أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منعم الأمساكي - فكرة الدولة بين العصرين الكلاسيكي والحديث .. من الكوسمو-بوليتيك إلى الدروا-بوليتيك (نموذجي أفلاطون ولوك)















المزيد.....

فكرة الدولة بين العصرين الكلاسيكي والحديث .. من الكوسمو-بوليتيك إلى الدروا-بوليتيك (نموذجي أفلاطون ولوك)


منعم الأمساكي

الحوار المتمدن-العدد: 5267 - 2016 / 8 / 27 - 21:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من المعروف في تاريخ الفلسفة أن لمفهوم الدولة Concept de l’Etat حصة لا يُستهان بها من النظر والتفكير والتأسيس والتأطير، وذلك ضمن إشكالات رافقت هذا المفهوم منذ تشكله إلى اليوم، من قبيل طبيعة الدولة وأسسها وغاياتها، وما تنفتح عليه من إشكالات أخرى تتعلق بأنظمة الحكم فيها. وتنبع جدة التصورات التي تناولت مفهوم الدولة من أصالة المفهوم ذاته وامتدادات التفكير فيه على مدى قرون خلت في إطار سياقات إشكالية مختلفة. فالدولة تحضر في مجموعة من التصورات عبر تاريخ الفكر مثل التصورات الأنتروبولوجية، السوسيولوجية والفلسفية تحديدا، بحيث تناول أفلاطون، في محاورة الجمهورية، الدولة من حيث معناها وأشكالها ونظام الحكم فيها، علاوة على اختصاصات أفرادها في إطارها، مقاربا إياها من زاوية نظر كوسمولوجية منسجمة مع نظريته في المثل.
ولم يكن التفكير في الدولة حكرا على أفلاطون وحده، بل امتد ليأخذ نصيبه من اهتمامات فلاسفة القرون الوسطى وعصر النهضة متمثلا، على الأقل، في قطبين من وزن "أبو نصر الفارابي" صاحب (آراء أهل المدينة الفاضلة) و"نيكولا ماكيافيل" صاحب كتاب (الأمير)، ليأخذ النظر في الدولة طريقا آخر سيركز فيه الاهتمام على علاقة الدولة بالقانون الوضعي مع فلاسفة العقد الاجتماعي وخصوصا مع جون لوك. وسيظل طريق الدولة مفتوحا للنقاش على مصراعيه (بالرغم من تبعات هذا النقاش) وصولا إلى فلاسفة ما بعد الحداثة (فوكو، ديريدا،...).
وبناء عليه، يأتي هذا المقال لمقاربة إشكالية طبيعة الدولة بين العصر اليوناني متجليا في صاحب الجمهورية، والعصر الحديث مع رائد الفكر التجريبي جون لوك، محاولا (المقال) تحليل وتفكيك الإشكال الذي يطرحه مفهوم الدولة بين التصور الكوسمو-بوليتيكي1 الأفلاطوني للدولة-المدينة والتصور الدروا-بوليتيكي2 "اللوكوي" (نسبة إلى جون لوك) للدولة المدَنيٌة، فإذا كان كل شيء في الكون في التصور اليوناني خاضع للنظام والترتيب والغائية بحيث يكون لكل جسم مبتدأ ومنتهى فإنه بانهيار هذا التصور في العصر الحديث سيصبح بالإمكان القول بالفضاء المتجانس، ومن ثمة فكل الأشياء تسير في الكون وفق قوانين ميكانيكية موحدة ما يعني نفي الغائية والقيمة والتفاضل بين الأشياء أو الأجسام، وانسحاب هذا الأمر على العالم الاجتماعي يفيد بنتيجة واحدة هي أن حياة البشر ستعرف الصراع والصدام على نحو ما تصطدم الأجسام ببعضها في الفضاء المتجانس، وهذا التصور الجديد للعالم سيطرح إشكالية تفادي الحروب وأنماط الصراع بين بني الإنسان في حالة الطبيعة للتأسيس لكوسموس اجتماعي سيجر معه الحديث عن الدولة وأشكالها والقوانين التي تنظم علاقات الأفراد داخل المجتمعات على نحو تعاقدي. وبعبارات استفهامية نقول : ما نمط حضور الدولة في الفكر السياسي الكلاسي خصوصا مع أفلاطون وفي الفكر السياسي الحديث مع جون لوك تحديدا؟ ما هي الطبيعة/الأسس/المبادئ التي تقوم عليها الدولة في كلا السياقين؟ هل هي مبادئ كونية خارجة عن إرادة الأفراد بحيث تكون الدولة خاضعة لمنطق النظام الكوني، أو بلغة الإغريق "الكوسموس"، أم أن مبدأها تعاقدي بين البشر ينبع من القانون والتشريع، ولا شيء آخر غير تواضع أو تعاقد اجتماعي بين حاكم ومحكوم لا دخل للميتافيزيقا فيه؟
- فكرة الدولة لدى أفلاطون Platon :
يُفرد أفلاطون حيزا هاما من تفكيره في "الشأن العام" Police لمفهوم الدولة؛ إذ أن الكتب العشرة المشكلة لمحاورة الجمهورية La République لا تكاد تتحدث سوى عن الدولة وتدبير الشأن العام، وإن كانت هناك موضوعات أخرى مرتبطة بها مثل النفس والتربية والفلسفة...إلخ حيث يُقارب أفلاطون الدولة انطلاقا منها.
إن التفكير الفلسفي في العصر اليوناني كان مطبوعا بسؤال الوجود ونمط حضور العالم والكون ونظام اشتغاله والتراتب الذي يخضع له، ولم يكن التفكير في الدولة ببعيد صلة عن هذا السياق الإشكالي؛ أي أن أفلاطون سيعمل على مقاربة الدولة ضمن إطار نسق الكوسموس من حيث طبيعته ونمط اشتغاله في انسجام تام مع نظريته في المثل. ولكي نعرض للتصور الأفلاطوني حول هذا المفهوم لا بد من الإشارة إلى الإطار العام أو زاوية النظر التي من خلالها يفكر هذا الفيلسوف في باقي الموضوعات والتي تشكل الدولة واحدة منها.
يمكن القول بأن الدولة عند أفلاطون تقام على فكرة كوسمولوجية يراعي فيها نسق نظريته في المثل؛ ذلك أن أفلاطون يقيم تمييزا بين العالم المعقول والعالم المحسوس ويعتبر العالم الحسي مجرد تخيلات وأشباه حقائق، والنظر في هذا العالم لا يوصل إلى الحقائق المطلقة، ولا يغدو الوصول إلى هذه الأخيرة ممكنا إلا بتأمل المعقولات في ذاتها من حيث هو عالم أسمى وأشرف من العوالم التي تقع دونه.
ينطلق أفلاطون في حديثة - بلسان سقراط في محاورة الجمهورية La République - عن تكوين الدولة L’Etatباعتبارها بنية كلية تخضع للقاعدة المنطقية التي تقول بأن "الكل أكبر من الجزء"، حيث أن "الدولة تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته، وحاجته إلى أشياء لا حصر لها" ، كما أنها تتأسس أيضا على مفهوم العدل إذ يجب أن يقوم كل فرد بوظيفة واحدة أهلته الطبيعة لإنجازها4 .
ولكي تتحقق الدولة على الواقع لا بد من وجود ثلاث طبقات/فئات اجتماعية، فئة الصناع أو المنتجين، وفئة المحاربين أو الجنود ثم فئة الحكام أو حراس الدولة. ولكل هذه الفئات دور أساسي في تكوين الدولة، ونمط تربية خاص، وفضيلة خاصة يتميزون بها. وإذا كان للدولة من نصيب في النشوء والاستمرار فلا بد لها من أن تتوفر على أربع فضائل ضرورية لتكون تامة الكمال، وأولى الفضائل هي: فضيلة الحكمة؛ ويختص بها جماعة من المواطنين عن معرفة وعلم، وهم مؤهلون لها، بالطبع والتربية والتعليم. وهذه الجماعة هي "الحكام-الفلاسفة" . وحالما يتولى هؤلاء مقاليد حكم الدولة تنتظم على خير وجه ممكن شؤونها الداخلية وعلاقتها ببقية الدول، وآنئذ يطلق عليها "دولة حكيمة" .
أما ثاني الفضائل فهي فضيلة الشجاعة. وتكتسب الدولة هذه الفضيلة من خلال شجاعة جنودها الذين يدافعون عن شرف دولتهم ويحصنونها من كل خطر خارجي فحين نصف دولة بالجبن أو الشجاعة، يقول أفلاطون، فلا نقصد شيئا آخر غير جبن أو شجاعة تلك الفئة التي تقاتل وتحارب في سبيلها . والشجاعة كفضيلة تعني عند أفلاطون المحافظة على الشيء، بمعنى أن الجنود، بعد تلقيهم المعرفة التي يبثها فيهم التعليم المشروع، تتكون لديهم القدرة على معرفة الأمور التي ينبغي أن يُخشى منها حق؛ أي معرفة بشأن الأمور التي ينبغي أن تُخشى عاقبتها. فالشجاعة تحافظ على هذه المعرفة دائما ولا تتخلى عنها لا في أوقات الشدة ولا في وقت الرخاء.
وبالرغم من توفر الدولة على فضيلتي الحكمة والشجاعة إلا أنها ما تزال في حاجة إلى فضيلتين أخريتين هما فضيلتا : الاعتدال والعدالة. فأما الاعتدال فهو يتحدد، بحسب أفلاطون، في كونه انسجام واتفاق بين الحكمة والشجاعة والعدالة، بحيث يكون الاعتدال نوعا من النظام Cosmos، والتحكم في اللذات والانفعالات، بمعنى تحكم الحكمة والعقل في الشجاعة حتى لا تصير تهورا، ومعناه أيضا، تحكم الأشرف في الأقل شرفا والسيطرة عليه. وبلغة أكثر بساطة، يعني الاعتدال، خضوع الجزء الأقل فضيلة في الدولة إلى الجزء الأكثر فضيلة فيها ، ومن هذا تستمد الدولة صفة المسيطرة على ذاتها " ما دام الاعتدال والسيطرة على الذات يوجدان حيث يسيطر الجزء الأفضل على الجزء الأخس"5 .
بقيت واحدة من الفضائل الأربع للدولة وهي فضيلة العدالة، ويقصد بها صاحب الجمهورية تماما ما يقصده بالعدل؛ إذ العدالة لا تعني شيئا آخر غير أن يؤدي كل فرد وظيفة واحدة في المجتمع أهلته الطبيعة ومنحته خير قدرة على أدائها دون أن يتدخل في شؤون غيره، بمعنى أن يضطلع كل فرد بمهمة واحدة ولا يجمع بين صنعتين أو أكثر، وإن فعل فلا يعود حديث هنا عن العدل، بل ينقلب إلى الظلم بما هو اختلال للتوازن، وعن هذه الفضيلة يقول أفلاطون : " أعني (بالعدالة) انصراف كل إلى ما يعنيه، هو ما قد يؤدي بنا إلى العدالة، إذا أديناه على النحو المنشود " . والعدالة هي الصفة التي تتيح لباقي الفضائل الأخرى (الحكمة، الشجاعة والاعتدال) أن تحتل مكانها في الدولة وتضمن لهذه الأخيرة استمرارها ما دامت قائمة .
يترتب عن هذا أن الدولة لدى أفلاطون تنطبع بطباع نفوس أهلها، وعلى أساس هذا المبدأ يسير صاحب الجمهورية في تعداد أنواع الحكومات التي يمكن أن توصف بها دولة من الدول، ويجملها في خمسة أنواع تناظر طباع نفوس البشر، ويرتبها من أشرفها إلى أدناها، فيبدأ بنوعين من الحكومات يراهما لا يشكلان فارقا كبيرا؛ إذ يصنفهما ضمن أسمى وأشرف الحكومات وهما : الحكومة الملكية التي يسيطر فيها أحد الحاكمين على الباقين، والحكومة الأرستقراطية التي يتقاسم فيها السلطة عدة أشخاص . ثم يأتي نظام حكم آخر أو حكومة أخرى أقل شرفا من الأولى يسميها أفلاطون الحكومة التيموقراطية أو التيماركية Timocracy-Timarchy، وهي نموذج الحكم الذي كان سائدا في اسبرطة في عصر أفلاطون، وتخضع للمبدأ الغضبي أكثر مما تخضع للمبدأ العاقل . وبعدها يأتي نظام الحكم الأوليغارشي الذي يقوم على الطمع في جمع الثروة ويحكم فيه الأغنياء دون مشاركة الفقراء في السلطة على الإطلاق ، وفي مرتبة رابعة يوجد نظام الحكم الديمقراطي الذي يتم فيه غالبا اختيار حكام بنظام القرعة لا على أساس تملكهم للحكمة والفلسفة . وهذا النموذج من الحكم لا يخضع لفضيلة الاعتدال ولا لفضيلة العدالة، وهو ما يجعل أفلاطون يحمل عليه وعلى الشخص الذي يناظر في طباعه الدولة الديمقراطية والذي يسميه "ديمقراطيا"، كما يعتبر الحرية آفة هذا النظام من الحكم.
ومن خلال تفشي الحرية في أوجهها العامة بين المواطنين وغير المواطنين (العبيد) ينشأ نظام حكم خامس أدنى وأقل شرفا من جميع الحكومات التي سبق ذكرها، وهي حكومة الطغيان والطاغية؛ إذ في ظل هذه الدولة تفسد أخلاق العامة والخاصة ويعلو الصغير ويصغر الكبير، ومن ثمة فالتطرف في الحرية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التطرف في العبودية، سواء في الفرد أو في الدولة .
وبناء عليه فالدولة عند أفلاطون مبدؤها وجودي ذو طبيعة كوسمولوجية خاضعة لنظام تراتبي ضروري ولزومي يجد مشروعيته في خضوع الأقل شرفا إلى الأكثر شرفا بفعل ما وضعته الطبيعة في نفوس البشر الذين منهم تتكون الدولة وتتصف بصفاتهم .
- فكرة الدولة لدى جون لوك Jon Lock:
وإذا كان هذا هو التصور الكلاسيكي للدولة، فإنه مع فجر العصر الحديث سيأخذ التفكير في الدولة ذاتها مسارا خاصا، ذلك أنه لن يعود بالإمكان القول بأن طبيعة الدولة وأساسها ميتافيزيقي عمودي، بل سيصبح منطق مقاربة الدولة منطقا أفقيا، تعاقديا، توافقيا ومتواضعا عليه. وبلغة أكثر دقة، إذا كانت آراء أفلاطون التي عرضناها آنفا تحل الطرف الأول من إشكالية الدولة من حيث مبدئها وطبيعتها وعلاقتها بالفرد من منظور كوسمولوجي، فإن الطرف الثاني منها (الإشكالية) سيتعلق بالدولة كتنظيم سياسي يؤطر الأفراد المتواجدين في مجتمع معين مستعينة (الدولة) في ذلك بفكرة القوانين، وبالتالي فالمنظور المقابل "للكوسمو-بوليتيك" Cosmo-politique الأفلاطوني نحدده في منظور "الدروا-بوليتيك"Droit-politique لجون لوك.
يبدأ جون لوك في بحثه لنشوء الدولة وأنواع أنظمة الحكم في إطار فلسفته السياسية انطلاقا من مفهوم "الطور الطبيعي"/"حالة الطبيعة" Etat Naturelle، وهي حالة مفترضة يبني عليها لوك تصوره للدولة فحالة الطبيعة عنده سابقة على كل دولة أو حكومة أو أي تنظيم سياسي آخر في المجتمع الإنساني وغاية لوك في ذلك هي بيان كيفية انتقال البشر من هذا الطور إلى طور المدنيةEtat Civile ؛ ففي حالة الطبيعة يتمتع البشر بالحرية التامة إزاء ما يقومون به من أعمال دون أن يكون لأحد الحق في إخضاع الآخر، ومعنى هذا القول أن البشر في هذه المرحلة متساوين من ناحية السلطة والسيادة كل التساوي ، ويدرج لوك الحرية والتساوي ضمن ما يسميه بـ : "سُنٌة الطبيعة" التي يخضع لها الجميع وهذه الأخيرة تعني، بكل بساطة، العقل، فالعقل Raison هو سُنة الطبيعة حيث يعلم البشر كيف يعيشون مع بعضهم البعض دون مساس واحد منهم بممتلكات الآخر أو شخصه .
غير أن مشكلة حالة الطبيعة هاته تبدأ عند خرق أحدهم لسُنة الطبيعة وتعديه على الآخر أو ممتلكات غيره، فيكون من اللازم، آنئذ، تنصيب شخص وتركيز نوع من السلطة في يده ليأخذ حق المغتصب (بفتح الصاد) من المغتصب (بكسر الصاد) وليحافظ على "الناموس" أو العقل، أو بلغة لوك ذاته سُنة الطبيعة القائلة بالمحافظة على مصالح البشر وسلامتهم .غير أن ما يُلاحظ في تنصيب أحد وتركيز مشروعية استخدام السلطة لديه لمعاقبة الجُناة أنه يتم اتفاقا بين جميع البشر وليس تنصيبا بالقوة وغاية هاته المواضعة، في آخر المطاف، هي وجود فرد يستطيع تنفيذ قانون الطبيعة (بمعنى الحرص على تطبيق سُنة الطبيعة) حتى لا يكون غير ذي جدوى. وهكذا يحدث أن يكون لفرد ما سلطة على الآخرين يستعملها لا في شكلها المطلق أو المفرط، بل بما يتوافق و"العقل" والاتزان والضمير الذي ينبع من الطبيعة لعقاب المجرم بسبب خرقه لسُنة الطبيعة .
وإذا كان الإنسان – بحسب جون لوك – كائنا اجتماعيا بطبعه، يوجد في مجتمع واحد مع بقية الأفراد الآخرين ويتمتع بحرية مطلقة ومساو لغيره في كل شيء في حالة الطبيعة، فإنه بمجرد ظهور أول حالة اعتداء سيؤدي مباشرة إلى ضرورة إفراز حاكم يطبق القصاص ويعيد الحق لصاحبه ويعاقب المعتدي. وهذا الانتقال يتطلب، أول ما يتطلب، تخلي الأفراد عن جزء من حرياتهم المطلقة لصالح الحاكم ليكون لديه حق استخدام السلطة في ردع المخالفين لقانون الطبيعة، وقد يكون هذا الحاكم عبارة عن فرد أو مجموعة أو جماعة توكل إليها هذه المهمة، وفي هذا الأمر يختلف ويتميز طرح لوك عن طرح هوبز، وهو ما يشكل في آخر المطاف انتقالا من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية .
على أن مهمة الجماعة الحاكمة تقتصر في هذه المرحلة (مرحلة العقد الاجتماعي) على صياغة قانون شامل والعمل بمقتضاه على تنظيم الشأن العام وهنا يُلاحظ الاختلاف بين الطرح الأفلاطوني والطرح "اللوكوي"؛ إذ أن الأول يستند فيه الحكام على المبدأ الكوسمولوجي الذي يقوم على مراعاة الفوارق الاجتماعية والطبيعية لكل من الصناع والعبيد في مرتبة دنيا، والجنود في مرتبة وسطى، والحكام في مرتبة عليا. أما الثاني فيستند إلى مبدأ التساوي بين الجميع بقوة القانون، لا بقوة الطبع والطبيعة. ومن ثمة فمهمة الجماعة الحاكمة عند لوك تكمن في تولي السلطة وتنفيذ القانون والفصل في الخلافات بحسب ما تم التعاقد حوله والمواضعة بشأنه وهذه الحالة المتقدمة من تطبيق القوانين وتنزيل الشرائع هي ما تمثل المجتمع المدني وتقطع مع حالة الطبيعة .
ومن هذه الفكرة الأخيرة (فكرة الإنسان في حالة الطبيعة الذي يمارس سلطة الحاكم والجلاد) تتبلور فكرة فصل السلط لدى لوك وعدم تجميعها في يد واحدة لضمان القول إننا، آنئذ، نعيش في حالة المدنية وإن حصل ووُجد لدى حاكم جميع السلطات (التشريعية والتنفيذية) فإن ذلك الحاكم لم يخرج بعد من حالة الطبيعة. يقول لوك : "(...) إذ لما كان يفترض أنه (الحاكم) يتمتع بمفرده بجميع أشكال السلطة، التشريعية والتنفيذية، فليس ثمة قاض يحكم بعدل وتجرد وحزم، بوسع أي امرئ أن يلوذ به، وبوسع المظلوم أن يُنصف ويُجار على يده، إذا لحق به من الملك أو أعوانه أذى أو إساءة. مثل هذا الرجل سواء أدعوناه القيصر César أم السيد Grand Signior، أو ما شئت من الأسماء، يعيش في ظل "الطور الطبيعي" مع رعيته، شيمة سائر البشر" .
وعلى ذلك، فإذا كانت طبقة الحكام عند أفلاطون في جمهوريته هي من يُخول لها بحكم طبيعتها تدبير شأن الدولة وتسيير المدينة، وهي من تشرع القوانين وهي من تسهر على تنفيذها، وهي من تقضي في نزاعات المواطنين بعضهم مع بعض، أو بينهم وبين غير المواطنين (العبيد)، وأن لا حق للعبيد (بوصفهم غير مواطنين) في التصويت أو المشاركة في تدبير الشأن السياسي بحجة أن الطبيعة لم تؤهلهم لهذا العمل لكونهم أقل شرفا إذا ما قورنوا بشرف الفعل السياسي، فإن جون لوك يعتبر الكل، حاكمين ومحكومين، مواطنين لا فروق بينهم، لا من ناحية الطبع ولا من ناحية الاجتماع، وكل فرد يتفق ويتواضع على سن قوانين وشرائع سيخضع لها بنفسه وينضبط إليها.
مصادر ومراجع :
1 : نقصد بعبارة الكوسمو-بوليتيك Cosmo-politique التصور المثالي الأفلاطوني للسياسة وللدولة وللحكومات الذي يربطها بنظام الكون القائم على تراتبية محكومة بمنطق خضوع الأدنى إلى الأعلى أو الأخس إلى الأشرف؛ بمعنى مقابلة الدولة ومكوناتها بالكون/الوجود وعناصره.
2 : نقصد بعبارة الدروا-بوليتيك Droit-politique التصور الحديث في مجال السياسة الذي سيربط الدولة بالقانون المتواضع عليه لا بالميتافيزيقا.
3 : أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثاني، ترجمة فؤاد زكريا، مراجعة على الأصل اليوناني محمد سليم سالم، فضاء الفن والثقافة، ص : 54 .
4 : يعني مفهوم العدل عند اليونان عامة ولدى أفلاطون على وجه التحديد أن يقوم كل فرد بالعمل/الدور الذي أهلته الطبيعة لإنجازه، وذلك في مقابل الظلم الذي يعني، بكل بساطة، اختلال التوازن، فاشتغال الفرد بأكثر من صنعة واحدة يؤدي إلى اختلال توازن الدولة.
5 : نجد هذا الترتيب الذي يقيمه أفلاطون بين طبقات الدولة، من حيث خضوع الأقل شرفا إلى الأكثر شرفا فيها، نجده يقيمه في موضوعات أخرى مثل النفس وأنظمة الحكم، بل في نظام الكون أساسا إذ منه يستمد هذا الترتيب ومن خلاله يطبقه على باقي الموضوعات الأخرى. ومن ثمة نقول بأن وجهة نظر أفلاطون للدولة هي وجهة كوسمولوجية؛ أي تخضع لنفس التراتبية التي يحددها في الكون.
6 : جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت، 1959، ص : 139.



#منعم_الأمساكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فكرة الدولة بين العصرين الكلاسيكي والحديث .. من الكوسمو-بولي ...


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - منعم الأمساكي - فكرة الدولة بين العصرين الكلاسيكي والحديث .. من الكوسمو-بوليتيك إلى الدروا-بوليتيك (نموذجي أفلاطون ولوك)