أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ريان شبقلو - ملامح الأزمة: مقابلة مع مايكل روبرتس















المزيد.....


ملامح الأزمة: مقابلة مع مايكل روبرتس


ريان شبقلو

الحوار المتمدن-العدد: 5259 - 2016 / 8 / 19 - 09:34
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



الكاتب/ة: مايكل روبرتس، س. ديريك فارن.

ترجمه‫/‬ته الى العربية‫:‬ ريان شبقلو


مايكل روبرتس هو عالم اقتصاد ماركسي. ألّف كتاب "الكساد الكبير: نظرة ماركسية" (The Great Recession: A Marxist View) عام 2009. هو صاحب المدونة الاكترونية "الكساد التالي" (The Next recession)، ويقوم حالياً بتأليف كتاب جديد. س. ديريك فارن، أستاذ وكاتب دوليّ، عمل ونشط في عدد من البلدان منها: جنوب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والمكسيك.

(ملاحظة هامة: نشرت المقابلة في 19 حزيران/يونيو 2013).

--

س. ديريك فارن: هل تعتقد أن المعارك الأخيرة ضد الحركات المناهضة للنيوليبرالية، كتلك التي في اليونان وقبرص، وفي الولايات المتحدة بدرجات أقل، قد حالت دون انتباه بعض الاشتراكيين إلى مشاكل الاقتصاد الكينزي؟

مايكل روبرتس: أجل، فقد تبيّن فشل السياسات النيوليبرالية التي تبنّتها الحكومات والتوافق الاقتصادي بعد الكساد الكبير عامي 2008- 2009، وبعد الانتعاش الضئيل للاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الذي تلى الكساد، وقد وصفت هذا الأمر بالركود الطويل. أدّت هذه السياسات النيوليبرالية إلى: عودة إلى "السوق الحرة" (وهي خرافة)- تقليص حقوق الحركة العمالية المتعلقة بالأمن الوظيفي وبشروط العمل والحد الأدنى للأجور- الحد من الخدمات العامة والاستعانة بمصادر "خارجية" لها (باستثناء الدفاع والشرطة)- خصخصة أصول الدولة وتحويلها إلى احتكارات خاصة- رفع القيود عن نشاطات مختلفة، منها نشاط المصارف، لكي "يصبح أي شيء صالحاً"- خفض الضرائب على الشركات بنسبة كبيرة وزيادة الضرائب غير المباشرة- السماح باحتداد التفاوت في الدخل والثروة، والادّعاء، في نفس الوقت، بأن اغتناء الأشخاص الأغنى سينعكس إيجاباً على الباقين.

لقد تبيّن أن هذه السياسات فاشلة. كان متوسّط نمو الاقتصادات الكبرى من الثمانينات حتى 2007 منخفضاً مقارنة بالنمو في الفترة الممتدة بين 1940 و1973؛ هذه الفترة المسماة بالعصر الذهبي، حيث كانت القيود أشدّ، والدولة معنية أكثر بالرفاه، وحيث كانت الملكيات العامة اكثر انتشاراً وحقوق العمال أفضل. لكنه يجب التشديد على التالي: الأمر الوحيد الذي تحسّن في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى منذ الثمانينات حتى نهاية القرن العشرين هو ربحية رأس المال. وهذا ما هدفت إليه السياسات النيوليبرالية، بدلاً من زيادة النمو الاقتصادي أو تحسين مستوى المعيشة لأكثرية الشعب. وعندما أخذت الربحية تنخفض مجدداً في نهاية التسعينات في عددٍ من الاقتصادات الرأسمالية، بات الوضع جاهزا للمرور بأزمات اقتصادية متجددة. كان هذا الانهيار أشدّ من غيره، نظراً للكميات الهائلة من الدين ورأس المال الوهمي التي تم خلقها واستثمارها في رؤوس أموال غير منتجة، مثل الأصول المالية والعقارات.

نظرية الاقتصاد الكينزية لا تعترف بهذا التحليل للربحية ولرأس المال الوهمي، ولا تتقبّله طبعاً. بحسب النظرية الكينزية، لا يشكو القطاع الإنتاجي الرأسمالي من أي مشكلة: فالانتاج بهدف الربح الفردي الرأسمالي في السوق هو أمر جيد. يرى الكينزيون أن المشكلة هي دور المال في الاقتصاد الرأسمالي، فهو قد يسبب أضراراً وعدم استقرار وتدنّي الطلب. يلقون اللوم على رأس المال الاستثماري غير المقيّد والخارج عن السيطرة، وليس على نظام الانتاج الرأسمالي. لذلك، الأزمات الاقتصادية لا علاقة لها بالربحية أو بكتلة الأرباح، بل هو نتيجة نقص في الطلب، الذي هو، بدوره، نتيجة تكديس المال. لذا، بحسب هذه النظرية، يكمن الحلّ في تدخّل الحكومة والسلطات النقدية بهدف إعادة إنعاش "الطلب الإجمالي"، ويتم ذلك عبر الطرق التالية: الأولى، هي تخفيض نسبة الفائدة حتى الصفر. وفي حال فشلت، يعتمدون الثانية، وهي "خلق" المال لكي يقوم الوكلاء الاقتصاديون بإنفاقه (البنوك، الأعمال التجارية، الأشخاص). وإن فشلت تلك أيضاً، فينتقلون إلى الثالثة، وهي أن تزيد الحكومة إنفاقها. نرى إذاً أن هذه السياسات لا تأخذ بعين الاعتبار تأثير الربحية، وتتذرّع بأن زيادة الإنفاق تساوي زيادة في النمو وفي الربح. تنظر الماركسية إلى هذا التسلسل بالاتجاه المعاكس، أي أن المزيد من الأرباح تؤدي إلى زيادة الاستثمارات والنمو، وبالتالي زيادة في الانفاق.

إذا تبنّينا وجهة نظر كينزية، سنعتبر فشل السياسيين والحكومات بزيادة الانفاق جنوناً. ألا يريدون الرأسمالية أن تشفى؟ هذا رأي بول كروغمان، أبرز اقتصادي كينزي، الذي يعتمد عليه العديد من الاشتراكيين في جدالهم ضد السياسات النيوليبرالية، وضد ما أصبح يسمّى بـ"التقشف". في نيسان/ أبريل 2013، كتب كروغمان في مدونته الالكترونية: "السبب الرئيسي وراء ضعف انتعاش اقتصادنا هو أننا ذُعرنا من التخويف حول الديون، فقمنا بالحدّ من الإنفاق الحكومي في ظلّ الكساد، بالرغم من أن هذا عكس ما يعلّمنا إياه علم الاقتصاد الكليّ". لكن هل هذا هو السبب الرئيسي للكساد الطويل؟ لا أعتقد ذلك. تسعى المقاربة الماركسية إلى دراسة الربحيّة في الاقتصادات الكبرى والتحوّلات التي تطرأ عليها. عند اعتماد هذه المقاربة، نجد أن الربحية عادت إلى مستويات عام 2006 في الولايات المتحدة فقط، لكنها لم تزل، حتّى هناك، أدنى من الذروة التي بلغتها عام 1997. أما في أوروبا واليابان، فهي ما زالت أدنى بكثير من ذروة الربحية التي بلغتها عام 2006. هذا يعني أن الاستثمارات الانتاجية والنمو الاقتصادي لا يزالان ضعيفين في كل مكان. تفضل الشركات الرأسمالية الحفاظ على أرباحها و/أو تسديد ديونها أو النظر مجدداً في أصول مالية أصبحت أسعارها منخفضة بسبب سياسات الفائدة المنخفضة للبنك المركزي.

لا تتبنى الحكومات برامج الانفاق المالي لهذا السبب؛ ليس لأنها حكومات خرقاء، بل لأن هذه البرامج قد لا تزيد من الربحية. قد تخلق زيادة الانفاق الحكومي بعض فرص العمل، طبعاً، خاصة إذا تمّ الانفاق عن طريق استثمارات حكومية مباشرة في مشاريع البنى التحتية، وإذا تم جمع المال لذلك عبر الاقتراض بدلاً من زيادة الضرائب. إلّا أن هذه السياسة لن تزيد من الربحيّة لأغلبية الرأسماليين، ولن تشجّع بالتالي الاستثمار الرأسمالي. من جانب، قد تُرغم الحكومات على الاستيلاء على كتلة الاستثمارات في اقتصاداتها، الأمر الذي يؤدي إلى تخطيط اشتراكي؛ ومن جانب آخر، قد تجد أن النمو لم يتحقق فيما تتزايد ديون الحكومة وتصل الفوائد عليها إلى نسب مرتفعة جداً، وهي ترجع للبنوك والرأسماليين. أظهرت تجربة الكساد الكبير في الثلاثينات أن تدابير روزفلت عبر الصفقة الجديدة (New Deal) قد أمّنت بالفعل بعض فرص العمل لفترة قصيرة، لكنها لم تستطع المحافظة عليها لمدى أطول، فدخل اقتصاد الولايات المتحدة في كساد آخر في 1937- 1938 لأن الربحية لم تعد إلى مستوياتها السابقة. كما جادل كروغمان نفسه في كتاب "أنهوا الكساد الآن"(End Depression Now)، استلزم الأمر اقتصاد حرب لتأمين فرص العمل وتحقيق النمو. الاقتصاد الكينزي هو "كينزية عسكرية"، على ما يبدو.

أستطيع أن أواصل الكلام- كما ترون! لكن ما يقلقني هو أنه قلما يرجع اليسار إلى هذا النقد للكينزية في معركته ضد النيوليبرالية. فالأفكار الكينزية، مثل تخفيف التقشف وزيادة الانفاق والأجور المتدنية، أو أن أساس المشكلة هو "اللامساواة" (أمر لا يتقبّله كروغمان)، هي أشياء تسيطر على تفكير اليسار. لماذا؟ أولا، لأنه من المقبول سياسياً نشر فكرة أن زيادة الانفاق هي ضد "التقشف"... لكنها لا تهدد فكرة الرأسمالية بحد ذاتها. لذا "يتقبّلها" حزب العمال وقادة النقابات. وثانيا، لأن المطالبة بزيادة الأجور والإنفاق ولوم المصرفيين أبسط من الإمعان في التفكير في عمليات الانتاج الرأسمالي وفي عيوبها.

في وقوفهم مع الكينزيين وغيرهم ضد سياسات التقشف وضد السوق النيوليبرالية الحرة، على الاشتراكيين أن يعوا أن البدائل الكينزية ليست حلولاً طويلة المدى، وأنها قد تخلّف حتى بعض أسوأ المشاكل، مثل تدنّي الربحية وتزايد التضخم، ولاحقا بالرأسمالية، وبالتالي بالعمّال،، كما حصل في السبعينات.

هل تعتقد أن نموذج قبرص قد يصبح نموذج عمل معياري تعتمده البلدان الأوروبية الاخرى خلال الأزمة المستمرة؟ وما يعني ذلك في رأيك؟

تضمنت خطة إنقاذ قبرص ما سمّي بـ"قصات الشعر" لمن يودِع المال للمرة الأولى. حتى ذلك الحين، لم يخضع لـ"قصات الشعر" سوى حاملو الأسهم في البنوك التي أفلست أو احتاجت إلى إعادة الرسملة بسبب خساراتها الكبيرة؛ أو بسبب حاملي السندات والدائنين غير المضمونين. كانت الودائع آمنة. لكنه توجّب أخذ أية فرصةٍ كانت في قبرص، لأن الودائع كانت تشكل 95% من كل الأصول في البنوك القبرصية، أغلبيتها ودائع للمتهرّبين من الضرائب الرّوس والأوليغاركيين.

الفكرة القائلة بأن كل الإيداعات، بما فيها تلك الأدنى من مستوى مئة ألف جنيه استرليني المضمون، يمكن المس بها، كانت فكرة كارثية، فقد جعلت الناس يشكون أن أموالهم الموجودة في البنوك ليست بمأمن من لصوص مؤسسات منطقة اليورو. اقترح رئيس الجمهورية القبرصية اليمينيّ هذه الفكرة في الأساس، فقد أراد تخفيف الضربة التي سيتلقّاها أصدقاؤه الرّوس الأثرياء وزملاؤه السياسيون أيضاً، كما اتضح مؤخراً. لكن هذا الخطأ تمّ التراجع عنه تحت الضغط الديمقراطي للبرلمان القبرصي. لكن ثمة خطر ما زال يلوح في الأفق، وهو أن الأفراد الذين يحاولون الحفاظ على أموالهم قد يسارعون لسحب ودائعهم. قد نشهد هذا السيناريو في قبرص عندما تُرفع جميع الضوابط عن رؤوس الأموال.

يعني ذلك أيضاً أنه من الآن فصاعداً، ستجرّ خطط الإنقاذ خسارات على القطاع الرأسمالي (مثلاً، البنوك الأخرى) لأن المواطن الألماني الذي يسدد الضرائب لن يريد الاستمرار بدفع فاتورة جرائم وجنح (كما يرونها) المصرفيين اليونانيين والقبرصيين وربما حتى السلوفينيين. قد يبدو ذلك أكثر عدالة، لكنه يعني أيضاً أن "قصات الشعر" المفروضة على القطاع الخاص في قبرص وآخر خطة إنقاذ لليونان كلّفتا البنوك القبرصية خسائر هائلة على مستحقاتها من الدين اليوناني، لذا أفلست. في حلقات الرأسمالية العالمية المترابطة، قد يجرّ فيها أي شيء أحداثاً أخرى.

كيف غيّر الكساد الأخير الساحة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة في رأيك؟

تعيش أوروبا ركوداً أو كساداً مستمراً ومتدهوراً، باستثناء البلدان الاسكندنافية وألمانيا حيث هناك بعض النمو الطفيف. حتى بلدان أوروبا الشرقية تمرّ بصعوبات. بلغت البطالة لدى الشباب نسبة لم تشهدها المنطقة من قبل. حتى زعماء منطقة اليورو يعترفون أن إحقاق نمو اقتصادي كاف لن ينجح وحده في تغيير نسبة البطالة. إن طالت فترة الكساد أكثر، سيبتعد الناس عن أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط ويدخلون ما يسمّى بالأحزاب المتطرّفة، أو بالأحرى الأحزاب/الحركات البديلة الجديدة: سيريزا والفجر الذهبي Golden Dawn في اليونان، الفايف ستار Five-Star في ايطاليا، إندينيادوس Indignados في اسبانيا، أو حتى في حزب ألماني يتبنى الشكوكية الأوروبية (Euroscepticism) ويطالب بالخروج من الاتحاد الاوروبي. لكن هذا التطور لم يفضِِ باليورو إلى مرحلة فاصلة. يؤيد معظم الموجودين داخل منطقة اليورو فكرة اليورو، بما فيهم الايطاليين والقبرصيين والألمان. حتى الوقت الحالي. في حال عاد النمو الاقتصادي، سينجو اليورو. لكن ذلك قد يستغرق سنيناً. وفي حال طرأ كسادٌ عالمي آخر، لا فرصة لنجاته.

كان أداء الاقتصاد الأميركي جيداً بالنسبة لذلك الأوروبي للأسباب التي سبق وذكرتها (الربحية)، لذا لم يتغير المشهد السياسي كثيراً. يتّفق الديمقراطيون والجمهوريون على التقشف المالي، لكن الديمقراطيين يريدون زيادة الضرائب، والجمهوريون يريدون الحد من الانفاق الحكومي. تُرينا استطلاعات الرأي وجود معارضة كبيرة ومستمرة للتقشف وللمصرفيين وضد تدمير الرعاية الاميركية. لكن لا يتم التعبير عن هذه المعارضة بنفس الحدّة التي تتم في أوروبا.

أكرّر، في حال حصول ركود عالمي جديد، قد يتغير هذا السيناريو. لكن لا يمكننا الجزم الآن.

لماذا يبدو، برأيك، الكثير من الكينزيين والماركسيين المؤيدين لنظرية قصور الاستهلاك والذين يجادلون أن المشاكل الاقتصادية الرئيسية مرتبطة بنسب الاستهلاك، لماذا يبدون متكتّمين حول موضوع الركود التضخّمي في أوائل السبعينات ومنتصفها، قبيل النيوليبرالية، وكأن النيوليبرالية لم تكن سوى مشروعاً سياسياً؟

أيد الكينزيون منحنى فيليبس الذي يظهر علاقة عكسية بين مستويات البطالة والتضخّم في السبعينات. لذا كان صعبا أن تشرح لهم، أن نظرية المنحنى خاطئة، وأنه يمكن أن يرتفع مستويا البطالة والتضخم في الآن عينه. سمعت بعض التفسيرات المبنية على فكرة تنوّع توازنات التوظيف التي تتغير بحسب تفضيلات السيولة المالية لدى الوحدات الاقتصادية، وخاصة أنه في حال راود الشكّ الأفراد والأعمال، يبدأ الأخيران بادخار أموالهم عندما ترتفع مستويات البطالة. وإذا استمرت البنوك المركزية بضخ الأموال، سيزداد التضخم. يشبه ذلك النظرية المالية لـ"عدم تسريع معدل التضخم للبطالة" (NAIRU).

لكن مؤيدي نظرية قصور الاستهلاك، يبقى عليهم أن يفسروا لماذا كانت "حصة الأجور" مرتفعة للغاية في السبعينات، وحدثت أزمة اقتصادية كبيرة بالرغم من ذلك في 1974-1975 وفي 1980-1982. ينفي مؤيدو هذه النظرية، والكينزيون على حدّ سواء، أن للربحيّة أي دور في خلق الأزمات. ومع ذلك، يقدّم هبوط مستويات الربحية من منتصف الستينات حتى 1982 تفسيراً واضحاً للأزمات، وتوضيحاً لأسباب فشل سياسات وتفسيرات الكينزيين ومؤيدي قصور الاستهلاك. يجادل الما بعد كينزيون أحياناً أن أزمة السبعينات سبّبتها الأرباح (الضغوط على الأرباح)، وأن الأزمة الحالية سببها الأجور (الضغوط على الأجور). لست أكيداً إن كان هذا تحليلاً كينزياً، فهو يبدو أقرب إلى تحليل كاليكي (Kalecki).

النيوليبرالية هي سياسة تم تطويرها في ردّ فعل لفشل السياسة الكينزية التي هدفت إلى وضع سياسات دخل تحافظ على مستويات منخفضة للأجور والتضخّم. كانت النيوليبرالية مشروعاً اقتصادياً يهدف إلى رفع مستوى الربح، ولم يكن "مجرد مشروع سياسي" يريد الإساءة بحق العمال. قالت مارغريت تاتشر إنه "لا بديل عنه".

هل تعتقد أنه ثمة إمكانية لتشكل حزب عمّالي في الولايات المتحدة كردّ فعل للأزمة الاقتصادية في اوروبا؟

نادراً ما تتشكل الأحزاب العمّالية خلال فترات الكساد (مثل 1880ات أو 1930ات). بل كانت تتشكل عادة خلال فترات الانتعاش التي تلي تقوية القوى العاملة. ظهرت النقابات الجديدة المبنية على الصناعات الجديدة في الـ1890ات، وأدّت إلى ظهور حزب يوجين فيكتور دبس الاشتراكي في الـ1900ات وحزب العمال في المملكة المتحدة في الـ1900ات، وحصل الأمر نفسه في أوروبا. حتى الحركة الشارتية ظهرت في المملكة المتحدة خلال الـ1830ات والـ1840ات، بعد مرور فترة طويلة على الانتعاش من الكساد الذي تلى الحرب، أو ما بعد الحرب النابوليونية.

لهذا السبب، لا أرى قيام حزب عمالي في الولايات المتحدة، ولا إعادة إحياء لأحزاب أوروبية قبل حلول فترة انتعاش نسبي. لكننا في الوقت الحالي نشهد حركات احتجاجية متفاوتة معادية للرأسمالية تطالب بطرق بديلة. لكن هذا مجرد تكهّن، ولا شيء يتكرر كما هو.

هل من نزعات حالية في الاقتصاد الماركسي تزعجك؟

لا يزال الاقتصاديون الماركسيون منقسمين على أساس تحليلهم لنظرية القيمة ولقانون الربحية الماركسي ولنظرية الأزمة الماركسية. وهم يتنازعون حول المعلومات المتوفرة أيضاً. لكن هذه هي العلوم، وهذا هو العالم. هذا ليس سبباً للقلق بحد ذاته. الأمر الذي يزعجني هو تشديد بعض الماركسيين أن الأزمات الرأسمالية يسببها نقص استهلاك (أجور متدنّية وعدم مساواة حادة)، وليس نقصا في الاستثمار. يمكننا طبعاً ألّا نوافقهم. لا أعتقد أن ماركس أيّد تفسير قصور الاستهلاك او تفسير اللامساواة الطاغيين لدى ريشارد وولف ودايفيد هارفي والما بعد كينزيين. وما المشكلة في ذلك؟ قد يكون ماركس مخطئاً. لكن الأدلة الوضعية تدلّ بوضوح أن الكساد الكبير نتج عن أزمة استثمار، وليس عن أزمة استهلاك (أنظر/ي إلى الرسم التوضيحي هنا).

وقد ينتج خطر سياساتي عن هذا الخطأ. سيطالب بعض الماركسيين برفع الأجور من أجل "حلّ" أزمة الأجور المنخفضة لكن هذا ليس بحلٍّ لأنه سيؤثر سلباً على الربحية. سيكون حلا ضمن "نظام الانتاج الرأسمالي" وليس بديلاً عنه.

لماذا يتمتع نموذج قصور الاستهلاك بشعبية كبيرة، في رأيك؟

لسبب بسيط: ارتفاع الأجور يعني ازدياد الانفاق وبالتالي ازدياد النمو. الشرح داخل الحركة العمالية آمن أكثر: الأجور المتدنية واللامساواة ليست عادلة. لكن هذا لا يجعل من استبدال نمط الانتاج الرأسمالي الحل الاقتصادي المستدام الوحيد. رفع الأجور وتعزيز المساواة يمكن أن يساهم في إيجاد حلّ داخل إطار رأسمالي أكثر عدالة، كما حصل في "الاقتصاد المختلط" في الستينات.

على أية أسس يقيّم المهتمون بالنظرية الماركسية علماء الاقتصاد إن لم يكونوا، هم أنفسهم، اقتصاديين؟

المظهر الحسن! أو بالأحرى التفسير الواضح هو ما يميّز النظرة الماركسية عن علم الاقتصاد السائد، والتوضيح المقنع لمسببات الأزمات وانعدام المساواة في الاقتصادات المعاصرة. وبعض التواضع أمام حدود معرفة الحقائق. الاقتصادي الماركسي البارع يمزج فهمه للنظرية للماركسية مع أدلة تجريبية تبرهن النظرية، إضافة إلى سياسات عمليّة لتغيير العالم الاقتصادي.

بخصوص الأدلة التجريبية، هل لديك أية توقّعات حول ما سيحدث مع تباطؤ إنتاجية الصين اليوم، وما الذي سيترتّبه ذلك على الطبقة العاملة؟

علم الاقتصاد السائد وممن يسمّون بـ"خبراء الصين"، أمثال مايكل بتيس وريتشارد لايار، مقتنعين بأن الصين ستُرغَم على التخلّي عن نموذجها الاقتصادي الناجح القائم على استثمارات تقودها الدولة وعلى الصناعات التصديرية، لكي تتحوّل إلى نموذج اقتصادي "عادي" لمجتمع استهلاكي من الطبقة الوسطى. سيستلزم تحولٌ كهذا انتقالاً تاماً إلى اقتصاد تقوده الرأسمالية المحلية والأجنبية، ويخسر فيه "الحزب" كل سيطرته. بحسب جدالهم، في حال لم يحصل ذلك، ستتباطأ بشدة حركة الاقتصاد الصيني الذي يتحكّم به حزب الدولة، أو سيفلس قطاعا العقارات والائتمان في الصين، الأمر الذي سيساهم في تشكّل "برجوازية ديمقراطية".

تتمتع النخبة الصينية بانتمائها إلى أحد أكثر المجتمعات التي تنعدم فيها المساواة في العالم، وتوافق أقلية صغيرة قيادية واضحة آراء البنك الدولي و"مراقبي" الصين. لكنها ليست آراء الأكثرية، ولا حتى أكثرية الشعب، إذا سمعنا آراءها. إن فكرة اقتصاد صينيّ غير تدخلي، استهلاكيّ، نيوليبراليّ، تبدو سيئة جداً في تفكير أغلبية الصينيين.

نتج التباطؤ الحالي عن هذين العاملين:

- إجراءات الدولة لكبح الفقاعات العقارية والائتمانية، التي سببها سوء الاستثمار ونخبة حكومية محلية فاسدة.

- تباطؤ اقتصادات مجموعة الدول الصناعية السبع (G7) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). تراجعت الإيرادات مع وقوع الكساد في أوروبا والركود في اليابان. نتج إذاً التباطؤ في الصين بسبب فشل الرأسمالية خارج الصين. لكنّه تباطؤ نسبي، فقد ساهم انتاج الصين في مجمل نمو الاقتصاد العالمي منذ الكساد الكبير عام 2009.

الواقع في الصين هو أن القوى العاملة تزداد قدرةً. يعود ذلك إلى نموّ الصناعة الصينية السريع الذي خلق قوة عاملة مُدُنية هائلة موجودة في المدن الكبيرة. نظّمت هذه القوى العاملة آلاف الإضرابات والمظاهرات المحلية من أجل مطالبها التي غالباً ما انصاعت لها النخبة. إذا بقي مستوى النمو السنوي تحت الـ8% (الحد الأدنى اللازم لامتصاص تدفق اليد العاملة من الريف)، سيزيد الضغط على النخبة. ولاحقاً، سيتقلّص احتياط اليد العاملة في الصين (سيبدأ عدد العمال بالتقلّص بدءاً من 2025). هكذا يصير لمصالح العمّال أفضلية على مصالح النخبة صاحبة المليارات.

هل من إشارات إلى استعداد (أو تقبّل) الحزب الشيوعي الصيني للعمل على تحسين حقوق العمّال؟

تحسّنت حقوق العمال منذ صدور قانون العمل في 2008، مما سمح بزيادة الأجور، كما تمّت الموافقة على زيادة المنافع. توجّب طبعاً النضال من أجل هذه المطالب، لكن القانون الجديد يفسح المجال أمام التحرك النقابي والعمالي. لا شك في أن الحزب الشيوعي الصيني منقسم حول المدى الذي سيسمح به لهذا النوع من التحرّك أن يمضي قدما.

هل ترى أن مكاسب الحركة العمالية في الصين قد تؤثر على الحركات المناهضة للتقشفية في أوروبا، سواء سلباً أو إيجاباً؟

ليس بالضرورة. العمال الصينيون يتحرّكون الآن، لكنها تحرّكات محلّية. تحتاج أوروبا إلى تحرّكات إقليمية وعلى مستوى الاقتصاد بكامله ضدّ التقشف وتدنّي مستوى المعيشة.

يطالب الصينيون بأجور أعلى، أما الاوروبيون فيحاولون إنقاذ فرص العمل والمداخيل وإيقاف التقليصات الحكومية.

هل من اتجاهات قلّما نعلم بها في الاقتصاد لكن يجب مراقبتها حالياً؟

- تباطؤ النمو الاقتصادي الطويل المدى في الاقتصادات الكبرى خلال الجيل التالي.

- انخفاض عدد السكان في أرجاء مختلفة من أوروبا (هجرة) وفي اليابان (مستوى ولادات منخفض).

- انخفاض حادّ للجرائم والعنف الفردي في الاقتصادات المتقدّمة.

- ثبات الاستهلاك في العديد من البلدان، لكن الاستثمار لا يزال منخفضاً.

- تردي الأحوال الجوية بسبب الاحترار العالمي، وتضرّر المنتجات الزراعية جراء ذلك.

من المرجّح أن يؤدي مستوى النمو البطيء في الاقتصادات المتقدمة إلى أزمة جديدة بحدود 2015-2018. إن لم يظهر تغييراً اجتماعياً جراء ذلك، قد تخلق هذه الأزمة ظروفاً لنشأة فترة جديدة من الرأسمالية مبنية على مستويات أعلى للربح على حساب البطالة المرتفعة والأجور المتدنية والتكنولوجيات الجديدة التي قد تدوم 15 إلى 20 سنة. لكن لا مهرب أمام الرأسمالية، لأن الوقوع في أزمة جديدة (بعد موتي!) أمر حتمي.

--

نشر النص باللغة الانكليزية في موقع النجم الشمالي بتاريخ بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2013
.



#ريان_شبقلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...
- كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة القوة في اعتقال متظاهرين مؤي ...
- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ريان شبقلو - ملامح الأزمة: مقابلة مع مايكل روبرتس