النجم( من المفترض أن هذا حدث في وقت ما)، يأتون إلى بيت لحم ليسجدوا ليسوع في بيته. يبدو جليا أن يوسف ومريم يعيشان هنا. فليس هناك أي ذكر لنُزُل أو لمزود في متى. أضف إلى ذلك أن هيرودس حينما يأمر بذبح الأطفال، يصدر أوامره لجنوده بأن يذبحوا كل ذكر من عمر سنتين فما تحت. لابد أن يشير هذا إلى أن يسوع كان قد ولد قبل مدة من ظهور الرجال الحكماء. وإلا فلن يكون لهذه الأوامر أي معنى: فحتى الجنود الرومان كان بمقدورهم يقينا أن يعرفوا أن طفلا لم يتعلم المشي بعد يتسكع حول ملعب من الملاعب ليس طفلا ولد في وقت ما خلال الأسبوع المنصرم. إذن مريم ويوسف ما يزالان منذ شهور أو حتى عام أو أكثر من عام من بعد ميلاد يسوع يعيشان في بيت لحم. فكيف إذن يكون لوقا مصيبا عندما يقول إنهم من الناصرة وقد عادوا إليها فحسب منذ شهر تقريبا بعد ميلاد يسوع؟ فوق ذلك تخطط العائلة، وفقا لمتى، وبعد هروبها إلى مصر ثم عودتها عند هلاك هيرودس، في البداية للعودة إلى اليهودية حيث تقع مدينة بيت لحم. لكنهم يعجزون عن فعل هذا، مع ذلك، لأن أرخيلاوس هو الآن من يعتلي سدة الحكم، ولهذا يرحلون مرة أخرى إلى الناصرة. في رواية متَّى، لا يعود أصلهم من الأساس إلى الناصرة، بل إلى بيت لحم.

والأمر الأكثر وضوحا مع ذلك هو ذلك التناقض المتعلق بالأحداث التي جرت بعيد ميلاد يسوع. ولو كانت رواية متىَّ عن هروب العائلة المقدسة إلى مصر صحيحة تاريخيا، فكيف تكون رواية لوقا عن عودتهم إلى الناصرة بطريقة مباشرة صحيحة من المنظور نفسه؟
هناك مشكلات كبيرة، إذا قصدنا إلى الاختصار، تتعلق بروايات ميلاد يسوع حينما تفحصها من منظور علم النقد التاريخي. وهناك أمور غير جديرة بالتصديق من الناحية التاريخية وتناقضات يمكن بالكاد التأليف بينها. ولماذا نجد هذه التناقضات؟ ربما بدت الإجابة بديهية لبعض القراء. فما ظل النقاد يطرحونه من أقوال لآماد متطاولة عن هذه الروايات الإنجيلية هو أن الروايتين كلتيهما تحاولان التأكيد على القضيتين نفسيهما: أن أم يسوع كانت عذراء وأنه ولد في بيت لحم. ولماذا ولد في بيت لحم؟ لقد كان متى يعلم من أين تؤكل الكتف: فهناك نبوءة في سفر ميخا في العهد القديم تنص على ظهور مخلِّص في بيت لحم. فماذا كان هؤلاء الكتاب سيفعلون وهم يعلمون حقيقة أنه كان معروف على نطاق واسع أن مسقط رأس عائلة يسوع هي الناصرة؟ لقد كان لزاما عليهم أن يوجدوا رواية تفسر الطريقة التي جاءت بيسوع من الناصرة الواقعة جغرافيا في الجليل تلك المدينة المحدودة جدا من ناحية المساحة الجغرافية والتي لم يسمع بها أحد من قبل، مع أنه في الأساس كان قد ولد في بيت لحم موطن الملك داود الجد الملكي للمسيح. ولكي يرسخ متى ولوقا الاعتقاد بأن يسوع قد ولد في بيت لحم ورُبِّي في الناصرة، يجد كل منهما على حدى حلولا لا شك في أنها تطعن في مصداقية كل منهما في الصميم. لكن المؤرخ بمقدوره أن يكتشف المشكلات التي تشتمل عليها كل رواية على حدى، والقارئ الواعي بمستطاعه أن يرى أنه عندما نوضع هذه الروايات جنبا إلى جنب( أي تقرأ قراءة أفقية)، تبدو كل واحدة منهما مخالفة للأخرى حول العديد من القضايا المحورية.لفقرات التي تضم سلاسل النسب ليست دائما موضع تفضيل لدى قراء الكتاب المقدس. يبدي تلامذتي في كثير من الأحيان تذمرهم حينما أجبرهم على قراءة سلسلتي نسب يسوع في إنجيلي متى ولوقا. فإذا رأيت أنهم يعتبرون أمري لهم بالقيام بهذا شيئا سيئا، أسدي لهم نصيحة بأن يقرأوا سفر أخبار الأيام الأول. فمساحة هذا السفر تغطي تسعة إصحاحات كاملة، إصحاحا وراء آخر. فعند المقارنة، تبدو سلسلتا نسب يسوع في إنجيلي لوقا ومتى أقصر طولا وألطف وقعا. لكن المشكلة هي فيما بينهما من اختلافات.
مرة أخرى أكرر أن متى ولوقا هما إنجيلانا الوحيدان اللذان يمنحاننا نسب عائلة يسوع. هذا في حد ذاته يخلق مشكلة محيرة. فكما رأينا يصر متى ولوقا كلاهما عن قصد على أن أم يسوع كانت عذراء: لقد وجدت حبلى من الروح القدس، ويوسف ليس أبا ليسوع. لكن هذا يخلق مشكلة بديهية. إذا لم تكن ثمة علاقة دم تربط يسوع بيوسف ، فلماذا يتعقب متى ولوقا نسب يسوع عبر يوسف بهذا القدر من العناية؟ هذا سؤال لا يجيب عليه أي من المؤلفين: فالروايتان كلتاهما يعطياننا نسبا لا يمكن أن يكون ليسوع، حيث إن نسبه الحقيقي وعلاقة الدم الوحيدة التي له لا تمر إلا عبر مريم التي لا يذكر أي منهما أي معلومات عن نسبها.
بعيدا عن هذه المشكلة التي تتسم بعموميتها، هناك اختلافات عديدة وبديهية في وضوحها بين النسبين الواردين في الإصحاح الأول من متَّى والثالث من لوقا. بعضها لا يمثل تناقضا بحد ذاته؛ بل مجرد اختلافات عادية. فمتَّى، على سبيل المثال، يعطينا سلسلة النسب في مستهل إنجيله، أعني في أعداد إنجيله الأولى؛ أما لوقا فيعطينا سلسلته بعد معمودية يسوع في الإصحاح الثالث( الذي هو موضع شاذ لأن تذكر فيه سلسلة نسب، فالعهد بسلاسل النسب أن تكون ذات علاقة بيوم ميلادك، وليس بيوم معموديتك وأنت في سن الثلاثين. لكن ربما كان للوقا أسبابه في أن يضعها في هذا المكان الذي وضعها فيه). فأما النسب كما يورده متَّى فيتعقب نسب يوسف عبر الملك داوود جد المسيح وصولا إلى إبراهيم أب اليهود. وأما النسب اللوقاوي فيعود لما هو أبعد من ذلك متعقبا السلسلة حتى آدم أبي الجنس البشري.

لي عمة متخصصة في علم الأنساب تتفاخر بأنها تعقبت نسب عائلتنا ليصل بها النسب إلى أحد المسافرين على متن السفينة«مايفلاور». مع ذلك فما لدينا هنا هو نسب يعود إلى أيام آدم، آدم وحواء أبا البشرية. يا له من نسب مثير للدهشة!

ربما يتساءل المرء عما قد يدفع المؤلفين لوضع نهايتين مختلفتين لسلسلتي النسب في إنجيليهما. عادة ما يظن البعض أن متَّى، ذلك الإنجيل الذي يعنيه كثيرا إظهار انتماء يسوع لليهودية، يريد أن يشدد على علاقةيسوع بملك اليهود الأعظم داوود، وبأبي اليهود إبراهيم. أما لوقا، في الجهة الأخرى، فهو معنيٌّ على نحو أكبر بإظهار يسوع كصاحب رسالة خلاص لكل البشرية، اليهودي منهم والأممي، وهو ما نراه في سفر أعمالالرسل الذي يمثل الجزء الثاني من إنجيل لوقا والذي نرى فيه الأمم وقد قُبِلُوا كأعضاء في الكنيسة. ولذلك يظهر لوقا يسوع كقريب لنا جميعا من جهة آدم.
اختلاف آخر بين سلسلتي النسب يتمثل في أن متى في بداية إنجيله يبتدئ بإبراهيم ثم ينزل بالنسب جيلا وراء آخر وصولا إلى يوسف؛ أما لوقا فيتجه اتجاها مغايرا فيبدأ بيوسف ويصعد به جيلا بعد آخر حتى يعودإلى آدم.

هذه إذن ببساطة هي بعض الاختلافات بين الروايتين. المشكلة الحقيقية التي تطرحها هذه الاختلافات، مع ذلك، هو أن النسبين في الواقع متباينين. وأيسر السبل لتبيُّنِ هذه الفروق هو أن نوجه السؤال البسيط التالي: من أبو يوسف في كل نسب على حدى، ومن جدُّه من جهة أبيه ومن أبو جده؟ في متى يبتدئ النسب بيوسف فيعقوب فمتَّان فأليعازر فأليود ويستمر هكذا موغلا فيما مضى من زمان. أما في لوقا فيسير النسب منيوسف إلى هالي ومنه لمتثات ثم إلى لاوي فملاخي. ثم يصيرا متشابهين في النهاية حينما يصلان إلى الملك داوود(مع أن هناك مشكلات أخرى كما سنرى)، لكنهما يعودا فيضطربان من داوود وحتى يوسف.

كيف يحل المرء هذه المعضلة؟ ثمة افتراض نمطي يتمثل في القول بأن النسب الذي أورده متى هو نسب يوسف حيث يركز فيه متى على يوسف في روايات الميلاد تركيزا أكبر، وفي القول إن النسب الذي للوقا هونسب مريم التي يركز عليها لوقا أكثر من تركيزه على يوسف في روايته عن الميلاد. وهو حل جذاب إلا أنه يتضمن عيبا قاتلا. فلوقا يشير بوضوح إلى أن نسب الأسرة هو ذاك الذي ليوسف، وليس لمريم(لوقا 1 : 23 ؛ وكذلك متَّى 1 : 16 )[1]

وهناك مشكلات أخرى. تعد سلسلة النسب التي ذكرها متى هي، من بعض النواحي، الأكثر لفتا للنظر لأنه يشدد فيها على الأهمية العددية لنسب يسوع. فمن إبراهيم وصولا لداوود، ملك إسرائيل الأعظم، هناك أربعةعشر جيلا؛ ومن داوود وإلى دمار مملكة يهوذا على يد البابليين، أو أعظم كارثة في تاريخ شعب إسرائيل، هناك أربعة عشر جيلا مثلها؛ ومن الكارثة البابلية حتى ميلاد يسوع هناك أربعة عشر جيلا(1 : 17 ). أربعةعشر وأربعة عشر وأربعة عشر ثالثة: وكأن الله في الغالب هو من خطط أن يسير الأمر على هذا المنوال. وفي الحقيقة هذا ما يعنيه متى بالفعل. فبعد كل أربعة عشر جيلا يقع حادث ذو شأن. وهذا يعني بالضرورة أنيسوع، أو الجيل الرابع عشر، هو شخص له عند الله منزلة عظيمة.

المشكلة هي أن الرسم البياني المكون من «ثلاثة أربعة عشر» ليس دقيقا. فلو أنك قرأت ما بين الأسماء بعناية، سترى أن المجموعة الثالثة منها لا تحتوي في الحقيقة سوى على ثلاثة عشر اسما فحسب. أضف إلى ذلك أنه من اليسير نسبيا أن تخضع النسب الوارد في متى للمقارنة مع المصدر الذي استقى منه متى نسبه والذي هو الكتاب المقدس العبري نفسه الذي كان مصدرا استقى منه متّى الأسماء الواردة في سلسلة نسبه. فإذافعلنا هذا، يتضح لنا أن متى قد حذف بعض الأسماء من الأجيال الأربعة عشر من داوود وحتى الكارثة البابلية. ففي العدد 1 : 8 يشير متى إلى يورام باعتباره أبا لعُزِّيا. لكننا نعرف من سفر أخبار الأيام الأول الإصحاحالثالث والأعداد 10 – 12 أن يورام لم يكن أباه، بل جد جده.(8) أي أن متَّى، بطريقة أخرى، أسقط ثلاثة أجيال من سلسلة نسبه. ولماذا فعل ذلك؟ لابد أن جواب هذا السؤال بديهي, فلو أن متى ذكر الأجيال جميعها، فلنيكون بوسعه أن يزعم أن شيئا ذا بال وقع على رأس كل أربعة عشر جيلا.

مع ذلك فلماذا يشدد متى على العدد أربعة عشر تحديدًا؟ لماذا ليس سبعة عشر أو أحد عشر؟ ذكر العلماء عددا من التفسيرات عبر السنين. فبعضهم أشار إلى أن العدد سبعة في الكتاب المقدس هو الرقم المثالي. فإنصح هذا، فما علاقة هذا بالرقم أربعة عشر؟ علاقته به إنه يمثل ضعف الرقم سبعة. ومن هنا فهذا يحعل نسب المسيح نسبا «مثاليا على نحو مضاعف». نظرية أخرى، وربما تبدو أكثر إقناعا، هو أن النسب قد صيغتحديدا لكي يشدد على أن يسوع هو المسيا. فالمسيا لابد أن يكون «ابنا لداوود»، أي منحدرا من نسل أعظم ملوك بني إسرائيل. من المهم أن نعرف في هذا المقام أن الحروف الأبجدية في اللغات القديمة كانت لهاوظيفة أخرى وهي أنها حروف وفي الوقت نفسه أرقام، ولذلك فالحرف «أَلِف» العبري هو نفسه الرقم واحد كذلك، وأما الحرف الثاني، «بيت»، فيساوي الرقم اثنين، والثالث، «جيمل»، يساوي الرقم 3 وهلم جرًّا. وهناك أمر آخر فيما يتعلق بالعبرية القديمة وهو أنها لم تكن تستعمل حروف العلة. ولهذا فالاسم داوود كان يجري كتابته كالتالي: «د.ڤ.د». فأما الحرف «د»(واسمه «داليت») فيساوي الرقم 4، وأما الحرف«ڤ»(وينطق « ڤاڤ») فيساوي العدد 6 . فإذا جمعت الحروف المكونة لاسم داوود، ستجدها مساوية للعدد 14 . ولعل هذا هو السبب الذي أراد متى من أجله أن يكون ثمَّة في نسب يسوع المسيح ابن داوود ثلاث مجموعات كل مجموعة منها تتضمن أربعة عشر جيلا.

لسوء الحظ، كان عليه، لكي يجعل الأرقام تؤتي أكلها وتحقق الغرض المرجو منها، أن يحذف بعض الأسماء. ربما سأشير كذلك إلى أن متى لو كان محقا في رسمه البياني المشتمل على ثلاثة «أربعة عشر» اسما، كناسنجد 42 اسما بين إبراهيم ويسوع. أما النسب عند لوقا، مع ذلك، فيمنحنا 57 اسما. فهذان إذن نسبان مختلفان.

وما هو السبب في هذا التناقض؟ السبب أن كل مؤلف من هذين الاثنين كان له غرضه من إقحام سلسلة النسب في إنجيله- أو كان عندهما بالأحرى العديد من الأغراض: أعني إبراز ما بين يسوع وأبي اليهود إبراهيم(وأخص متى في هذا المقام بالذكر) وداوود أعظم ملوك إسرائيل(عند متَّى كذلك) ، والجنس البشري ككل (عند لوقا)من نسب وصلة. من المحتمل جدا أن المؤلفين كانا ينقلان عن غيرهما سلسلتي النسب هاتين، أو ربما اختلقاهما اختلاقا. وكلاهما بطبيعة الحال لم يكن ليدور بمخيلته أن ما يكتبه سيعين كجزء من «العهد الجديد» أو أن نقاد المنهج التاريخي الذين سيولدون بعد ذلك بألفي عام سيعقدون مقارنة دقيقة بين وبين غيره. ويقينا لم يستشر أحد الرجلين صاحبه في سبيل الخروج بنص متناغم ومتوافق لما ذكراه من حقائق. فكل واحد منهما ذكر روايته بأمثل الطرق التي استطاعها، لكن روايتيهما انتهى بهما الحال إلى أن صارا منضاربين.
تناقضات أخرى من حياة يسوع
بمقدوري الآن، بما أننا قد تناولنا بشيء من التفصيل بعضًا من التناقضات الملفتة للنظر بين الروايات الإنجيلية، أن أتطرق إلى بعضها الآخر تطرقا سريعا. في أغلب الحالات سيكون بمقدوركم أن تفحصوا هذه التناقضات بأنفسكم إذا أحببتم. ويمكنكم أن تعثروا على وفرة من النماذج الأخرى، إذا اتخذتم القراءة الأفقية ببساطة وسيلتكم إلى قراءة ما جاء في الأناجيل قصة وراء أخرى.
يمكننا أن نتناول بعضا من هذه التناقضات عبر إثارة عدد من الأسئلة البسيطة. سأقتصر في هذا المقام على ذكر خمسة نماذج.
ماذا قال الصوت الذي سُمِعَ أثناء معمودية المسيح؟
إجابة هذا السؤال تعتمد على هوية الرواية التي تقرؤها. لم ينفرد يوحنا بذكر قصة المعمودية، بل إننا بالفعل نجدها في روايات متى ومرقس ولوقا، وجميعها تتشابه تشابها كبيرًا. وما يلي هو ما يتوقع المرء أن يجده: أدرك العلماء منذ زمن طويل أن متَّى ولوقا قد استقيا عددًا من قصصهم من إنجيل مرقس والذي يعد واحدًا من مصادرهم الرئيسة الهامة؛ وهنا يكمن السبب في توفر حالات كثيرة من التوافق الحرفي بينهم. ومع ذلك فثمة اختلافات بينهم سببها أن متى ولوقا قد أدخلا تغييرات في الصياغة على مصدرهما في عدد من المواضع. عموما، في الروايات الثلاث التي حكت حادثة معمودية يسوع، حينما يصعد من الماء وتنفتح السماء، ينزل الروح على هيئة حمامة ويأتي صوت من جهة السماء. ولكن ماذا يقول هذا الصوت؟ أما متى، فيقول الصوت فيه : «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ.» يبدو الصوت وكأنه يتحدث إلى الناس الواقفين حول يسوع،أو ربما إلى يوحنا المعمدان ليخبرهم بحقيقة شخصية يسوع. أما في مرقس فيقول الصوت:«أَنْتَ ابْنِي الْذِيْ بِهِ سُرِرْتُ.» في هذه الحالة يبدو الصوت وكأنه يتحدث مباشرة إلى يسوع، مخبرًا إياه، أو مؤكدًا له، بحقيقة ذاته. في لوقا لدينا شيء مختلف(هذا الاختلاف معقد قليلا لأن المخطوطات المختلفة لإنجيل لوقا تضع على لسان الصوت النازل كلمات مختلفة. في هذا الكتاب سأقتصر على إيراد الصيغة الأصلية للعدد على حالتها التي هي عليها كما نجدها في بعض مخطوطات الكتاب المقدس الأقدم عمرا، على الرغم من أنها مفقودة في غالبية الترجمات الإنجليزية).(9) ها هنا يقول الصوت مقتبسا كلمات «مزمور 2 : 7» :«أنت ابني، أنااليوم ولدتك»(3 : 22 ).
كل رواية تحاول أن تحقق من الصوت شيئا يختلف عن مثيله في الروايات الأخرى. أعني أن الكلمات المختلفة تعني أشياء مختلفة وتقوم بوظائف مختلفة: ففي متَّى تقوم الكلمات بتعريف يوحنا والجماهير بهوية يسوع؛ أما في مرقس فدورها هو تأكيد هوية يسوع لذاته تأكيدًا مباشرًا؛ وفي لوقا تعلن هذه الكلمات أن المعمودية جعلته ابن الله الفريد(أو لعلها صدقت على ذلك وأكدته؟) ولكن يبقى السؤال مطروحا: ماذا قال الصوت فعليًّا؟ مسيحيو العصور المبكرة أشعرتهم هذه الإشكالية بالحيرة إلى درجة أن إنجيلا متأخرًا يدعى إنجيل الأبيونيين أوجد للمشكلة حلا بإشارته إلى أن الصوت جاء من السماء في ثلاثة مواقف متفرقة. فقد أورد هذاالإنجيل ابتداءً كلمات يسوع كما رواها مرقس، والتي جرى توجيه الخطاب فيها إلى يسوع؛ ثم ذكرت الكلمات التي رواها متَّى مخاطبة ليوحنا المعمدان والحشود؛ وأخيرا يذكر الكلمات كما حكاها لوقا. مع ذلك، إذا لم يتوفر شخص تسيطر عليه الرغبة في إعادة كتابة الأناجيل الثلاثة من جديد، فالحقيقة هو أن هذه الأناجيل الثلاثة تشير إلى أن الصوت نطق أشياءً مختلفة.
أين كان يسوع في اليوم التالي لحادثة المعمودية؟
أما الأناجيل الإزائية، متَّى ولوقا ومرقس، فيغادر فيها يسوع بعد إجرائه للمعمودية إلى البرية حيث سيعرضه الشيطان للتجربة.(10) مرقس تحديدا هو الأكثر وضوحا في هذا الشأن لأنه يصرح، بعد أن يحكي حادثةالمعمودية، أن يسوع غادرهم سريعا إلى البرية. وماذا عن إنجيل يوحنا؟ ليس في يوحنا ذكر ليسوع وتعرضه للإغواء على يد الشيطان في البرية. ففي اليوم التالي لمعاينة يوحنا المعمدان للروح نازلا على يسوع في هيئة حمامة أثناء المعمودية(يوحنا 1 : 29 – 34 )، يرى يسوع مرة أخرى ويعلن أنه حمل الله( كان يوحنا واضحا في هذه النقطة فيصرح بأن هذا قد وقع في «اليوم التالي»). وحينئذ يبدأ يسوع في جمع تلامذته حوله(1 : 35 – 52 ) ويستهل خدمته العلنية بمعجزة أجراها حوَّل فيها الماء إلى نبيذ( 2 : 1 – 11 ). إذن أين كان يسوع في اليوم التالي للمعمودية؟ يعتمد هذا على أي الأناجيل تقرأ.
هل كانت ابنة يايرس ميتة بالفعل؟
لكي أشرح ما أبغي شرحه من أن اختلافات غير ذات أهمية ولا يمكن التوفيق بينها يمكننا أن نعثر عليها بين سطور الأناجيل، اخترت فقط نموذجا وحيدا بسيطا من خدمة يسوع الشفائية. في مرقس، إنجيلنا الأقدم،يقترب زعيم من زعماء الهيكل يسمى يايرس إلى يسوع ويتوسل إليه أن يسرع معه إلى بيته، لأن ابنته مريضة جدا وهو يريد من يسوع أن يأتي ليشفيها. وقبل أن يبدأا في التحرك في طريقهما، تعترض امرأةٌ نازفة طريقه فيعالجها. ثم يصل عدد من الخدم في منزل يايرس ليخبروه أن الوقت قد فات وأن الفتاة قد ماتت. فيخبرهم يسوع ألا يجزعوا؛ ويذهب إلى البيت ويحييها من بين الأموات(مرقس 5 : 18 0 26 )، ولكن مع وجود اختلاف هام في القصة. في رواية مرقس للقصة يأتي يايرس إلى يسوع لأن ابنته كانت قد ماتت بالفعل. وهو يريد أن يأتي يسوع لا لكي يعالجها، بل ليقيمها بالفعل من بين الأموات. وهو ما يفعله يسوع بالفعل. ربما يبدو الاختلاف هنا تافها، لكنه من الممكن أن يرى كاختلاف بالغ الأهمية، فهو في الأخير مسألة حياة أو موت.
من مع يسوع ومن ضده؟
بعض أقوال المسيح تترجم بطرق متشابهة على الرغم من ما بينها من تناقض. واحدة من النماذج التي أفضلها لهذه الظاهرة هما المقولتان المتصلتان في إنجيلي متَّى(12 : 30 ) و مرقس(9 : 40 ). في متى يعلن يسوع أنه:«من ليس معي فهو ضدي.» أما في مرقس، فيقول:«من ليس ضدنا فهو معنا.» فهل قال يسوع الجملتين معا؟ وهل بمقدوره أن يقصد المعنيين معًا؟ وكيف للمقولتين أن تكونا صحيحتين في الآن نفسه؟ أم هل يمكن أن يكون مؤلف أحد الإنجيلين قد وضع مقولته الخاصة بدلا من المقولة الأخرى؟
لكم من الزمان دامت خدمة يسوع التبشيرية؟
إنجيلنا الأقدم، إنجيل مرقس، لم يشر صراحة إلى الفترة الزمنية التي استغرقتها خدمة يسوع العلنية، لكنه أعطانا بعض الملاحظات الموحية. ففي مستهل خدمة يسوع التبشرية، في الإصحاح الثاني، يخترق تلاميذه حقول القمح ويأكلون من سنابلها، وهو ما أثار الفريسيين الذي يعتقدون أنهم يدنسون حرمة يوم السبت. لابد أن هذه الحادثة قد وقعت إذن في فصل الخريف الذي هو وقت الحصاد. بعد هذه الحادثة يتحرك خط سيرالأحداث بخطوات سريعة: واحدة من الكلمات التي يفضلها مرقس هي كلمة «εὐθύς» والتي تترجم بـ«وللوقت» أو«وفي التو»- «وللوقت» فعل يسوع كذا، أو «للوقت» فعل كذا. قريبا من الإصحاح 11، وبعد كثيرمن«وللوقت» نصل إلى الأسبوع الأخير من حياة يسوع وهو الموافق لعيد الفصح في أورشليم. فأما الفصح، فموعده في الربيع والانطباع الواضح الذي نخرج به من هذا هو أن خدمة يسوع التبشيرية قد استمرت عددًا قليلا من الشهور وهي المدة الواقعة بين موسم الحصاد وبين وقت الربيع.
شهورا قليلة؟! ألا يعلم الجميع أن فترة الخدمة اليسوعية قد استمرت لثلاث سنوات؟
في الواقع هذه الفكرة الخاصة بأن فترة الخدمة كانت مدتها ثلاث سنوات لا نجدها في الأناجيل المتوازية –مرقس ومتى ولوقا- بل في إنجيل يوحنا، أي الإنجيل الأخير. في ثلاثة مناسبات منفصلة يشير يوحنا إلى احتفالات متفرقة بيوم الفصح وبما أن هذا الاحتفالات يقام كل منها في عام منفصل، فهذا ربما يشير إلى أن خدمة يسوع التبشيرية لا مفر من أنها قد دامت على الأقل لأكثر من عامين، ولا تزيد عن الثلاثة. ولكن أيها هو المقصود، ستة أشهر أم ثلاثة أعوام ؟ كنت سأقول إن هذه القضية لا تمثل من الناحية الفنية تناقضا من التناقضات، لكن من العسير أن يعرف المرء ماذا عليه أن يفهم من كل هذه التعبيرات التي يذكر فيها مرقس كلمته المفضلة«للوقت» لو لم يكن يقصد معناها حقيقةً.
بمقدور القارئ أن يعثر على تناقضات أخرى في الروايات التي تتحدث عن فترة الخدمة التبشيرية ليسوع إذا كان ميالا إلى تعقب أثر هذه التناقضات جميعا. مع ذلك، أرى أن نتنكب هذا السبيل ، فأنا أريد في هذه اللحظة أن نمضي قدما لنتحدث عن التناقضات التي بمقدورنا ملاحظتها في روايات عيد الفصح- وهي الروايات التي تتحدث عن موت يسوع وقيامته. بعض من هذه التناقضات هي الأخرى ذات أهمية بالغة.
تناقضات في روايات الفصح
تحدثنا من قبل بالفعل عن تناقضين اثنين بين إنجيلي مرقس ويوحنا فيما يتعلق بروايات الفصح وهما الحديث عن تطهير الهيكل(مرقس 11؛ ويوحنا 2 ) وعن يوم وفاة يسوع ووقت الوفاة(مرقس 14 – 15 ؛ويوحنا 18 – 19 ). إلا أن هذين ليسا وحدهما ما تشتمل عليه أناجيلنا من تناقضات فيما يتعلق بروايات موت يسوع وقيامته. سأتحدث في هذا الباب عن ثلاث اختلافات مهمة إلى حدٍّ ما ثم سأذكر خلاصة مختصرة لعددمن النماذج الأخرى.
المحاكمة في حضرة بيلاطس
نبدأ بعقد مقارنة بين مرقس، أقدم الأناجيل القانونية التي نملكها، ويوحنا آخرها. في الروايتين كلتيهما يقف يسوع أمام الوالي الروماني بيلاطس البنطي ويحكم عليه بالموت لإطلاقه على نفسه لقب «ملكاليهود». مع ذلك فها هنا بعض الفروق بالغة الطرافة بين روايات مرقس ويوحنا عن مسار المحاكمة.
تتسم رواية مرقس بكونها قصيرة ودقيقة. ففي الصباح الباكر يحضر زعماء اليهودي يسوع أمام بيلاطس الذي يسأله ما إذا كان هو بالفعل ملك اليهود. يجيبه يسوع بكلمتين لا ثالث لهما:« su legeis» أي:أَنْتَ تَقُولُ.» لقد اتهمه الكهنة اليهود بأشياء كثر، لكن بيلاطس يصاب بالدهشة جراء سكوت يسوع عن الدفاع عن نفسه. ثم ثقال لنا أن بيلاطس كان له عادة أن يطلق سجينا للشعب اليهودي أثناء عيد الفصح ويسأل بيلاطس الجموع المحتشدة ما إذا كانوا يريدون منه أن يطلق سراح «ملك اليهود.» فيتدخل الكاهن الأكبر ليستثير الجموع على أن يطلبوا فك أسر مجرم يدعى باراباس بدلا من إطلاق يسوع. فيسأل بيلاطس الجماهير عن العقوبة التي يريدون إنزالها بيسوع: ما هي؟ فيجيبونه قائلين أنه مستوجب للموت صلبا. و«لكي يرضي الجموع» يفعل بيلاطس ما طلبوه منه: فيطلق باراباس ويأمر بجلد يسوع ويسلمه للجنودليصلبوه.
لو كان شاهدنا الوحيد على وقائع المحاكمة هو الرواية المرقسية، لكان الانطباع الذي سيترسخ في أذهاننا هو أنها كانت محاكمة سريعة جدا؛ وأن يسوع لم يقل تقريبا أي شئ(كلمتين تحديدًا)؛ وأن بيلاطس والزعماء اليهود الذين لفقوا التهم ليسوع ومعهم الجموع ويسوع نفسه كانوا جميعا في مكان واحد يتبادلون وجهات النظر.
لكن الأعداد (18 : 28 – 19 : 14 ) من إنجيل يوحنا ترد فيها رواية أخرى مختلفة تماما. ففي يوحنا يأخذ الزعماء اليهود يسوع إلى مقر بيلاطس لكنهم يرفضون أن يدخلوا إلى مقر الولاية لأنهم يريدون «ألا يتنجسوا» حتى يستطيعوا «أن يأكلوا الفصح» هذا المساء (18 : 28 ؛ تذكروا أنهم، وفقا لمرقس، كانوا قد تناولوا بالفعل وجبة الفصح في الليلة السابقة). لم يقل لنا يوحنا لماذا سيتنجسون إذا دخلوا إلى مقر الولاية. ألأنه كان مكانا وثنيا؟ أم لأنه بني على مقبرة؟ أم لشيء آخر؟ لكن المحصلة هي أن وقائع المحاكمة تتم بالأحرى على نحو غريب. فيسوع داخل مقر الولاية مع بيلاطس، والزعماء اليهود الذين يتهمونه بالخارج ومعهم الحشود اليهودية وبيلاطس يدخل ثم يخرج متنقلا بين المتهم والمدعين عليه، فيتحدث مرة إلى الطرف الأول ومرة أخرى إلى الطرف الآخر. يدخل بيلاطس مقر الولاية ثم يغادره لمرات ست أثناء مداولات المحاكمة ويعقد مناقشات مع الطرفين، يسوع والمدعين عليه- يتجادل معهم، ثم يستعطفهم محاولا إجبارهم على الإنصات إلى صوت العقل.
بمقدورك أن تجد العديد من التناقضات الأخرى بين الروايتين لو قرأتهما قراءة أفقية. سأذكر هنا ثلاثة منها وسأشير إلى مكامن الأهمية فيها. أولا كان لدى يسوع قدرًا أكبر مما يمكن قوله في رواية يوحنا مقارنة بما جاء في مرقس. لقد دخل، في الواقع، في حوارات مع بيلاطس متحدثا فيها عن «مملكته التي ليست من هذا العالم»(18 : 36 )، وأشار إلى أنه قد جاء للعالم لكي يشهد للحقيقة(18 : 37 )، وأعلن أن بيلاطس ليس له سلطان مطلق عليه إلا ما قد أعطاه له الرب(19 : 11 ). هذه الحوارات المطولة تتوافق توافقا حسنا مع ما ستجده في أنحاء الإنجيل وفقا ليوحنا، فهناك يشترك يسوع في خطب مطولة جدا تختلف تماما مع سلسلة الحكم والأمثال والأقوال المأثورة ذات الجملة الواحدة التي تصطدم بها عيناك مرارا وتكرارا في الأناجيل الإزائية.
أما التناقض الثاني، فبدلا من أن يجلد يسوع بعد انتهاء المحاكمة وإعلان منطوق الحكم- وهي التي ربما يظن المرء أنها اللحظة المنطقية لتنفيذ الحكم- في إنجيل يوحنا، يأمر بيلاطس بجلد يسوع في وسط المداولات(19 : 1 ). قدمت تفسيرات متنوعة لما أحدثه يوحنا من تغيير في التفاصيل؛ فربما كان سبب ذلك ما سوف يحدث فيما بعد: فبيلاطس يخرج يسوع من مقر الولاية ليعرضه أمام الشعب اليهودي مضروبامدميا مرتديا ثوبا أرجوانيا ويقول لهم:«هو ذا الإنسان.» إن يسوع بالنسبة لمؤلف إنجيل يوحنا هو أكثر من مجرد إنسان لكن بيلاطس والحشود اليهودية لا يعترفون بذلك. وهاهم أولاء بيلاطس وجنوده يسخرونمن يسوع بإلباسه أشواكا ملكية وملابس أرجوانية معلنين:«رحبوا بملك اليهود.» لم يحد ما أعلنوه، في واقع الأمر، عن الحق قيد أنملة وإن جهلوه. فيسوع، في أعين يوحنا، هو الملك في الحقيقة على الرغم من كل المظاهر.
وأخيرًا: الأمر المهم في إنجيل يوحنا هو أن بيلاطس، في ثلاث مناسبات مختلفة، يعلن بكل وضوح أن يسوع برئ وأنه لا يستحق العقوبة وأن إطلاق سراحه كان هو الواجب(صراحة في العددين 18 : 38 ؛ 19 : 6 ؛ وضمنيا في 19 : 12 ). أما في مرقس، فلا يعلن بيلاطس أبدا براءة يسوع. فما السبب في هذا التأكيد الزائد في إنجيل يوحنا؟ كان العلماء قد لاحظوا لفترة طويلة أن يوحنا ببراهين كثيرة هو أكثر الأناجيل قسوة في معاداته لليهود بين ما لدينا من أناجيل( انظر يوحنا 8 : 42 – 44 حيث يعلن يسوع أن اليهود ليسوا أبناء الله، بل «أبناء الشيطان»). في هذا السياق، لماذا إذن يروي يوحنا وقائع المحاكمة على هذا النحو الذي يصر فيه الوالي الروماني مرارا وتكرارا على براءة يسوع؟ سلْ نفسك: لو كانت المسئولية على قتل يسوع لا تقع على الرومان، فعلى من؟ على اليهود. وهكذا كان حالهم فيما يرى يوحنا. ففي العدد 19 : 16 يقال لنا إن بيلاطس قد سلم يسوع إلى كبار الكهنة اليهود لكي يكون بمقدورهم أن يصلبوه. موت يهوذا
في الأناجيل الأربعة جميعها يقال إن يهوذا الإسخريوطي هو من خان يسوع وأسلمه للسلطات وقادهم للقبض عليه. فيما تختلف الروايات الأربع في الأسباب التي نحت بيهوذا أن يقترف هذا الصنيع الأحمق. ففي إنجيل مرقس، بالرغم من أنه يقال لنا إنه قد تلقى أموالا مقابل صنيعه، فالسبب لذلك يحتمل أن يكون مرده إلى الطمع(14 : 10 – 11 ). أما متى ( 26 : 14 ) فيصرح بكل وضوح أنه فعل ذلك من أجل المال. لوقا، على الجانب الآخر، يشير إلى أن يهوذا فعلها لأن «الشيطان دخل إلى يهوذا»(22: 3). أو بكلمات أُخَر، الشيطان هو من أومأ له بذلك. أما في يوحنا فقد دعي يهوذا نفسه ب«الشيطان»(6 : 70 – 71 )، ولذا فمن المحتمل أنه قد خان سيده لأن في شخصيته نزعة شريرة.
الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو ما حدث ليهوذا بعد قيامه بصنيعه الخياني. لا يقول مرقس ولا يوحنا شيئا في هذا الصدد: فيهوذا يختفي بكل بساطة من مشهد الأحداث. والأمر نفسه ينطبق على إنجيل لوقا، إلا أن هذا الأخير كان قد كتب مجلدا آخر من إنجيله ألا وهو سفر أعمال الرسل.(11) يورد سفر أعمال الرسل رواية لما وقع ليهوذا بعد خيانته، والأمر نفسه ينطبق على إنجيل متى، لكن المثير للصدمة هو أن الروايتين يضطربان فيما بينهما اضطرابا صريحا في عدد من النقاط.
الرواية الأكثر شيوعا والتي تقول إن يهوذا قد خرج و«شنق نفسه» أصلها إنجيل متى(27 : 3 – 10 ). فبعد أن يرى يهوذا كيف أن خيانته قد أودت بيسوع إلى المحاكمة، يشعر بتأنيب الضمير ويحاول أن يعيد القطع الثلاثين من الفضة التي حصل عليها إلى زعماء الكهنة اليهود، قائلا لهم إنه«قد أخطأ إذ سلم دمًا بريئا.» فيرفضون قبول المال ولذلك يطرح المال في الهيكل ويمضي فيشنق نفسه. يجمع كبار الكهنة المال ويقررون أنهم لا يحل لهم أن يعيدوه إلى خزينة الهيكل لأنها «ثمن دم»: أي مال ملطخ بدم إنسان برئ. ولذلك يقررون أن يستخدموه استخداما حسنا وأن يشتروا به «حقل الفخاري» الذي من المحتمل أن صناع الفخار كانوا يحصلون منه على الصلصال محولين إياه إلى مكان لدفن الغرباء الذين ماتوا في أورشيلم. ولأنه كان قد اشتري بمال الدم الذي ليهوذا، يقال لنا إن هذا المكان «يسمي حقل الدم إلى هذا اليوم». هناك بعض القضايا المشابهة لدى لوقا في روايته: فموت يهوذا مرتبط بشراء حقل يسمى «حقل الدم.» لكن التفاصيل بها تباين واضح، بل حتى تناقض، مع القصة التي يرويها متَّى. ففي سفر الأعمال (1: 18 – 19 ) يقال لنا إن يهوذا نفسه، وليس الكهنة اليهود، هو من اشترى الحقل «من أجرة الظلم»، أي المال الذي اكتسبه جراء خيانته. ولا يقال إنه قد شنق نفسه. فبدلا من ذلك يعلمنا لوقا أنه سقط «على وجهه» و«انشق من الوسط» ولذا فقد «انسكبت أحشاؤه.» بالنسبة للوقا السبب الذي جعل هذا الحقل يدعى حقل الدماء هو أن يهوذا قد نزف دما على أرضه.
لقد حاول القراء على مرِّ السنين أن يوفقوا بين هاتين الروايتين عن موت يهوذا. كيف يحدث لها الأمران كلاهما: أن يشنق نفسه وأن «يسقط على وجهه» حتى تنشق بطنه وتنسكب أمعاؤه على جميع أرض الحقل؟ المفسرون البارعون، ممن يبتغون التوليف بين هاتين الروايتين ليخرجوا برواية واحدة صحيحة، كان لهم مع هذا الموضع يوم مشهود. فربما كانت الحقيقة أن يهوذا قد شنق نفسه فانقطع الحبل وسقط على الأرض فلامست رأسه الأرض أولا ثم انشقت بطنه من الوسط. أو لعله شنق نفسه فلم ينجح الأمر فلذلك اعتلى صخرة شاهقة وقفز قفزة الأوز العراقي إلى الأسفل تجاه الحقل. أو لعله...حسنا، لعله خيار غير ذلك.
القضية تظل رغم هذه المحاولات على أن الروايتين كلتيهما تعطياننا صورة مغايرة عن الكيفية التي مات بها يهوذا. وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف القول بأنه سقط على وجهه فانشقت بطنه وخرجت أحشاؤه، فإنه في الأخير لم «يشنق» نفسه. والروايتان يتناقضان بوضوح من وجهين: من اشترى الحقل( الكهنة، كما هو الحال عند متى، أم يهوذا، كما ينقل لنا سفر الأعمال؟) ولماذا دعي الحقل «حقل الدم»( ألأنه قد اقتني بأجرة دم، كما يقول متى، أم لأن يهوذا نزف داخله، كما يقول سفر الأعمال؟).


أحداث القيامة
لم تكن التناقضات بين الأناجيل أكثر وضوحًا في موضع منها فيما يتعلق بروايات الأناجيل عن قيامة يسوع من بين الأموات. غالبا ما أجد طلابي في الصف الأول، كنوع من التدريب، يعقدون مقارنات يسجلون أثناءها في قائمة كل ما قيل في كل إنجيل من الأناجيل الأربعة عن الأحداث التي وقعت بين الوقت الذي يقع بين دفن يسوع وحتى نهاية الأناجيل. ليس ثمة ما هو أفضل هذا الأمر كمقدمة لفكرة القراءة الأفقية للأناجيل. هناك الكثير من الاختلافات بين الروايات الأربع وبعض هذه الاختلافات تعد تناقضات لا يمكن التوفيق بينها وبين الروايات الأخرى بسهولة (أو مطلقا). يجد الطلاب في هذا التمرين شيئا ذا بال لأنني لست مجرد شخص يخبرهم بوجود تناقضات بين الروايات: فها هم أولاء يكتشفون التناقضات بأنفسهم ويحاولون أن يعثروا على المنطق من ورائها.
وهنا اسمحوا لي أن أؤكد على فكرة بسطت الحديث عنها في كتابي«تحريف أقوال المسيح»: نحن لا نمتلك أيا من النسخ الأصلية لهذه الأناجيل، ما لدينا لا يعدو أن يكون مجرد نسخ كتبت في وقت تال، وفي أغلب الحالات يقدر هذا الوقت التالي بقرون كثيرة. هذه النسخ جميعا تختلف بعضها عن بعض، وكثيرا جدا ما تحدث هذه الاختلافات في روايات قيامة يسوع من الأموات. ويكون لزاما على العلماء أن يحددوا النص الأصلي الذي تصرح به النسخ الأصلية اعتمادا على هذه المخطوطات المتأخرة كتابتها زمنيا. في بعض المواضع تكون التحديدات دقيقة للغاية؛ وفي بعضها الآخر يكون ثمة كثير من الجدال.
في جانب من جوانب البحث في روايات القيامة هناك نزاع بين العلماء حول التالي: يبدو جليا أن الأعداد الاثنتي عشر الأخيرة من إنجيل مرقس ليست أصلية في إنجيل مرقس بل هي أعداد أضافها ناسخ من جيل تال. لقد ختم مرقس إنجيله عند ما نعرفه الآن بالعدد 16 : 8 الذي يُذْكَرُ فيه أن النسوة هربن من القبر ولم يخبرن أحدا بما كن قد رأينه. في تناولي لهذه القضية بالنقاش أتبنى إجماع العلماء حول أن الأعداد 16 : 9 – 21 هي إضافة متأخرة للإنجيل.(12)
إذا غضضنا الطرف عن هذه التفاصيل، ماذا يمكننا قوله عن أخبار قيامة المسيح من الأموات في روايات الأناجيل الأربعة المعترف بها؟ تتفق الأناجيل الأربعة بلا استثناء على أن مريم المجدلية ذهبت إلى القبر ووجدته فارغا وذلك في اليوم الثالث بعد صلب المسيح ودفنه. لكنه فعليا يختلفون في كل تفصيلة من تفاصيل القصة.
فمن ذهب بالفعل إلى القبر؟ هل كانت مريم بمفردها(يوحنا 20 : 1)؟ أم مريم ومريم الأخرى(متَّى 28 : 1) ؟ أم مريم ومريم أم يعقوب ومعهما سالومي(مرقس 16 : 1)؟ أم النسوة اللاتي صاحبن يسوع من الجليل إلى أورشليم- وهن احتمالا مريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب و«المرأة الأخرى»(لوقا 24 : 1 ؛ انظر في ذلك العدد 22 : 55 )؟ هل كان الحجر بالفعل قد حرك بعيدا عن باب القبر(كما يقول مرقس 16 : 4) أم أن ملاكا حركه بعيدا عن الموضع المذكور أمام أعين النسوة؟ وهل كان ملاكا(متَّى 28 : 5 )؟ أم رجلا شابا(مرقس 16 : 5 )؟ أم رجلين اثنين(لوقا 24 : 4 )؟ أم لم يكن ثمة أحد(كما في رواية يوحنا)؟ وماذا قيل لهن؟ أن يخبرن التلاميذ أن «يذهبوا إلى الجليل» حيث سيقابلهم يسوع(مرقس 16 : 7 )؟ أم أن يتذكروا ما قاله لهم يسوع«حينما كان في الجليل» من أنه كان يجب أن يموت وأن يقوم مرة أخرى من بين الأموات(لوقا 24 : 7 )؟ ثمَّ، هل أخبرت النسوة التلاميذ بما سمعوه ورأوه(متَّى 28 : 8 )، أم لم يخبرن أحدا بشيء(مرقس 16 : 8 )؟ وإذا كن قد أخبرن أحدا ما بشيء، فمن هذا الشخص؟ هل هم التلاميذ الأحد عشر(متىَّ 28 : 8 )؟ أم الأحد عشر ومعهم أناسا آخرين(لوقا 24 : 8) أم كان هذا الشخص هو سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي يحبه يسوع والذي لا يذكر له اسم (يوحنا 20 : 2 )؟ وماذا فعل التلاميذ في المقابل؟ هل لم يحركوا ساكنا لأن يسوع نفسه يظهر لهم في التو(متى 20 : 9)؟ أم لم يصدقوا النسوة لما يبدو على القصة من سيماء«الهذيان»(لوقا 24 : 11)؟ أم هل ذهبوا إلى القبر ليروا بأنفسهم(يوحنا 20 : 3)؟
وتتزايد الأسئلة. بمقدورك أن تقرأ الكتاب أفقيا لكي تعقد بنفسك مقارنة متقاطعة بين الأناجيل عن ما يحدث فيما بعد: لمن يظهر يسوع(إن كان قد ظهر لأحد) ومتى وماذا قال لهم وبماذا ردوا عليه. في كل تفصيلة تجد إنجيلا واحدًا على الأقل يقف وحده في تناقض مع الأناجيل الأخرى.
نقطة واحدة على وجه الخصوص تبدو الروايات فيها مستعصية على التوفيق. في رواية مرقس يطلب من النسوة أن يخبرن التلاميذ أن يذهبوا إلى الجليل لكي يقابلوا يسوع، لكنهن من شدة الخوف لا ينبسن ببنت شفة لأي أحد عن هذا الأمر. في نسخة متى من القصة يقال للتلاميذ أن يذهبوا للجليل لكي يقابلوا يسوع فيفعلوا ما أمروا به في التو. ثم يظهر لهم يسوع ويعطيهم تعليماته الأخيرة. لكن التلاميذ في إنجيل لوقا لا يخبرهم أحد بالذهاب إلى الجليل. بل يقال لهم إن يسوع كان قد تنبأ بقيامته عندما كان في الجليل(أبَّان خدمته العلنية). ومن ثم لا يغادرون على الإطلاق أورشليم تلك المدينة التي تقع في الجانب الجنوبي من إسرائيل،و هي المنطقة التي تختلف تمام الاختلاف عن الجليل الواقعة في شمالها. في يوم القيامة يظهر يسوع لاثنين من تلامذته على «الطريق إلى عمواس»(24 : 13 – 35 )؛ في وقت متأخر من ذلك اليوم نفسه يخبر هذان التلميذان التلاميذ الآخرين بما رأوه وعندها يظهر يسوع لهم جميعا(24 : 36 – 39 )؛ ثم يصطحبهم إلى «بيثاني» الواقعة على مشارف أورشليم ويعطيهم تعاليمه ومن ثم يصعد إلى السماء. في المجلد التالي من إنجيل لوقا، أعني سفر الأعمال، يقال لنا إن يسوع بعد قيامته قد أخبر التلاميذ في الحقيقة وبكل وضوح ألا يغادروا أورشليم(أع 1 : 4 )، بل أمرهم أن يبقوا هناك حتى يتلقوا الروح القدس في يوم عيد الخمسين. وبعد انتهائه من إعطائهم تعليماته، يرتفع يسوع حينها إلى السماء. ويبقى التلاميذ بالفعل في أورشليم حتى يأتيهم الروح القدس(أع 2 ). وهكذا يتبلور التناقض: فلو كان متَّى محقًّا، في أن التلاميذ يذهبون مسرعين إلى الجليل ويرون يسوع يصعد من هناك، فكيف يكون الحق في جانب لوقا في زعمه أن التلاميذ يبقون في أورشليم طوال الوقت، ويرون يسوع يصعد من هناك ويستمرون في بقائهم هناك حتى حلول يوم الخمسين؟ تناقضات أخرى في قصة الآلام

هذه إذن بعض من التناقضات الهامة في الروايات التي تتناول الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وموته وقيامته من بين الأموات. وهذه التناقضات ليست مجرد اختلافات على الإطلاق، ولكني بدلا من أن أعددهم جميعا سأشرح هنا قليلا من كثير من التناقضات المثيرة التي ستجدها إذا قمت بإجراء تحليل شامل. بوسعي أن أشرح هذه التناقضات في تتال متسارع عبر توجيه الأسئلة الخمس البسيطة التالية:
1- متى دخل يسوع أورشليم أثناء دخوله الظافر إليها، وكم حمارا امتطى؟ يبدو الأمر وكأنه ينبغي أن يكون ثمة جواب واضح لهذه الأسئلة: لقد امتطى حيوانا واحدا، حمارا أو جحشا. وهذا في الحقيقة هو ما جاء في ثلاثة أناجيل، بما في ذلك العدد 11 : 7 من إنجيل مرقس. في إنجيل متَّى، مع ذلك، هذا الحدث الانتصاري يقال إنه حقق إحدى النبوءات؛ فكما رأينا، يولي متى أهمية بالغة لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وفي العدد 21 : 5 يصرح، مقتبسا العدد 9 : 9 من سفر زكريا:«قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ».
يعرف علماء الكتاب المقدس العبري هذا النوع من النبوءات الشعرية الذي يعيد السطر الثالث من النص ذكر ما قيل في السطر الثاني منه. وتعرف هذه التقنية ب«شبه التطابق المترادف» (synonymous parallelism) حيث يقول سطران من قصيدة الشيء ذاته على نحو جوهري ولكن بكلمات مختلفة. لكن متَّى من الواضح أنه لم يفهم هذا العرف الشعري في هذا الموضع ما قاده إلى هذه النتيجة بالغة الغرابة. في متَّى يقتني تلامذة يسوع حيوانين اثنين له، حمارا وجحشا؛ وبسطون أرديتهم على الاثنين ويسير يسوع راكبا إياهما معا إلى المدينة منفرجة ساقيه عليهما معا(متَّى 21 : 7) واضح أنه مشهد بالغ الغرابة لكن متى جعل يسوع يحقق النبوءة الكتابية تحقيقا بالغ الحَرْفِيَّة.
2- ماذا قال يسوع للكاهن الأعظم حينما كان يواجهه بالأسئلة أثناء خضوعه للمحاكمة؟ إحساسي الشخصي هو أنه من وجهة نظر تاريخية هذا شيء لن يكون بوسعنا أن نعرفه أبدا. لقد كان يسوع هناك، وهناك كان القادة اليهود كذلك، لكن أحدًا من تلاميذ يسوع لم يكن هناك حاضرا يدون ملاحظاته من أجل الأجيال التالية. مع ذلك، يعطينا مرقس رواية بالغة الوضوح. يسأل الكاهن الأعظم يسوع ما إذا كان هو «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟»(14 : 61 )، ويرد يسوع برد بالغ الصراحة:«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً فِي سَحَابِ السَّمَاءِ»(مرقس 14 : 62 ). بكلمات أخرى، في المستقبل القريب سيقيم الرب محاكمة لأهل الأرض الكون ساحتها، تحقيقا لنبوءات العهد القديم(دانيال 7 : 13 – 14). وهذه المحاكمة، في الحقيقة، كانت من القرب بحيث يشهدها الكاهن الأعظم في حياته.
ماذا لو لم تقع النبوءة كما أخبر؟ ماذا لو مات الكاهن الأعظم قبل أن يصل ابن الإنسان؟ ألن يبطل هذا مزاعم يسوع؟ ربما. ولهذا السبب يغير لوقا، الذي بدأ تأليف إنجيله بعد 15 أو 20 عاما من لحظة كتابة مرقس لإنجيله ، إجابة يسوع. الآن، لا يذكر يسوع أي شئ عن بقاء كبير الكهنة على قيد الحياة حينما يصل ابن الإنسان للدينونة:«مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ»(لوقا 22 : 69).

3- لماذا يقتبس متَّى النبوءة غير الصحيحة؟ عندما يشير متَّى إلى خيانة يهوذا ليسوع من أجل القطع الفضية الثلاثين، يعلق(كما نتوقع منه الآن) أن هذا كان تحقيقا لنبوءة وردت في الكتاب المقدس:« حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ: وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ ثَمَنَ الْمُثَمَّنِ الَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ»(متى 27 : 9 – 10). المشكلة هنا هي أن هذه النبوءة لا نجدها في أرميا. بل هي فيما يبدو اقتباس غير دقيق من العدد 11 : 3 من سفر زكريا.
4- متى انشق حجاب الهيكل؟ يفصل الحجاب الذي في الهيكل أقدس المواضع به والمسمى«قدس الأقداس» عن أفنية الهيكل الأخرى. قدس الأقداس هذا هو الموضع الذي اختاره الله ليكون مسكنا له هنا على الأرض(فيما يهيمن في الوقت ذاته على السماء كذلك). يحرم على أي إنسان أن يدخل إلى هذه الغرفة الواقعة فيما وراء الحجاب ما عدا مرة واحدة يحل موعدها في يوم الغفران(يوم كيبُّور) حينما يسمح لكبير الكهنة أن يدخل إليه لكي يقدم الأضحية، لخطاياه الشخصية أولا، ولخطايا الشعب ثانيا. وفقا لإنجيل مرقس، ينشق الحجاب نصفين بعد أن يلفظ يسوع نفسه الأخير(15: 38 ). هذا الحدث جرى التعامل معه لزمن طويل باعتباره إعلانا رمزيا وليس حرفيا، فليس ثمة دليل تاريخي على تعرض حجاب الهيكل للتدمير يوما قبل أن يحترق الهيكل نفسه احتراقا تاما بعد ذلك بأربعين عاما في حرب مع الرومان. يرى مرقس أن موت المسيح يعني أن الحاجة إلى أضحيات الهيكل قد تلاشت. فالرب بموت ابنه أصبح الآن ربا لجميع الشعوب؛ لم يعد منفصلا عنهم بحجاب غليظ. موت يسوع بعث التوحد بين الله وبين الناس: فهو غفران للخطايا يتصالح به الرب وشعبه.
يشير إنجيل لوقا كذلك إلى أن حجاب الهيكل قد انشق إلى نصفين. الأمر البالغ الغرابة أن حجاب الهيكل لم ينشق لنصفين بعد موت يسوع بل قيل بوضوح إن انشقاقه كان وما يزال يسوع حيا ومعلقا على الصليب(23 : 45 – 46 ). سأتناول بالحديث الأهمية التي لهذا التناقض في الفصل التالي لأن هذا التغيير مرتبط ارتباطًا مباشرًا بفهم لوقا لموت يسوع.
5- ماذا قال قائد المائة حينما مات يسوع؟ مرة أخرى تبدو الإجابة بديهية، وخاصة لهذا الصنف من الناس الذين يتذكرون أحداث الفيلم الملحمي الرائع المستوحاة أحداثه من الكتاب المقدس والذي عرض على الشاشة الفضية «أحسن القصص التي حكيت»( The Greatest Story Ever Told) ويتذكرون الكلمات الخالدة التي قيلت على لسان قائد المائة والذي لعب دوره «جون واين»:«حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!» وهي الكلمات ذاتها التي قالها قائد المائة في إنجيل مرقس(15 : 39 ). لكن الأمر الجدير بالملاحظة هوأن لوقا قد أحدث تغييرا في هذه الكلمات. ففي نسخته من القصة يقول قائد المائة: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!»(23 : 47 ). كان ثمة على الدوام مفسرون ممن أصروا على أن هذا في النهاية يأتي بالنتيجة نفسها: فلو أنه كان ابن الله، فهو بلا شك بارٌ. لكن الكلمات مختلفة و تعني معاني مختلفة. لو أن مشتبها به بارتكاب جريمة حكم عليه بأنه «غير مذنب»، فهذا لا يساوي يقينا حكمنا عليه بأنه ابن الله. فهل قال قائد المائة القولين كليهما؟ بوسع المرء أن يجيب على هذا السؤال بالإيجاب إذا كان غرضه أن يبعث التناغم والتوافق بين جنبات الأناجيل، وبذلك يكون قد اخترع رواية ثالثة عن المشهد لا تشبه ما قاله مرقس ولا ما قاله لوقا. لكن ربما يكون السبيل الأفضل هو أن نمعن النظر والفكر في الأسباب التي حدت بلوقا الذي جاء في عصر تال لأن يغير هذه الكلمات. فمن وجهة نظر لوقا كان التشديد على أن يسوع كان بريئا تماما من التهمة التي وجهت إليه هو الأمر الأكثر أهمية. في يوحنا، على سبيل المثال، يحاول بيلاطس لثلاث مرات أن يطلق سراح يسوع بإعلانه براءته مما وجه إليه من التهم(وهو ما يتفق مع لوقا ويختلف مع مرقس). وفي النهاية فعل قائد المائة الأمر ذاته. لقد أجمع الرومان على براءة يسوع. فمن ذا الذي يتحمل إثم جريمة قتل يسوع إذن؟ ليس الرومان، بل الزعماء اليهود أو الشعب اليهودي ذاته.تناقضات فيما يتعلق بحياة بولس وكتاباته

في هذا الفصل حتى هذه اللحظة، تناولت بالبحث الأناجيل المعتمدة الأربعة ليس إلا، مؤكدًا على الحاجة إلى قراءة هذه الأناجيل قراءة أفقية إذا كنا نريد أن نكتسب رؤى جديدة حولها، رؤىلن تكون متاحة أمامنا لو اكتفينا بقراءتها قراءة رأسية، أي إنجيلا وراء آخر. لا أزعم أن القراءة الأفقية هي السبيل الأمثل أو الأوحد للتعامل مع هذه الكتب. فمن الواضح أن مؤلفي الأناجيل كانوايقصدون أن تقرأ كتبهم مثل أي كتاب آخر، من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، ومن الواضح أن علماء النقد التاريخي ظلوا يعترفون طويلا بقيمة القراءة على هذا النحو كما ابتكروا عددمن المناهج المثيرة للاهتمام التي بمقوردها أن تمد يد العون لمن اختار من القراء أن يقرأ هذه الأناجيل بهذه الطريقة.(13)
كما لا أدعي أن الأناجيل هي الكتابات الوحيدة بين الكتب التي يضمها العهد الجديد التي تحتوي بين صفحاتها على تناقضات. فكما رأينا بالفعل من قبل، يبدو سفر أعمال الرسل، على سبيلالمثال،متناقضا مع ما تقوله الأناجيل فيما يخص موت يهوذا(يتناقض السفر م متَّى تحديدا)، أو فيما يخص رحلة التلاميذ إلى الشمال في الجليل بعد موت يسوع وقيامته بفترة وجيزة هل تمت أملا( مع متَّى كذلك!).



سفر أعمال الرسل على سبيل الإجمال هو رواية تتناول ما وقع لتلاميذه ولما شجر بينهم بعد ارتفاعه إلى السماء. لقد نشر التلاميذ العقيدة المسيحية، في البداية بين اليهود الذين عاشوا فيأورشليم ثم فيما بعد في مختلف الأماكن، ونقلوا رسالتهم إلى اليهود في الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية ثم بعد ذلك، وهو الأمر الأكثر أهمية، إلى غير اليهود أو الأمميين الذي يعيشون فيالمراكز الحضرية المنتشرة حول البحر المتوسط. من بين المتحولين كثيري العدد إلى هذه الديانة الجديدة لم يكن أحد يزيد أهمية على شاول الطرسوسي الذي صار يعرف ببولس الرسول. مايقرب من ثلثي روايات سفر الأعمال تتركز حول بولس واعتناقه المسيحية بعد أن كان خصما شرسا للإيمان الجديد، وكذلك رحلاته التبشيرية لجذب الآخرين إلى حظيرة الإيمان بالمسيح،والقبض عليه وما تعرض له من محاكمات وسجنه سجنا مؤبدا في مدينة روما. لم يكن بولس بطلا لأحداث سفر أعمال الرسل فحسب، بل كان له أسفاره الخاصة التي ألفها بنفسه. فمن بينالأسفار السبعة والعشرين التي يتكون منها العهد الجديد، هناك ثلاثة عشر سفرًا يزعمون أن بولس هو من كتبها. وهناك سفر آخر، الرسالة إلى العبرانيين، جرى قبوله كجزء من القائمة الرسميةللعهد لأن الآباء الأوائل للكنيسة كانوا يؤمنون بأنه من تأليف بولس رغم أن الكتاب نفسه لا يزعم ذلك. علماء اليوم يوقنون إيمانا مبنيا على أدلة منطقية بأن بولس لم يكتبه في حقيقة الأمر. وبين الثلاث عشرة رسالة التي تحمل اسم بولس، هناك أسباب تحملنا على الشك في أنه قد كتب بالفعل ستًّا منها. وهذا الأمر سيكون موضوع فصل سيأتي في آخر الكتاب عندما نناقشالسؤال المهم:«من كتب الكتاب المقدس؟» أما الآن فيكفي أن نعرف أن بولس هو موضوع سفر الأعمال ومؤلف على الأقل لبعض الكتابات التي يشتمل عليها العهد الجديد. الرسالاتالسبع التي يجمع كل العلماء تقريبا على صحة نسبتها إلى بولس-أو ما يسمى الرسائل البوليسية غير المتنازع عليها- هي الرسالة إلى أهل رومية والرسالتان الأولى والثانية إلى أهل كورنثوسوالرسالة إلى أهل غلاطية والرسالة إلى أهل فليبِّي والرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي والرسالة إلى فيليمون.


وهكذا بمقدورنا أن نصنع نوعا من القراءة الأفقية لسفر الأعمال مقارنين إياه بالرسائل التي ألفها بولس. في بعض الأحيان يناقش سفر الأعمال حدثا وقع في حياة بولس ويكون بولس قد ذكرهبنفسه في رسائله. هذا يسمح لنا أن نرى كيف يتناقض الحدثان أحدهما مع الآخر. لقد اختلف علماء النقد التاريخي طويلا فيما بينهم فيما يتعلق بمدى مصداقية سفر الأعمال كوسيلة نفهم بهاحياة بولس وكتاباته. رأيي الشخصي الذي أؤمن به هو أن دقة سفر الأعمال في تناوله لشخصية بولس قريبة من دقة تناول الجزء الأول منه، أي إنجيل لوقا، لشخصية يسوع: فكثير منالمعلومات الأساسية هي معلومات ذات مصداقية على الأرجح، إلا أن كثيرا من التفاصيل جرى التلاعب بها.



أكثر علماء النقد يعتقدون أن سفر الأعمال قد كتب في وقت ما بعد زمن كتابة إنجيل لوقا، بين عامي 85 و 90 ميلاديا-أي بعد عشرين أو خمسة وعشرين عاما من وفاة بولس. فإن صحَّ هذا،فلن تكون مفاجئة أن نرى أن المعلومات التي ذكرت عنه في سفر الأعمال ربما لا تتسم بالدقة التامة من الناحية التاريخية. لكن السبيل الوحيد أمامنا للوصول إلى اليقين هو أن نقارن بين ما يقولهسفر الأعمال عن بولس وبين ما يقوله بولس عن نفسه، مبتغين من وراء ذلك أن نعرف ما إذا كانا متوافقين جوهريًّا أم بينهما تناقضات. سأورد الآن خمس أمثلة أصابتني شخصيا بالاندهاشباعتبارها أمثلة طريفة. بعض هذه الأمثلة لها أهميتها في فهم حياة بولس وتعاليمه؛ بعضها الآخر، وأقولها بصراحة، يمثل تناقضات ليست إلى حدٍّ ما بذات أهمية. لكنها معا تظهر أن سفر الأعماللا يمكن اعتماده كمصدر موثوق بها موثوقية تامة حينما يتعلق الأمر بسرد حياة بولس.



1- بعد اعتناقه المسيحية، هل ذهب بولس مباشرة إلى أورشليم لكي يتشاور مع الذين كانوا رسلا من قبله؟ كما ذكرنا، كان بولس مضطهدا للمسيحيين قبل أن يصير هو نفسه مسيحيامثلهم، ولهذا فلم يكن تلميذا ليسوع أثناء فترة خدمته الأرضية وعلى الأرجح لم يكن يعرفه حتى على الإطلاق. لقد كان بولس يعيش خارج فلسطين وكانت اليونانية، وليس الآرامية،لغته الأم. ولكنه في لحظة ما، ولسبب غير معروف، «أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ »(كما جاء في سفر الأعمال 9 : 3 حرفيًّا) ليتحول من عدو للعقيدة المسيحية إلى واحد من أعظم أنصارهاالمدافعين عنها. وماذا كان رد فعله حينها؟ يحكي لنا بولس بنفسه في الرسالة إلى أهل غلاطية 1 : 16 – 20 ما حدث بعد إيمانه:
«لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ،فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ.وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ.»
هذا التصريح الذي تعلوه هذه اللهجة التأكيدية من بولس لا يكذب لابد أن تكون لنا معها وقفة. فهو صريح تمام الصراحة. لم يستشر أيًّا من الآخرين بعد تحوله للمسيحية، ولم يلتق أيًّامن الرسل لثلاث سنوات، وحتى عندما حدث لقاء لم ير فيه سوى كيفاس(بطرس) ويعقوب أخا الرب.
هذا يجعل من الرواية الواردة في سفر الأعمال رواية مثيرة جدا للاهتمام بالفعل. فوفقا للأصحاح 9 من سفر الأعمال، قضى بولس بعد وقت قليل من تحوله للمسيحية بعض الوقت فيدمشق «مع التلاميذ» وعندما غادر المدينة، توجه مباشرة إلى أورشليم حيث التقى تلاميذ يسوع(أعمال 9 : 19 – 30 ). في كل الروايات يبدو سفر الأعمال متناقضا مع ما يقولهبولس. فهل قضى بعض الوقت مع المسيحيين الآخرين بعد وقت قليل من تحوله(كما يقول سفر الأعمال) أم لا(كما يقول بولس)؟ هل ذهب مباشرة إلى أورشليم(كما في سفرالأعمال) أم لم يفعل(كما لدى بولس)؟ هل التقى مع جماعة التلاميذ(كما في سفر الأعمال) أم مع بطرس ويعقوب فحسب(وفقا لبولس)؟
بالنسبة لهذا الصنف من الناس الملم بكتابات بولس وبسفر الأعمال، ليس من العسير فهم أسباب وجود مثل هذه التناقضات. ففي رسالة بولس لأهل غلاطية، كان راغبا في الإلحاحعلى أن رسالة الإنجيل جاءته من الله نفسه مجيئا مباشرًا عبر يسوع. فهو لم يحصل عليها من شخص آخر- ولو كان هذا الشخص هو التلاميذ الآخرين- ولذلك فمن يختلف معهبخصوص الإنجيل فهو في الحقيقة يخالف الله نفسه وليس بولس.
كاتب سفر الأعمال، من ناحية أخرى، لديه رغبته في أن يشدد على وجود اتصال من كل وجه بين كل تلامذة يسوع الحقيقيين، القدماء من ناحية وبولس من ناحية أخرى. فلقد تقابلواوتحادثوا وتوافقوا- ورد ذلك لمرات في سفر الأعمال. أما بولس نفسه، فما يعنيه هو أن سلطانه مستمد من الله بطريق مباشر. فهو لم يشاور الرسل ولم يلتق أيًّا منهم. لقد كان لكلمؤلف من المؤلفين أغراضه الخاصة ولهذا قص كل منهما القصة قصا مختلفا نتج عنه تناقضا طريفا لكنه مهم. فمن يجب أن نصدق؟ في هذه الحالة صوتي سيذهب لبولس الذي لايقتصر الأمر على أنه ينبغي أن يعرف ما كان يفعله بل وكذلك يقسم أمام الله أنه لا يكذب. من الصعب قليلا أنه كان يكذب.


2- هل كانت كنائس اليهودية تعرف من هو بولس؟ في هذا الصدد يبدو بولس مرة أخرى واضحا أتم الوضوح. ففي وقت ما بعد انتقاله إلى المسيحية، جال بعدد من الكنائس في مناطقتقع بسورية وكيليكيِّة، لكنه كان « غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.»(غلاطية 1 : 21 – 22). غرابة هذا الأمر أصابت بعض العلماء بالدهشة. فوفقا لسفرالأعمال، حينما كان بولس قبل تحوله للمسيحية يضطهد الكنائس التي في المسيح، كانت هذه الكنائس هي تحديدًا الكنائس المسيحية التي في« اليهودية والسامرة»(أعمال 8 : 1 – 3؛ 9 : 1 – 2 ). فلماذا لا يعرف أولئك المسيحيون الذين كانوا معرضين للاضطهاد على يديه من قبل هيئته؟ ألم يكن له حضور جسدي بينهم باعتباره عدوهم السابق؟ بالنسبةلسفر الأعمال: الإجابة هي نعم، أما بالنسبة لبولس: فلا.

3- هل ذهب بولس إلى أثينا وحده؟ حينما كان يقوم برحلاته التبشيرية وذهب إلى أثينا لكي يبشر الوثنيين فيها بالإنجيل، هل ذهب بولس هناك وحيدًا بلا رفيق؟ هنا مرة ثالثة يبدو أن ثمةتناقضا. هذا التناقض ربما لا يبدو بهذه الأهمية الكبيرة، فيما عدا أن لوقا فيما يبدو قد حصل على بعض التفاصيل غير الدقيقة. حينما يكتب بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي،يشير إلى أنه بعد أن جلبهم إلى حظيرة الإيمان وشرع في تدشين كنيسة فيما بينهم، سافر إلى أثينا. لكنه شعر بالاهتمام بكنيسته الجديدة الوليدة ولذلك أرسل رفيقه «تيموثاوس» إليهم لينظر كيف يعملون. بكلمات أخرى، رافق «تيموثاس» بولس إلى أثينا ثم عاد إلى تسالونيكي ليعين أهلها في تثبيت كنيستهم في الإيمان( 1 تسالونيكي 3 : 1 – 2). سفرالأعمال، مع ذلك، واضح هو الآخر بنسبة متساوية. فمؤلف السفر يخبرنا أن بولس، بعد أن أسس الكنيسة في تسالونيكي، أوجد هو وسيلا وتيموثاوس كنيسة في مدينة «بيرية»؛وحينئذ المسيحيون الذين في هذه المدينة « أَرْسَلَوا بُولُسَ لِلْوَقْتِ لِيَذْهَبَ إِلَى الساحل وَأَمَّا سِيلاَ وَتِيمُوثَاوُسُ فَبَقِيَا هُنَاكَ.»(17 : 14 – 15 ). عمد بولس إلى إرسال أوامره بأنيلتقي به سيلا وتيموثاوس في أسرع وقت ممكن. وسافر هو إلى أثينا وحده ولم يلتق رفيقيه إلا بعد مغادرته مدينة كورينثوس(17 : 16 - 18 : 5). هذا تناقض آخر يصعب إيجادحل له: فإما أن تيموثاوس سافر إلى أثينا مع بولس(1 تسالونيكي)، أو أنه لم يفعل(سفر الأعمال).


4- كم رحلة إلى أورشليم قام بها بولس؟ في الرسالة إلى أهل غلاطية يتعمد بولس أن يظهر أنه لم يتشاور مع الرسل في أورشليم لكي «يتعلم» الإنجيل. فهو بالفعل كان يعرف ما هوالإنجيل: فلقد سمعه بلا واسطة من المسيح في رؤية إلهية. وهو يريد على وجه الخصوص من أهل غلاطية أن يفهموا أنه عندما يكون ثمة نزاع حول رسالته، فهناك لقاء خاص فيأورشليم لمناقشة هذا النزاع. والسؤال الآن هو التالي: لو أن إنسانا غير يهودي تحول إلى تابع ليسوع، فهل عليه (أو عليها) أولا أن يصير (أو تصير) يهوديا؟ بولس يرفض هذا الأمررفضًا حاسمًا. فما على الرجل الأممي ، على الأخص، أن يختتن، وهي علامة العهد التي فرضها الله على اليهود، إذا أراد أن يصير تابعا للمسيح. مبشرون مسيحيون آخرون أخذواموقفا معارضا لوجهة النظر هذه، وكان هناك مجمع في أورشليم للبحث في هذه القضية. وفقا لما يرويه بولس، هذه كانت المرة الثانية فقط التي زار فيها أورشليم(غلاطية 1 : 18 ؛ 2 : 1 ). أما سفر الأعمال، فوفقا له، كانت هذه هي الزيارة الثالثة والمطولة إلى هناك(أعمال 9 ، 11 ، 15 ). مرة أخرى يبدو أن مؤلف سفر الأعمال قد أدخل بعض الارتباك علىبعض من يوميات الرحلات التي قام بها بولس- من المحتمل أن يكون هذا عن عمد، لأغراض المؤلف الخاصة.



5- هل كانت الرعويات التي أسسها بولس تضم بين أعضائها أفرادًا من الطائفتين اليهودية والأممية(غير اليهود)؟ إجابة هذا السؤال، وفقا لسفر أعمال الرسل، هي نعمواضحة لا مراء فيها. فعندما يبشر بولس في تسالونيكي، يؤمن اليهود المحتشدون في الكنيس اليهودي بالمسيح، والأمر نفسه يفعله غير اليهود من اليونانيين(أع 17 : 4 ). أما بولس فله رأي آخر. فعندما يكتب إلى هذه الكنيسة في تسالونيكي، يذكرهم بالكيفية التي حولهم بها إلى الإيمان بالمسيح ويتحدث عن الكيفية التي «رجعوابها عن الأوثان إلى الله الحي»(ا تسالونيكي 1: 9 ). إن الوثنيين وحدهم هم من يعبد الأوثان. لقد كان المتحولون إلى المسيحية على يد بولس في تسالونيكيوكورينثيا ( 1 كورينثوس 12 : 2 ) ممن كانوا يعبدون الأوثان في السابق. ولذلك كان بولس يدعو نفس «رسول الأمميين». وقد كان هناك بشيرون آخرون، وأخصبطرس بالذكر، ممن كان جل اهتمامهم منصبا على تبليغ الرسالة إلى اليهود(غلاطية 2 : 8 ). إذن فكنيستا تسالونيكي وكورينثيا تشكلتا (بحسب بولس)من الأمميين،وليس من اليهود والأمميين معا كما يزعم سفر الأعمال.
كانت هذه فحسب أمثلة قليلة من التناقضات التي بمقدور المرء أن يجدها عندما يقرأ سفر الأعمال قراءة أفقية مقارنة برسائل بولس. وهناك أمثلة أخرى أكثر بكثيريمكن اكتشافها. وما تميط هذه النماذج اللثام عنه هو أن سفر أعمال الرسل لا يمكن الاعتماد عليه للحصول على تفاصيل بالغة الدقة حينما يتعلق الأمر بقص الرحلاتالتبشيرية للرسل الأوائل مثل بولس.
هناك سبب وحيد يجعل أمر سفر الأعمال وما إذا كان ذا مصداقية فيما يورده من تفاصيل تاريخية أمر ذا أهمية وهو أن كثيرا من المعلومات التي «يعرفها» الناس عنبولس ليس لها مصدر سوى سفر الأعمال وسفر الأعمال وحده، حيث إن هذه الأجزاء من المعلومات لم يذكرها بولس في رسائله. بعض علماء النقد التاريخي أثارواشكوكا حول هذه القضايا، بما في ذلك ما يلي: أن طرسوس هي مسقط رأس بولس(أع 21 : 39 )، وأنه درس مع الحبر اليهودي غمالائيل في أورشليم(22 : 3)،وأنه كان مواطنا رومانيا( 22 : 27 )، وأنه كان «صانع خيام»(18 : 3 )، وكذا أنه عندما دخل إحدى المدن ليبشر فيها بالإنجيل، ذهب أولا إلى معبد اليهود فيهاليحاول تحويل اليهود إلى الإيمان(انظر 14 : 1 على سبيل المثال)، وأيضًا أنه اعتقل في أورشليم وقضى أعواما في السجن(الأصحاحات 21 -28)، وأنه رفع دعواهإلى قيصر لاستئناف محاكمته ولهذا انتهى به الحال في روما( 25 : 11 ).
الخاتمة
رأينا الكثير من التناقضات داخل العهد الجديد في هذا الفصل، بعضها تافه وليس له أي أهمية، والبعض الآخر مهم لفهم ما أراد المؤلفون المختلفون في الرأي أن يقولوا. بعض التناقضات ربما يمكنالتوفيق بينها لو توفرت البراعة التفسيرية الكافية؛ والبعض الآخر فيما يبدو يمثل تناقضات صريحة لا مراء فيها. وما ذكرناه هنا ليس معالجة شاملة للتناقضات، بل هو أنموذج تمثيلي ليس إلا. فلقدانتقيت بعضها الذي رأيته أكثرها طرافة.



وما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نستخلصها من هذه التناقضات؟ ثلاث نقاط هي التي صدمتني باعتبارها الأكثر أهمية:


1- أولا تعد التناقضات ذات أهمية لأنها تظهر أن رؤية الكتاب المقدس باعتباره معصوما تماما عن الأخطاء هي رؤية غير صحيحة فيما يبدو. هناك أخطاء لو أنك فحصت الكتاب المقدس علىقاعدة تاريخية. لو أن وصفين اثنين لحدث واحد (موت يسوع على سبيل المثال) تناقضا في التفاصيل، فلا يمكن أن يكون الوصفان كلاهما صحيحين من الناحية التاريخية. أحدهما غير صحيحتاريخيا، أو كلاهما غير صحيح، لكنهما معا لا يمكن أن يكونا صحيحين، على الأقل بالنظر إلى ما حدث في حقيقة الأمر. لكن هل هذا يعني أن الكتاب المقدس ينبغي أن يطرح جانبا، وأنيهجر باعتباره قطعة أخرى عتيقة ولا تستحق الاهتمام بها من الأعمال الأدبية؟ على الإطلاق. أدافع في الفصل الأخير من كتابي هذا عن أننا ينبغي أن نستمر في قراءة الكتاب المقدس وفيدراسته وتبجيله(لكن ليس باعتباره رواية تاريخية معصومة من الخطإ). هل يعني هذا أنه من المستحيل بالنسبة لشخص من الأشخاص أن يظل مسيحيا؟ دائما ما سيسأل المسيحيون من ذويالقناعات اليقينية – مثل الكثيرين ممن أعيش بينهم في الجنوب الأمريكي- مثل هذا السؤال. ولكن الإجابة مرة أخرى هي بلا جدال: لا. إن المسيحية التي تعتمد اعتمادا كليا على عصمةالكتاب المقدس ربما لا يمكنها التعايش مع حقيقة وقوع التناقضات فيه. إلا أن الإيمان المسيحي له الكثير من الأشكال، وكثير من هذه الأشكال لم تصبه حقيقة أن الكتاب المقدس ليس هوالكتاب الكامل من كل وجه بأي أذى. هذه المسألة سأتناولها بإطناب في الفصل الأخير من هذا الكتاب.



2- حيث إنه ثمة اختلافات بين يريد المؤلفون المختلفون قوله- أحيانا يكون الاختلاف تناقضا تافها وغير ذي أهمية وأحيانا أخرى يكون عظيم الشأن- فمن المهم أن ندع كل مؤلف يتحدث بالنيابةعن نفسه وألا نتظاهر بأنه يقول الشئ نفسه الذي يقوله المؤلف الآخر. ينبغي أن تعلمنا التناقضات أن وجهة نظر مرقس ليست هي نفسها وجهة نظر يوحنا، وأن يوحنا ليس كمتَّى، وأن متَّى لايتبنى وجهة النظر التي يتبناها بولس، وهكذا دواليك. إن كل مؤلف لابد أن يُقْرأَ لرسالته الشخصية، حتى إذا قرأت مرقس، لا تستدعي تعاليم متَّى. فلتقرأ مرقس لتتعرف على مرقس، ولتقرأ متَّىمن أجل متَّى. وهذه مشكلة سنتعرض لها بالبحث في الفصل التالي بشكل أوسع.
3- التناقضات التي تتعلق بالروايات التاريخية – ماذا قال يسوع أو بولس في الحقيقة، وماذا فعلا وما الذي اختبراه من تجارب؟- تجعل التثبت مما حدث بالفعل في حياة يسوع أو من تاريخ الكنيسة الأولى أمرا بالغ الصعوبة. ليس بمقدورك قراءة هذه الكتب باعتبارها روايات تاريخية نزيهة. ليس بينها ما هو على هذه الشاكلة. بماذا بوسعك أن تحكم كقاض في محكمة لديك شهادات متضاربة لشهود العيان؟ هناك شئ واحد لن تفعله يقينا وهو أن تفترض أن كل شاهد من هؤلاء الشهود هو صادق بنسبة مائة في المائة. شخص ما – أو ربما كلهم – يعطينا معلومات مغلوطة. وبراعة القاضي تكمن في اكتشاف من الصادق ومن الكاذب- لو افترضنا أن ثمة من هو صادق بينهم. الأمر نفسه ينطبق على الوثائق العتيقة مثل تلك التي يضمها العهد الجديد بين دفتيه. لو أن هناك شهادة متعارضة بخصوص بعض الحوادث التاريخية، فلا يمكن أن يكون كل الشهود من الناحية التاريخية على صواب، وعلينا أن نكتشف طرقا لتقرير ما وقع حقيقة في أفضل الاحتمالات. وهذه المهمة التي أضطلع بها في الفصل الخامس.حشد من الرؤى المتنوعة
في منتصف التسعينات طلبت مني مؤسسة «أكسفورد يونيفيرسيتي برِسّ» أن أكتب كتابا مدرسيا يكون موضوعه العهد الجديد لمستوى طلبة الجامعة. لم أكن على يقين من أن هذا سيمثل نقلة نوعية لي في ميدان العمل الوظيفي: لم أكن قد وليت أي منصب حينها بعدُ، وأحيانا تنظر اللجان الجامعية المخولة بالتعيين بارتياب إلى كتب المناهج الدراسية باعتبارها لا تمثل أبحاثا علمية حقيقية. وتساءلت في نفسي: أي تهلكة سأوقع نفسي فيها بمحاولتي تقديم دراسات علمية مبنية وفقا لمنهج النقد التاريخي إلى أغرار في سن التاسعة عشر هذه الأمور بالنسبة إليهم ستكون بدعا من القول لم يسمعوا به من قبل. قررت أن أتصل بعدد من أصدقائي في هذا الميدان لأسمع رأيهم بهذا الشأن. هل يحسن بي أن أمضي في هذا السبيل؟ وإن حسُن، فما المشاكل التي سأقابلها عند محاولتي تعليم مجموعة من الأطفال ما يزالون حديثي التخرج من المدرسة الثانوية مادةً علميةً كتابيةً(biblical)صارمة؟ ولقد بذل هؤلاء الكثير من النصائح والإرشادات المفيدة، ولكن أكثر هذه النصائح حكمة بحسب رأيي هي التي أمدني بها صديقي«تشارلي كوسجروف» الذي كان معوانا لي قبل ذلك بسنوات في النجاح في المعهد العالي(كان قد سبقني إلى معهد برينستون اللاهوتي بعامين كاملين وقد دلني على أسرار النجاح). «الأمر الأكثر صعوبة هو تحديد الأشياء التي لن تدرجها في كتابك» هذا ما قاله لي تشارلي عن كتاب المنهج الدراسي.
انتهيت من تأليف الكتاب وكان «تشارلي» على حق. كان من السهل جدا أن أحدد المادة التي سأدرجها في كتاب يتحدث عن العهد الجديد لأن هناك الكثير جدا مما يمكنني أن أدرجه. لكن لكي أحتفظ بكتابي سهلا وذا سعر في متناول الطلاب، كان علي أن أحذف عددا من الموضوعات الهامة والمحببة إلى قلبي. وحذف الموضوعات القريبة والعزيزة على نفسك أمر بالغ الإيلام.
التجربة نفسها مررت بها مع كتابنا هذا. فحينما أتحدث عن تناقضات الكتاب المقدس، أشعر برغبة في الحديث بلا نهاية- فهناك الكثير جدًا من التناقضات التي تتسم بسمتين: أنها طريفة من جهة وأنها بالغة الأهمية من جهة أخرى. لكني نجحت في كبح جماح نفسي وحصرت نقاشي لهذه القضية في فصل واحد فحسب وهو الفصل السابق. ومع ذلك فالمشكلة ذاتها أواجهها مع الفصل الحالي من الكتاب. لقد كان بمقدوري- وبمقدور أي عالم من علماء النقد التاريخي- أن أخصص كتابا كاملا بكل بساطة لتناول الموضوع الذي قررت أن أتناوله في هذا الفصل ولكني ألجمت نفسي واكتفيت بفصل واحد.
كما رأينا في الفصل السابق، لهذه التناقضات التي يحويها الكتاب المقدس أهمية بالغة إلى حدٍّ ما وذلك لأنها تجبرنا إجبارا على أن نأخذ أغراض كل مؤلف على حدى أخذًا جَدِّيًّا. فما يقوله مرقس لا يمكن على الإطلاق أن يكون هو نفسه ما يقوله لوقا؛ وقد يخالف متَّى يوحنا، وربما يقف كلاهما موقف الخصم مما يقوله بولس. لكننا حينما ننظر إلى المضامين المتضاربة لمؤلفي الكتاب المقدس المختلفين، نجد أن هناك ما هو أكثر تعقيدا من أشكال التفاصيل المهمة والتفاصيل الأخرى قليلة الأهمية التي تناولناها في الفصل الثاني. هناك اختلافات أكثر عمقا بين هؤلاء المؤلفين وهذه الأسفار(خلافات ليس حول تفصيلة هنا أو هنالك، أو حول تاريخ حدث، أو يوميات رحلة، أو من فعل ماذا ومن كان برفقته. فكثير من الاختلافات الحادثة بين مؤلفي العهد الكتاب المقدس موضوعها هو مضمون رسالة كل واحد منهم. ففي بعض الأحيان يكون مفهوم مؤلف ما عن قضية محورية هو على التضاد مع ما يفهمه الآخر منها، وذلك في قضايا حيوية مثل من هو المسيح وكيف نحصل على الخلاص وأي نمط أخلاقي ينبغي على أتباع المسيح أن يسيروا وفقه.
خلافات على هذا القدر من الأهمية ليس له علاقة بتناقض بسيط هنا أو هنالك، بل بتصورات مختلفة لها أهميتها القصوى. من المستحيل أن نعلم هذه التصورات المختلفة لو لم نسمح لكل مؤلف أن يعبر عن نفسه. غالبية الناس لا يقرأون الكتاب المقدس وفقا لهذا المنهج. فهم يفترضون أن كل مؤلف يقول الشئ ذاته على نحو أساسي، ما دامت كل الأسفار التي يتكون منها الكتاب المقدس موضوعة بين جلدتي كتاب واحد. وهم يعتقدون أن متَّى يمكن استعماله كوسيلة تعين على فهم يوحنا، وأن يوحنا يوفر نظرة ثاقبة لمضمون رسائل بولس، وأن قراءة رسائل بولس تعيننا على تفسير رسالة يعقوب، وهكذا دواليك. هذا المنهج التناغمي في تفسير الكتاب المقدس، والذي يعد قاعدة لقراءة أكثر تدينا له، يتميز بمساعدته للقراء على أن يروا الموضوعات الموحدة للكتاب المقدس، لكنه كذلك له عيوبه بالغة الخطورة والتي تتمثل في أنه كثيرا ما يختلق توحُّدًا في الأفكار وفي المعتقدات ليس له أي وجود في حقيقة الأمر. فمؤلفوا الكتاب المقدس لم يتفقوا على كل شئ تناولوه بالنقاش؛ بل إن خلافاتهم في بعض الأحيان تكون من الأهمية والرسوخ بمكان.
أما المنهج النقدي التاريخي للتعامل مع الكتاب المقدس فلا يفترض أن كل مؤلف يبشر بالمضمون ذاته. فهو يضع في اعتباره إمكانية أن يكون لكل مؤلف منظوره الشخصي، ورؤيته الذاتية الخاصة، ومفاهيمه لكُنْهِ العقيدة المسيحية وما ينبغي أن تكون عليه. إن التناقضات التي ألقينا عليها الضوء بالفعل هي من الخطورة بحيث تظهر لنا أن ثمة خلافات في الرؤى بين مؤلفي الكتاب المقدس. أما الفروق الأساسية التي نحن بصدد تناولها فينبغي أن تجبرنا على الاعتراف بأن التناقضات ليست مجرد قضية تفاصيل هامشية، بل قضايا عظيمة الأهمية.
لست مصرًا على أن منهج النقد التاريخي هو السبيل الأوحد لقراءة الكتاب المقدس. فعلماء اللاهوت «المحنكون» الذين يعون المشكلات النقدية التاريخية التي يعاني منها الكتاب المقدس تمام الوعي قد ابتكروا سبلا للتعامل مع الكتاب المقدس باعتباره «مقدسًا» رغم أنه يغص بالتناقضات. وهذا الموضوع لدي عنه الكثير لقوله ولكني سأفرد الفصل الثامن من هذا الكتاب بالحديث عن هذا الأمر. أما في هذا الفصل، فمن المهم جدًا أن نصل إلى استيعاب ماهية المنهج النقدي التاريخي وكنهه وكيف يمكنه أن يؤثر على فهمنا للكتاب المقدس.
هذا المنهج يعتمد، إلى حد ما، على فكرة أن «القائمة الرسمية» لأسفار الكتاب المقدس، والتي هي مجموعة من الأسفار المجموعة في كتاب واحد والتي ينظر إليها المؤمنون من بعض النواحي على أنها أسفار معترف رسميا بأنها ذات قداسة، لا تمثل الشكل الأصلي الذي ظهرت عليه أسفار الكتاب المقدس في البداية. فعندما كتب بولس رسائله إلى الكنائس التي قام بتأسيسها، لم يدر بخلده أنه يكتب الكتاب المقدس. كل ما كان يدور بعقله هو أنه يكتب رسائل تتعامل مع الحاجات الفردية كلما ظهرت، معتمدًا على ما كان يدور بفكره وما يؤمن به وما كان يبشر به حينها. في وقت لاحق فحسب بدى لشخص ما أن يضع هذه الرسائل في كتاب واحد وأن ينظر إليها باعتبارها وحي من الله. والأمر ذاته حدث مع الأناجيل. فمرقس، مهما كان اسمه الحقيقي، لم يكن يظن أن كتابه سيوضع ضمن مجموعة تضم ثلاثة كتب أخرى وأنهم معا سيخلع عليهم لقب «الأسفار المقدسة»؛ وهو بالتأكيد لم يكن يظن أن كتابه ينبغي أن يجري تفسيره في ضوء ما سيكتبه مسيحي آخر بعد ذلك بثلاثين سنة في بلد أخرى وفي سياق تاريخي آخر. لا شك في أن مرقس كان معنيا بأن يقرأ الناس كتابه وأن يفهموه بمعزل عن الكتابات الأخرى، والأمر نفسه كان معنيا به متَّى ولوقا ويوحنا وبقية مؤلفي العهد الجديد.
يؤكد منهج النقد التاريخي على أننا عرضة لخطر القراءة غير السليمة لكتاب ما إذا لم ننجح في أن نعطي مؤلفه الحرية في أن يعبر عن نفسه بطريقته، وإذا أكرهنا رسالته على أن تتوافق تمام التوافق مع رسالة مؤلف آخر، وإذا كنا نصر على قراءة كل كتب العهد الجديد باعتبارها كتابا واحدًا لا سبعة وعشرين. هذه الكتب ألفت في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة وتحت ظروف مختلفة لتتعامل مع مشكلات مختلفة؛ وقد كتبها مؤلفون مختلفون لهم منظوراتهم المختلفة ومعتقداتهم المختلفة وافتراضاتهم المختلفة وتقاليدهم بل ومصادرهم المختلفة. وهم أحيانا يعبرون عن وجهات نظر مختلفة تجاه قضايا محورية.[1]
بيان افتتاحي: موت يسوع بين إنجيلي مرقس ولوقا
بوسعي أن أبدأ مقارنتي للنصوص بمناقشة مثالا يصيبني عادة بالدهشة لوضوحه التام وسهولة ملاحظته. يفما يتعلق بالتناقضات المفصلة التي ناقشناها في الفصل الثاني، هذا النوع من الاختلافات يمكننا رصده فقط إذا اعتمدنا القراءة الأفقية الحذرة للفقرات؛ هذه المرة، بدلا من أن نفتش عن الاختلافات الدقيقة للغاية في هذا الموضع أو ذاك، ها نحن أولاء نبحث عن موضوعات أكثر رحابةً، وعن اختلافات أساسية في الطريقة التي تحكى بها قصة ما. إن ثمة قصة واحدة من قصص الأناجيل حكيت على نحو مختلف تماما هي أكثر هذه القصص أهمية: وأعني بها قصة صلب يسوع. ربما تكون أيها القارئ ممن يعتقدون أن الرسالة التي تبعث بها كل الأناجيل فيما يتعلق بقضية الصلب هي رسالة واحدة، وأن الاختلافات فيما بينها إنما تعكس بكل بساطة القليل من التغييرات في وجهات النظر، يبرز في ظلها أحد المؤلفين شيئا ما ويبرز المؤلف الآخر شيئا آخر مختلفا. لكن الاختلافات بينهم هي في حقيقة الأمر أوسع بكثير وأكثر جذريةً مما تعتقد. وهذا لا يبدو واضحا مثل الشمس في رابعة النهار في موضع كما هو الحال في روايات موت يسوع الواردة في إنجيلي مرقس ولوقا.
لقد اعترف العلماء منذ مطلع القرن التاسع عشر بأن مرقس هو أقدم الأناجيل كتابةً، فلقد كتب بين عامي 65 و 70 ميلاديا. ومتَّى ولوقا، كونهما بدأا كتابة إنجيليهما بعد ذلك بخمسة عشر أو عشرين عاما. ولهذا السبب نجد كل القصص التي يرويها مرقس تقريبا متضمنة في إنجيلي متَّى ولوقا، ولهذا السبب كذلك تتفق هذه الأناجيل الثلاثة أحيانا تماما في الطريقة التي يحكون بها القصص. وأحيانا يتفق اثنان فقط في المحتوى ويخالفهما الثالث، وذلك لأن واحدًا من الإنجيلين الأحدث قد غير القصة التي رواها مرقس. هذا يعني أنه لو أننا لدينا القصة نفسها في مرقس ولوقا، مثلا، وهناك اختلافات، فإن هذه الاختلافات وجدت تحديدًا لأن لوقا قام في الحقيقة بإدخال تعديلات على الكلمات التي استقاها من مصدره، أو قام بحذف كلمات وجمل، وأحيانا أضاف بعض المعلومات، بل وحتى سلسلة من الأحداث، وأحيانا قام بتحريف طريقة الصياغة التي وضع مرقس الجملة عليها. ولن نكون مخطئين على الأرجح إذا افترضنا أن لوقا لو أدخل تعديلات على ما قاله مرقس، فإنه يكون قد فعل ذلك لرغبته في أن يقولها بطريقة مختلفة. وهذه الاختلافات في بعض الأحيان تكون مجرد تغييرات محدودة في طريقة الصياغة، إلا أنها في أحيان أخرى تؤثر بطرق بالغة الأهمية على الطريقة التي تحكى بها القصة كلها. وهذا فيما يبدو ينطبق تماما على الطريقة التي صور بها يسوع وهو سائر إلى حتفه.
وفاة يسوع في إنجيل مرقس
في نسخة مرقس من هذه القصة(مر 15 : 16 – 39)، يحكم بيلاطس البنطي على يسوع بالموت ويسخر منه الجنود الرومان ويضربونه ويسحبونه إلى الصليب ليعلق عليه. وهناك سمعان القيرواني يحمل صليبه. فيما لا ينبس يسوع ببنت شفة طوال الوقت. يصلب الجنود يسوع وهو ما يزال مصرًّا على صمته. ويسخر منه اللصان المصلوبان معه كلاهما. وهؤلاء الذين يمرون على مقربة من موقع الصلب يسخرون أيضًا منه. ويهزأ به زعماء اليهود. ويسوع محتفظ بصمته حتى قبل النهاية بلحظات، وعندها يلفظ كلمات صرخته البائسة:« إلوي إلوي لما شبقتني» ةالتي يترجمها مرقس من الآرامية لمصلحة قرائه:«إلهي، إلهي لما تركتني؟» وشخص ما يقدم ليسوع إسفنجة ممتلئة بالخل لكي يشرب. ويتنفس نفسه الأخير ويسلم الروح. وعلى الفور تقع حادثتان: ينشق حجاب الهيكل إلى نصفين، وقائد المائة الذي كان يراقب المشهد يعترف:« حَقّاً كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللَّهِ!»
ياله من مشهد قوي محرك لمشاعر مفعم بالمشاعر والأحزان. يسوع صامت طوال الوقت، كما لو كان الصدمة تيسطر عليه، حتى يصرخ صرخته النهائية مرددًا كلمات المزمور 22 .وأنا أوجه السؤال ذاته إلى الرب باعتباره سؤالا منطقيا.ها هو يسوع يريد عن حق أن يعرف لماذا خذله الله على هذا النحو. هناك تفسير شائع جدا لهذه الفقرة وهو أن يسوع كان في الحقيقة يفكر في أن ينتهي به الحال كما انتهى المزمور 22 بتدخل الرب وبتخليصه لناظم المزمور من معاناته، ولذلك يقتبس العدد 1 من المزمور 22. رأيي أن هذا التفسير هي طريقة لقراءة الفقرة تحتوي على كثير من المبالغة وأنه تسلب «صرخة الهجران» كما يسمونها من كل ما بها من عظمة. وحقيقة الأمر هو أن يسوع قد رفضه الجميع: فلقد خانه واحد من خاصته وأنكره أقرب أتباعه إلى قلبه ثلاث مرات، وانفض عنه جميع تلاميذه، ورفضه الزعماء اليهود، وأدانته السلطات الرومانية، وسخر منه الكهنة والمارَّة، بل وحتى المصلوبان إلى جواره. وفي النهاية يشعر أن الله نفسه حتى قد تخلى عنه. لقد غرق يسوع تماما في أعماق اليأس وسيطرت عليه آلام قلبه المتوجع، وهكذا يموت. يحاول مرقس أن يوصل معنى عبر ريشته التي رسمت هذا المشهد. فهو لا يريد أن يمنح قراءه عزاءً مصدره أن الله كان بالفعل هناك يمد يسوع براحة جسدية. يسوع بحسب مرقس يموت في عذاباته، ليس على يقين من السبب الذي يوجب عليه الموت.
لكن القارئ على يقين من السبب. فعلى الفور بعد أن يموت يسوع ينشق حجاب الهيكل لنصفين ويعلن قائد المائة إيمانه. انشقاق الحجاب إلى نصفين يعلن أنه بموت يسوع يصبح الرب متاحا لشعبه مباشرة من غير أن تكون ذبائح الكهنة اليهود في الهيكل واسطة بين الله وشعبه. لقد جلب موت يسوع تكفيرا عن الخطايا(أنظر مر 10 : 45 ). وهناك شخص ما يدرك هذه الحقيقة على الفور: وهو جندي وثني لم يمض وقت طويل على صلبه ليسوع، وليس تلامذته المقربون ولا المشاهدون اليهود. لقد جلب موت يسوع الخلاص، والأمميون هم من سيدركون هذا. ليست هذه مجرد رواية منزهة عن الأغراض لما قد وقع «بالفعل»حينما مات يسوع. بل إنه درس لاهوتي وضع في شكل حكاية.
لقد اعتقد علماء التاريخ طويلا أن مرقس لم يكن يشرح أهمية موت يسوع في روايته هذه، بل إنه من المحتمل أن مرقس كان يكتب وفي مخيلته جمهور محدد من القراء، إنه جمهور يتشكل من أتباع يسوع المتأخرين عنه زمنيا الذين عانوا هم كذلك عذابات واضطهادات على أيدي السلطات التي كان رجالها مناوئين للرب. فالأتباع، مثل يسوع، ربما لا يدركون السبب الذي من أجله يعانون مثل هذه الآلام ومثل هذا البؤس. إلا أن مرقس يقول لهؤلاء المسيحيين أن يطمئنوا: فعلى الرغم من أنهم قد لا يدركون سبب معاناتهم، فالله يعرف، وهو يعمل من وراء الحجاب لكي يجعل لمعاناتهم قيمة تكفيرية. فمقاصد الله نافذة عبر اختبار الآلام تحديدا، وليس عبر تجنبها، وحتى لو لم تكن هذه الأغراض واضحة في ذات اللحظة. إن النسخة المرقسية من موت يسوع على هذا النحو إنما تمدنا بمثال به نفهم ما يقع للمسيحيين من اضطهادات.
موت يسوع بحسب لوقا
الرواية التي يسردها لوقه تتسم هي الأخرى بطرافتها وعمق رؤيتها وتحريكها للمشاعر، لكنها بالطبع مختلفة تمام الاختلاف عن التي لمرقس(انظر لوقا 23 : 26 – 49 ). لا يقتصر الأمر على أن ثمة تناقضات في بعض التفاصيل التي وردت في الإنجيلين،؛ فما بينهما من فروق أكبر من هذا. فالفروق التي بينهما تؤثر على الطريقة نفسها التي تحكى بها القصة و كمحصلة نهائية على الطريقة التي ستفَسَّرُ بها القصة.
في لوقا كما في مرقس، يخون يهوذا معلمه يسوع وينكره بطرس ويرفضه القادة اليهود ويحكم عليه بيلاطس البنطي بالموت صلبا، لكن جنود بيلاطس لا يسخرون منه ها هنا ولا يوسعونه ضربا. لوقا يحكي القصة مقتصرة على بيلاطس وهو يحاول أن يورط الملك هيرودس الجليلي – ابن الملك هيرودس الوارد ذكره في قصة الميلاد- في النظر في قضية يسوع، وجنود هيرودس هم من يسخرون من قبل أن يصدر بيلاطس حكمه عليه بالإدانة. ولا شك في أن هذا تناقض، لكنه لا يؤثر على القراءة الشمولية للفرق بين الروايتين الذي أقوم هنا بتوضيحه.
في لوقا يسحب يسوع لكي ينفذ فيه الحكم ويتم إجبار سمعان القيرواني على أن يحمل الصليب عن يسوع. لكن يسوع لا يقف أخرص اللسان طوال طريقه للصلب. ففي الطريق يرى يسوع عددًا من النسوة ينتحبن حزنا على ما آل إليه مصيره، فيتحول إليهن قائلا:« يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ»(لو 23 : 28 ). ثم يواصل حديثه إلى حدِّ التنبوء بالدمار القادم الذين سيلاقينه. لا يبدو يسوع مصدوما لما يقع له. فهو معني بالآخرين المحيطين به أكثر من اعتنائه بمصيره الشخصي.
فوق ذلك لا يلتزم يسوع الصمت بينما يجري تثبيته بالمسامير على الصليب، كما هو الحال في مرقس. بل يصلي بدلا من ذلك قائلا: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»(لو 23 : 34 )[2] يبدو يسوع وكأن بينه وبين الله صلة حميمة وهو معني أكثر بأمر من يصنعون به هذا الصنيع أكثر من اعتنائه بأمر نفسه. لقد تعرض يسوع للسخرية والامتهان على يد القادة اليهود والجنود الرومان، لكن زميلي الصلب لم يسخرا منه كلاهما كما ذكر مرقس. بل يسخر منه واحد منهما فحسب بدلا من ذلك فيوبخه الآخر على صنيعه هذا وهو يصر على أنهما يستحقان العقوبة التي حاقت بهما فيما لم يرتكب يسوع سوءًا يستحق عليه العقاب( لا تنسوا أن لوقا يشدد على براءة يسوع التامة). ثم يتوجه هذا الأخير ليسوع بطلب قائلا له:«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فيجيبه يسوع بالجواب اللازم: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لو 23 : 42 – 43 ). في هذه الرواية لا تبدو على يسوع سيماء القلق على الإطلاق فيما يتعلق بما يحدث له أو بأسبابه. فهو هادئ تماما ومسيطر على الموقف؛ وهو يعرف ما هو مزمع أن يقع ويعرف ما سيقع له بعد ذلك: فهو سيقوم من موتته في الفردوس وهذا المجرم سيكون برفقته هناك. وبين هذه الصورة التي يرسمها لوقا ليسوع وبين الصورة المرقسية، التي يشعر فيها يسوع بالخذلان حتى النهاية، بعد المشرقين اختلافا.
وتقع ظلمة فوق المدينة وينقسم حجاب الهيكل نصفين بينما يسوع ما يزال حيا وهو ما يتناقض مع ما ذكره مرقس. ها هنا لا ينبغي أن يكون انقسام حجاب الهيكل إشارة إلى أن موت يسوع هو الجالب للخلاص وذلك أنه لم يمت بعد. بل إنه يبرز بدلا من ذلك أن موته هو «ساعة الظلمة» كما يقول في موضع سابق من الإنجيل (23 : 53 )، وهذا يرمز إلى دينونة الله ضد الشعب اليهودي. أما انشقاق حجاب الهيكل ها هنا فهو يشير فيما يبدو إلى أن الله يرفض نظام العبادة اليهودي والذي يرمز له هنا بالهيكل.
الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن يسوع بدلا من أن يصرخ صرخته التي تعبر عن معنى الشعور التام من جانبه بخذلان الله له في النهاية(«لماذا تركتني؟»)، يصلي يسوع، بحسب ما يورده لوقا، بصوت عال قائلا:« يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»( 23 : 46 ). ليس هذا هو يسوع الذي يشعر بخذلان الله له والذي يتساءل عن أسباب مروره بآلام الخذلان والموت تلك. بل هو يسوع آخر يشعر بالحضور الإلهي يرافقه وتسليه عن آلامه حقيقة أن الله في جانبه يعينه. وهو على وعي تام بما يحدث له ولأسبابه، وهو يستسلم أمام عناية أبيه السماوي العطوفة، كما أنه على يقين تام بما سيقع له في قابل اللحظات. وقائد المائة يؤكد حينئذ على ما كان يعلمه يسوع تمام العلم:« بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!».
من العسير أن يبرز المرء الفروق بين هذين الوصفين لحادثة وفاة يسوع إبرازًا كافيًا. لقد أشرت في موضع سابق من هذا الكتاب إلى أن افترضوا في بعض الأحيان أن رواية مرقس كتبت جزئيا لكي تمنح الذين يعانون الاضطهاد رجاءً، ولكي تسمح لهم بأن يعرفوا أنه على الرغم من المظاهر التي تشي بغير ذلك، فإن الله هو المسبب لما يعانونه من آلام تحقيقا لأغراض خلاصية. فما الغرض الذي كان يخطط له لوقا والذي من أجله أدخل تعديلات على رواية مرقس لكي لا يموت يسوع متألمًا وبائسًا؟
بعض المفسرين من علماء النقد التاريخي افترضوا أن لوقا ربما كان يكتب هو الآخر للمسيحيين المضطهدين، لكن رسالته التي يبعث بها لهؤلاء المضطهدين لأجل الإيمان تختلف عن رسالة مرقس. فبدلا من أن يشدد على أن الله يعمل من خلف الستار، وعلى الرغم من أن الأمر لا يبدو على هذا النحو، فلوقا ربما يحاول أن يقدم للمسيحيين مثلا أعلى يقتدون به بينما يضطهدون- مثل يسوع، الشهيد المثالي الذي يسير نحو حتفه واثقا من براءته موقنا من الوجود الإلهي الحسي في حياته، هادئا ومسيطرا على الموقف، عالما بأن معاناته ضرورية لنيل ثواب الفردوس وأن معاناته قريبا ستزول وستقوده إلى وجود مبارك في الحياة الآخرة. المؤلفان كلاهما ربما يواجهان موقفين متشابهين، لكنهما ينقلان رسالة مختلفة تمام الاختلاف، وكلاهما عن موت يسوع وكيف كان وكيف على أتباعه أن يواجهوا الاضطهاد.
النتيجة الحاسمة
تنشأ المشكلات حينما يأخذ القارئ هاتين الروايتين ويؤلف بينهما مستخرجا رواية واحدة شاملة يقول فيها يسوع ويفعل ويختبر كل شئ ذكر في الإنجيلين كليهما. فلا يعود يسوع يشعر بالكرب العميق بعدُ كما يذكر مرقس(وذلك لأنه بدى رابط الجأش كما يذكر لوقا)، ولا يعود يسيطر عليه الهدوء ويسيطر هو على الموقف كما يذكر لوقا( حيث يصوره مرقس خائر العزيمة). فهو بطريقة أو بأخرى متصف بتلك الصفات جميعا في آن معًا. وكلماته هي الأخرى لها معنى مختلف الآن فهو يتفوه بالكلمات التي ذكرها مرقس ولوقا كلاهما. وحينما يضيف القارئ ما ذكره كل من متَّى ويوحنا إلى هذا الخليط، يتحول هذا الخليط إلى صورة أكثر اضطرابا وأكثر تركيبا من يسوع، متصورًا على سبيل الخطأ أنه قد ركب الأحداث كما وقعت في الحقيقة. والتعامل مع القصصة على هذا النحو هو سبيل لسلب كل مؤلف تفرده باعتباره مؤلفًا وسبيل لحرمانه من توصيل المعنى الذي يريد توصيله عبر قصته.
هكذا تعامل القراء عبر السنين مع «السبع كلمات الأخيرة ليسوع المحتضر» ذائعة الصيت- أعني عبر جمعهم ما يقوله يسوع عند موته من الأناجيل الأربعة وخلطهم لها معًا وتصورهم أنهم بما نتج لديهم من مزيج قد تجمعت لهم أطراف القصة كاملة. أقول إن هذه الحركة التفسيرية لا تتيح لنا معرفة القصة كاملة. بل تمدنا بقصة خامسة، قصة لا تشبهها أي قصة أخرى وردت في الأناجيل المعترف بقانونيتها، قصة خامسة هي في الواقع تعيد كتابة الأناجيل، وتؤلف إنجيلا خامسًا. وهذا رائع جدًا لك أن تفعله أيها إذا كان هذا ما تريده، فأمريكا بلاد حرة، وليس بوسع أحد أن يردعك عن فعل ما تريد. لكن هذه ليست السبيل المثلى بالنسبة للناقد التاريخي للتعامل مع الأناجيل.
فكرتي الشاملة هي أن الأناجيل، وكل أسفار الكتاب المقدس، هي كتب متفردة بعضها عن بعض وأنه لا ينبغي أن تجري قراءتها كما لو كانت تقول الشئ ذاته. فهي عن عمد لا تقول الشئ ذاته- حتى عندما يتوحد الموضوع الذي يدور حول الحديث فيما بينها(موت يسوع على سبيل المثال). فمرقس مختلف عن لوقا وما في متى مغاير تماما لما في يوحنا، كما يمكننا مشاهدته عبر القراءة الأفقية لقصصهم الشخصية التي ذكروها عن مسألة الصلب. إن المنهج التاريخي للتعامل مع الأناجيل يسمح لصوت كل مؤلف أن يكون مسموعًا ويرفض أن تمزج هذه الأصوات لينتج شئ شبيه بإنجيل كبير يسحق الفروق التي يؤكد عليها كل واحد منهم.
بعض الاختلافات الجوهرية بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية
من الواضح أن الأناجيل الإزائية لا تتفق فيما بينها في كل ما ترويه من روايات. لكن تشابها بالغ العظم يجمعها معا ويعزلها عن إنجيل يوحنا. لقد كان من المعروف لزمن طويل أن السبب الذي يجعل هذه الأناجيل متفقة في مواضع كثيرة هو أنها جميعا تشاركت المصادر نفسها. فلوقا ومتى، على سبيل المثال، استعملا مرقس كمصدر لهما، فأعادوا إنتاج ما به من روايات إعادة إنتاج حرفية في كثير من المواضع وأدخلوا عليه تغييرات- وأحيانا كانت هذه التغييرات كبيرة- حينما كانوا يريدون أن يحكوا القصة ذاتها بطرق مختلفة.
وبالرغم من أن الكثير من القراء غير المداومين للعهد الجديد لم يلاحظوا هذا، فإن إنجيل يوحنا قضية مختلفة تمام الاختلاف. فباستثناء روايات اللآلام، غالبية القصص التي أوردها يوحنا في إنجيله لا نجد لها أي أثر في الأناجيل الإزائية، كما أن غالبية القصص الواردة في الأناجيل الإزائية ليس لها وجود في إنجيل يوحنا. وحينما يتناولان منطقة متشابهة بالحديث، تختلف قصص يوحنا اختلافا صادما عن قصص الأناجيل الأخرى. وهذا الأمر بمقدورنا أن نرصده عبر القيام بشكل من المقارنة الشاملة بين يوحنا من جهة وبين الأناجيل الإزائية من جهة أخرى.
خلافات في المضمون
لو قدر لك أن تقرأ الأناجيل الإزائية وأن تضع موجزًا للفقرات المحورية- وأعني بهذا المصطلح القصص التي تمثل البنية الهيكلية لما ذكروه من روايات- فماذا ستجد؟ يبدأ لوقا ومرقس إنجيليهما بالحديث عن ولادة يسوع في بيت لحم من عذراء. أول الأحداث الرئيسة التي أجمعت على ذكرها الأناجيل الثلاثة هي معمودية يسوع على يد يوحنا والتي يذهب بعدها إلى البرية ليجربه الشيطان. يعود يسوع من البرية ويبدأ في التبشير برسالته التي تنذر باقتراب ظهور«مملكة الرب». الشكل المميز لتعاليمه هو أنها تأتي في صورة أمثال. وفي الحقيقة، يقال في إنجيل مرقس إن يسوع علم الجموع عبر الأمثال فحسب(مر 4 : 11 ). ويصنع يسوع كذلك المعجزات. فواحدة من معجزاته الفريدة – وهي أولى المعجزات في إنجيل مرقس- كانت إخراج الشياطين من هؤلاء الذين سيطرت عليهم هذه الشياطين. ولذا يمضي في خدمته في مدينة الجليل مبشرًا عبر ما يضربه من أمثال وما يقوم به من إخراج للشياطين حتى منتصف الروايات عندما يصطحب ثلاثة من تلامذته- بطرس يعقوب ويوحنا- إلى أعلى الجبل وفي وجودهم يمر بتجربة التجلي والتي تتحول فيها هيئته تحولا مجيدا ويبدأ في الحديث إلى موسى وإيليا الذان ظهرا من قِبَل السماء. وبعد التجلي، يواصل يسوع خدمته الخلاصية حتى يذهب إلى أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته. ويطهر الهيكل ويتناول العشاء الأخير الذي يشرع فيه للعشاء الرباني عبر حديثه عن الخبز الذي يمثل جسده والكأس الذي يعبر عن دمه. ويقف أمام المحكمة التي يترأسها القادة اليهود ويدان بتهمة التجديف. ثم تأتي النهاية المألوفة، التي حكيت بطرق مختلفة، فيموت ثم يقوم من بين الأموات.
من المدهش أنه ليس هناك واحدة من هذه القصص التي تمثل الهيكل العظمي لروايات الأناجيل المتوازية يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. فليس ثمة أي ذكر لميلاد المسيح في بيت لحم ولا لعذرية أمه. ولا يقال بوضوح أنه جرى تعميده وأنه قد مر بتجربة الإغواء من الشيطان في البرية. وفي يوحنا لا يبشر يسوع بملكوت الرب القادم ولا يذكر أي أمثال. كما أنه لا يخرج أي شيطان ولا تذكر أي كلمة عن التجلي.وحتى الهيكل لا يذكر عنه أن يسوع قام بتطهيره عند مجيئه إلى أورشليم( جاء ذكر دخوله أورشليم في يوحنا، الأصحاح الثاني). ولا يضع يسوع في يوحنا حجر الأساس لطقس العشاء الرباني(بل يستبدله بغسل أقدام التلاميذ)، ولا يخضع لأي شكل من المحاكمة أمام السنهدرين اليهودي.
فإذا لم يذكر يوحنا أيًّا من هذه الروايات التي تبدو أساسية في قصة يسوع، فعلاما يحتوي إنجيله؟ يحتوي إنجيل يوحنا قصصا لا تأتي الأناجيل الإزائية على ذكرها. فيوحنا يبدأ بتمهيد يصف على نحو يشوبه الغموض كلمة الله التي كانت مع الله منذ البدء، والتي كانت هي نفسها الله وخلق الله بواسطتها الكون. وقد صارت الكلمة، كما يقال لنا، كائنا بشريا والذي هو يسوع المسيح: كلمة الله الذي صارت جسدًا. وهذا شيء ليس لها شبيه في الأناجيل الإزائية.
ويحكي يسوحنا عن يسوع قيامه بالمعجزات بينما يمارس خدمته التبشيرية، لكنه لا يسميها معجزات(miracles) أبدًا، وهو المصطلح الذي يعني حرفيًّا «أعمال القوة». بل إنه، بدلا من مصطلح المعجزة، يسميها «علامات»(signs). لكن علامات على ماذا؟ هي علامات تدل على حقيقة شخصية يسوع الذي هو ذلك الكائن الذي نزل من السماء ليمنح كل من يؤمن به الحياة. يذكر يوحنا سبع علامات في إنجيله، وغالبيتهم لا نجده بين المعجزات المذكورة في الأناجيل الإزائية(باستثنائين اثنين وهما المشي على الماء وإطعام الجموع). وتشمل العلامات التي رواها يوحنا بعض المعجزات المفضلة لدى قراء الكتاب المقدس عبر السنين: تحويل الماء إلى نبيذ، شفاء الرجل الذي وُلِدَ ضريرا، وإحياء أليعازر من بين الأموات. كما يمتلك يسوع في هذا الإنجيل رسالة تبشيرية، لكنها لا تتحدث عن ملكوت الرب القادم، بل بشارة عن نفسه: كنهه الذاتي، ومن أين أتى، وإلى أين سيمضي، وكيف سيمنح المؤمنين الحياة الأبدية. كما ينفرد يوحنا بالعديد من أقوال المسيح التي تحتوي الجملة البادئة« أنا هو...»، والتي يعرف عبرها يسوع الناس بنفسه وما الذي بمقدوره تقديمه لهم. كل جملة تبدأ ب«أنا هو...» عادة ما يليها صنع علامة كدعامة تظهر أن ما يقوله يسوع عن نفسه صدق لا مراء فيه. وعلى هذا المنوال يقول «أنا هو خبز الحياة» ثم يشفعها بإثبات لقوله عبر تكثير أرغفة الخبز للإطعام الجموع؛ ويقول «أنا نور العالم» ويثبتها بشفاء الرجل الذي ولد ضريرًا؛ ويقول «أنا القيامة والحياة» ويحيي إليعازر من بين الأموات إثباتا لقوله.
وعادة ما يلقي يسوع في إنجيل يوحنا خطبًا مطولة في مقابل المقولات الجديرة بالذكر والتي تشبه الحكم في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهناك خطاب طويل في الأصحاح الثالث مع نيقوديموس، وفي الإصحاح الرابع هناك الحوار مع المرأة السامرية، وهناك الخطبة الأكثر طولا التي يلقيها على مسامع تلاميذه والتي تغطي المساحة بين الإصحاحين الثالث عشر والسادس عشر وذلك قبل أن يبدأ في صلاة تغطي الفصل التالي كله. ليس هناك خطبة من بين هذه الخطب أو مقولة من التي تبدأ بقوله«أنا هو...» يمكننا العثور عليها في الأناجيل الإزائية.
مضامين بينها فروق
بمقدورنا قول الكثير عن الخصائص التي ينفرد بها إنجيل يوحنا؛ مع ذلك فقضيتي التي أسعى إلى إثباتها هاهنا ليست أن أثبت ببساطة أن ثمة فروقا بين يوحنا من ناحية وبين الأناجيل الثلاثة المتوازية من ناحية أخرى، بل إن الصور التي يرسمها هذا الإنجيل(أي يوحنا) لشخصية عيسى هي صور بالغة الاختلاف. نعم، من المؤكد أن الأناجيل المتوازية الثلاثة بينها فروق وليست متطابقة تمام التطابق، لكن الفروق التي نجدها بين الأناجيل المتوازية من جهة، وبين إنجيل يوحنا من جهة أخرى هي فروق بالغة البروز، كما يمكن للمرء أن يلحظها عند إمعانه بحثا في بعض التأكيدات الموضوعية المتنوعة.
الولادة العذرية والتجسد
تتلخص العقيدة المسيحية الأرثوذكسية بشأن ميلاد المسيح والتي قوبلت بالتسليم في أنه كان كائنا إلهيا ذا وجود سابق على وجوده الأرضي، وأنه مساوٍ لله الآب، لكنهما ليسا الذات نفسها، وأنه قد صار«متجسدًا»، صار كائنا بشريًّا، عبر قنطرة هي مريم العذراء. لكن هذه العقيدة ليس لها وجود في أيٍّ من أناجيل العهد الجديد. فكرة الوجود العيسوي الذي سبق ميلاده وكونه كائنا إلهيا تأنس نجدها في إنجيل يوحنا وحده؛ أما فكرة ميلادي العذري فلا نعثر عليها إلا في إنجيلي متَّى ولوقا وحديهما. وبالتوفيق بين الرؤيتين بمقدور المرء أن يستخرج الرؤية التي صارت هي العقيدة التقليدية، أي تلك التي آمن بها الأرثوذكس. مفهوما الميلاد من عذراء و التجسد، في تصور مؤلفي الأناجيل، كانتا مختلفتين تمام الاختلاف.
لم ينبس مرقص في إنجيله ببنت شفة عن أيٍّ من المفهومين. فالقصة عنده تبدأ بيسوع في سن الرشد، ولا يشير مرقص من قريب أو من بعيد إلى الظروف المحيطة بلحظة الميلاد. إذا لم يكن بين يديك سوى إنجيل مرقص، وهو بالفعل حال بعض المسيحيين من العصر المسيحي المبكر، فلن يكون لديك أي فكرة عن أي شئ غير عادي في حدث ميلاد عيسى، أو عن أمه وكونها ولدته وهي عذراء، أو أن لعيسى وجود سابق عن وجوده الأرضي.
إنجيل متى بالغ الوضوح في الإشارة إلى أن أم عيسى كانت عذراء، لكنه كان بالغ التحفظ حيال أي محاولة للتخمين بشأن ما يعنيه هذا الأمر من الناحية اللاهوتية. وقد رأينا كيف كان متى حريصا على نحو خاص على إبراز كيف كان كل شئ يتعلق بميلاد عيسى وحياته وموته تحقيقا لنبوءة ورد ذكرها في الكتاب المقدس اليهودي. لذا، لم ولد عيسى من عذراء؟ كان ذلك بسبب أن إشعياء، ذلك النبي العبراني، كان قد أشار إلى أن «عذراء ستحبل وتلد ولد، وأنهم سيدعونه عمانوئيل»(متى 1 : 23 ، حال اقتباسه العدد 7 : 14 من أشعياء) . في الحقيقة، لم يكن هذا ما قاله إشعياء بدقة. في الكتاب المقدس العبري، ذكر أشعياء أن «فتاة شابة» ستحمل وتلد ولدا، وهي نبوءة، لكنها عن حدث كان مزمع أن يقع في العصر ذاته الذي عاش فيه أشعياء، وليس نبوءة مستقبلية.[1] حينما جرت ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اللغة اليونانية تحولت «الفتاة الشابة»(عَلْمَا بالعبري، وثمة كلمة عبرية أخرى للدلالة على معنى الفتاة العذراء) التي تحدث عنها أشعياء إلى الكلمة اليونانية (παρθενοσ)التي تعني عذراء باليونانية، وهذه الترجمة هي النسخة التي كانت بين يدي متى من الكتاب المقدس. ومن هنا فقد اعتقد أن أشعياء كان يتنبأ عن المسيح الذي يظهر في المستقبل( مع أن مصطلح المسيح لم يرد مطلقا على لسان أشعياء في الأصحاح 7)، وليس عن شيء يقع في عصره الذي عاش فيه. فمتى كتب ما كتب لكونه كان يعتقد أن الكتاب المقدس قد تنبأ بميلاد يسوع من عذراء.
أما لوقا فلديه وجهة نظر مختلفة. نعم، هو الآخر كان يعتقد أن المسيح ولد من عذراء، لكنه لم يسق نبوءة من الكتاب المقدس ليفسر سبب اعتقاده هذا المعتقد.
بل نجده بدلا من ذلك يسوق تفسيرا أكثر صراحة: كان يسوع بان لله بنوة حرفية. وقد جعل الله مريم تحبل حتى يكون ابنها كذلك ابنا لله. فالملاك جبرائيل يقول لمريم ( ينفرد لوقا بإيراد هذه الحكاية):« اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.»(لوقا 1 : 35 ). مريم، التي تحبل، لا بفعل خطيبها أو أي إنسان آخر، بل بقوة الله، تلد كائنا هو من بعض النواحي كائن إلهي.
فلدى متى ولوقا، من هنا، يبدوان وكأن لكلٍّ منهما تفسيره الخاص للأسباب التي من أجلها ولد عيسى من عذراء، لكن، وهو الأمر الأكثر أهميةً، ليس ثمة أي موضع في الإنجيلين يذكر فيه أي تلميح إلى أن هذا الكائن كان له وجود سابق عن لحظة ميلاده الأرضية. في تصور هذين المؤلفين، أصبح لعيسى وجودا للمرة الأولى حينما ولدته أمه. ولا وجود في أي من الإنجيلين لإشارة إلى الوجود الأزلي لعيسى. هذه الفكرة منشؤها هو يوحنا، ويوحنا وحده.
لا يشير يوحنا مطلقا لأم عيسى باعتبارها عذراء، بدلا من ذلك يفسر مجيء عيسى إلى العالم باعتباره تجسد كائن إلهي كان له وجوده الأزلي قبل الزمان. مدخل إنجيل يوحنا(أي الأعداد 1: 1 – 18) هي واحدة من أكثر فقرات الكتاب المقدس كله رفعة وقوة في الأسلوب. وهي كذلك واحدة من أكثر الفقرات التي كانت محورا للجدال والتفنيد وللتفسير بتفسيرات متباينة. يبدأ يوحنا(في الأعداد 1: 1 – 3) برؤية رفيعة عن «كلمة الله» الكائن الذي يتمتع باستقلالية عن الله(فقد كان « عِنْدَ اللَّهِ ») لكنه من بعض الوجوه كان مساويا لله (« كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»). هذا الكائن كان موجودًا في البداية مع الله وهو الواسطة التي خلق عبرها الكون كله(«كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. »
تنازع العلماء حول تفاصيل هذه الفقرة لقرون.[2] وجهة نظري الشخصية هي أن المؤلف يعود بنا إلى قصة الخلق في العدد الأول من سفر التكوين، حيث يتكلم الله وتخلق المخلوقات تبعا لكلماته:«وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ.» لم يتكلف الأمر سوى كلمة من الله خلق على إثرها كل ما كان ثمة من مخلوقات. تخيل مؤلف الإنجيل الرابع، كما هو الحال مع البعض من المؤلفين الآخرين للتقليد العبري، أن الكلمة التي قالها الرب هي شكل يشبه الكائن المستقل في ذاته وعنها. لقد كانت الكلمة «عند» الله، لأنه بمجرد أن قيلت، فقد صارت مستقلة عن الله؛ و«كانت» هي الله بمعنى أن ما قاله الله هو جزء من ذاته الإلهية. فبكلامه صار وجودا خارجيا لما كان له بالفعل وجودا داخليا، بين ثنايا عقله. كلمة الله، من ثمَّ، كانت الظهور الخارجي للحقيقة الإلهية الداخلية. كانت الكلمة عند الله وكانت الكلمة الله...أي الأمرين معًا، وكانت الوسيلة التي استعملت في خلق كل الأشياء. في إنجيل يوحنا، هذه الكلمة الإلهية التي كان لها وجودًا سابقا للزمان صارت كائنا بشريًّا :«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً». (1 : 14 ) لا عجب إذن أن قيل إن هذا الكائن البشري هو المسيح يسوع. فيسوع هنا ليس مجرد نبي يهودي ظهر فجأة على مسرح الأحداث، كما هو حاله بحسب إنجيل مرقص؛ وليس هو الكائن النصف بشري والنصف إلهي الذي ظهر للوجود لحظة أن حملت أمه به(أو لحظة إنجابها له في لحظة ميلاده) بفعل القوة الإلهية. بل هو كلمة الله عينها، كان عند الله منذ البدء، وجاء مؤقتا للسكنى على الأرض، جاعلا الحياة السرمدية أمرًا ممكنًا.
يوحنا لم يقل كيف كان مجيء هذه الكلمة إلى العالم. وليس له روايته الشخصية عن قصة الميلاد وهو لا يذكر أي شئ عن يوسف ومريم ولا عن بيت لحم، أو عن الحمل العذري. وهو يختلف عن لوقا في هذه النقطة المحورية: فبينا يرسم لوقا لعيسى صورة القادم إلى الوجود في نقطة تاريخية ما( الحمل أو الميلاد)، يرسمه يوحنا كظهور بشري لكائن إلهي يسمو فوق التاريخ.
ماذا يحدث حينما يحدث التزاوج بين وجهتي نظر لوقا ويوحنا؟ تتلاشى الخطوط المميزة لكليهما. وتبتلع العقيدة الأرثوذكسية عن التجسد عبر مريم العذراء الرسالة التي حرص كل مؤلف منهما على حدى أن يوصلها. إن قارئ الكتاب المقدس الذي يمزج الرؤيتين معا يكون قد اختلق روايته الخاصة به للقصة، رواية تتحاشى تعاليم لوقا ويوحنا كليهما وتعرض تعليما لا نعثر عليه عند أي منهما.
اختلافات حول تعاليم يسوع
يمثل إنجيل يوحنا كذلك رؤية مغايرة لما تناوله يسوع من قضايا إبَّان خدمته العلنية. سأحاول هنا أن أستعمل إنجيل مرقس، أقدم الأناجيل الإزائية كتابةً، كمنطلق لإبراز هذه المغايرة.
تعاليم يسوع بحسب إنجيل مرقس
عبر العديد من الطرق، أوجزت الرسالة اليسوعية في إنجيل مرقس في الكلمات الأولى التي تحدث بها:« قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»(مر 1 : 15 ). أي إنسان له معرفة باليهودية في صورتها العتيقة بمقدوره أن يميز الطابع الرؤوي لهذه الفقرة. النبوءات الرؤوية اليهودية كانت تعبر عن رؤية شاملة للعالم ظهرت إلى الوجود قبل ولادة يسوع بقرن ونصف وآمن بها اليهود على نطاق واسع في عصره الذي عاش فيه. الكلمة اليونانية «أبوكاليبسيس» تعني «الكشف» أو«إماطة اللثام.» وقد سمى العلماء وجهة النظر هذه بالـ«رؤوية» لأن أنصارها آمنوا أن الله قد كشف أو أماط لهم اللثام عن الأسرار السماوية والتي بمقدورها أن تفسر الواقع الذي يعاينونه-وكثير من أحداث هذا الواقع كانت رديئة وكريهة- هنا على الأرض. واحدة من الأسئلة التي كان الرؤويون يرغبون في الإجابة هي أسباب وجود كل هذا الألم وهذا الشقاء الذان يعانيهما العالم وخاصة شعب الله. من المفهوم أن يعاني الأشرار: فهذه المعاناة هي نتاج ما عملته أيديهم. ولكن لماذا الأخيار هم أيضًا يعانون؟ بل في الحقيقة، لماذا تزيد حتى معاناة الأخيار عن ما يعانيه الأشرار، وعلى يد الأشرار؟ لماذا يسمح الله بحدوث ذلك؟
آمن الرؤَوِيُّون أن الله كان قد كشف لهم الأسرار التي تجعل لكل ما سلف معنى. فثمة قوى كونية في العالم مصطفة لمحاربة الرب وشعبه، قوى مثل الشيطان وجنده من الأرواح الشريرة. هذه القوى تسيطر على العالم وعلى السلطات السياسية التي تدير هذا العالم. وقد سمح الله لهذه القوى، لأسباب ما غامضة، أن تزدهر في هذا الزمان الحاضر الذي يخيم عليه الشر. ولكن عصرًا جديدًا آت سيطيح الرب بهذه القوى الشريرة وسيقيم مملكة الخير، أو مملكة الرب، تلك المملكة التي لن يكون فيها وجود لمزيد من الآلام والمعاناة. فالرب سيحكم من عليائه، وأما الشيطان وأرواحه الشريرة، ومعهما كل القوى الأخرى الشريرة التي تسببت في هذه المعاناة( الأعاصير، والزلازل والنساء، والأمراض، والحروب) فسيقضي الرب عليهم.
تعاليم المسيح في مرقس، من هنا، هي تعاليم رؤوية:فعبارة «قد كمل الزمان» تتضمن معاني مثل أن العصر الحالي الذي يخيم عليه الفساد، الذي نراه على خط الزمان، قد شارف تقريبا على نهايته. فالنهاية تلوح في الأفق. أما عبارة «واقترب ملكوت الله» فتعني أن الرب سيتدخل قريبا في هذا الزمان وسيطيح بالقوى الشريرة والممالك التي يدعمونها مثل روما، وسوف يقيم مملكته الخاصة، مملكة الحق والسلام والعدل. وتعني« فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» أن الشعب بحاجة لتغيير أنماط حياته عبر إيمانه بتعاليم يسوع لأنها قريبا ستتحقق، وذلك إذا أرادوا أن يستعدوا للملكة الآتية.
هذه المملكة، من وجهة نظر يسوع بحسب إنجيل مرقس، قد دنى وقت ظهورها. فكما يخبر يسوع تلامذته في موقف من المواقف:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ»(مرقس 9 : 1)؛ ثم يخبرهم في لحظة تالية، بعد أن يصف لهم الانقلابات الكونية التي ستقع في نهاية الزمان:« اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ.»(13 : 30 ).
كيف ستظهر هذه المملكة؟ ستظهر، بحسب مرقس، على يد «ابن الإنسان»، الذي هو قاض عالمي، الأرض هي هي مقر محكمته وسيحاكم الناس وفقا لمبدأ هو هل قبلوا تعاليم يسوع أم لا:«لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هَذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِ أَبِيهِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ»( مر 8 : 38 ). ومن هو ابن الإنسان هذا؟ إنه يسوع ذاته، بحسب مرقس، والذي ينبغي أن يرفضه الشعب ويرفضه قادة الشعب، وأن يقتل ويقوم من بين الأموات ومن ثمَّ سيعود للدينونة جالبا مملكة الرب معه.
ولكن لأن يسوع هو ذلك الشخص الذي سيأتي بمملكة الرب في ركابه، فمملكة الرب، من وجهة نظر مرقس، هي تلك التي تتجسد في حياة يسوع الأرضية وخدمته التبشيرية على نحو نبوءيّ. في ظل هذه المملكة لن يكون ثمة شياطين، ولذا فيسوع يخرج الشياطين؛ وفي مملكة الرب لن ستختفي الأمراض، ولذا يشفي يسوع المرضى؛ وفي مملكة الرب لن يكون ثمة موت بعدُ، ولهذا السبب يحيي يسوع الموتى. لقد كان بوسع المرء أن يرى مملكة الله متجسدة في خدمة يسوع التبشيرية وكذا تلاميذه( مر 6 : 7 – 13 ). ولقد كانت هذه هي الفكرة المحورية للكثير من الأمثال التي ضربها يسوع في إنجيل مرقس: لقد كان للملكة الرب ظهور محدود، بل وخفي أحيانا، في أعمال يسوع، لكنها في نهاية الأمر ستبدو بالغة الوضوح. إنها مثل حبة الخردل التي متى بذرت في الأرض تصير أكبر شجرة(4 : 30 – 32 ). غالبية من استمعوا إلى يسوع رفضوا رسالته، لكن يوم الدينونة قادم لا محالة، ومملكة الرب ستأتي بقوة وعندئذ هذا العالم سيعاد تشكُّله (مرقس 13 ).
لم يتحدث يسوع كثيرًا عن نفسه في إنجيل مرقس. فقد تحدث بشكل رئيسي عن الرب ومملكته الآتية وكيف أن الشعب بحاجة إلى أن يعد نفسه لمجيئها. وحينما يشير إلى نفسه ملقبا إياها بلقب «ابن الإنسان»، يكون هذا دوما بصورة غير مباشرة: فهو لا يقول صراحة «أنا ابن الإنسان». وهو لا يصرح أنه المسِّيا، أي حاكم الملكة المستقبلية الممسوح بالزيت، حتى وقت قصير من النهاية حينما يضعه الكاهن الأكبر تحت القسم(مر 14 : 61 – 62 ).
ومع أن البعض في هذا الإنجيل يعترف بأن يسوع هو ابن الله(أنظر 1 : 11 ؛ 9 : 7 ؛ 15 : 39 )، فإن هذا اللقب لم يكن هو شخصيا يفضله لنفسه، وإنما اقتصر على الاعتراف به على مضض ( 14 : 62 ). من المهم أن نعرف أن لقب « ابن الله» في ثقافة اليهود القدماء يمكن أن يشير إلى الأمة الإسرائيلية(عزيا 11 : 1 )، أو إلى ملك إسرائيل (1 صموئيل 7 : 14 ). في هذه الحالات كان ابن الله شخصا اختاره الله اختيارا مخصوصا لكي يضطلع بتنفيذ مهمة إلهية وكوسيط يبلغ مشيئته إلى الناس على الأرض. وبالنسبة لمرقس، كان يسوع هو كل ما سبق – فقد كان الإنسان الذي نفذ الإرادة المطلقة للرب حينما قبل طوعا الموت على الصليب. مع ذلك، فمن المدهش أن يسوع، في إنجيل مرقس، لا يشير مطلقا لنفسه باعتباره كائنا إلهيا كان له وجود قبل الوجود، وككائن مساوٍ لله من أي وجه. لم يكن يسوع إلها ولم يدع ذلك في إنجيل مرقس.

تعاليم يسوع في إنجيل يوحنا
لكن الأمور مختلفة تماما في إنجيل يوحنا. ففي مرقس، تتمحور تعاليم يسوع بشكل مبدئي حول الله والمملكة الآتية وبالكاد يتحدث حديثا مباشرًا عن نفسه، إذا استثنينا حديثه عن ضرورة ذهابه إلى أورشليم لكي يقتل، بينما في إنجيل يوحنا كان كل ما تكلم عنه يسوع من الناحية العملية هو التالي: شخصيته ومن أين أتى وإلى أين يذهب وأنه هو الوحيد الذي بمقدوره أن يمنح الحياة الأبدية.
لم يتحدث يسوع في مواعظه في إنجيل يوحنا عن مملكة الرب المستقبلية. فالتركيز الشديد هو على هويته الشخصية كما رأينا في الفقرات التي تبدأ بقوله «أنا هو...». فهو ذلك الكائن القادر على أن يمنح المادة الواهبة للحياة(«أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ.» (يو 6 : 35 )؛ وهو القادر على أن يمنحن النور(«أَنَا نُورُ الْعَالَمِ»( يو 9 : 5 )؛ وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الرب(«أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14 : 6 ). والإيمان به هو السبيل لنيل الخلاص الأبدي:« اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»(يو 3 : 36 ) بل إنه في حقيقة الأمر مساو لله:« أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»(يو 10 : 30 ). ولقد علم مستمعوه اليهود تمام العلم المعنى الذي يرمي إليه بقوله هذا: فلقد سارعوا إلى التقاط الحجارة لكي يقتلوه لما يقوله من تجديف بحق الله.
زفي موضع واحد فحسب في إنجيل يوحنا يدعي يسوع لنفسه الاسم المقدس قائلا لمحاوريه من اليهود:« قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»(يو 8 : 58 ). فإبراهيم، الذي عاش قبله بألف وثمانمائة عام، وكان أبا لليهود، يزعم يسوع أنه كان قد عاش قبله. بل إنه يزعم ما أهو أكثر من ذلك. فها هو ذا يشير إلى فقرة في الكتاب المقدس اليهودي يبدو فيه الرب لموسى في الشجرة المضطرمة ويكلفه بمهمة الذهاب إلى فرعون والسعي وراء إطلاق شعبه من الأسر. يسأل موسى ربه عن اسمه، لكي يخبر أتباعه من الشعب الإسرائيلي من هو الإله الذي أرسله. فيجيبه الرب:« اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْ ارْسَلَنِي الَيْكُمْ»(خروج 3 : 14 ). ولذا فحينما يقول يسوع في إنجيل يوحنا 8 : 58 :«أنا هو..»، فهو يخلع على نفسه الاسم المقدس. وهنا مرة أخرى لم يجد مستمعوه من اليهود أي عقبة في فهم مراميه. ومرة أخرى ترفع بوجهه الحجارة.
لا يقتصر الفرق بين مرقس ويوحنا على أن يسوع يتحدث عن نفسه في يوحنا ويعين هويته باعتباره إلهًا، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أن يسوع لا يبشر بما يبشر به في مرقس عن مملكة الرب الآتية. ففكرة أنه ستكون ثمة مملكة في المستقبل على الأرض سيحكم الرب من خلالها وأن كل قوى الشر ستتزعزع ليس لها محل من الإعراب في ادعاءات يسوع في إنجيل يوحنا. وهو ينشر بدلا من ذلك حديثه عن حاجة الناس إلى أن ينالوا الحياة الأبدية فوق في السماء من خلال تحقيقهم للميلاد السماوي( يوحنا 3 : 3 – 5). وهذا ما يعنيه «ملكوت الله» في يوحنا في المرات القليلة للغاية التي ذكر فيها هذا المصطلح: فهو يعني الحياة في السماء، فوق، مع الله ( وليس في سماء جديدة وأرض جديدة هنا على بالأسفل). الإيمان بيسوع هو ما يمنحنا الحياة الأبدية. وهؤلاء الذين يؤمنون بيسوع سيعيشون مع الله إلى الأبد؛ ومن لا يؤمن سيعاقبه الله( 3 : 36 ).
يرى كثير من النقاد أنه من المنطقي أن يمتنع يوحنا، الذي كان إنجيله آخر الأناجيل تأليفًا، عن الحديث عن الظهور الوشيك لابن الإنسان على الأرض ليقيم محكمته على الأرض معلنا قيام المملكة المثالية. في مرقس يتنبأ يسوع بأن لحظة النهاية قد أوشكت على المجيء خلال العصر الذي يعيش فيه جيله بينما يكون تلاميذه ما يزالون بين الأحياء (مرقس 9 : 1 ؛ 13 : 30 ). عندما كتب إنجيل يوحنا، ربما بين عامي 90 و 95 م، كان هذا الجيل القديم قد انقرض وغالبية التلاميذ ، إن لم نقل: كلهم، كانوا قد ماتوا بالفعل. وهذا يعني أنهم قد ماتوا قبل مجيء مملكة الرب. ماذا يفعل المرء حيال تعليم يقضي بقيام مملكة أبدية هنا على الأرض لو انقطع أمله في قيامها للأبد؟ على المرء أن يعيد تفسير التعليم. والطريقة التي أعاد بها يوحنا تفسير هذا التعليم هو أنه حرَّف التصور الأساسي.
إن وجهة نظر رؤوية بشأن العالم كهذه الموجودة في إنجيل مرقس تتعلق بنوع من الثنائية التاريخية التي يكون فيها ثمة عصر حاضر يسوده الشر و مملكة قادمة يحكمها الرب. هذا العصر والعصر القادم: يمكن رسمهما غالبا مثل خط زمني يقطع الصفحة أفقيا. فيما يدوِّر إنجيل يوحنا الثنائية الأفقية التي صدرت عن عقلية رؤوية لتتحول إلى ثنائية رأسية. لم يعد الأمر أمر ثنائية تتكون من هذا العصر الذي نحياه على الأرض والعصر الآخر الذي قد دنى بالفعل موعد قدومه والذي سيكون على الأرض أيضًا؛ بدلا من ذلك يتحول الأمر إلى ثنائية من حياة أرضية نعيشها ههنا بالأسفل وحياة أخرى نعيشها بالأعلى. نحن هنا على الأرض و الله في السماء. ويسوع باعتباره كلمة الله ينزل من أعلى لكي يمكننا أن مر تحديدًا بتجربة الميلاد «من فوق»(المعنى الحرفي للعدد يوحنا 3 : 3 ليس أننا لابد «أن نولد ولادة ثانية»، بل أن«ينبغي أن نولد من فوق»[3] حينما نمر بهذا الميلاد الجديد ونعاينه عبر إيماننا بالمسيح، سينال الآتي من فوق، ثم نحن بعده كذلك على الحياة الأبدية( يوحنا 3 : 16 ). وعندما نموت سنصعد من ثم إلى مملكة السماء لنحيا مع الرب (يوحنا 14 : 1 – 6 ). ليس بعدُ مملكة للرب آتية على الأرض. فمملكة الله في السماء ويمكننا الولوج إليها عبر الإيمان بالكائن الذي نزل من هناك ليدلنا على الطريق. وهذه تعاليم مختلفة تماما عما تراه في إنجيل مرقس.
معجزات يسوع
لماذا صنع يسوع المعجزات؟ غالبية الناس على الأرجح سيجيبون بأنه صنعها لشعوره بالشفقة على الناس ولأنه أراد أن يريحهم من معاناتهم. وهذه الإجابة لا تحيد أنملة عن الحق وفقا لما جاء في الأناجيل الإزائية. بل إن الأمر يزيد حتى عن هذا، فالمعجزات في الأناجيل الإزائية تشير إلى أن مملكة الله التي طال انتظارها قد بدأت في الظهور في شخص يسوع:
رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ
لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ
أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ
ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ
... فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ.(لوقا 4 : 18 – 21 )

وفي فقرة أخرى يأتي تابعان من أتباع يوحنا المعمدان إلى يسوع يريدان أن يعرفا هل هو ذلك الآتي في نهاية الزمان، أم هل ينتظرون ظهور آخر. فيأمرهم يسوع:«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ:اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ»(متى 11 : 2 : 6 ). فيسوع في الأناجيل الإزائية هو ذلك الشخص الذي انتظروه طويلا والذي سيفتح مملكة الله.
وحتى في هذه الأناجيل الثلاثة اللأكثر قدما، يرفض يسوع بوضوح تام أن يصنع معجزات بغرض إثبات حقيقة شخصه لغير المؤمنين من الناس. فها هم أولاء بعض القادة اليهود يسألون يسوع كما ورد في إنجيل متَّى:« يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً»(متى 12 : 38 ). إنهم يطلبون برهانا يثبت أن سلطانه مستمد من الله. وبدلا من أن يجيب يسوع طلبهم، يصرح بقوة:«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثم يسترسل مفسرًا ما قاله بأنه كما كان يونان بالفعل ميتا لثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الحوت، فهكذا سيكون «ابن الإنسان» في «باطن الأرض» لثلاثة أيام وثلاث ليال.
ما ذكره يسوع هو إحالة إلى سفر يونان من الكتاب المقدس اليهودي وهو السفر الذي يحكي كيف أرسل الله النبي يونان إلى أعتى أعداء شعب إسرائيل وهم الأشوريون في مدينة نَيْنَوَى لكي يدعوهم إلى أن يسلكوا طريق التوبة. يرفض يونان ويبحر إلى اتجاه آخر. ويثير الرب عاصفة تغرق سفينته؛ ويدرك البحارة أن تمرد يونان على أمر الرب هو سبب العاصفة، ويقذفونه خارج السفينة إلى البحر. وتبتلعه سمكة ضخمة لكنه يتقيأه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام على الشاطئ. ولئلا يعرض نفسه مرة أخرى لغضب الرب، ذهب يونان إلى نينوى وبشر بمضمون رسالته وحول المدينة إلى الإيمان بالرب.
يقارن يسوع حالته بما جرى مع يونان. فهو، أي يسوع، يدعو شعبا متمردًا إلى الإيمان، لكنه لا يتوب عن غيه. فيرفض يسوع، مع ذلك، أن يصنع معجزة لكي يثبت أوراق اعتماد من قبل السماء. البرهان الوحيد الذي سيمنحه الشعب سيكون «آية يونان» والتي توازي بحسب السياق في إنجيل متَّى آية القيامة. فسيموت يسوع لثلاثة أيام ثم سيظهر مرة أخرى. هذه الآية، وليس شيئا آخر فعله أثناء خدمته التبشيرية العامة، سيحتاجها لكي يقنع الناس بما يزعمه من الحق.
وهذه هي وجهة نظر بطول إنجيله وعرضه، وهي تساعدنا أن نفهم واحدة من أكثر قصصه إثارة للحيرة. فقبل أن يبدأ يسوع خدمته العامة يخرج إلى البرية ويجربه الشيطان ( متَّى 4 : 1 – 11 ). يذكر متَّى ثلاث إغراءات لكن اثنين منهم فحسب يتميزان بوضوح معنيهما. أما الأولى، فبعد أن يصوم يسوع أربعين يومًا عن الطعام، يحثه الشيطان على تحويل الحجارة إلى خبز. فيرفض يسوع: فمعجزاته ليست لنفسه، بل للآخرين. والإغراء الثالث كان أن يعبد يسوع الشيطان ويعطيه الأخير، كجائزة، ممالك الأرض. والإغراء واضح: فمن ذا الذي سيرفض أن يحكم العالم؟ لكن هذه انعطافة خاصة من متى عن منهجه، فهو يعلم أن يسوع سيحكم العالم في نهاية المطاف؟ لكن سيكون على يسوع أولا أن يموت على الصليب. هذا الإغراء ذكره الشيطان لكي يتخلى يسوع عن الصلب. ويرفض يسوع مرة ثانية: فالرب وحده هو المستحق للعبادة.
ولكن ما معنى هذا الإغراء الثاني في الترتيب؟ يأخذ الشيطان يسوع إلى أعلى الهيكل اليهودي ويحثه إلى أن يلقي بنفسه: فلو أنه سيفعل، فستنقض ملائكة الرب و ستحمله قبل أن يصاب له أصبع. ما المقصود من إغراء يلقي فيه المغرى بنفسه من فوق مبنى بارتفاع عشرة طوابق؟ يحتاج المرء أن يتفهم مسألة المكان الذي يقع فيه هذا: فالمكان هو أورشليم، قلب الديانة اليهودية، وفي الهيكل الذي يمثل مركز عبادة الرب. كثير من اليهود يتحركون حول المكان. يحث الشيطان يسوع على أن يلقي بنفسه، على مرأى من الجميع، حتى تظهر الملائكة وتمسك به. بكلمات أخرى أصيغ فكرتي: هذه محاولة لإغراء يسوع أن يقدم برهانا علنيا وإعجازيا للجماهير على أنه بالحق ابن الله. فيرفض يسوع هذه كذلك بحزم باعتبارها إغراء شيطاني قائلا:«لا تجرب الرب إلهك.»
في متى، لن يصنع يسوع آية ليثبت نفسه. ولهذا سميت معجزاته في هذا الإنجيل معجزات وليس آيات. فهي إثباتات للقوة المقصود بها مساعدة من يحتاجها من الناس ولتظهر أن ملكوت الله قد دنى موعد ظهوره.
فماذا عن يوحنا؟ في إنجيل يوحنا تسمى أفعال يسوع المذهلة آيات، وليس معجزات. وهو يصنع هذه الآيات تحديدًا لكي يثبت من هو يسوع، ولكي يقنع الشعب بأن يؤمنوا به. وحيث يزعم أنه «خبز الحياة»، يصنع آية أرغفة الخبز للجماهير (يوحنا 6 )؛ وبزعمه أنه «نور العالم»، يصنع آية شفاء الأعمى منذ مولده(يوحنا 9 )؛ ولزعمه أنه هو «القيامة والحياة»، يصنع معجزة إحياء أليعازر من الموات(يوحنا 11 ).
من المثير للدهشة أن قصة متَّى عن رفض يسوع إعطاء القادة اليهود آية، فيما عدا آية يونان، لا يمكننا العثور عليها في إنجيل يوحنا. ولكن ما السبب في هذا؟ فيما يرى يوحنا، يقضي يسوع مدة خدمته التبشيرية صانعا للآيات. ويلا يخبرنا يوحنا كذلك عن قصة الإغراءات الثلاثة في البرية. مرة أخرى كيف أمكنه ذلك؟ بالنسبة له، إثبات يسوع لهويته عبر الآيات الإعجازية ليس إغراءً شيطانيًّا، بل استجابة لنداء طبيعته الإلهية.
والمقصود من هذه الآيات هو تعزيز الإيمان بيسوع. وكما يخبر يسوع بنفسه موظفا ملكيا طلب منه أن يشفي ابنه:« لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»(يوحنا 4 : 48 ). ويشفي يسوع الصبي فيأتي الرجل ليعلن إيمانه( 4 : 53 ). وهكذا كان مؤلف إنجيل يوحنا، كذلك، يعتقد أن الآيات هي التي برهنت على هوية يسوع وقادت الشعب إلى الإيمان:«وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.»( يو 20 : 30 – 31 ). وبينما كانت الدلائل الخارقة للطبيعة على هوية يسوع هي منطقة محظورة في إنجيل متَّى، فإنها في يوحنا كانت السبب الجوهري لما صنعه يسوع من أعمال إعجازية.
بعض الفروق الجوهرية بين بولس ومؤلفي الأناجيل
فروق أساسية بين مؤلفي العهد الجديد يمكن العثور عليها ليس فقط في الأناجيل الأربعة بل وبين كثير من مؤلفي الأسفار الأخرى التي يضمها العهد الجديد مثل كتابات الرسول بولس.
سبق بولس مؤلفي الأناجيل إلى الكتابة. غالبية رسائله كانت قد ألفت في العقد الخامس من عمر الصر المسيحي وذلك قبل أقدم أناجيلنا، إنجيل مرقس، بعشرة أو بخمسة عشر عاما. كان بولس ومعه مؤلفوا الأناجيل يكتبون في فترة أعقبت وفاة يسوع، فيما لم يكن مؤلفو الأناجيل يسجلون ببساطة الأشياء التي صنعها يسوع «في الحقيقة» قولا وفعلا لمصلحة الأجيال التالية. لقد حكوا روايات تضم أقوال يسوع وأفعاله في ضوء ما مفاهيمهم اللاهوتية التي يؤمنون بها شخصيا كما رأينا هذا مرة بعد أخرى. لكن الكثير من الآراء التي يجدها المرء في رسائل بولس تختلف تماما مع ما يمكن للمرء أن يجده في الأناجيل وفي سفر الأعمال الذي كتبه مؤلف إنجيل لوقا.

بولس ومتَّى... بين الخلاص والشريعة
تعد مسألة تبرر الإنسان أمام الله وكيف ينال الإنسان هذه المرتبة سمة هامة من السمات التي تتميز بها تعاليم بولس. ولقد زعم بعض اللاهوتيين، منذ عصر الإصلاح على الأقل، أن هذه القضية مثلت بؤرة الاهتمام الأساسية للفكر البولسي. واليوم يعترف غالبية العلماء المتخصصين في فكر بولس بأن هذا الرأي لا يعدو أن يكون مجرد إفراط في التبسيط يتجاوز مقدارا كبيرا مما وصلنا في الرسائل البولسية السبع المتنازع عليها والتي ذكرناها في الفصل الثاني من هذا الكتاب. مع ذلك فمن المؤكد أن بولس كان مهتما بالكيفية التي يستطيع بها الأفراد- أولئك الذين كان مهتما بتحويلهم إلى الإيمان على سبيل المثال- أن يوضع في علاقة صحيحة مع الله، وكان مقتنعا بأن هذا لا يمكن أن يحدث إلا عبر التصديق بموت يسوع وقيامته وليس عبر اتباع ما تفرضه الشريعة من أحكام.

هذه العقيدة تتناقض إلى حدٍّ ما مع وجهات النظر الأخرى في العهد الجديد بما في ذلك تلك التي يقدمها متَّى في إنجيله. فهل كان أتباع يسوع بحاجة إلى أن يلتزموا بأحكام الشريعة اليهودية إذا رغبوا في نيل الخلاص؟ تعتمد الإجابة على هذا السؤال على أي المؤلفين الاثنين تسأل. وهل يعتمد التبرر أمام الله اعتمادًا تامًّا على الإيمان بيسوع مصلوبًا وقائمًا من بين الأموات؟ تختلف قصة واحدة على الأقل مما يذكره متَّى في إنجيله مع بولس في هذه القضية تحديدًا.
رؤية بولس «للتبرر»
يستعمل بولس كلمة «التبرر» للإشارة إلى إقامة المرء علاقة طيبة بالله وصلاحه في عيني الرب. رؤية بولس عن التبرر يمكن العثور عليها بشكل أساسي في رسائله إلى أهل غلاطية وأهل رومية. في هذه الرسائل استعمل بولس العديد من الطرق ليشرح كيف ينجح المرء في إقامة علاقة طيبة بالله وكيف يكون بارًّا أمامه. أشهر آرائه وأكثرها تغلغلا بشكل مثير للجدل( والتي نجدها في رسائله الأخرى كذلك) هي أن الإنسان «يتبرر بالإيمان» بموت يسوع وقيامته وليس بالالتزام بأعمال الشريعة اليهودية.
واحدة من الطرق التي يمكن للمرء أن يفهم بها عقيدة بولس اللاهوتية بخصوص التبرر هي أن يحاول التفكير بالمنطق ذاته الذي كان يفكر به. وهذا يتطلب أن نبدأ من البداية حينما لم يكن بولس واحدًا من أتباع يسوع بعدُ، بل كان بالأحرى شخص يرى في الإيمان بيسوع كفرًا يستحق فاعله مقاومة عنيفة. وكونه يكتب مؤلفاته بعد عشرين عاما من أيام اضطهاده للمؤمنين، لا يخبرنا بولس أبدًا ما الذي كان يجده في الأساس مستحقا للتوبيخ لهذه الدرجة في الإيمان المسيحي، وم ذلك فهناك بعض الافتراضات التي نجدها مبعثرة بطول رسائله وعرضها. ربما شعر بالإهانة من الادعاء ذاته بأن يسوع هو المسيا.
وهو، كيهودي ملتزم، وقبل تحوله للإيمان بيسوع، كان لديه بلا شك أفكاره عن شخصية المسيا وما هي صفاته. قبل أن تظهر المسيحية لم يكن ثمة يهودي واحد يؤمن بأن المسيا سيتألم ويموت. بل الأمر على العكس من ذلك تماما، فمهما كان ما يعتقده اليهود حيال هذا الأمر مختلفا من يهودي لآخر، إلا أنهم مجمعون على أن المسيا سيكون شخصية لها مهابتها وسلطانها ستنفذ إرادة الله على الأرض بالقوة المسلحة. لم يكن اليهود يفهمون معنى فقرات الكتاب المقدس التي تتحدث عن معاناة عبد الرب الصالح باعتبارها إشارة إلى المسيا.
لقد كان المسيا مشمولا بعناية خاصة من قبل الله وكان تعبيرا عن الوجود الفعال والقوي للرب على الأرض. فمن يسوع هذا؟ إنه مجرد مبشر مغمور متجول خرج على الشريعة ومات مصلوبا بتهمة التمرد على الدولة. لقد كان خلع لقب المسيا على يسوع في أعين غالبية يهود القرن الأول الميلادي لا يعدو أن يكون مجرد مزحة في أحسن الأحوال أو هرطقة وكفرا في أسوأها. ليس هناك ما هو أكثر جنونا من ذلك وليس هناك من هو أقل حظا في الانتساب إلى المسيانية من مجرم مات مصلوبا(أنظر 1 كورنثوس 1 : 23 ). من الواضح أن بولس كان يفكر على هذا النحو هو الآخر. لكن شئ ما حدث لبولس بعد ذلك. فقد زعم فيما بعد أنه رأى يسوع في رؤيا بعد وفاته( 1 كورينثوس 15 : 8 ). هذه الرؤيا أقنعته بأن يسوع لم يكن ميتا. ولكن أنَّى ليسوع أن يكون كذلك؟
كان بولس، قبل تحوله للإيمان بيسوع، باعتباره يهوديًّا رؤويًّا، يؤمن بفكرة مفادها أنه بنهاية هذا العصر الذي يسيطر فيه الأشرار سيكون ثمة بعث للموتى، وأن الله عندما سيطيح بقوى الشر سيبعث كل الموتى وسيحاسب الجميع على أعمالهم فيمنح الأخيار جزاءهم الأبدي والأشرار عقابهم الأبدي. لو لم يكن يسوع ميتا، كما «علم» بولس ، لأنه قد رآه حيا (فلنقل قبل ذلك بعام أو بعامين)، إذن فهذا لأن الله قد أقامه من بين الأموات. لكن إذا كان الله قد بعثه حيا من بين الأموات، فهذا يعني إذن أنه كان ذلك الذي اجتباه الله بعنايته الخاصة. فهو إذن المسيا، ولكن ليس بالمقاييس التي كان يظنها أي يهودي من قبل، ولكن بمقاييس ما مغايرة.
ولكن إذا كان هو نفسه مختار الله، أو المسيا، فلماذا مات؟ من هذه النقطة نبدأ في التفكير مع بولس – أو بطريقة معكوسة، كما حدث الأمر بالفعل، مبتدئين من النهاية، ثم التحرك إلى الوراء إلى موت يسوع فوفاته. كان بولس يعتقد أن يسوع ينبغي ألا يموت من أجل باطل اجترحه إذا كان هو المسيا المشمول بعناية خاصة من الله. لا يجوز في حقه أن يموت من أجل آثامه الشخصية. فلماذا إذن؟ لا شك أن الإجابة ستكون: من أجل ذنوب الآخرين. مثل الذبائح المقدمة في هيكل أورشليم، كان يسوع ذبيحة مسفوكة دمائها من أجل الخطايا التي اجترحها الآخرون.
فلماذا سيميت الله يسوع من أجل الآخرين؟ بديهي أن هذا وقع لأنه ليس سبيل لعمل أضحية خالية من العيوب إلا عبر أضحية بشرية. وإذن فنظام الأضحيات اليهودي ليس صالحا للتعامل مع الخطايا. ولكن: هل يعني هذا أن الله قد غير فكره بشأن الطريقة التي على البشر أن يتبعوها لكي يتصالحوا مع الله؟ ألم يدعُ الشعب اليهودي ليكونوا شعبه الخاص وأعطاهم شريعته حتى يتميزوا عن الشعوب الأخرى باعتبارهم شعب الله المختار؟ نعم، يجيب بولس، لقد فعل. فلابد إذن أن الشريعة والأنبياء يشيرون إلى المسيح الذي هو الحل الإلهي النهائي للمشكلة الإنسانية.
لكن ما هي مشكلة الإنسان؟ كل إنسان- يتساوى في ذلك اليهودي والأممي- فيما يبدو قد انتهك شريعة الله ويحتاج للأضحية التي بلا عيب من أجل غفران خطاياه. لكن هذا سيعني أن يقبل كل إنسان، يهودي كان أم أممي، أضحية مسيح الله هذه لكي تغفر خطاياه أو يكفر عنها أمام الله. ولكن ألا يتبرر الناس أمام الله باتباعهم ما أمر الله به في الشريعة؟ مطلقا. فلو كان هذا ممكنا، فلا مبرر لأن يصلب المسيا. لقد سفك يسوع دمه، عبر صلبه، من أجل الآخرين وليصنع أضحية كفارة للخطايا. وهؤلاء الذين سيؤمنون بموته( وقيامته التي أظهرت أن موته كان جزءًا من خطة إلهية) سيتبرر أمام الله أي سيسلك مع الله سبيل الطاعة. ومن لا يفعل، فليس بمتبرر.
كل هذا إنما يعني أن الالتزام بالشريعة اليهودية ليس له محل من الخلاص. بل حتى اليهود الذين يحفظون أحكام الشريعة لأقصى درجة لا يمكن أن يتبرروا أمام الله عبر الشريعة. وماذا عن الأمميين: هل عليهم أن يصيروا يهودًا وأن يحاولوا الالتزام بالشريعة بمجرد أن يتحولوا إلى الإيمان بالمسيح؟ إجابة بولس على هذا السؤال هي النفي البات. إن محاولة الالتزام بأحكام الشريعة ستظهر أن شخصا ما يعتقد أن بمقدوره استحقاق عفو الله – أي أن له حقوق الافتخار، إذا جاز التعبير. فمن يحاول التبرر أمام الله عبر محافظته على أحكام الشريعة ما يزال منغمسا في الخطيئة ومحاولته هكذا ستكون عبثا وبلا طائل.
السبيل الوحيد الذي على المرء أن يسلكه لكي يكون بارًّا فهو أن يؤمن بموت يسوع وقيامته. فها هو ذا بولس في العدد 2 : 16 من الرسالة إلى أهل غلاطية يقول:«إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.»
وهذه هي تعاليم بولس بطول الرسالة إلى رومية(1- 3 ) والرسالة إلى أهل غلاطية(1 – 3). أتباع يسوع ليس عليهم أن يحاولوا التمسك بأحكام الشريعة إلا إذا كان هذا الاتباع مقصورًا على «أحب الجار كحبك نفسك» كما أن العيش وفق قانون أخلاقي خيِّر ما يزال أمرًا يتوقع الله من شعبه أن يستمسكوا به. لكن اتِّباع وصايا الشريعة ومتطلباتها- مثل الختان وأكل الحلال وتقديس السبت والمناسبات الدينية اليهودية الأخرى- فليس بينه ما هو ضروري لتحقيق الخلاص، وإذا ظننت(وعملت) على نحو مغاير لهذا، فخطر خسارتك للخلاص يحيط بك ويتهددك(غلاطية 5 : 4 ).[4]

آراء بولس ومتى حول الشريعة

كثيرا ما تساءلت عن ما كان سيحدث لو أن بولس ومتى قد أغلق عليهما باب غرفة معا وقيل لهما إنهما لن يخرجا منها ما لم يتوصلا إلى وثيقة يُجْمِعَان فيها على رأي موحد فيما يتعلق بالكيفية التي ينبغي على أتباع يسوع أن يتعاملوا بها مع الشريعة اليهودية. فهل كان سيأتي عليهما يوم يخرجان فيه من هذه الغرفة، أم كانا سيظلان فيها إلى الأبد هيكلين عظميين في قبضة الموت؟
لو كان متَّى، الذي بدأ في الكتابة بعد بولس بخمس وعشرين أو بثلاثين عاما، قد قرأ يوما رسائل بولس، فلا شك أنه لم يكن سيراها ملهِمَة له، فضلا عن أن تكون نتاج إلهام سماوي. كان متى يحمل رؤية مغايرة للرؤية التي كان بولس يعتنقها حيال الشريعة. فمتى يعتقد أن أتباع يسوع ملزمون بالاستمساك بالشريعة. وهم، في الواقع، في حاجة إلى أن يكون التزامهم بها أكثر من استمساك أكثر اليهود تدينا: أعني الكتبة والفريسيين. فلقد نقل إنجيل متى عن يسوع قوله:

«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ.مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.»
فأما بولس فكان يعتقد أن أتباع يسوع الذين سعوا إلى التمسك بالشريعة كان خطر خسارة الخلاص يتهددهم. وأما متى فقد كان يعتقد أن أتباع يسوع الذين لم يتمسكوا بالشريعة منهجا، وحتى أكثر من متديني اليهود، لن يروا خلصا أبدًا. وقد حاول اللاهوتيون والمفسرون عبر السنين أن يوفقوا بين هاتين الرؤيتين واللتان يمكن رصدهما لأنهما معا يمثلان جزءًا من القائمة الرسمية للكتاب المقدس. لكن أي إنسان يقرأ إنجيل متى ثم يعقبه بقراءة الرسالة إلى أهل غلاطية لن يظن أن ثمة سببا أو حتى طريقة ممكنة للتوفيق بين هاتين الإفادتين. فلكي تصبح عظيما في الملكوت، فيما يرى متَّى، فهذا يتطلب منك أن تستمسك بالوصايا جميعا حتى أقلها؛ بل إن دخول الملكوت يتطلب أن تحفظ الوصايا أكثر من حفظ الكتبة والفريسيين لها. بينما يرى بولس أن الدخول إلى مملكة الله ( وهي الطريقة الأخرى للتعبير عن معنى «التبرر») لا يكون ممكنا إلى عبر موت يسوع وقيامته من الأموات؛ وهو يرى أن اتباع الأمميين لوصايا الشريعة اليهودية(الختان على سبيل المثال) هو أمر محرم تحريما صارما.
متى بطبيعة الحال يعرف كل شئ عن موت يسوع وقيامته. فقد أنفق قدرا كبيرا من صفحات الإنجيل في رواية أحداثهما. وهو كذلك يعتقد أنه من غير موت يسوع لا يمكن أن يكون ثمة خلاص. لكن الخلاص يتطلب كذلك الاستمساك بوصايا شريعة الرب. فالله في النهاية هو من أوصى بهذه الوصايا. ويفترض أنه كان يعني ما وصى به ابتداءً وأنه لم يغير رأيه فيه انتهاءً.
هناك في إنجيل متَّى فقرة واحدة تفترض أن الخلاص ليس مجرد مسألة إيمان، بل هو كذلك مسألة عمل، وهي التصور الغريب تماما عن الفكر البولسي. ففي واحدة من أعظم المحاورات التي انخرط فيها يسوع، والتي لا نجدها سوى في إنجيل متَّى، يصف يسوع يوم الدينونة الذي سيأتي في نهاية الزمان. فابن الإنسان سيأتي في مجده محاطا بملائكته وسيجمع الناس من جميع أمم الأرض فيقفون أمامه (متى 25 : 31 – 45 ). وها هو ذا يقسمهم إلى فريقين « كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ .» فالخراف تكون عن يمينه والجداء تكون عن يساره. فيرحب بالخراف الذين عن يمينه في ملكوت أبيه «الْمُعَدَّ لَهُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ». ولماذا أدخل هؤلاء إلى الملكوت يا ترى؟ .
«لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي.عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ »
ومع ذلك ف«القطيع» يظل حائرًا. فهم لا يتذكرون أبدًا لقاءهم بيسوع، أو ابن الإنسان، ناهيك عن صنعهم لكل هذه الأشياء له. لكنه يخبرهم:« بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ.» أي أن اعتناءهم بالجوعى والعطشى والعراة والمرضى والمسجونين، إذا صغناها بطريقة أخرى، هو ما أورثهم ملكوت الله.
أما الجداء، التي على يساره، فيرسلها إلى «النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ». ولماذا؟ خلافا لما فعلته الخراف، هؤلاء لم يعتنوا بابن الإنسان حينما احتاجهم. فإذا هم حيارى هم الآخرون، فهم لا يتذكرون لقاءهم بابن الإنسان مطلقا. لكنهم رأوا الآخرين معوزين فأداروا لهم ظهورهم:«بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا.» ويختم متى روايته بهذا التصريح القوي:« فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.» وهذه هي آخر الكلمات العلنية التي قالها يسوع في إنجيل متَّى.
كيف تتناقض هذه الكلمات مع أفكار بولس؟ ليس إلى حدٍّ بعيد. كان بولس يؤمن بأن الحياة الأبدية ينالها الذين يؤمنون بموت يسوع وقيامته. في رواية متَّى عن الخراف والجداء، ينال الخلاص من لم يسمع مطلقا بيسوع. يناله هؤلاء الذين يعاملون الآخرين معاملة إنسانية وباهتمام في ساعة عوزهم الشديد. وهذه نظرة مختلفة تماما لقضية الخلاص.[5]
وثمة رواية أخرى مثيرة للدهشة في إنجيل متَّى. ففيه يفِدُ غنيٌّ على يسوع ويسأله:« أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فيخبره يسوع:« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا.» وحينما يسأله الرجل:«أية الوصايا؟» يعدد له يسوع بعضا من الوصايا العشر كأمثلة. فإذا بالرجل يصر على أنه بالفعل قد التزم بها جميعا ويضيف: فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟ فيجيبه يسوع أنه لابد أن يتنازل عن كل أملاكه «فَيَكُونَ لَهُ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ»(متى 19 : 16 – 22 ). ثم يقول له يسوع:« وَتَعَالَ اتْبَعْنِي»(لاحظ أن اتباع يسوع يأتي بعد أن يرث الرجل الكنوز السمائية في أعقاب تنازله عن كل ما يملك.)
إنني أتساءل: ماذا كان سيحدث لو أن الرجل نفسه كان قد أتى إلى بولس قبل ذلك بعشرين سنة؟ لو أن امرءًا سأل بولس عن السبيل إلى نوال الحياة الأبدية، فهل كان سيقول له:« احْفَظِ الْوَصَايَا»؟ لا بالطبع، ليس بولس. ليس للوصايا علاقة بالخلاص. إنما موت يسوع وقيامته هما اللذان يجلبانه. وهل كان بولس سيقول له إن تنازله عن كل ما يملك يكسبه كنوزًا في السماء؟ مستحيل. فالإيمان وحده القادر على أن يجلب الحياة الأبدية.
ليس بوسع المرء أن يجادل في أن يسوع كان يتحدث عن خلاص يسبق موته، بينما بولس يتحدث عن خلاص يليه، وذلك لأن متَّى كان يكتب في فترة تالية لفترة بولس. فوق ذلك نجد يسوع، في متَّى، متحدثا عن الدينونة الأخيرة والتي من الواضح أنها ستحدث بعد موته وقيامته. وهكذا فالمشكلة تتمثل في التالي: لو أن يسوع، بحسب تصوير متى له، كان على حق في قوله إن التمسك بالشريعة ومحبة المرء للآخرين كمحبته نفسه قادرة على جلب الخلاص، فكيف يكون بولس هو الآخر محقا في اعتقاده بأن فعل هذه الأشياء لا يمت إلى نيل الخلاص بأي صلة؟ العديد من وجهات النظر الأخرى المختلفة داخل العهد الجديد
هناك اختلافات أخرى منها ما هو عميق ومنها ما هو سطحي داخل أسفار العهد الجديد. توجيه عدد من الأئلة الموجهة سيكون أنسب الطرق لسرد عدد قليل من النماذج.
ما الغرض من موت يسوع؟
موت يسوع هو قضية محورية في فكر كل من بولس من جهة ومؤلفي الأناجيل الأربعة كل على حدى من جهة أخرى. ومع ذلك فلماذا مات يسوع؟ وما علاقة التي بين موته هذا وبين الخلاص؟ يعتمد الجواب على السؤال التالي: أي مؤلف منهم تقرأ له؟
مرقس واضح تمام في القول بإن موت يسوع مكفر للخطية. وكما يقول يسوع نفسه في إصحاح متقدم من إنجيل مرقس: «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»(مر 10 : 45 ). لقد كان موت يسوع الفدية التي بذلت من أجل الدين الذي يدين به الآخرون الله جراء إثمهم؛ إنها من ثم تضحية تكفيرية.
أما لوقا فقد استعمل مرقس كمصدر من مصادره فأضاف فيه وحذف منه وحرَّف كلمات كلما وجد إلى ذلك سبيلا. فماذا فعل في الأعداد محل البحث يا تُرى؟ لقد حذفها فلم يبق لها أثرًا. ولماذا سيقدم على حذف هذا العدد؟ من المحتمل أن هذا العدد يقدم مفهوما مغايرا لموت يسوع عن ذلك الذي يؤمن به لوقا.
في هذا الصدد، من المثير للصدمة في إنجيل مرقس أن «الدليل» على أن موت يسوع قد جلب تكفيرا للخطايا نجده بعد موت يسوع بوقت يسير حينما ينشق حجاب الهيكل إلى شقين كاشفا أنه بموت يسوع انفتح الطريق المسدود إلى الله أمام الناس. لكن لوقا يبدل التوقيت: فانشقاق الحجاب يحدث بينما يكون يسوع ما يزال حيا يرزق. يعتقد كثير من العلماء أن لهذا الأمر أهمية بالغة: فانشقاق الحجاب لا يعني أن لموت يسوع أهمية كفارية، بل هو إشارة إلى حكم الله على هيكل اليهود، الذي هو تصريح رمزي بأن مصير الهيكل إلى دمار.
وهكذا يثور السؤال: لأي غرض مات يسوع بحسب إنجيل لوقا؟ تزداد القضية وضوحا في الجزء الثاني من إنجيل لوقا، وأعني به سفر الأعمال، حيث يبشر الرسل بالخلاص الذي جاء في المسيح لكي يحولوا الآخرين إلى الإيمان. لم يحدث في واحدة من هذه المواعظ التبشيرية أن ذكرت ولو كلمة واحدة عن القيمة الكفارية لوفاة يسوع. بل كانت الرسالة الثابتة، بدلا من ذلك، أن الناس مدانون لرفضهم لرسول الله إليهم ولإقدامهم على قتله. موت البرئ(يسوع) ينبغي أن يدفع الناس إلى التوبة عن ذنوبهم والرجوع إلى الله حتى يغفر لهم ( أنظر أع 2 : 36 – 38 ؛ 3 : 17 – 19 ). إن رؤية لوقا يمكن تلخيصها في أن الخلاص يأتي لا عبر التضحية الكفارية بل بالغفران الذي تسبقه التوبة.[1]
ولكن أليس للكفارة والمغفرة المدلول نفسه؟ على الإطلاق. مدلول كل كلمة منهما يتضح من المثال التالي. فلنفترض أنك تدين لي بمائة من الدولارات ولكنك عاجز عن الوفاء بالدين، و أن أمامك سبيلين لحل هذه المشكلة. شخص غيرك(صديقك أو أخوك أو والداك) بمقدوره أن يدفع المائة دولار بدلا عنك. فهذا سيبدو مشابها للكفارة: أن يتحمل عنك شخص آخر عقابك. أو بمقدوري بكل بساطة أن أقول، كبديل عن الحالة الأولى، التالي: «لا عليك، لا أريد منك مالي.» هذا سيكون مثل المغفرة والتي لا يدفع في ظلها أحد شيئا، بل يتنازل الله بكل بساطة عن ما له من دين.
لموت يسوع في إنجيلي مرقس ولوقا أهمية بالغة. لكن موته عند مرقس هو كفارة؛ أما عند لوقا فهو سبب يدرك الناس عبره أنهم خاطئون وأن عليهم العودة إلى الله طلبا للغفران. فالغرض من موت يسوع مختلف إذن تمام الاختلاف وهذا يدركه المرء باختلاف المؤلف الذي يقرأ له.
متى أصبح يسوع ابنا لله وربا ومسيحا؟
الخطب التبشيرية التي وردت في سفر الأعمال لا تتعامل فحسب مع مسائل الخلاص؛ كما أنها تقدم شهادات صريحة بشأن المسيح وكيف رفعه الله بعد موته. أما بولس، ففي حديثه لمجموعة من المتنصرين المحتملين من أنطاكية الواقعة في مدينة بيسيدية يتكلم عن رفع المسيح وكيف أنه كان مصداقا لنبوءات وردت في الكتاب المقدس:
«وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لِآبَائِنَا إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هَذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.»
اليوم الذي صار فيه يسوع ابنا لله، بحسب النص بالأعلى، هو يوم قيامته من بين الأموات. مع ذلك، كيف يتماشى هذا ما يقوله لوقا في مواضع أخرى؟ ففي إنجيل لوقا، يلقي الصوت الكلمات نفسها:« أنت ابني، أنا اليوم ولدتك»(لوقا 3 : 22 )، بينما يجري تعميد يسوع.[2] بل في لحظة سابقة للحظة العماد، أعلن الملاك جبريل لمريم قبل الحمل بيسوع وميلاده أن «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.»(لوقا 1 : 35 ). يسوع في هذا الموقف كما يبدو هو ابن الله بسبب الحمل العذري: فهو ابنٌ الله بنوةً جسدية. فكيف يمكن للوقا أن يقول الأشياء الثلاثة مجتمعين؟ لست على يقين من قدرة أحد على التوفيق بين هذه الروايات؛ لكن من المحتمل أن لوقا حصل على هذه التقاليد المتباينة من مصادر متباينة لا يتفق أحدها مع الآخر في هذه القضية.
هذا النوع ذاته من المشكلات يقع مع بعض الأشياء الأخرى التي يقولها لوقا عن يسوع. ففي خطبة ألقاها بطرس في يوم عيد الخمسين، على سبيل المثال، يتناول في حديثه موت يسوع ويؤكد أن الله قد أقامه ورفعه إلى السماء:« فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ رَبّاً وَمَسِيحاً»( أع 2 : 36 ). هنا لمرة أخرى يبدو أن يسوع يتلقى على مكانة الرفع عند قيامته- أي أنه في هذه اللحظة «جعله الله» ربا ومسيحا. ومع ذلك ففيما سيفكر المرء إذن بشأن قصة الميلاد في إنجيل لوقا الذي يخبر فيه الملاك الرعاة الذين كانوا « يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ» أنه قد «وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ»(لو 2 : 11 ). في هذه الحادثة، عُدَّ يسوع مسبقًا ربًّا ومسيحًا عند لحظة ميلاده. فكيف صار المسيح في موقفين مختلفتين من الناحية الزمنية الشيئين كليهما: مسيحا وربا؟ هذه فيما يبدو حالة أخرى يقع فيه تناقض داخلي في ثنايا كتابات لوقا الشخصية، ومردُّ ذلك أن هناك على الراجح مصدرين مختلفين استعملا لبناء هاتين الروايتين.
هل تغاضى الله عن جهل الوثنيين؟
رأينا كيف أن سفر الأعمال يقدم من حين لآخر تناقضات ليست بينه وبين الأناجيل فحسب، بل يتعدى الأمر ذلك إلى التناقض مع كتابات بولس، بطل الروايات الواردة في سفر الأعمال نفسه. أحد الأمثلة بالغة الطرافة تحدث في واحد من المواقف القليلة في سفر الأعمال التي يقال فيها إن بولس ألقى خطابا على جمهور من الوثنين، وأعني بها موعظته التي ألقاها أمام الفلاسفة في أثينا بينما كان واقفا وسط تلة أريوس باجوس(أع 17 : 22 – 31 ). يبدأ بولس موعظته بالثناء على تدين مستمعيه العظيم، لكنه يواصل حديثه مشيرا إلى أنهم قد ارتكبوا إثما عظيما باعتقادهم أنه لكي يعبدوا الله فينبغي أن يتوجهوا للأصنام بالعبادة، وذلك لأن الله «لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي». بل هو بخلاف ذلك رب الأرض وخالق كل شئ. لكن « اللَّهَ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ». هذا العدد هو واحد من الأعداد المحورية. لقد عبد الوثنيون، وفقا لكلمات بولس، آلهة الوثنين الباطلة بسبب جهلهم. فهؤلاء ببساطة لا يعرفون ما هو أفضل من ذلك. وقد تغاضى الله عن كل ذلك وأعطاهم فرصة الآن لكي يواجهوا الحقيقة وأن يأتوا إلى الإيمان به عبر المسيح الذي أقيم من بين الأموات.
ما يجعل وجهة النظر هذه بالغة الطرافة هو أن بولس ذاته يتحدث عن الديانات الوثنية في واحدة من رسائله ويصرح بما لا يدع مجالا للشك في أنه لا يعتقد مطلقا أن الوثنيين يعبدون الأصنام نتيجة جهلهم، أو أن الله قد تغاضى عن أعمالهم أملا في رجوعهم إليهم بالتوبة.
ففي الرسالة إلى أهل رومية، العدد 1 : 18 – 32 ، يشير بولس إلى العكس من ذلك تماما، فـ«غضب الله» منصب على الوثنيين لأنهم رفضوا معرفة الله المجبولين عليها بالفطرة عمدا وعن وعي:« إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ»(رومية 1 : 19 ). فهم ما سعوا إلى أوهامهم الدينية بسبب جهلهم بل عن معرفة كاملة بالحق:« لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ... وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ.»
فهل تغاضى الله عن خطيئاتهم؟ مطلقا:«إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ» والله يعاقبهم، ليس فقط في زمان ما غير معلوم سيأتي في المستقبل، بل في الحاضر كذلك بأن يجعلهم أو يسمح لهم بأن يصيروا أكثر فسادا وشرا وفسوقا.
وهكذا فلدينا تصوران مختلفان لوجهة نظر بولس حيال الوثنيين وعبادتهم للأوثان. هل عبدوا الأوثان جهلا منهم؟ «بولس» سفر الأعمال يجيبنا ب«نعم»، أما بولس بحسب كتاباته الشخصية فيجيبنا ب«لا». وهل الوثنينون مسئولون عن أعمالهم الوثنية؟ يقول سفر الأعمال:«لا»، أما بولس فيجيبنا أن «نعم». وهل الله يوقع حكمه الغاضب عليهم في الحاضر كنتيجة لذلك؟ مرة أخرى يجيبنا سفر الأعمال ب«لا» التي تتناقض مع إجابة بولس بـ«نعم».
لقد سعى العلماء كثيرا للتوفيق بين هاتين الرؤيتين المتقابلتين. في الغالب الأعم يزعمون أن بولس في سفر الأعمال، بما أنه يتحدث إليهم حديثا مباشرًا تسوده الرغبة في تحويلهم إلى الإيمان، فهو لا يصارحهم بحقيقة ما يعتقده نحوهم ولذلك نراه يمسك عن الإساءة إليهم. أصارحكم القول إنني كنت على الدوام أجد أن وجهة النظر هذه يصعب قبولها. فهذا سيعني أن بولس، بغية كسب بعض المؤمنين إلى المسيحية، كان سيكذب صراحة في حديثه عما يعتقد أنه وجهة نظر الرب فيما اقترفوه من أعمال دينية. لقد كان بولس يتصف بصفات عديدة، ليس من بينها بحسب ما أعتقد أنه كان منافقا. كان بولس سيعظهم ببعض الحديث عن بحيرة النار والكبريت لكي يجعلهم يدركون فداحة السبيل الذي يسيرون فيه؛ إن اللباقة والحس المرهف المرهف هما سمتان نادرتا الحدوث في شخصية بولس التاريخية. بل الأمر فيما يبدو هو أن بولس كما يصوره سفر الأعمال يختلف اختلافا جذريا عن شخصية بولس الحقيقية على الأقل عندما يأتي الحديث عن قضية جوهرية مثل رد الفعل الإلهي تجاه عبادة الوثنيين للأصنام.
هل الإمبراطورية الرومانية قوة خير أم قوة شر؟
سؤالي الأخير بشأن تناقض جوهري في وجهات النظر هو سؤال وجهه الكثيرون من المسيحيين الأوائل: ما هو التوجه المسيحي اللائق تجاه الدولة؟ فأما المؤلفون المختلفون فقد أجابوا على هذا السؤال أجوبة مختلفة ؛ وفي كثير من الأحيان تكون بعض هذه الإجابات مخالفة لبعضها الآخر. يمثل الرسول بولس لون واحد من ألوان الطيف :
«لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ.»(رومية 13 : 1 – 4 ).
السلطات الحاكمة هي إذن من الله وقد نصبها الله أجل إقرار الصلاح وينبغي ألا يقاومهم أحد لأن من يفعل ذلك فمقاومته هي لله وليس لهم.
وجهة النظر المقابلة لهذه يمثلها سفر الرؤيا والذي يرى أن القوى الحاكمة هي قوى شريرة نصبتها قوى الشر وتسيطر عليها وهي عرضة في نهاية المطاف لعقاب الله الذي لا مردَّ له. في هذا السفر يمثَّل للـ«سلطات الحاكمة» بالمسيح الدجال وأتباعه. كما توصف مدينة روما في السفر نفسه بأنها «الزانية العظيمة» و«أم الزواني» و«أم الرجاسات» «والشاربة حتى الثمالة من دماء القديسين وشاهدي يسوع.» مع ذلك، لماذا ينبغي أن يعتقد البعض أن «زانية بابل» التي ورد ذكرها في سفر الرؤيا، الأصحاح 17، تشير إلى الحكام الرومان، أولئك الذين أضفى عليهم بولس كل هذا المديح؟ السبب هو أن ملاكا أعطانا تفسيرًا لمعنى هذه الرؤية التي تخص «زانية بابل». إن الوحش الذي تجلس عليه له سبعة رؤوس والتي تمثل «السبع جبال التي تجلس عليها المرأة»؛ وهي نفسها (المرأة) تمثل«المدينة العظيمة التي لها ملك على ملوك الأرض»( رؤ 17 : 18 ). فما هي المدينة العظيمة المسيطرة خلال القرن الميلادي الأول والتي كانت تجلس على سبع جبال؟ إنها روما بلا شك تلك المدينة التي بنيت على «سَبْعَةُ جِبَال.»
إن روما، كما صورها سفر الرؤيا، ليست مؤسسة خيرة أنشئت لتعمل على بسط الخير، كما إنها ليست خادمة للرب عينها من أجل رفاهية شعب الله كما يصورها بولس. إنها، في سفر الرؤيا، سلطة شنيعة وقذرة وعديمة الأخلاق على نحو فاضح ومستبدة استبدادا مبني على طبيعتها العنيفة، لم يعينها الرب، بل أعداؤه نصَّبوها. لكن يومها آت؛ وسيسحقها الرب عن قريب لكي يقيم مملكته الخيرة ويطيح بزانية بابل من على وجه الأرض.
. الخاتمة
لقد قمت منذ 25 عاما تقريبا إلى الآن بإلقاء دروس حول العهد الجديد في الجامعات، وخاصة جامعتي «روتجرز» و«نورثيرن كارولينا» بـ«تشابيل هيل». وكان ما وجدته أصعب الدروس صعوبة طوال كل تلك الفترة الزمنية في إيصاله إلى عقول الطلاب-أو أصعب الدروس التي كان علي أن أقنعهم بها- هو أن كل مؤلف من مؤلفي الكتاب المقدس، كما يزعم منهج النقد التاريخي، هو بحاجة لأن يسمح له أن يعبر عن رأيه الخاص بحرية، حيث يتحتم على هذا المؤلف أو ذاك وذلك في كثير من المواقف أن يكون له رأي في موضوع ما مختلف عن رأي المؤلف الآخر. في بعض الأحيان يكون الهدف من هذه الاختلافات إبراز شئ ما أو التأكيد عليه؛ وأحيانا تكون الاختلافات تناقضاتٍ بين روايتين مختلفتين أو بين أفكار مؤلفين مختلفين؛ وأحيانا تكون هذه التناقضات من الاتساع بحيث تؤثر لا في تفاصيل لا قيمة لها داخل نص بل في قضايا كبار كان هؤلاء المؤلفون يعالجونها.
حاولت أن أغطي بعضًا من التناقضات الطريفة «البالغة الأهمية» في هذا الفصل: من يسوع؟ كيف كان مجيئه إلى العالم؟ ما ماهية تعاليمه حينها؟ ماذا كان رد فعله تجاه حادثة موته؟ لماذا كان عليه أن يموت؟ كيف يتبرر الناس أمام الله؟ كيف ينبغي أن يتعامل المسيحيون مع السلطات الحاكمة؟ هذه القضايا هي قضايا محورية بالغة الأهمية بكل المقاييس. وبتنوع شخصيات مؤلفي العهد الجديد تنوعت الإجابات عليها.
من هم هؤلاء المؤلفين الذين كان عليهم أن يختلف أحدهم مع الآخر لوقت طويل حول مثل هذه القضايا الأساسية؟ هذا هو الموضوع الذي سيحتل فصلنا التالي في فحصنا لكتابات العهد الجديد على أساس أسس علم النقد التاريخي: فمن كتب الكتاب المقدس في الحقيقة؟Jesus, Interrupted: Revealing the Hidden Contradictions in the Bible



#مهرائيل_هرمينا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تناقضات العهد الجديد المنقح20
- تناقضات العهد الجديد المنقح21
- تناقضات العهد الجديد المنقح18
- تناقضات العهد الجديد المنقح19
- تناقضات العهد الجديد المنقح16
- تناقضات العهد الجديد المنقح17
- اسطورة العود الابدى ميرسيا الياد
- تناقضات العهد الجديد المنقح15
- تناقضات العهد الجديد المنقح13
- تناقضات العهد الجديد المنقح14
- تناقضات العهد الجديد المنقح11
- تناقضات العهد الجديد المنقح12
- تناقضات العهد الجديد المنقح9
- تناقضات العهد الجديد المنقح10
- تناقضات العهد الجديد المنقح8
- تناقضات العهد الجديد المنقح5
- تناقضات العهد الجديد المنقح6
- اريوسى..مؤرخ الكنيسة
- تناقضات العهد الجديد المنقح4
- تناقضات العهد الجديد المنقح2


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - مهرائيل هرمينا - تناقضات العهد الجديد المنقح23