أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المصري - لا تدينوا لكي لا تدانوا















المزيد.....


لا تدينوا لكي لا تدانوا


سامي المصري

الحوار المتمدن-العدد: 1387 - 2005 / 11 / 23 - 09:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الأنبياء والنقد
النبوة تعني التعليم كما هو واضح في العهد الجديد ومن رسائل القديس بولس "وأما من يتنبا فيكلم الناس ببنيان ووعظ وتسلية" (1كو 3:14). كتب الأنبياء ليست هي مجرد كتب تخبرنا بأحداث المستقبل بل هي كتب تعليم، تُعرِّف بإرادة الله التي تطلب أولاً وقبل كل شئ قداسة الإنسان "لأن هذه هي إرادة الله قداستكم" (1تس 3:4). فهي تحمل رسالة الله المملوءة من حبه وغيرته على الخليقة. كما تحمل توبيخ الله وإنذاره وصرامته ضد الشر. ليس فقط شر الأفراد بل بالأكثر شر السلطة الدينية ممثلا في الكهنة والملوك الثيؤقراطيون.

عمل الأنبياء الرئيسي هو النقد والذي يُعتبَر أمراً حيوياً لازماً لتصحيح مسار المجتمع نحو حياة أفضل في طريق البشرية نحو الأبدية. المسار الطبيعي للتاريخ يتحرك نحو التقدم والارتقاء لتحقيق هدف الوجود. بدون النقد الواعي الفطِن والمحاسبة الدقيقة ينحرف مسار المجتمعات لمسار هابط نحو الفساد، فيسقط الإنسان تحت تأثير الجشع وأنانية الفرد التي تقود المجتمع الغير واعي للهلاك. فالنقد والمحاسبة يوجهان الإنسان نحو خط صاعد للتقدم نحو تحقيق هدف الوجود. إن أخطر ما يمكن أن يتعرض له مجتمع ما، هو توقف النقد وتعويق المحاسبة تحت تأثير فكر سياسي ديكتاتوري أو فكر ديني مضلِّل. ولعل أخطر الأمور أثرا على الفكر المجتمعي هو الدين المسيَّس، أو السياسة عندما تلبس ثوبا كهنوتيا، فإذا انحرف بفكر المجتمع دون وجود الناقد الواعي والمحاسب المدقق صار وبالا على الجماعة فتقتادها إلى طريق التعصب والفناء. لذلك أرسل الله الأنبياء للمجتمعات القديمة لنقد الملك ورجل الدين، الذي يغطي فساده تحت شعارات دينية منحرفة، لعلهم يصححوا مسارهم قبل أن تحدث الكارثة. ولقد تعرض أنبياء العهد القديم جميعا في أداء رسالتهم الناقدة القوية لجميع أنواع الإهانة والتجريح والتشكيك في رسالتهم، والرفض بل والتعذيب والقتل. ولقد قام السيد المسيح بهذا النقد الواعي، ودعى إليه في تعاليمه. وقد كان نقده للشر والفساد المجتمعي هو الطريق للصليب. فكل من يريد أن يتبع المسيح يلزمه أن يحمل الصليب خلفه وذلك بالتمسك بالحق. فالحق والتمسك به هو الطريق الحتمي للصليب.

بين النقد والمحاسبة والإدانة
يلزم الحذر من الخلط بين النقد والمحاسبة من ناحية وبين الإدانة من الناحية الأخرى. الإدانة عمل ضد المحبة، فدافع الإدانة هو واحدة من هذه النقائص مثل؛ الغيرة، الحسد، البغض، الطمع، حب التسلط، الكبرياء، حب التشهير. بينما دافع النقد هو المحبة والشعور بالمسئولية نحو الأفراد ونحو الجماعة، فهو ينتج عن شعور قوي بالانتماء. والهدف من المحاسبة هو ضبط الأمور ومنع الفساد والتسيب. من الطبيعي جدا أن نرى الأب ينقد ابنه ويحاسبه لأنه يحبه ويريد أن يصحح مساره ليوجهه نحو حياة أفضل. الإنسان الذي يعرف كيف ينقد نفسه ويحاسبها بحكمة ينجح. وكذلك نري المدرس وهو يصحح أخطاء تلميذه حتى يعلمه ما هو الصواب فينجح. ولما للنقد من أهمية بالغة في عالم الفنون والآداب فإن هناك نُقَّاد مدربين لهم دراية وحس دقيق يمكنهم من القيام بعملهم النقدي بهدف رفع مستوى العمل الفني سواء على المستوى الفردي أو على مستوى مجتمع ما. ويوجد علي مستوى الجماعة القاضي ورجل البوليس الذي تتركز كل مهمته في المحاسبة من أجل انضباط وتصحيح مسار الجماعة. إن فساد القاضي ورجل البوليس والحاكم والرئيس وجهاز المحاسبة مصيبة، لذلك في القديم وُجِد من عرفوا بالمشيرين لتصحيح مسار المسئولين كما يقول الكتاب، "حيث لا تدبير يسقط الشعب أما الخلاص فبكثرة المشيرين" (أم 14:11) وكذلك ظهر الأنبياء لنفس الغرض. وكان أهم هدف لهم هو تصحصح مسار الملوك والكهنة بالنقد الذي كان في معظمه لاذعا جدا وموبِخا للقيادات الدينية والسياسية. ونلاحظ أن هذا هو ما فعله السيد المسيح فبينما كان يحنو على المرأة الخاطئة، "فقال لها يسوع و لا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضا" (يو 11:8)، في نفس الوقت كان يوبخ وينقد العمل الفريسي بكل قوة ويصب عليهم الويلات، "لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون" (مت 13:23). المسيح مارس كل شيء لكي يكون مثلاً لنا في كل شيء.

في الدولة الحديثة تقوم الصحافة بالعمل النقدي لكل نشاط في المجتمع وخصوصا نقد القيادات السياسية والاقتصادية لتصحح المسار. وكذلك ظهرت الأجهزة الإدارية الخاصة بالمحاسبة وترشيد صرف الأموال ومراقبة الأداء والعمل الحكومي ومنع التسيب والفساد. ولأن العمل الصحفي والإعلامي يشتمل علي عمل رقابي يطلق عليها السلطة الرابعة. فمفروض أن يكون لها السلطان لمحاسبة الكل الرئيس والوزير والقاضي. فلولا النقد لفسدت الأمور بالدولة وانحدرت إلى أقصي درك سفلي.

الخلط بين النقد والإدانة أمر خطير فبقدر ما النقد عمل ضروري وحيوي بدونه تفسد الأمور بقدر ما الإدانة عمل هادم ومدمر للمجتمع ومفسد للنفوس. لدلك وجب التمييز بين الأمرين بوضوح حتى نقبل النقد ونشجعه ونرفض الإدانة ونشجبها. المفروض أن أهداف النقد تكون نبيلة لمصلحة الجماعة لذلك يجب أن تعمل الجماعة كلها على نجاح النقد الهادف.

كل من يعمل في عمل عام لخدمة الجماعة يلزم أن يكون معرَّضا للمحاسبة والنقد حتى لا يفسد بالطبيعة، هذه قاعدة مهمة جدا تنطبق على الكل؛ الرئيس والملك والصراف والخادم والكاهن والبطريرك دون أي استثناء. كل محاسبة وتصحيح لمسار القيادات هو نقد وليس إدانة، فالقيادات لا تعمل لحساب نفسها بل لحساب الجماعة كلها ومن حق الجماعة أن تحاسب كل من هو في موقع المسئولية عن كل ما يقوم به من أعمال، فمن واجبه أن يقدم للمجتمع حسابا عن الخدمات المطلوبة منه. فالإدارة الكنسية بالإضافة للعمل الديني هناك خدمات إدارية ووظيفية يلزم تقديم حساب عنها وإلا فسدت. المفروض أن الدين عمل إنساني يتسامى عن الدنايا والفساد ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يفسد أو أن القائمين عليه غير قابلين للخطأ أو غير خاضعين للمحاسبة. إن هذه النظرة الخيالية لرجل الدين تجتذب إلى الدين كل فاسد وطامع بل وكل لص ونصاب فيمكنه بسهولة أن يندس في زمرة رجال الدين ليمارس أعمال النصب. وكم من النصابين يجيد الحديث اللبق وكم منهم من له القدرة على حفظ الكتاب المقدس واستخدامه بحذق ومهارة إذا لزم الأمر لممارسة نشاطه المحظور. إن القصة المشهورة للصحفي المحتال "أحمد نجيب أبو الخير" في أربعينيات القرن العشريين، لخير دليل على ما أقول. كان هذا الصحفي معروف بالنصب ومطلوب القبض عليه فذهب وترهب في أحد الأديرة على أنه مسيحي (دير البرموس على ما أذكر). وأجاد الرجل كل الطقوس الكنسية وأظهر الكثير من سمات التقوى والقداسة والطاعة، فرسم قساً ثم قمصاً وعين ربيتة للدير ثم رشح للأسقفية لكن البابا في ذلك الوقت كشف أمره قبل رسامته مطراناً، فهرب. وبعد أن حل مشاكله السياسية نشر قصته التي كانت مثاراً للتندر، كما كانت سببا لإثارة طموحات بعض من الشباب المسيحي المثقف الباحث عن أسهل الطرق للمنصب والسلطان.

النقد والمحاسبة داخل الكنيسة
اليوم الإدارة في الكنيسة القبطية لها وضع فريد جدا يختلف تماما عن كل من هم على كوكب الأرض، فهي لا تخضع لنقد أو لأي نظام محاسبي لأنها فوق القانون. إن كل من تجاسر علي طرق هذا الموضوع الخطير تعرض لوابل من الهجوم والتجريح والإهانات الكافية لتسكته. والعجيب أن هذا الهجوم لا يصدر عن رجل الدين المستغل صاحب المصلحة في التسيب والفساد فقط بل بالأكثر من المتدين القبطي المغيَّب وكثيرا منهم من المثقفين. آية واحدة في الكتاب المقدس استطاعت أن تقوم بعمل سحري لإسكات الكل عما قد يدور في الكنيسة من فساد وسرقة قد تتجاوز كل الحدود وتفوق التصور. الآية السحرية هي،
"لا تدينوا لكي لا تدانوا"
لقد استخدم البابا شنودة هذه الآية ووظفها بلباقته المعهودة النادرة فتحولت خطية الإدانة -بقدرة قادر- أكبر خطية. فهي أعظم بكثير من الزنى والقتل وكل خطية أخرى عُرِفَت خصوصا لو كانت خطية الإدانة موجهة لشخصه المقدس المعصوم! (بالرغم من أن عصمة البابا تعتبر هرطقة في كل الكنائس الأرثوذكسية). وثاني خطية مريعة هي الموجهة لإدارته وأفراد حاشيته الفاسدة. فكل خطية لها مغفرة إلا خطية العيب في الذات المؤلهة ذات القدسية المسجود لها. وخلطت الكنيسة بين النقد والمحاسبة والإدانة خلطا متعمداً، ونجحت في عمل التعتيم الكامل على كل ما يجرى من فساد بالكنيسة فتمادى واستشرى لعدم وجود أي نقد رادع أو محاسبة قانونية. بل لا يوجد في الكنيسة إي نظام محاسبي أو قانون رادع يخضع له الكل. خطية الإدانة غطت على كل فكر في الكنيسة فأعمت العيون المبصرة كما يقول السيد المسيح، "مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون" (مت 13:13). إن أخطر شعار رفعه الدين المسيَّس، في عصرنا هذا المتردي في الظلمة، هو "لا تدينوا لكي لا تدانوا". فبهذا الشعار أبكم الألسن بل أسكت الفكر الفردي والمجتمعي عن النطق بالحق، أمام فساد ديني قد استشرى وبلغ أثره المدمر إلي كل الكنيسة، وإلى كل أسرة بل أثَّر على كل فرد. المجتمع الذي قد أعمته الجهالة والتجهيل، بعد أن فقد الأمل في حاضره المملوء بالألم بسبب الفساد الواقع، يحدوه الأمل في عالم الملكوت، وتحت التخويف من الفشل في الوصول للجنة، يستسلم للفكر الديني المتخلف دون تفكير، "لا تدينوا لكي لا تدانوا". وبهذا نجح التدين الكاذب في تغييب العقل وإظلامه، فحاربوا كل نقد للواقع الأثيم وتوقفت كل محاسبة للفساد المستشري المخالف لتعاليم المسيح ولكل قوانين الكنيسة بدون استثناء، دون وجود صوت واحد يرتفع للحق. مع أن كلمات المسيح واضحة "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم"ويقول "ويل لكم أيها المنافقون".

إن كان نقد ومحاسبة القيادات علي المستوى العام أمر ضروري فالنقد علي مستوي القيادة الكنسية أمر أكثر أهمية وخطورة لما للدين من قدرة على السيطرة والتسلط. انحراف الكنيسة الغربية أدخل العالم كله لظلمة العصور الوسطى. انحراف بابوات روما جعلهم يصدرون صكوك الغفران ليبيعوا ملكوت السماوات، وأدى للتعليم بعصمة البابا، تلك الهرطقة التي بدأنا نرددها في كنيستنا اليوم دون خجل، كل ذلك بسبب غياب النقد. لقد منع بابوات روما على الشعب قراءة الكتاب المقدس حتى لا يكشفوا عما في سلوكهم من مخالفات مخيفة. أما في الكنيسة القبطية اليوم فاستعاضوا عن ذلك بآية واحدة، يستخدمونها بمهارة في غير موضعها، غيَّبت عقول الشعب وأعمته عن الواقع الفاسد للكنيسة، "لا تدينوا لكي لا تدانوا".

ماذا ترتب عن غياب النقد في الكنيسة الغربية؟ انحرافات خطيرة نتج عنها؛ أولا، معاناة العالم كله من الانحراف الديني والفساد لقرون طويلة، والحروب الصليبية. ثانيا، لم ينقذ الموقف إلا الانفجار المدوي الذي نتج عنه الإلحاد وظهور البروتستانتية. تبع كل ذلك الصراع الدموي المرير بين المذاهب والذي استغرق قرونا طويلة. وعندما أفاق العالم من هذا المخدِّر بدأ يستخف بهذه التصرفات الحمقاء التي عرَّضت العالم كله لحروب وويلات وظلم وأسى لمدة طويلة بدون مبرر أو سبب معقول إلا التسلط الديني والجهل والفساد.

من علامات الكنيسة أنها واحدة مقدسة جامعة رسولية. شرط القداسة للكنيسة أساسي وضروري فإن فقدت الكنيسة قداستها تفقد في الحال وحدانيتها وبالتالي تفقد جامعيتها أي لا تصبح كنيسة جامعة تجمع الكل في وحدانية الحق. وأيضا إن فقدت الكنيسة قداستها تفقد صفتها الرسولية فلا يمكن أن يكون عمل الكنيسة استمرارا لعمل الرسل ومنهجهم وهي غير مقدسة. فعندما تفقد الكنيسة قداستها تفقد هويتها ككنيسة. ولذلك يلزم تصحيح مسار الكنيسة بالنقد البنَّاء والمحاسبة بسرعة قبل أن تتهاوى. الكنيسة ليست ملك أحد ليفعل بها ما يشاء بحسب هواه لكنها كنيسة المسيح وكل العاملين بها خدام، "فمن هو بولس ومن هو أبلوس بل خادمان آمنتم بواسطتهما وكما أعطى الرب لكل واحد" (1كو 5:3). ويقول السيد المسيح "انتم تعلمون أن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم بل من أراد أن يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما." (مر 10 : 42- 43). لذلك تلقب الكنيسة كل قياداتها بالخدام وذلك حسب تعاليم السيد المسيح. ويلزم محاسبة الخدام لتصحيح مسار الكنيسة.

مَثل القمح والزوان
تلقيت رسالة رقيقة من أحد المثقفين يبدو في منتهى الطيبة والتدين والمحبة الفياضة، طلب مني إلا أدين الرئاسات الدينية حرصا على خلاص نفسي. وذكر لي مثل السيد المسيح عن القمح والزوان كدليل علي أن عملية النقد غير مطلوبة في الكنيسة. لذلك أردت أن أناقش معه هذا المثل.
"فجاء عبيد رب البيت وقالوا له يا سيد أليس زرعا جيدا زرعت في حقلك فمن أين له زوان. فقال لهم إنسان عدو فعل هذا فقال له العبيد أتريد أن نذهب ونجمعه. فقال لا لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه" (مت 13: 27-29). هل جمع الزوان في هذا المثل يمثل النقد؟ إن جمع الزوان من الحقل معناه حصره وإزالته وهذا لن يحدث إلا في نهاية الأيام وهو عمل الله نفسه، "أقول للحصادين اجمعوا أولا الزوان واحزموه حزما ليحرق وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني" (مت 30:13). الحكمة في عدم تكليف الخدام بجمع الزوان -كما يقول السيد المسيح نفسه- "لئلا تقلعوا الحنطة". فكثيرا ممن يسموا زواناً في هذه الأيام هم الحنطة. فالرافضون للشر والفساد في الكنيسة والمطالبون بالإصلاح الحقيقي في الكنيسة وكل الذين يرفضون النفاق والكذب غالبا ما تعتبرهم الكنيسة زوانا خصوصا في كنيستنا، بينما هم العنصر الحافظ للخير في الكنيسة كما كان الأنبياء في العهد القديم. فهم ملح الأرض الذي يحفظ الكنيسة من الفساد من خلال التمسك بالحق المرفوض من المجتمع.
يلزم أن نلاحظ ما قاله السيد المسيح "وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة ومضى." زرع الزوان داخل الكنيسة لا يحدث إلا إذا كان الناس نيام وفي غفلة. لذلك يلزم التنبه للقيام من الغفلة حتى نفيق من الفساد قبل أن يأتي على كل شيء. أليس ما قاله الحصادون للسيد هي لحظة إفاقة من نوم الغفلة، فبعد النوم تنبهوا لوجود الزوان، "وقالوا له يا سيد أليس زرعا جيدا زرعت في حقلك فمن أين له زوان" لهذا كان لا بد من وجود المُنَبِّه قبل أن يتحول الكل إلى زوان في غفلة منا. يقول البعض في تيه مضلل نحن أخذنا الوعد أن "أبواب الجحيم لن تقوى عليها". أقول لهؤلاء أنتم مخدوعين، فهذه العبارة التي ترددونها لا تعني ما تفهمون. ألم تكن هناك كنائس عظمى في شمال إفريقيا أنجبت القديس أغسطينوس وكبريانوس وترتليانوس أين هذه الكنائس اليوم؟!!! أين كنيسة القسطنطينية العظمى اليوم والتي يلقب بطريركها بالبطرك المسكوني؟ لقد صارت القسطنطينية مقرَّا للسلطان العثماني. يقول السيد المسيح "كلا أقول لكم بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو 3:13).

بين بولس وبطرس وحق الإنجيل
إن مثل القمح والزوان لم يمنع القديس بولس الرسول من أن يواجه القديس بطرس بكل قوة عندما أخطأ:
"ولكن لما أتى بطرس إلى إنطاكية قاومته مواجهة لأنه كان ملوما لأنه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم و لكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفا من الذين هم من الختان. وراءى معه باقي اليهود أيضا حتى أن برنابا أيضا انقاد إلى ريائهم. لكن لما رأيت انهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميا لا يهوديا فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا" (غل 2 : 11-14).
لقد كان بولس أصغر الجميع بينما بطرس كان معتبرا من أعمدة الكنيسة. فعندما سلك بطرس سلوكا يتنافى مع تعاليم المسيح واجهه بولس بكل قوة دون تردد ليصحح الموقف. وماذا كان موقف بطرس؟ قبول النقد بوداعة فنجده يتكلم بكل الحب والتكريم عن القديس بولس قائلا، "واحسبوا أناة ربنا خلاصا كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضا بحسب الحكمة المعطاة له" (2بط 15:3). أليس هذا يعكس عظمة المسيحية في عدالتها؟ فحق الإنجيل هو الذي يحكم في كل شيء دون اعتبار لأي واحد كائن من كان حتى لو كان بطرس الرسول الذي يدعونه هامة الرسل. لا يمكن لأحد أن يعاتب بولس في موقفه الشجاع، ويقول له أنت قلت "لا تدينوا لكي لا تدانوا" يا بولس، فكيف تدين بطرس؟ إن بولس لم يدين بطرس لكنه صحح مسار الكنيسة وأعطى مثلا للنقد البناء ليحتذي به.
يقول القديس يوحنا "أيها الأولاد لا يضلكم أحد من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار. من يفعل الخطية فهو من إبليس لان إبليس من البدء يخطئ لأجل هذا أظهِر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس." (1يو 3 : 7- 8) القاعدة بسيطة ومباشرة فالخاطئ هو من يخطئ بغض النظر عن منصبه وتاريخه ووضعه الديني فلا يوجد أي أثر للمحاباة أو التغاضي عن الشر لمجاملةً المنصب الديني. ويبدأ القديس يوحنا حديثه بتحذير، "لا يضلكم أحد" فمن يخالف هذه القاعدة مضلل.
في الموعظة على الجبل بعد أن قال السيد المسيح "لا تدينوا لكي لا تدانوا (مت 1:7) يحذر تحذيره المخيف من المعلمين الكذبة. فالسيد المسيح الذي أوصي إلا ندين هو نفسه الذي يعطي علامات المعلمين الكذبة حتى نحذرهم ونجنب الكنيسة خطرهم. فالكشف عن المعلمين الكذبة وتخليص الكنيسة من أعمالهم الشريرة وصية إنجيلية، ليس هو إدانة للرؤساء كما يقولون لتخويفنا بل هو عمل مقدس لتطهير الكنيسة من الشر والأشرار. وفي هذا يقول السيد المسيح:
"احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا أو من الحسك تينا؟!! هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارا جيدة وأما الشجرة الرديئة فتصنع أثمارا رديئة. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا رديئة ولا شجرة رديئة أن تصنع أثمارا جيدة. كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. فإذا من ثمارهم تعرفونهم. "(مت 7: 15-20)
"لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارا رديئة" فمن يصنع أثمارا رديئة هو بالضرورة رديء، والمسيح يحذرنا منه وخصوصا عندما يفرض علينا خدماته ورعايته للكنيسة فهو ذئب في ثوب حمل. وأوصانا المسيح أن نميزهم حتى نتجنبهم "فإذا من ثمارهم تعرفونهم". "من يفعل الخطية فهو من إبليس"، فهل لو ميزناهم وعرفناهم نكون قد ارتكبنا خطية الإدانة حسب تعليم كنيسة اليوم؟!!! أم نكون قد نفذنا الوصية الإنجيلية حسب تعاليم المسيح؟!!! هل لو أظهرنا الذئب أنه ذئب وليس حمل، لننقذ الحملان من أنيابه هل هذه إدانة؟!!!
يقول السيد المسيح "الحق، الحق أقول لكم إن الذي لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف بل يطلع من موضع آخر فذاك سارق ولص." فهل من يكشف اللص في فعله نتهمه بخطية الإدانة حتى نخفي اللص وفعله؟!! يكمل السيد المسيح الحديث عن الراعي اللص قائلا "وأما الغريب فلا تتبعه بل تهرب منه لأنها لا تعرف صوت الغرباء". هل من يرفض صوت اللص لأنه يميز صوت المسيح ويعرفه ويتبعه نعتبره مخطئ أم منفذ للوصية؟!! من عنده التمييز فينبه الآخرين ويحذرهم من اللص نقول له "لا تدينوا لكي لا تدانوا"!!!

في هذه الأيام المظلمة هناك احتكارا لتفصيل حق الإنجيل. فلكي يحافظوا على الفساد، يرددوا أقوالا ببغائية حتى يجهضوا أي عملاً يستهدف تصحيح المسار. فمثلا يتساءلون هذا التساؤل الغبي الاستفزازي المحبط لأي عمل صالح فيقولون "فاكر نفسك مين؛ بولس الرسول أو يوحنا المعمدان أم أثناسيوس الرسولي حتى توجه نقدا للرئاسات." لهذا يقول لنا القديس يوحنا "لا يضلكم أحد" ويقول السيد المسيح "احترزوا". إن بولس الرسول ويوحنا المعمدان وأثناسيوس ليسوا كذلك إلا لأنهم قاموا بما فعلوه. ما كان لأثناسيوس أن يصير رسوليا وما هو عليه من مجد إلا لأنه وهو مجرد شماس في سن العشريين وقف في مجمع نيقية وأعلن الإيمان القويم للعالم كله، وبعد ذلك وقف ضد العالم كله، ونُفي خمس مرات. فإن ما فعله هو الذي جعله القديس أثناسيوس الرسولي. أما بولس فلم يصير بولس الرسول إلا لأنه استطاع أن يقول، "قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرا قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضا" (2تي 4 : 7 –8). فمن يعمل أعمال بولس يصير مثل بولس ومن يعمل أعمال أثناسيوس يصير مثله.

ومن التعاليم الفاسدة المخادعة في هذا الشأن أن هناك في الكتاب المقدس وصايا ليست لكل الناس. (شريط مسجل للأنبا شنودة بعنوان وصايا ليست لك). وصية المسيح أعطيت للكنيسة كلها لتلتزم بها. الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، الكنيسة ليست منقسمة لتكون فيها وصايا لي ووصايا لك. وصيا المسيح هي حق الإنجيل، والمرجعية التي نحتكم إليها جميعا كمقياس دقيق يميز بين النور والظلمة ويفرز الصواب من الخطأ. الكتاب المقدس لم يخصص وصايا لأحد بل الوصية المقدسة للكنيسة كلها ومن يخالفها يحاسب بموجبها. يقول القديس بولس، "ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها" (اف 11:5). لمن هذه الوصية؟!!!

يوصي القديس بولس شعب كنيسة كورنثوس قائلا، "لأنه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؟ ألستم انتم تدينون الذين من داخل؟!! أما الذين من خارج فالله يدينهم، فاعزلوا الخبيث من بينكم" (1كو 5 : 12-13). القديس بولس في هذه الآيات يوافق بل يحفِّز شعب الكنيسة أن يدينوا الذين من داخل الكنيسة حتى يعزلوا الخبيث من بينهم. أليس هذا هو النقد المطلوب للمجتمع الكنسي واللازم لحفظ الكنيسة من الفساد؟ فهذه الإدانة التي يوصي بها الشعب مطلوبة إنجيليا، بل هناك خطوة إضافية مطلوبة وهي القيام بعمل إيجابي بعزل الخبيث من وسط الكنيسة. ونلاحظ هنا أن تكملة الوصية تقضي بعدم إدانة الذين هم من خارج الكنيسة وفي هذا توضيح لما يقوله السيد المسيح عن الإدانة. "ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني اخرج القذى من عينك وها الخشبة في عينك.." إن كان السيد المسيح يقولها على المستوى الفردي فالقديس بولس يطبقها علي المستوى المجتمعي. والعجيب أن الكنيسة في هذه الأيام تقوم بعمل عكسي تماماً لتعاليم القديس بولس والسيد المسيح، فبقدر ما تمنع الإدانة والنقد داخل المجتمع الكنسي بل تجرِّمُه وتعتبره أكبر الخطايا، فإدانة ما هو خارج الكنيسة من مجتمعات وأديان أصبح أمرا طبيعيا تشجعه الكنيسة ويقوم به حتى الكهنة. لقد أصبحت الكنيسة عاجزة عن إظهار وتقديم صورة المسيح الجميلة فيها لأنها منشغلة جدا بالهجوم والنقد وإظهار عيوب الدين الآخر بصورة لم نعرفها من قبل. لهذا يقول السيد المسيح لكنيسة اليوم. "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوءان اختطافا ودعارة أيها الفريسي الأعمى نق أولا داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجهما أيضا نقيا" (مت 23 : 25-26) "يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك."

ما أحوجنا اليوم للنبرة المرتفعة من النقد هذه، صوت المسيح المجلجل، حتى تفيق الكنيسة من ثباتها الذي طال عليها فأغرقها في بحور من الفساد. ما أحوجنا اليوم إلي تحذيرات الأنبياء المخيفة تحذيرات إشعياء وإرمياء وحزقيال وهوشع وعاموس وميخا وصفنيا وحبقوق. ما أحوجنا لقوة إيليا وصوت يوحنا المعمدان قائلا لا يحق لك.

إن لم تكن كل هذه الأصوات كافية ليقظة الأقباط فلنعد أنفسنا لسيف بابل



#سامي_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (1) -التعصب الديني في مصر
- ماذا حصد الأقباط من موقف البابا شنودة من انتخابات الرئاسة
- الشعب القبطي يتمزق بين شقي حجر الرحى -الدولة والكنيسة- 2
- الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي
- أكتوبر؛ ختاما لحرب الست سنوات -الفصل الأول
- الإرهاب والقهر والتكفير والفساد في الكنيسة القبطية
- الشعب القبطي يتمزق بين شقي حجر الرحى الدولة و الكنيسة
- البابا شنودة وانتخابات الرئاسة
- انغلاق العقل القبطي في عصر البابا شنودة
- حول الأزمة الدينية في مصر : الخلل الذي كشفته وفاء


المزيد.....




- ترامب يتهم اليهود المؤيدين للحزب الديمقراطي بكراهية دينهم وإ ...
- إبراهيم عيسى يُعلق على سؤال -معقول هيخش الجنة؟- وهذا ما قاله ...
- -حرب غزة- تلقي بظلالها داخل كندا.. الضحايا يهود ومسلمين
- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- عالم أزهري: الجنة ليست حكرا على ديانة أو طائفة..انشغلوا بأنف ...
- يهود متطرفون من الحريديم يرفضون إنهاء إعفائهم من الخدمة العس ...
- الحشاشين والإخوان.. كيف أصبح القتل عقيدة؟
- -أعلام نازية وخطاب معاد لليهود-.. بايدن يوجه اتهامات خطيرة ل ...
- ما هي أبرز الأحداث التي أدت للتوتر في باحات المسجد الأقصى؟
- توماس فريدمان: نتنياهو أسوأ زعيم في التاريخ اليهودي


المزيد.....

- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد
- التجليات الأخلاقية في الفلسفة الكانطية: الواجب بوصفه قانونا ... / علي أسعد وطفة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي المصري - لا تدينوا لكي لا تدانوا