أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال العيادي - السردوك*















المزيد.....

السردوك*


كمال العيادي

الحوار المتمدن-العدد: 1303 - 2005 / 8 / 31 - 10:59
المحور: الادب والفن
    


السردوك*
قال لي : - نفسي كريهة وقلبي حزين .
- سلامتك , قلت . مالك ؟
قال : أفكر في هذه الدنيا فأهيج . أمرها عجيب والله . تصور أنني لم أبك منذ أكثر من أربعين سنة . مرت علي أهوال وأهوال .علقوني وأنا مكور بين طاولتين .وكتفوني بعصا وأطفؤوا سجائر في لحمة مؤخرتي , ولم أبك .
مات أبي وهو منتصب العود , كان أعز علي من نفسي , وكان حبيبي , ولم أبك . جاءوني وأنا عند إحداهن , أهم بها . دقوا على الباب , وكانوا رفقة لي , فلم أفتح . داروا إلى الشباك حيث موضع يعرفونه , وخبروني بأن أبي قد مات , فرفعت رأسي , ثم عدت إلى فريستي ألهث مثل عجول البحر وأنهيت غرضي ثم طيبت خاطرها , وهي لا تكاد تصدق بأنها تخرج من تحتي . ظلت المسكينة تنظر صوبي وهي مذعورة , وتخلط في ملابسها , فلا
هي تعرف أين فتحة الرقبة , ولا أين مدخل السروال . أما أنا فقد كنت أشرب ماءا باردا فقد
كنت في ذلك الوقت أكره التدخين . لعنة الله على التدخين .
إطلاقا لم أبك . حتى و-صبيحة- تموت . كانت زوجتي الأولى التي حاربت الدنيا من أجلها . ماتت قدامي وهي تلد بكر أولادي . سمعت -أمك محسونة - تناديني من داخل الغرفة الموصدة بصوت مذعور . دخلت , فوجدتها تصيح وتخبط فخذيها بكفيها الملطختين بالدماء كانت تولول وزوجتي متكئة علي بطنها وهي صفراء كالليمون . نظرت هناك . كان رأس ابني يطل أزرق مختنقا. أصابعه كالديدان المنتفخة , تتحسس الملاءة . وكتفه مائل , نصفه إلى الفراش ونصفه الآخر محصور فيها . جثوت على ركبتي ووضعت أنفي على فمها. ثم صحت بأمك محسونة قائلا : اخرجي الطفل يا عاهرة ...صبيحة ماتت .
صبيحة زوجتي بكتها كل النساء . ومن عرفها من الرجال بكاها . ولكنني كنت الوحيد الذي لم يبك . جاءني خالها وهي لا تزال مسجاة بعد غسلها . وسألني فيما إذا كنت قد تكلمت مع المقرئين للقراءة على جثمانها , فأجبته بأنني سأخطب أختها الصغرى . الولد يحتاج إلى أم -قلت له - . نظر إلي وكأنه لا يصدق ما يسمع ورفع يمناه إلى فوق وهو يشهق بالبكاء وقال لي بأعلى صوته : ‘‘ يلعن تالله عليك ’’ .
سحب نفسا من سيجارته , ولما طال سكوته قلت له :- ‘‘ ولكنك كنت على حق يا سردوك .
الصبي كان يحتاج إلى أم .’’ .
توقف عن دحرجة علبة الثقاب بسبابته على الطاولة , ورفع رأسه إلي , ثم رسم على وجهه ابتسامة أعرفها وصاح وهو يضرب كتفي : ‘‘يلعن تالله عليك ’’ .

- لماذا يلقبونك -بالسردوك- ؟!... سألته .
بصق حثالة التبغ التي علقت بلسانه , ونظر إلى الوراء . فلما تأكد بأن النادل لم يره , وضع السيجارة الملفوفة بين شفتيه وأغمض عينه اليسرى وهو يجحظني باليمنى , وقال :
- تلك حكاية طويلة . ثم راح يضحك .
اسمع . سألني الكثير عن سر هذا الاسم . وكنت دائما أجيب بأنهم سموني -السردوك- لأنني كنت تماما مثل -السردوك- ... نحيفا وشجاعا , وأحوم دائما حول الأنثى ولا أعاف .
سحب نفسا آخر من السيجارة القصيرة التي كادت تنتهي مع النفس الثاني , وواصل :
-ولكن الحكاية غير ذلك تماما . وضحك ثانية . الحكاية أنني سرقت -سردوكا -...!
-حدث ذلك وأنا طفل صغير . قبل ذلك كان عندي أيضا لقبا آخر . -علي رطل-. كانوا يسمونني علي رطل . أولا لأن أسمي الحقيقي علي . وثانيا لأنني كنت نحيفا جدا كعود زيتون . ولأن جدي سبني بهذا الاسم . وقبلها كانوا يسمونني المحروق . لأن أمي تعثرت وهي تحمل آنية الزيت الساخن وقد كانت تريد إنزاله من فوق -وابور الغاز- . وسقط علي وأنا أحبو مثل جرو تحتها . فسلخ جلد صدري والتصقت جلدة إبطي , وبقيت لمدة طويلة لا أتحمل السراويل الداخلية بسبب الحروق . ولم أتخلص من هذا اللقب الكريه إلا حين سمع أولاد الحي جدي وهو يجري ورائي ويسبني قائلا : ‘‘ يا فرخ الحرام ...يا رطل .’’ . ومن يومها سموني -علي رطل- . حتى كانت حكاية -السردوك-.
حدث ذلك بالصيف . شهر أغسطس على ما أذكر . وأنت بالتأكيد لا تعرف ماذا يعني شهر أغسطس في مدينة مثل مدينة القصرين . جحيم أزرق .
خرجت أبحث عن شيء أسرقه . كان لي من العمر عشر سنوات , ولكنني كنت أموت إذا مر يوم ولم أسرق شيئا ... أي شيء . خاتم أمي سرقته . وقبله بعت كل الكؤوس التي كانت أختي قد اشترتها كنواة لجهازها .
يقولون بأنني ولدت سارقا . لأنني , كنت دائما -وأنا طفل رضيع - ألم أي شيء أجده قريبا مني . حذاء...قميص متسخ ... قارورة ...أي شيء . يقولون بأنني كنت أجمع تلك الأشياء , وآخذها إلى موضع تحت السرير , ويظل الآخرون يبحثون عن أشيائهم حتى ينهارون . وتحكي جدتي بأنها نزعت قرطها الذهبي مرة , ووضعته على الوسادة . ولما كانت تنزع الآخر , حبوت إليها وأخذت القرط , وخبئته كعادتي تحت السرير . وقد ظلت تبحث عنه حتى أنقطع نفسها من القهر , وكانت تخبط رأسها كالمجنونة .
وعندما رجع والدي من العمل , نادى اخوتي , وكان يأخذهم واحدا , واحدا إلى غرفة مجاورة فيوثق أياديهم وأرجلهم , ويظل يضربهم حتى يغمى عليهم . بكى اخوتي كثيرا بعد
ذلك , وحلفوا بأنهم لا يعلمون شيئا عن القرط .
تقول جدتي , بأن جارة لنا , جاءت في اليوم التالي إليها تطيب خاطرها , وتعدها بالذهاب معها إلى عرافة تعرفها , تعرف الغيب , وتخبر عن الإبرة أين موضعها . وكان لجارتنا هذه
ابنة رضيعة , في الشهر الرابع أو الخامس من عمرها , جاءت بها معها , ووضعتها على الحصير المفروش إلى الأرض قربها , وهي تحادث جدتي . وانتبهت الجارة فجأة إلى أنني أخرج من الغرفة المقابلة وأنا أحبو بطريقة أنكرتها , فظلت تتابعني بنظراتها , حتى رأتني
وأنا أخرج القرط من تحت أصابعي , وأضعه تحت رقبة ابنتها الرضيعة .
بقيت جدتي سنوات تحكى لمن تعرف ولا تعرف حكاية القرط هذه . حتى عرفني كل الجيران
وتناهى خبري إلى أطراف القصرين , وتحدث به الرجال بالمقاهي . وظلت جدتي تلعنني حتى
أخذها الله . وكانت وهي على فراش الموت لا تذكر الله كما يفعل البشر , وإنما كانت تقول بأن الله سيغفر لها ولكل فرد في عائلة المثلوثي-وهذا عرشنا- بهذا الولد الملقوط , لان الله لا يعاقب مرتين . هكذا كانت تقول .
كانت جدتي عجوز خرقاء . وأعتقد بأنها كانت السبب وراء كل المصائب التي صبها الزمن فيما بعد على رأسي . لقد عمدتني بفضائح لا ذنب لي فيها ... وكانت تتابعني وتتربص بي
ولا يهدأ لها بال حتى تراني وأنا آتي أمرا تراه مكروها وتمسكني متلبسا . وهات يا ضرب وهات يا بصاق وفلفل أحمر . كانت أمي هي التي تضع الفلفل الأحمر الحارق في عيني , وأخي صالح يوثقني إلى السرير , وجدتي تبصق ,على مرأى من بقية أخوتي , في وجهي.
أما أبي المغلوب على أمره فقد كان يكتفي بالخروج إلى المقهى القريب.

حكايات الطفولة غريبة والله . قال وهو يلف لنفسه سيجارة . بصق إلى الأرض ثانية وهو يترصد النادل دون أن يدير رأسه . عيناه تدوران في كل اتجاه . يستطيع إخفاء بؤبؤ عينيه
حتى تحسبه مخلوق بلا بؤبؤ ! ... وجهه نحيل ممتص , جلد على عظم , وشاربه ما زال أسود مثل الفحم رغم عمره المجهول والذي تجاوز الخمسين بكل تأكيد . عليه ضحكة لا يقلدها من الإنس إنس ولا من الجن جان ! هو لا يضحك كما يضحك الناس . ولا يمكنك أن ترى أسنانه أو لثته وهو يضحك . إنه ينظر إليك أولا , ثم لا تدري إلا وأنت تضحك معه .
يهتز مثل المحرك القديم . يضحك من داخل حلقه فقط . يرتعش شاربه , وتسمع منه صوت مثل صوت الماء المضغوط وهو يخرج من ثقب مسدود .
-أخ...أخ...أخ....أخخخ.....أخخخخ ......أخخخخخخخخخخ ..أخ ...أخ .
-----------------------------------------------------------------------------

كمال العيّادي – ميونيخ
www.kamal-ayadi.com


* السّردوك : يعني الدّيك, بالعامّيّة التونسيّة



#كمال_العيادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعا… وداعا يا عبد الرّحيم صمادح الكبير


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال العيادي - السردوك*