أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - شيخصملي















المزيد.....

شيخصملي


عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)


الحوار المتمدن-العدد: 4648 - 2014 / 11 / 30 - 00:30
المحور: الادب والفن
    


شيخصملي

قليلة هي ذكريات الطفولة التي تبقى عالقةً في الذهن ، بحلوها ومرها وأبطالها وأزمانهم ... معظمها الاخر يتلاشى بمرور الايام والسنين ، وكأن ممحاةً تزيله من ذاكرتنا شيئاً فشيئاً ، ولو وجدتُ ـ أنا ـ ممحاة الزمن هذه ... لرميتها في البحر !

ما يتبقى منها ... هو الذي يحفرُ مكانه بذاكرتنا ويأبى الذهاب ما حيينا ، متحدي (ممحاة) الزمن هذه .
× × ×
ذكريات طفولتي ومراهقتي كانت في مدينة بعقوبة ، ومنها ما كان يدور بسفراتنا العائلية ، حيث يصطحبنا الاهل انا واختي واخي ـ بجمعة واحدة على الاقل في الشهر ـ في سفرة قصيرة (بكنك) الى المتنزه اليتيم بالمدينه ، كان أسمه مطلع الستينات (متنزه الزعيم) .

يقع ـ فردوسنا الجميل هذا ـ بمدخل المدينة على نهر ديالى بين جسر السيارات الكونكريتي والجسر الحديدي المقوّس للخط المتري لقطار بغداد ـ كركوك ، يجلبون الاهل لنا الطعام ونجلب نحن ألعابنا ، نركض خلف الفراشات دون كلل ، ونجمع من كل لون زهرة بلا ملل ، وخلال الاعياد والمناسبات تزدحم الحديقة بروادها ، كانت هذه الحديقة مثقلة بصور (الزعيم) الملونة ، ولِمَ لا وهي تحمل إسمه !
واتذكر ألعاباً نارية اُطلقت لاول مرة في 14 تموز عام 62 فوق النهر ، حيث كانت محط دهشة الجميع شيباً وشباباً ولنا نحن الاطفال .
تتوسط هذه الحديقة نافورة تحيطها اربعة اسود كلسية كنا (نمتطيها) بشراسة ، ولم تكن هناك ألعاباً ، فقط (زحليكة) نتسلق الكتف الترابي لمقتربات جسر السيارات للوصول لطرفها العالي ، وهي مصنوعة من قطع كونكريتية متوالية يكسوها بعض الحَصى الناعم والرمل ، مما يساعدنا على التزحلق بأنسيابية ...
وحين لاحظت اُمّنا (شورتاتنا) ذات الماركات الجيدة (المقص الذهبي بشارع النهر) وقد اُتلفت خلفياتها ، فهمنا من انتفاضتها علينا ان (زحليكتنا) الوحيدة لم تكن سوى مجرى لتصريف مياه الامطار صُمم مع الجسر ، حزنّا وحسدنا المطر كون حظه احسن حظـّنا ، ومع ذلك ... لم نتركها !

كان ثمة زيارات اخرى تقوم بها العائلة لبساتين (معاميل) محل صياغة الوالد ، في القرى القريبة ، اثنتين تقعا شمال المدينة وهما (الهويدر وخرنابات) واخريتين للجنوب (بهرز وشفتة) وجميعها تقع على امتداد بساتين النهر ، وهذه الاخيرة كانت محط (قفشة) لغير أهل المدينة ، فحين نقول : شفتة على ديالى ، فأذا أجاب احدهم (شفتْ منو ؟) نميزهُ غريب !

كنا في دعوة عرس بالهويدر ، وكان الجو ربيع والخضرة والوجه الحسن يضفي برونقه اجواء سعادة على وجه الحضور ما بعدها ، هنا رجالات تعزف واخرى ترقص بفسحة بين البساتين ، ولجوارها نساء تهلهل واطفال تلعب ، ونحن نترقب البهجة والفرح بعيون العرّيس وابتسامة العروس ، بزيّه العربي الانيق وثوبها الابيض اللماع الذي يعكس الوان تتلألأ من النشرات الملونة المتدلية بين اشجار النخيل الباسقة ، التي هي الاخرى راحت تترنح ، ربما ايضاً طرباً .

وبينما زادت وتيرت الإحتفال ، واذا برجلين ملثمين من خلف (تيغة) بستان ، أطلقا اربع رصاصات بعناية فائقة ، تقاسماها العريسين حين إستقرتا بجبهتيهما النظرتين ، كان لصوت اطلاق البارود صدى رهيب فينا على أثرها قام أهلنا بأخلائنا وبسرعة لعربة ربل ، حيث أعادونا وسط صدمة ورجفة ودموع وحزن ...

اغرب ما في هذا الامر ، ان الجناة تواروا بهدوء ، دون ان يحرك احداً من جموع البشر اي ساكناً بتعقبهما ، وما لا انساه في هذا المشهد المروع ، هو ما لم يذرفه أحداً سوى الام وبعض الخالات من الدمع الخجول ، وما بدا على رجالات القرية أنهم كانوا على شبه يقين بأن أمر ما سيحدث ، وهم راضون بأن ثمة (دين) واجب التسديد كان بذمة عشيرتهم ، وشعر (الاب) بأنه وبفخر نيابة عن عشيرته ... قد دفع الثمن !

كانت ليلة يوم جمعة ، وقد ذرفنا نحن الاطفال من الدمع حتى جفت مآقينا ، وكان الجمعة يوم اصعب لولا تصرف امي بذكاء بأصطحابنا للحديقة ، الا ان زيارة للمحافظ وربما عزومة له هناك حالت دون دخولنا ، وكاد الحاحنا يؤدي لمشكلة ، عدنا بعربة الربل نبكي من جديد ، وحين همست امي (للعربنجي) بالسبب حين استفسر ، وصف الرجل بديلا بحديقة واسعة على طريق بهرز ، وما ان سمعناه نحن الثلاثة حتى انقلب غمّنا فرح ، إبتهجنا متناسين دموعنا سريعاً .

كانت جُنينة رائعة لم نرَها من قبل ، مليئة بالزهور والطيور ، ويتربع بوسطها بناء حجري قديم بقبّة ، وهو عالٍ له رهبة افزعتنا ولم نقترب منه ، لكنه اعجبني ولما عدتُ قمتُ ببناء نصباً من الطين على شاكلته بحديقة بيتنا وازيده يومياً رونقاً وبهاءاً .
هناك قضينا يومنا الجميل حتى العصر ، كان فيها أنواع الزهور البرية ونبات بري له طعم مميز نسميه (حرفش) نأكله برغيف خبز ، وتراقصت تحت اقدامنا الصغيرة حشائش تتفتح في قممها سنابل الصغيرة ، تستقطبنا لحلاوة طعمها وهي طيبة المذاق نسميها (شيخ صملي) اي شيخ أسم الله .

سرحنا ومرحنا وتراقصنا مع الفراشات ونحل العسل ، ورحنا نتصارع مع الزنابير لوهلة ، ونمسك بعد مطاردات حثيثة يعسوباً وهو حشرة مسالمة بحجم اصبع اليد لها جسم مغزلي وأجنحة شفافة تعكس اشعة الشمس لتكوّن قوس قزح ، نسميها (مغيزل دادا) ، وهي ذات عيون جاحضة شفافة تتوسطها نقطة صغيرة ، تشبه دعابلنا الزجاجية لكن اصغر ، كانت تحرك فكيها وكانها تحدثنا وتسألنا التحرر ، فنستجيب لها لتطير من جديد وبمشقة بسبب صغر اجنحتها ...

لم يعكر احداً سوى بعض الكلاب السائبة زهو يومنا ، رأينا ثمة رجلين يحفران بالارض ولم نرَ منهما سوى رؤسهم وكيلات تراب ترتفع من حفرتين لتكون تلالاً .
أسعدتنا يومها زفة بدفوف وهلاهل وجمهرة رجال وبعض نساء ، (ما هذه الصدفة ؟) قلنا بفرح وكأن الله يعوضنا عن تراجيديا الامس ، ركضنا خلفهم ولهونا وصفقنا على ايقاع حركتهم ، رقصنا طرباً ، وملأنا جيوبنا حلوى مما نُثر ، عوضنا ما حُرمنا منه بالامس ، نسينا كآبتنا وعدنا سعداء بقضاء يوم من العمر لم تزل تحفر بعض سويعاته شيء منه في ذاكرتي !

دارت الايام ... ولم اعرف لماذا لم تقتنع امي يوماً بأن تصطحبنا مرة اخرى هناك رغم إلحاحنا ، وعدنا للمتنزه الذي ما عاد اسمه الزعيم ، والى شحة الحرفش وشيخ سملّي ومغيزل دادا ، لشدة التنافس عليها !
وكم من مرة حاولتُ ان انقل الشيخ اصملي لحديقتنا ، وان اُزين بها نصبي الجميل ، الا ان (الشيخ) أبى ان يرتحل ، فما كان ـ فيما يبدو ـ يحب الا العيش حُرٌ بالبريّة .


ومرت السنين ... وجاءت بعد عشر منها ايام مراهقتي ، وتحررنا نوعاً ما من قيود البيت وجدرانه الاربعة ، وانطلقنا بدراجاتنا الملونة نستكشف العالم من حولنا ونستمتع بمساحات حرية اكبر ، وشائت (الصدفة) أن اذهب مع رفاقي لتتبع مصب نهر خريسان* قرب بهرز ، كانت سفرة إستكشاف أشبعت فضولي .
بيد أنه وبطريق العودة ، إستوقفني النصب الحجري اياه ،اُولى محاولاتي المعمارية ...
(ما هذا يا الهي ؟)تساءلت (إن هيئته لا تتطابق بما في مخيلتي ، فالصورة في داخلي اعظم وابهى واجمل !) .

إقتربت أمشي الهوينا متجاهلاً صيحات رفاقي ، وما أن صرت بالقرب منه ، لم أرى أمامي سوى (خِرق) خضر واثار لحناء ، يالهول صدمتي ، فالنصب الشامخ الذي ما كان يوماً يغيب عن مخيلتي ، وبنيت له صرحاً لم يكن إلا ... ضريح !

وما الحدائق الغناء والزهور والفراشات والطيور إذاً ، الا ملائكة السماء تحمي وتبهج أرواح قاطني المكان وهم في قبورهم!
لم تُرعبني وحدتي ولا سكينة المكان ، كنت اشعر بسيقان (الشيخ إصملي) تتهشّم تحت اقدامي المتراجعة للخلف ، حيث يبست وأوهنها الزمن وما عادت حُبلى بالعسل ، فقد ماتت هي الاخرى !
فُتحت الطلاسم امامي ، ولم أعد استمع الاّ لصوت دفوف زفة من سنين خلت ، لنعشين ، وما كانت الحفرتين إذاً إلا قبوراً ستأويهما ، هما رفيقان ماتا بيوم واحد ، بساعة وربما بدقيقة واحدة ، رحلت أرواحهم البريئة مترافقة للقاء خالقها ، وحتى المشيعين هم ذاتهم للاثنين معاً ...
رحت متجاهلاً اخر نداء لي حيث تركوني أصحابي ، وقد تحصنت بشجاعة وجرءة لم اعهدها بذاتي ، كي ابحث عن قبرين متشابهين متوازيين ، لم تكن ابداً بمهمة صعبة في البحث عن جواب ، عن اعادة ربط حلقات تبعثرت لتوها في ذاكرتي القوية ، بحثت عن عرسان الهويدر ...

وجدتهم بمعاونة آخر خيوط الشمس ، وجدتُ شهيدي الثار اللعين ، هنا يرقد العريس ... ، هنا ترقد العروس ... ، هما اذاً بجانب بعضهم مثلما رأيتهم يوم رحيلهم ، ينامان هنا وقد تقاسما مربع واحد من الأرض ، في نفس اليوم والشهر قبل عشر سنين .

ودّعتهم بدمعة جفت سريعاً على خدي ، وألقيتُ نظرة وداع أخيرة على المرقد المتهالك وعلى المقبرة المهجورة ، كنت لا ازل متسلح ببعض القوة حين التقطتُ دراجتي من امام قطعة حجرية حُفرت عليها عبارة وبخط ركيك ، كانت تقول ...
( مرقد أبو ادريس* ) .

عماد حياوي المبارك
طريق مدينة بهرز
1972
* خريسان : نهر صغير يتفرع في منطقة الصدور مع انهار وجداول اخرى مثل كنعان والخالص وتتلاشى بين البساتين ، الا هو فبعد ان يشطر مدينة بعقوبة لشطرين (تكية وسراي) يعود بجنوبها عند مدينة بهرز ليصب بالنهر الام ( ديالى ) .
* ابو ادريس : هذا مرقد قرب بعقوبة لولي صالح تقع حوله بعض القبور ، وليس له علاقة ـ حسب ظني ـ بمرقد (سيد ادريس) بالكرادة .
الغاية والفائدة:
× شئ عن مسقط رأسي ، مدينة البرتقال وقصباتها .
× قباحة عادة الاخذ بالثأر ، والاقبح التسليم بها .
× جميل ان تجد أرهب الاماكن يوماً ، فردوساً !
× تذكير بنبتة وحشرة إرتبطنا وجدانياً معهما .
× شحة وسائل التسلية والنزهة في بلدنا .
× كم شاهدتُ العاباً نارية ، لم أتذكر منها إلا تلك قبل 50 عام .



#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أرنبون


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - شيخصملي