أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد أمزال - الخطاب الإشهاري الغربي واستراتيجية الاستعلاء















المزيد.....


الخطاب الإشهاري الغربي واستراتيجية الاستعلاء


خالد أمزال
كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية

(Khalid Amazzal)


الحوار المتمدن-العدد: 4674 - 2014 / 12 / 27 - 19:10
المحور: الادب والفن
    


مقدمة :
الخطاب الإشهاري وإن كان يستهدف توجيه المتلقي لاقتناء المنتوجات واستهلاكها، فإنه لا يخفي نزوعه نحو ترويج القيم والعادات، وتمرير التصورات الإيديولوجية الأكثر تزيفا ومغالطة، فإذا كان المنتوج الذي يتم تسويقه عبر الإشهار يعرض نفسه للمستهلك المفترض ككتلة مادية نفعية، فإنه من جهة أخرى وبصيغ قد تبدو خفية في بعض الأحيان، يبث "شذرات إيديولوجية" على شكل "كليشيهات" أو صور نمطية تكاد تبدو مفرغة من أية دلالة، تعمل أساسا على تغليف المنتوج وتحميله بمواقف وأحكام تتجاوز بعده الاستعمالي.
فالمسعى الخفي هنا للخطاب الإشهاري يتمثل في استغلال ما هو معلوم ومألوف، والتخفي وراءه من أجل إنتاج قيم دخيلة، أو تثبيت أخرى مرفوضة، أو على الأقل تبيئة قيم جديدة داخل محيط اجتماعي وثقافي معين، كقيم الفردانية، وتحطيم السلطة الأبوية، والإعلاء من قيمة المادة.
لكن هذا الأمر لا يجب أن يدفعنا للاعتقاد بأن الخطاب الإشهاري يظهر هذه النوازع بشكل فج، أو يتحايل من أجل البوح بها، أو يستضمرها بين ثناياه عبر ثنائية التصريح والتلميح، بل نعتقد جازمين أن ذلك يتم بطريقة معقدة، تدخل هذا الخطاب في مصافي كثيرة، تنقيه من شوائب التضمين، وتزيل عنه كل ما قد يوحي بخلفيته الإيديولوجية، حتى يستوي خطابا نقيا صافيا لا تشوبه شائبة، متحررا من دلالاته القبلية، متمركزا على بعده النفعي، حتى لتكاد هذه التصورات المؤدلجة تقفز على آليات التلقي الإشهاري، وتتسرب إلى عين ثم قلب المشاهد، بعد أن تكون قد حَيَّدَت قدراته القرائية، وكسرت كل دروع رقابته العقلية.
لذا وحتى نقترب أكثر من استراتيجية ما يمكن أن نسميه تجاوزا بـ "التعطيل الذهني"، سنعمل على فك بعض خيوطها من خلال أحد الثيمات الخفية/الجلية التي يتناولها الإشهار الغربي خصوصا والمتمثلة في استعلاء الأبيض المتحضر على الملون البدائي، متوسلين بآليات تحليل الصورة الإشهارية باعتبارها مركبا من العلامات الإيقونية والعلامات التشكيلية والعلامات اللسانية (1)، والتي تعمل مجتمعة على إنتاج الدلالة.
فالتدليل الإشهاري كما هو معلوم لا تحتكره علامات بعينها، بل هو نتاج ذلك التفاعل والتداخل الحيوي الذي نسميه مع بعض الاحتراز "التعضيد الدلالي"، أي إسناد وتدعيم العلامات بعضها بعضا في سبيل إنتاج المعنى، دون إقصاء ولا تهميش، فكل ما في الصورة الإشهارية له معنى ويساهم في سيرورة إنتاجه، فليس هناك علامات لسانية زائدة، كما ليس هناك كما يقول رولان بارت أيقون أخرس (2).

1 – الاستعلاء الغربي و الخطاب البصري : التعريف والتمظهرات
أ - مفهوم الاستعلاء: محاولة تعريف .
تعرف القواميس "الاستعلاء" بكونه الاعتقاد بأن ديانة معينة،أو عرقا معينا، أو جنسا معينا، أو ثقافة معينة أسمى من غيرها. " إنه النظر إلى العالم وتنوعه عبر تفضيل حصري لأفكار وقيم وعادات جماعتنا الأصلية " (3). ويخول هذا الاعتقاد لمن يتبنونه حق سيادة وحكم هؤلاء الذين لا يعتقدون مثل اعتقادهم. فالاستعلاء العرقي أو التمركز العرقي يدفع إنسان للاعتقاد بأن أمته أو الجنس الذي ينتمي إليه الأحسن والأكثر اتساقًا مع الطبيعة. ويشير إلى الاعتقاد بأن جماعة الفرد هي الأفضل بين كل الجماعات، والحكم على الآخرين على أساس أن جماعة الفرد هي مرجع الحقيقة والصواب، والترفع عن الجماعات الأخرى إلى حد اعتبارها نوعا من غير نوع جماعته، ولا شك أن هذا التمركز العرقي يعد عاملاً هاماً في نشأة الصراعات العرقية التي قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد المذابح والإبادة.
لقد أدخل وليام جراهام سمنر، عالِم الاجتماع الأمريكي هذا المصطلح عام 1906م، وعرّفه على أنه النظر إلى جماعة ما على أنها مركز كل شيء، وجميع الآخرين يرتبون بعدهم. ونتيجة لاتساع نطاق ثقافة ما فإن الناس أصبحوا يرون طرق مجتمعهم باعتبارها الطرق السليمة للتفكير والشعور والعمل، ولهذا السبب فإن الاستعلاء العرقي قد لا يمكن تجنبه، إنه يعطي الناس شعورًا بالانتماء والكبرياء، والرغبة في التضحية من أجل خير الجماعة، ولكنه يصبح ضارًا إذا بلغ حدّ التطرف. كما أنه قد يسبِّب التحيُّز والتعصب ورفض الآراء الآتية من الثقافات الأخرى بل واضطهاد الجماعات الأخرى. فالهوى الأيديولوجي وهوَس التمركز الإثني يقود إلى تزييف الوعي التاريخي، والاستغراق في تعظيم الذات التاريخية الماضوية على حساب الأمانة العلمية والمصداقية الفكرية.
وفكرة الاستعلاء العرقي هذه ارتبطت أساسا بما يسمى بالمركزية الأوروبية، والتي جعلت من أوربا منبع العقلانية ونبراس الحقيقة ومركز التنوير، وذلك عبر ثلاث لحظات تاريخية هي على التوالي العصر الإغريقي الذي صور فيما بعد بأنه معجزة حضارية، وهذا أمر لا يمكن أن يجادل فيه، خصوصا بالنظر للتراكم الفلسفي والعلمي والأدبي الذي خلفه الإغريق، لكن ليس علينا تجاهل عجرفتهم التي جعلتم يسمون كل الشعوب غير الإغريقية بالبرابرة. أما اللحظة الثانية فتتمثل في العصر المسيحي الذي جعل من المسيحية الدين القويم، والباقي مجرد هرطقة وتجديف، وتم إلحاقها بشكل تعسفي بأوربا رغم أصولها الشرقية، مع تناسي الفترات الأكثر صدامية مع الذات أولا كصراع الكنيسة الكاثوليكية مع البروتستانت وحركات الإصلاح الديني، ثم مع الآخر كالحروب الصليبية التي استباحت دماء العرب والمسلمين. وأخيرا اللحظة الثالثة التي تجلت في الثورة الصناعية، وتزامنت مع المرحلة الإمبريالية، حيث تطورت أوروبا بشكل جلي، وتفوقت في كل المجالات. إلا أن هذا التفوق تم التعبير عنه عبر وجه الكولونيالية البشع، والتي شكلت مرحلة فارقة من مراحل الصراع مع الآخر، حيث عملت على استعماره واستعباده ومحو هويته الحضارية.
ب - تمظهرات الاستعلاء في الخطاب البصري الغربي :
لقد اشتغلت الصورة دائما في العالم الغربي، سواء في الخطاب المكتوب أو البصري، على ثيمة التفوق الحضاري، فالأوربي صاحب الرسالة الحضارية، والمكلف بإخراج البشرية من وحشيتها وبدائيتها، ما فتئ يكلف نفسه عناء الانتقال إلى أمريكا وأفريقيا وآسيا من أجل نقل التنوير إلى هذه البقاع المظلمة. فمنذ كريستوف كلومب مرورا بالحملات الاستعمارية في الفترة الكولونيالية وإلى الآن، ظلت صورة الآخر ثابتة نوعا ما، فالأشياء التي شاهدها المكتشفون الأوائل لأمريكا وإفريقيا وأستراليا نظروا إليها بأدوات قديمة وقياسا لأشياء "معلومة"، لقد كان لكولومب فكرة مسبقة عما سيشاهدونه، ذلك لأنه كان تحت تأثير الهدف الذي ترمي إليه سفرته، فلا غرابة إذن أن يسمي الشعب بالهنود الحمر، لكون الرحلة في الأصل كانت تبحث عن طريق آخر للهند المعروفة قبل الرحلة.
إن المونوغرافيا الميدانية لها قدرة حقيقية على تغيير وجه الآخر، وعلى اختراع هيئة له تكون إما "نبيلة" أو "شرسة"، إما "مسالمة" أو معادية" إما "ودية" أو"منفرة"، فالأنثروبولوجيا تصنع وتبث صورا عن الثقافات والشعوب، فتصير مع الزمن جزءا من مكونات ثقافة الشخص العادي في الغرب وموضوعا مكررا ومشتركا.
إن الأفلام الأمريكية وخصوصا أفلام "الوستيرن" ظلت تروج ولسنوات أسطورة الرجل الأبيض الذي جاء إلى أمريكا بحثا عن الاستقرار، لكنه ظل يكابد ويعاني من وحشية الهنود الحمر، ونفس الشيء بالنسبة للأفلام الفرنسية التي ظلت تروج لصورة "أبناء البلد" المتخلفين الذي يرفضون التحضر، ويقاومون الاستعمار الذي يقدم باعتباره فعلا تنويريا.
وليس الإشهار ببعيد عن هذه الثيمة، لأن الاستعلاء فيه يشتغل على الصورة بمعناها الحقيقي والمجازي، لكن يتم تناولها بطريقة تتماشى وخصوصيات هذا الخطاب ووظائفه وغاياته، فصورة الآخر في الخطاب الإشهاري الغربي المعاصر لا يتم دائما تقديمها عبر تلك الكليشيهات المكرورة، بل يعمل هذا الأخير على "تشييء" صورة الآخر و"تسليعها". قد يبدو أن هذا الإدعاء تعوزه الحصافة والتريث، لكن بمجرد أن نسترجع وصلات وملصقات القصف الإشهاري الغربي، يمكننا بدون كثير عناء تبين صحة ما أوردناه سالفا.
وسنكتفي هنا بعرض نموذجين لما أسميناه بتعليب صورة الآخر وتسليعها وفق استراتيجية التمركز الإثني، على أن نقف بتأن في النصف الثاني من هذه المقالة لنبين بعضا من آليات الاستعلاء الغربي في الخطاب الإشهاري، كيفية اشتغاله داخل ملصق إشهاري، وطريقة بنائه لدلالة الآخر في المخيال الأمريكي والأوروبي.
تظهر وصلة إشهارية لمشروب غازي (بيبسي) جماعة من الزنوج الأفارقة وهم يسيرون في غابات السافانا، يرتدون تلك الملابس النمطية المتمثلة بقطع من جلود النمور والفهود.
فجأة لمحوا ثلاجة ذلك المشروب الغازي، وهم منهمكون في تأملها هاجمهم أسد ففروا حاملين الثلاجة، وعندما أمنوا على نفسهم من أنيابه، استلقوا أرضا وانشغلوا بشرب ذلك المنتوج إلى أن سمعوا صوت الزئير، عندها فقط تنبهوا إلى أن الأسد كان رابضا بينهم، فعادوا للشرب غير آبهين بهذا الحيوان المفترس.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوصلة كانت تبث بالتزامن مع نهائيات كأس العالم التي نظمت بجنوب إفريقيا صيف 2010، وقبلها بشهور كانت الشركة المنتجة لذلك المشروب تبث عبر التلفاز سلسلة من وصلات إشهارية تحكي قصة شاب أبيض قرر القيام بالعديد من الأعمال شبه المستحيلة (تذكرنا هنا بالأعمال الاثني عشر لهرقل)، ولم يجد أفضل من هذا المشروب (بيبسي) الذي يمنحه القدرة والجرأة والذكاء الكافي لاجتراح تلك المهام. بل وفي إحدى الوصلات يتمكن هذا الشاب من الدخول على زملائه في العمل رفقة أسد، والذي كان يسير بجواره هادئا ومطمئنا، بينما هو يضع يدا في جيبه، والأخرى تمسك بقنينة المشروب الغازي، ويكفي هنا أن نقارن بين الوصلتين لنتبين بجلاء المفارقة الصارخة بين سذاجة الأفريقي وذكاء الرجل الأبيض.
فالأفريقي في هذه الوصلات الإشهارية، القوي العضلات والهائم على وجهه في البراري، يتبدى كمنتوج فلكلوري - إنه مثل تلك القطع التي يشتريها السياح في البازارات، يسجلون بها مرورهم بتلك المناطق، ويتذكرون من خلالها أسفارهم هناك - يثير الدهشة والغرابة، ويظهر كجزء لا يتجزأ من هذا الكل المتمثل في البرية الإفريقية، فهو هنا ليس إنسانا كاملا، إنه مجرد شيء معروض للاستهلاك البصري فقط. عكس الغربي الذي يبدو ضعيف البنية قوي الذكاء، قادرا لوحده على فك مغاليق العالم، وتحقيق أحلامه ورغباته، مما يجعله رمزا للإنسان الكامل.

2 – ثنائية التحضر والبدائية فـي الإشهار الغربي : قراءة فـي نموذج
لقد ظل ما سمي تجاوزا بـ "الهندي الأمريكي" حاضرا في المخيال الغربي عموما والأمريكي خصوصا كرديف للوحشية والهمجية، إنه ذلك المخلوق الذي تلبسه الشيطان فصار عاشقا للسفك والذبح، وهو كذلك ذلك الكائن المتوحش الذي لا حظ له من التحضر والرقي، لا يستطيع العيش إلا في الغابات وأعالي الجبال، داخل الكهوف وتحت سقوف الأكواخ، وأراضيه ظلت صحاري قاحلة أو براري موحشة إلى أن جاء الأبيض الغربي، مكتشفها الأصلي، فحولها إلى جنات النعيم، وعمل على حمايتها من هؤلاء المارقين، فاستحق بذلك صفة البطل الذي يحمي حماه، ويدافع عن ما صنعت يداه.
إنها صورة نمطية تم استهلاكها لحد التخمة في كل الخطابات البصرية تقريبا، ولم تنفلت من سطوتها سوى بعض الأفلام الهليودية القليلة مثل "الرقص مع الذئاب" و"آخر الموهيكون". لكن كيف تشتغل استراتيجية الاستعلاء داخل الخطاب الإشهاري ؟ وكيف يتعامل مع ثنائية الأبيض والهندي، المتحضر والمتوحش ؟
أ - قراءة وصفية :
يعود الفضل لجماعة "مو" البلجيكية في التمييز داخل الصورة، باعتبارها تمثيلا بصريا، بين العلامة الأيقونية والعلامة التشكيلية (4)، فهذه الأخيرة ظلت جزءا من الأولى إلى أن عملت هذه الجماعة على التفريق بينهما. فالعلامة أو العلامات التشكيلية هي مجموع العناصر المضافة للعلامة الأيقونية، والتي تسهم إلى جانبها في تشكيل موضوع الإرسالية الإشهارية، وبناء دلالتها.
من هنا نستطيع أن نلج عالم لوحة إشهارية نموذجية خاصة بتسويق سيارة رباعية الدفع، من خلال بعدها التشكيلي، وبالضبط عبر بوابة الإطار، حيث نلاحظ وجود إطارين في الصورة، إطار علوي مربع الشكل - يكاد يكون مستقلا عن السفلي - بحجم أكبر، يقوم بتبئير وجه امرأة، بينما الإطار السفلي المستطيل الشكل يعرض عنصرين أساسيين : علامات لسانية على اليمين هي عبارة عن جملة جذب أسفلها جملة توضيحية ونص واصف للمؤهلات الميكانيكية للسيارة مكتوب ببنط صغير، وعلى اليسار علامة أيقونية هي صورة سيارة رباعية الدفع، بوضعية جانبية تتطابق مع وضعية المرأة.
داخل الإطار الكبير المربع، تظهر امرأة غربية الملامح، وحادة التقاسيم، تحدج المشاهد بنظرات مباشرة وصارمة، ملامح وجهها توحي بقدر كبير من العزة والأنفة. وعلى وجهها خطوط من الصباغة تذكرنا بالأقنعة التي ترسم عادة على الوجوه في الطقوس القبلية البدائية، وهي بالمناسبة تبدو نشازا بالقياس لملامح وهيئة المرأة.
أما داخل الإطار العرضي المستطيل الشكل، والذي يوحي بالانسياب والانسجام، فتتركز العلامة اللسانية الأساس (جملة الجذب) والتي هي : " أنصت لروحك " وجملة أسفها تقول "جيب شيروكي الحلم البري ابتداء من 28900 أورو"، تقابلهما صورة لتلك السيارة الفخمة، والتي تبدو صغيرة جدا بالمقارنة مع وجه المرأة، مما يجعلنا نتسائل : لماذا تم تبئير وجه المرأة وليس السيارة ؟ ولماذا هذه الأخيرة هي على اليسار وليس على اليمين ؟ وما دلالة تلك الخطوط المرسومة على وجه تلك المرأة ؟
ب- قراءة تحليلية :
إن الصورة تبئر وجه المرأة فقط، وتقتطعه من حيز الجسد لأنه يحتوى على الدماغ، الآلة الخلاقة التي بفضلها تم اختراع السيارة، لكن مع حضور يبدو على الأقل غير جلي للاستثارة الجنسية التي ترافق عادة حضور جسد المرأة في الإشهار، وذلك لأننا في سياق ينـزاح عند النظرة الأولى عن المادية والشهوانية كما سنرى لاحقا.
هكذا يبدو وجه المرأة أكبر بكثير من السيارة لأنه من جهة يرمز للخالق، بينما السيارة هي مجرد مخلوق، ومن جهة أخرى لأنه (أي وجه المرأة) الحامل الرئيس للإرسالية الإشهارية. فتلك الخطوط التي على وجهها تحيل مباشرة على الأقنعة التي تعود الهنود الأمريكيون وضعها على وجوههم كطقس اجتماعي وديني يرمز للتفاعل مع قوى الطبيعة والاحتماء منها، وما يعضد هذا المعنى هو اسم هذه السيارة (شيروكي) الذي هو اسم إحدى القبائل الهندية الأمريكية، ويعني "الرجال الذين يسكنون المغارات أو الجبال"، مما يجعلنا أمام تعبير مزدوج عن نفس الشيء، فالسيارة تحيل تسميتها على الهنود الأمريكيين، والخطوط المرسومة على وجه المرأة ترمز وتحيل على هؤلاء كذلك، وهنا يظهر ما سميناه سالفا بالتعضيد الدلالي، أي تفاعل الأيقوني باللساني من أجل توليد الدلالة، وسيتبدى الأمر أكثر من خلال تحليلنا للمكون اللساني لهذه اللوحة الإشهارية.
فجملة الجذب "أنصت لروحك" ذات النبرة الآمرة التي يوجهها لنا المشهر، تدفعنا في البدء للاعتقاد بأنه يدعونا للإصغاء لذواتنا أو رغباتنا، لكن تأتي جملة " جيب شيروكي الحلم البري " لتتمم المعنى وتخرجنا من حيرتنا. فسيارة "جيب" هنا تعيدنا لعوالم الطبيعة البكر، وتستحضر حلم الإنسان بالعودة لرحمه الأول، العودة للطبيعة بكل سحرها وفتنتها وجمالها العاري - والذي يشار إليه أيقونيا بالمرأة التي يبدو كتفاها عاريين - ذلك الحلم النائم بدواخل كل واحد منا، وهذه السيارة وحدها قادرة على إيقاظه، مثلما المرأة قادرة على أن توقظ في نفس الإنسان الاستهامات الشبقية، المرتبطة بالرحم وفق دلالاته التناسلية التي تحيل على الولادة والبداية.
هكذا يقوم هذا الإشهار بتلبيس سيارة جيب شيروكي، ذات الطبيعة المادية والنفعية الفجة، طابعا روحيا مجافيا لطبيعتها، فهي هنا الروح المفقودة التي يجب حسب المشهر الإصغاء إليها، والإصغاء كما هو معلوم لا يعني دائما ذلك الفعل الحسي المتمثل في التقاط الأصوات بواسطة الأذن، فهو معجميا يعني باللغة الفرنسية مثلا الأخذ بعين الاعتبار ما يقال لنا، ويفيد مجازا الاستجابة والامتثال والطاعة (5)، إنه أمر بجعل السيارة صنوا للحلم الدفين الكامن في قلب كل إنسان، والداعي للفرار نحو الطبيعة منطلق الجنس البشري ومنتهاه. لذلك لا غرابة أن تكون هذه السيارة إيقونيا على يسار الصورة، لأن اليسار في السياق الثقافي الغربي رمز البداية ونقطة الانطلاق في كل شيء، إنه الأصل الذي نَحِنُّ للعودة إليه من أجل انطلاقة جديدة، وهذا ما توفره جيب شيروكي، إنها الفتنة بكل عذريتها، والحدة بكل نعومتها كحال المرأة ذات الجيد الطويل.
أما بعد، وقد أوضحنا شيئا من دلالات هذه اللوحة الإشهارية، أين محل ثيمة الاستعلاء في كل هذا الركام من التأويلات ؟ و ما بالنا تكلمنا عن كل شيء إلا عن ثنائية الأبيض/الأحمر والمتحضر/البدائي ؟
ج- قراءة تأويلية :
إن القراءة التي نعمل عليها الآن تهدف إلى إنتاج المعنى الذي لا يستند إلى ما هو معطى وصريح في الصورة، إن القراءة كما هو معلوم فعل تأويلي يستدعي كل المعارف القبلية، والتي يمكن إدراجها ضمن سيرورات غير بادية من خلال التجلّي الخطي والمباشر للوحة الإشهارية. وذلك عبر استحضار سياقات لسانية وبصرية وثقافية محددة - لا يمكن أن ننكر أنها موجودة سلفا- والعمل على مساءلة تسنين الصورة من خلالها.
فهذه الصورة في أبعادها المختلفة تستدعي سياقين ثقافيين ومعجميين متعارضين، الأبيض المتحضر المبدع الصانع (مخترع السيارة)، والأحمر البدائي المشدود لطقوسه وعاداته (الرسم على الجسد)، السيارة ببعدها المادي والنفعي، والطبيعة ببعدها الروحي والاستهامي. وتجاور هذين السياقين عبر لعبة الحضور والغياب يزيد من التوتر الدلالي، فالسيارة حاضرة أيقونيا بهيكلها الضخم وغائبة لسانيا، بينما الطبيعة غائبة إيقونيا إلا عبر رمزية تلك الخطوط البادية على محيا المرأة، وحاضرة لسانيا من خلال جملة الجذب وما تليها من عبارة توضيحية.
كما أن لعبة الحضور والغياب تظهر على مستوى آخر، فالأبيض المتحضر يبدو عيانا داخل الصورة عبر وجه المرأة والسيارة، أما الأحمر فغائب أيقونيا ولا يتم استحضاره إلا عبر المكون اللساني، إنه ينتمي لحضارة القول والغيبيات، بينما الأبيض فينتمي لحضارة الفعل والمادة. الأحمر يحيـى بروحه الخاضعة لسلطة الطبيعة، في حين يستطيع الأبيض بثقافته أن يتحكم فيها، فلا يجب أن يغيب عنا أن السيارة هي آلة تخترق المكان والزمان اللذان يشكلان البعدين الرئيسين للطبيعة، وبمقدورها إذن الجمع بين الحسنيين، وظيفة نفعية استعمالية، ووظيفة قيمية ورمزية. إنها رمز تفوق الإنسان الغربي على الطبيعة، في الوقت الذي يظل فيه الهندي الأمريكي مجرد كائن يعيش تحت رحمتها، وليس بمقدوره سوى ممارسة طقوس سحرية كالرسم والوشم على الجسد لدفع سخطها وتجنب غضبها.
إن السيارة، هذا المنتوج المادي الغربي الذي تسعى الإرسالية الإشهارية لتسويقه، يعد المستهلك المفترض بأنه سيتمكنه من ولوج أعماق روحه، وسيخوله الدخول في تجربة روحية تقربه أكثر من الطبيعة، وهنا نستحضر شيئا مثيرا للدهشة، فهذا الإشهار الذي يدعونا للإصغاء لنداء الطبيعة، وإحياء روح الهندي الأمريكي في دواخلنا، يتناسى أن الغزاة الإسبان والبرتغال الأوائل، الذين أبادوا حضارتي الأنكا والأزطيك، شرعنوا قتل الهنود الأمريكيين بتغطية دينية من الكنيسة بحجة أن لا روح لهم، وبالتالي لا حظ لهم من الخلاص بالمفهوم المسيحي، الذي يعتقد أن تخليص الروح من الخطايا أساس الحياة الأبدية. ثم يعود الإشهار نفسه، بعد التجاهل المقصود لوقائع الماضي، لاستغلال صورة الهندي الأمريكي، بعد أن تم استغلال أرضه وتدمير بيئته، لكي يمنح الروح لمنتوج صناعي هو أكبر ملوث للطبيعة، إنها عملية تغطية عورة المتحضر/المدمر الغربي بورقة توت البدائي/الهندي.
نخلص إذن إلى أن هذا الملصق الإشهاري يعرض إرسالية أولى، ولعلها الملائمة لسياق الإنتاج والتلقي، تعلي من القيمة المعنوية للسيارة الرباعية الدفع، وتضفي عليها طابعا وجدانيا يخفي ماديتها، بالإحالة إلى الشيروكي الوطيد الصلة بالطبيعة. لكن الإرسالية الثانية، والتي يمكن أن ندرجها في إطار الممكن الدلالي، تعلي من قيمة الرجل الأبيض الذي قطع مع الطبيعة، وترك الهندي غارقا في وحلها، وها هو يعود الآن، بعد أن أصبح خالقا للمادة، للإمساك بنصيبه الروحي منها، فيجد أن ذلك الهندي البدائي لازال هناك قابعا يجتر طقوسه.
ويبقى الشيء الصادم في هذه الرسالة الإشهارية، ولعله آخر دليل على ما سميناه باستراتيجية الاستعلاء الغربي، وهو الاستغلال الفاحش لاسم إحدى أكبر القبائل الهندية الأمريكية وهي قبيلة الشيروكي، وجعلها علامة تجارية، أليس هذا هو التسليع في أسوء صوره ؟
ثم إن توظيف أسماء الشعوب المسماة تجاوزا بالبدائية لا تشكل فيه سيارة "جيب" أي استثناء، فإلى جانبها توجد سيارة "بورش كايين" و"فولسفاكن تواريك" (الطوارق)، مما يعني أنها ليست مجرد استراتيجية استعلائية فقط، بل هي استراتيجية احتواء للعلامات الثقافية والحضارية للآخر البدائي، وتسليعها والمتاجرة بها.
خاتـمة :
إن مقاربتنا لموضوع ثقافة الاستعلاء كما تتبدى في الخطاب الإشهاري انطلقت من فرضية بسيطة، وهي أن الصورة الإشهارية خزان من الاحتمالات الدلالية، وليس تجميعا كمّيا وترصيفا لعلامات مختلفة، وبالتالي فإن المعنى داخلها لا يمكن أن يصاغ ويوجد ويتحقق إلاّ في حدود انبثاقه من عمليات التدليل.
لذلك لم يكن همنا في هذه المقاربة البسيطة هو البحث عن معنى الخطاب الإشهاري الاستعلائي، بل كان هاجسنا هو " الرغبة في تحديد السيرورات الدلالية التي تنبثق من الوقائع، وتنتشر في اتجاهات لا يتحكم فيها سوى السياق " (6) . فهذا الآخر كما هو واضح الفيصل في صحة ما ادعيناه في المقدمة، فالاستعلاء الغربي لا يتخذ داخل الخطاب الإشهاري شكل خطاب مبطن، بل هو علاقات بين الأشكال التي تمثلها الصورة الإشهارية بعلاماتها الثلاث، وبين السنن الثقافي العام الذي تنبثق داخله.

الهوامش :
1- M. Joly, Introduction à l analyse de l image, éd.Nathan Université.1993.p.30
2- نقلا عن : عبد العالي بوطيب : آليات الخطاب الإشهاري– مجلة علامات العدد 13 ص 118
3- Pierre-André Taguieff: Dictionnaire historique et critique du racisme, PUF, 2013
4- Groupe μ-;- : Traité du signe visuel ,Pour une rhétorique de l image, Seuil ,1992,.p 118
5- Le petit Robert 1 , 1990, P 602
6- سعيد بنكراد : السيميائيات : النشأة والموضوع. مجلة "عالم الفكر". المجلد 35 يناير-مارس 2007 ص 26



#خالد_أمزال (هاشتاغ)       Khalid_Amazzal#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبادئ القراءة والتأويل عند الجابري وأركون


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد أمزال - الخطاب الإشهاري الغربي واستراتيجية الاستعلاء