أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تأملات في خلفية داعش















المزيد.....



تأملات في خلفية داعش


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4553 - 2014 / 8 / 24 - 00:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لا يهمني في هذا المقال أن أشير إلى بدايات نشأة القواعد، ولا الدواعش، ومن قبلها جماعات الإسلام السياسي المنتشرة في جميع أصقاع العالم الإسلامي، لأن ظهورها كان نتيجة محتمة لصراع بشري حول تحديد ماهية الإلهي المتعلق بالكلمة الصادرة من الأزل المتفرد بالوجود، وتمييزِ ما هو مدنس ومقيد بالوقائع المستحدثة مما هو مقدس ومطلق في ارتباطه بالحقيقة الكاملة الإيجاد. بل يهمني أن أستجلي بعض الحقيقة كما تراءت لي أصلا، وفرعا، وتماثلت لي عينا، وأثرا. وذلك ما يحدده عندي نظر تراكمت أبجدياته منذ زمن كنا فيه صغارا، أغرارا، نبحث عما هو جديد في عالم التدين المشاكس لما هو قائم بين الحقائق التي تواطأ عليها مجتمعنا منذ قرون طويلة. ولذا استحوذت علينا في تلك الفترة لغة الإنكار لأسباب ذاتية محضة، تعود إجمالا إلى انسجامها مع ما هو موروث في بيئتنا من أنماط تدينة، خلقت لها فضاء في بواطننا المستعرة برغبة الالتزام بأدبيات الدين، والشريعة، حذرا مما دهمنا من تغيير في مكونات بنيتنا الثقافية، والاجتماعية، أو إلى رفضها للمجتمع الذي استشرت فيه تناقضات بين ما هو مرسوم في لوحة الوقائع، وبين ما تدافع عنه المؤسسات الدينية التقليدية من تدين مسيج –في كثير من سلوكياته- بعقليات لا تقبل الجديد لجدته المخالفة لما تشربته النفوس والعقول من تراث غامض الملامح. ولو كان في ذلك إبعاد لمرامات طفولتنا ومراهقتنا عن محضنها الأصلي، وإحجار على طاقاتنا، وهاماتنا. ومن ثم فإن ما شعرنا به من إقصاء دعت إليه بوادر صراع الأجيال، قد كان سببا رئيسا في البحث عن مهاد أخرى، تتوافر معها سعة آفاق نبرز فيها كامن قوانا المهدروة بين أطلال واقع متناقض البنى، والرؤى، وربما قد نسعى من خلال فهمها إلى إيجاد نَفَس يشركنا في بناء حياتنا الخاصة، والعامة. ولعل ما انبهرنا به بين تلافيف الصورة من خداع المطبوعات المبسطة، والأشرطة المتنوعة، قد أثر بسلبية في نوعية العلاقة التي تربطنا بموروثنا الثقافي، والفكري، والحضاري. وذلك ما كان له ضمور في نفسيتنا التي انخدعت بأبواق تشربت الثقافة المشرقية، وتمتعت ببريق الدولار الممنوح بسخاء لأولئك الأقزام المتطاولين على تاريخ منطقتنا المعروفة بألحان ولائها للدين الإسلامي، وللغة العربية الفصيحة، وللعادات والتقاليد المؤصلة بالعرف الإنساني المستحسن، والمؤثلة بقاعدة المصلحة المرسلة. وقد أدى كل هذا -وما سواه مما لم نشر إليه- إلى بناء علاقة متصارعة فيما بين الآباء، والأبناء، بل ظهرت تجليات ذلك في انسلاخنا عن بؤرة القرية، والقبيلة، لكي نلج عالما غامضا خلبنا بما نلنا بين غيله من أمل يترعنا برغبة في التحرر من قيود الأسرة، والجماعة. ولاشك أن ذلك مما أفرز عندنا علاقة معقدة فيما بين الماضي، والحاضر، وأبرز لنا رابطة مبددة فيما بين الأصول، والفروع، وأوقعنا في جب غربة أنطولوجية عشنا معها حيرة من تراثنا، وتاريخنا، وحضارتنا، ولبسنا في خداعها لبسة جديدة، تتعالى على المجتمع الموسوم بأحكام تلقفناها من غير وعي، ولا تدبر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، قد أهلنا ذلك إلى أن ننزاح عن دائرة الكل المُجمع في تلك اللحظة على رفض المظاهر التي بدأت تبرز بين مجامعنا، ومساجدنا، وتظهر ملامحها على لباسنا، وسلوكنا، وكأنها تحمل رسالة الحرية من تدين الآباء الرافض لمشاركتنا في الأحداث التي تؤسس بعيدا عن دائرة الوعي الجماعي لقضايا التنوير، والتحديث، والتطوير.
في هذه اللحظة الساحرة، والساخرة، أصيبت عقول بمكر هذا المارد الذي لم نختبر خبيئته إلا بعد عراك فكري مديد. لكننا ومهما أعربنا عن تألمنا من هذه الهيمنة المستحوذة على عقولنا في سياقات تكوين رصيدنا المعرفي، فإن ما يؤرقنا في قرارة أنفسنا، هو ما نراه اليوم من ضحايا اندفعوا إلى حِمى هذه الحمم الحارقة بعواطف عارية من المعرفة، وفارغة من الحقيقة. وهي على عكس تلك الفترة التي كنا معها بحاثا عن كل جديد يطبع في عالم الكتب، أو ينشر في عالم المجلات، أو يقرأ بين طيات الجرائد، فنقتنيه بما نملكه من بلالة رزق هزيل، أو نستعيره من صديق يستهويه أن يكون فاعل خير، ثم نلتهمه بأدواتنا التي اكتسبناها من الدراسة في المدارس العتيقة. وإذ ذاك نستعرضه في حججنا، وبراهينا، وننافح عنه بكل ما عن لنا من وسائل، وإمكانات. ولا غرو في ذلك، فما طرأ على بنيتنا المعرفية في دراستنا التقليدية، قد قلص الهوة فيما بيننا وبين مشائخنا، وبدد كثيرا من الأوهام التي تمخض عنها ذلك اللقاء المتنافر بين القديم، والحديث. -لكون بعض مشائخنا قد اغتروا بهذه السلفية العلمية التي تهتم بتصحيح العقائد، والآثار- وقد شكل هذا نقطة التقاء واتصال فيما بين جيلنا المخضرم، والجيل الأصيل المتخرج من نبع المراكز الدينية المعلوم ولاءها لتاريخ المنطقة، ورجالاها، وأعلامها. على الرغم من قيام كثير من فقهاء المدارس وشيوخ الزوايا بمحاربة هذا الفكر الوافد الغريب. لاسيما أولئك المنتسبين إلى الطرق الصوفية الكبرى، كالتجانية، والناصرية، والدرقاوية. لكن هذه المقاومة الهزيلة في تواصلها وتفاعلها مع محيطها الداخلي، والخارجي، لم يخلق لها الزلفى من قلوب انصعقت أمام ما هو قادم بجحافله المطهمة بريش المناصب، والوجاهة، والمال، ولم يفرض لها سلطانا إلا في دوائر ضيقة، ومحدودة، تبدو وكأنها متخلفة عن ركب العلم، والحضارة، ومتمتعة بحس الخرافة، والبداوة. والأغرب في ذلك الصراع أنه كان بداية حقيقية للتحرر من الآراء الفاقدة لإحساسنا بالوجود المفعم بتقلبات نالت كل البنى الفكرية، والثقافية. لكن ذلك لم يدم طويلا، إذ نشأت عنه فريضة الرفض التي أدت إلى مراجعة معرفية استمرت ردحا من الزمن، ولجنا فيها مع جيل التيه مخاضات أخرى امتدت إلى إعادة قراءة تراثنا وتاريخنا بعقلية أصولية، تتبنى خيارات أخرى غير التي كنا نحلم بها حين راودنا شوق الرحيل إلى حيث مشرق الشمس لرشف رضاب العلم الشرعي، بل شاكست كل الأفكار التي رضعها صعاليك فدام تحلقوا على مائدة دسمة، منحتهم هباء كراسي التدريس بدعوى محاربة المد الشيوعي في الجامعات، والكليات.
ومما زاد الطين بلة أن التاريخ الذي بدأ يتشكل في منطقتنا المعروفة بعاداتها، وتقاليدها، لم يعد في مقدور طاقة هذه المؤسسات التقليدية أن تجابهه، ولا أن تقاومه، لكونه قد استعمل أدوات حققت أحلام كثير من أولئك الذين ضجروا اليوم مما وصل إليه الامتداد السلفي من شقاء، وعناء، قد انفلتت أنيابه إلى أناس عاتبهم الحظ بعد أحداث إحدى عشر سيبتمر، ونازلهم القدر بأقسى العقوبات التي تشيب ناصية المتحولين من نوع فكري إلى نوع آخر مقابل له. فمن الزعيق بمحاربة الأنظمة التقليدية إلى مناصرة ما آلت إليه أوضاعنا الدينية من تراجع على مستوى العقيدة، وغلو في الممارسة. لكن ما دهم العالم الإسلامي من إرهاق وإعنات بسبب "الخريف العربي" الذي أفرز بنية ذهنية متجاوزة، قد فتح الباب لبعض هذه الحركات المعدلة جينيا، لكي تلج أبواب السياسة بعقلية تراثية، واختزالية، تفترض وجود جمل من الحلول المعدة لكل الهموم التي تنتاب الأمة الإسلامية، ولكن غاب عن حركتهم المقبولة في زمن انفلتت فيه الأصوات الناعقة بالحرية، أن تغيير أي نظام قائم على خلفيات دينية وتراثية محلية، بنظام مستورد من أدغال التاريخ المفجوع بهزائمه النكدة، ما هو إلا مقامرة كبيرة أمام وجود رصيد فكري وثقافي وحضاري يمتلكه الغير، ويحميه، ويفرضه بما هو ممكن له من استعدادات، واستلهامات. وهنا ظهرت أصوات تنادي بالدولة الإلهية في مقابل الدولة المدنية البشرية. وذلك في حدوده الدنيا، يعبر عن إحساس مترع بالهزائم المتلاحقة، وافتراض لمخلص يمتلك كل القوى السحرية التي تؤهله لتغيير الوضع من واقع قاتم وداكن إلى ملاذ آمن يجد فيه الإنسان العربي نجعته، وبغيته. فهل كان هذا صحيحا في ميزان العقل.؟ لا، فلو كان ذلك مقبولا في الأحلام، والعواطف، فإن حقيقة واقع تشكل الدول، وتكوينها، وفق سنن التاريخ، والحضارة، لا تستقيم مع هذا الاعتباط الذي يؤسس للشتات داخل مسار يستلزم رعاية المصالح المشتركة، والاعتناء بها وفق رؤية إنسانية، وكونية، لا تستبعد كل الألوان المتماوجة في عالم مفتوح على جميع الثقافات، والحضارات.
إن من حسنات الخريف العربي أنه أفرز لنا –كما قلت- بنية فكرية ماضوية تقليدية، كانت خامدة ونائمة في خلد أولئك الغرباء الذين أحسوا بالغبن في أوطان لم تكد سواعدهم في تنميتها، واستثمارها، وخدمتها بما يتماشى مع الرغبات الحقيقية للإنسان السوي المتكامل الروح، والجسد. وهذه الغربة التي طالت هؤلاء المتلفعين برداء الكراهية لكل البنى المحلية، قد أوجدت لهم متنفسا يعيدون فيه بناء المركبات المعقدة بين تلافيف التاريخ المنسجم مع أهوائهم، والمندغم في صيرورة تختلف أسبابها، وعللها، وإن اتحد القصد في الأول، والأخير، وهو تأسيس "دولة الخلافة" التي تعيدنا إلى قرون مضت، لم تتحقق فيها هذه الأحلام الموعودة، فضلا عن أن تكون الترياق لهذه الأدواء التي تنخر عظم الأمة الإسلامية، وتشل الإنسان العربي عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.
ومن ثم، فإن بنية الصراع حول التراث الديني، تتحكم فيها نوازع نفسية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، واقتصادية، تتجذر في عمق الواقع بإخضاعها لأنماط سلوكية تلبس مسوح الدين في كثير من مراحل حركتها القائمة على نزعة الاستعلاء، والاستفراد. وفي نفس الوقت تغذيها مخاوف من المجهول المتآمر على الرصيد التاريخي للأمة المكلومة بفعل الاستعمار المستلب لخيرات المناطق المنهوكة القوى، والمهدورة بخبث الغزو الفكري المتطاول على مقدسات الأمة، ورموزها الدينية، والتاريخية، والمنكوبة بجور الحروب الدامية التي حمي وطيسها في الشرق الأوسط. ولا غرابة إذا نتج عن هذا صراع بين أجيال تحاربت في تحديد ماهية الهوية المستقلة للأوطان الإسلامية، وتناجزت من أجل إيجاد رقعة قابلة لإفراز ذلك الرجيع المحتقن داخل النفوس التي صعقتها في بؤسها نيران المادية الفارهة، وصرعتها تواتر النكبات المتعاقبة على الشعوب العربية، والإسلامية، بدءا من الاستعمار الغربي لهذه الأراضي الخصيبة بمواردها الطبيعية، والبشرية، وانتهاء بالغزو الفكري الممتد إلى الثقافات المحلية، والخصوصيات الوطنية. ولولا هذه الانتكاسات المتوالية نتائجها الوخيمة على أمتنا العربية، لما وجدت هذه الدعوات سندا في منطقتنا المنهوبة قواها المتهاوية المقاصد، والموارد، ولا في حقيقتنا التاريخية والحضارية الممتزجة بهذه الرقعة الجغرافية المسماة بالوطن الإسلامي. وإذا أضفنا إلى ذلك جمود المؤسسات الدينية، والتعليمية، والتثقيفية، واكتفاءها بما هو موروث من صراعات تاريخية، أطاحت برءوس، وأعلت هامة أقوام لم يشهدوا ما للأمة من مناقب، وفضائل، فإننا سنعثر على ملامح العقيدة المولودة بين مهاد عقول ضعيفة الإدراك، وهزيلة الوعي، وسقيمة الفكر. ومن هنا، فإن داعش لم تخرج عن هذا السياق الذي أنتج ركاما من الحمم المعطلة للوظيفة الدينية، والدنيوية، بل ليست داعش إلا وليدا شرعيا لهذه الحركات الدينية والسياسية التي اغتصت بها كتب التاريخ الإسلامي المشكل لجزء كبير من إدراكنا ووعينا للحقائق المختزلة في أنماط سلوكية، لا تستبعد قربان الدم، انتصارا للعقيدة، أو السياسة. ولذا، فإن لغة السيف، لن تكون غريبة في سمع المتتبع لحقيقة الدولة الدينية القائمة على إيديولوجية استعلائية، استعراضية، تئد الإنسان رغبة في تحقيق الحق الإلهي في الوجود البشري، وتقط كل الأوصال الرابطة بين الإنسان، والإله، وبين الإنسان، والوجود، والكون، والطبيعة، أو العالم.
وهكذا، فإن داعش ومن سيأتي بعدها إن تلطف الأقدار بأمتنا المتعددة الأمشاج، هي جزء من هذا التاريخ الذي دراه أعداءنا أكثر منا، ووعى غيرنا تناقضاته، وملابساته، بل استطاع أن يوظفه في خدمة مصالحه، ومنافعه. والأدهى أننا ما زلنا وإلى يومنا هذا حقولا للتجربة، لا يسكن فينا عضو حتى يتألم منا عضو آخر، ولا يستقر فينا حال حتى تتهوج منا مقامات، ومرامات. بل الأغرب في ذلك أن تقوم داعش بالقضاء على كل مقوماتنا الدينية، والثقافية، والفكرية، فتعمد إلى تبديد ذلك الموروث المشترك فيما بيننا تاريخيا، والمتسم بالتسامح، والإخاء. وسواء كان ذلك وعيا بضرورة التعايش السلمي بين أفراد الجماعة الواحدة، على اختلاف أديانهم، ولغاتهم، أو كان صيرورة فرضها واقع عيشنا في كوكب مختلط وممتزج الأنساب، والأحساب، والجغرافيا، والتاريخ، أو كان غير ذلك مما هو قائم في حقيقتنا التي نعاصر بها شعوبا وأمما ترغب في التساكن الآمن بين بني الإنسان.
ولعل آخر ما تساق إليه داعش بعد أن دخلت مزبلة التاريخ، ومحرقة الحضارة، وصارت غدة سرطانية في جسم الأمة المنكوب، هو ضرب الحركات الدينية القائمة على الخصوصيات والعادات والتقاليد المحلية، والإجهاز على المناهل التي تتغذى منها اجتهادات العقلية الفقهية المحلية، والقضاء على ذلك الأمل الحاني في قلوب تضمر الاستعداد العقلاني لتحديد ذلك المجهول المتوهم إدراكا، وفهما. وهذا ما سيفتح الباب على مصراعيه لظهور أفكار أخرى، قد تكون متطرفة في رفضها للأديان، أو مغالية في قراءتها لمفردات التراث، أو مجافية للحقيقة التي نتشوف إليها أفرادا، وجماعات. وهو أمر ليس باليسير إن لم تحصنه إرادة فوقية تتبنى خيار الأمة في مقابل الانتصار للطائفة، أو النحلة، أو الملة. ومن هنا، فإن العقل الفقهي السلفي، ومهما حاولنا الفصل بين "السلفية التقليدية (العلمية)، أو السلفية الجهادية"، لن ينتج إلا نباتا ناشزا، ولن يثمر إلا ثمرا كاسدا، تغتص به أمتنا فيما سيأتي من زمان حذق، يفترض منا أن نكون مؤهلين لكي نلج باب العالم المفتوح على إنسانية الإنسان وكونيتها القائمة على احترام حقه في الحرية، والعدالة، والمساواة، في تفاعل متوازن، ومنضبط، ومسؤول. وهنا تكمن عظمة الفلسفات الإنسانية القائمة على الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي، والتسامح الديني، ولو كان ذلك في حدود نسبية تضمن ضبط هذه القواعد، والمعايير، وتحتوي على جزء مهم من الاستعداد لإقامة مجتمع متخلق بالمثل والفضائل الكريمة.
وبناء على ماذكرناه، نرى هذا التقسيم بين مفهومي السلفية مغالطة فكرية، دعت إليها التصنيفات التي تمخضت عنها تلك الفلسفات الحادثة بعد أحداث سيبتمر الأسود، وإعلان الحرب على الإرهاب، وإشهار العداوة الدولية للجماعات المتطرفة، والمتشددة. وهو تصنيف غير علمي من الناحية الموضوعية، وإن كان مقبولا في المقاربات الأخرى، لكون المنبع التي تستقي منه هذه الجماعات المتطرفة واحد المورد، والمصدر. ولذا يمكن توظيف هذا التصنيف في كل ظرف تدعو إليه الضرورة التاريخية، إما لتحقيق التوازن بين القوى المحلية، وإما لإحداث العبث والفوضى الخلاقة، وإما لغير ذلك مما لا نعي له سببا، ولا غاية. ولهذا، فإن ما كان بالأمس دعوة إلى الجهاد ضد الغرب الكافر كما في زعمهم، هو الدعوة عينها التي تنادي بمهادنة العدو، ومبرته. فالنصوص، هي النصوص نفسها، لكنها تؤول وتحور في كل سياق بما تقتضيه أهواء النفوس المكلومة. ومن هنا، فإن هذا التقسيم غير مستقيم منهجيا، لأمرين اثنين: الأول: إن المراجعة الفكرية التي نادت بها السلفية الجهادية، لم تعد تلك النصوص التي كانت سببا في ضخ ما بين وريدها من حقد وعداء وكراهية للغرب المعتبر في التراث الفقهي السلفي "دار الكفر، أو دار الحرب" في مقابل "دار الإسلام، أو دار الأمان". وهكذا، فإن الانقلاب عن الفكر الذي أحدث رعبا في هذا الكوكب الصغير، لم يتم إلا تحت ضغط مفروض اندفعت إليه الدول لحماية بيضتها، وجوزتها. الأمر الثاني: أن السياسة لا تعرف عدوا دائما، ولا صديقا محضا، بل يصير العدو صديقا في ظروف معينة، رعاية للأحاسيس المؤطرة للمصالح المشتركة. ومن ثم، فإننا نصير وبطرق ملتوية إلى بؤرة معقدة في الفكر، والممارسة، لأن هذه الأدبيات المؤسسة للفكر السلفي، سواء التقليدي منها، أو الجهادي، يمكن لها أن تستعمل في محاربة أوطاننا العربية والإسلامية متى دعت الضرورة إلى إيجاد مناج ديني قائم على العداء لما هو حادث في واقع الأعيان، والأحداث. وذلك أمر ميسر تسويغه في عقول الدهماء، والغوغائيين، إذا أدرك الشطار كيف يستثمرون هذه الأفكار السقيمة لإيقاع العداوة فيما بيننا، وإيذاء بعضنا ببعض، وهذا ما يحدث اليوم في العراق، وسوريا. وما دامت إراداتنا المحلية لم تكن قوية في إبعاد فتيل هذه النيران الطائشة، والمتهوكة، فإننا سنتأدى بها لا محالة، لاسيما، ونحن نرى امتدادا للفكر السلفي داخل منظومتنا الفكرية، والمعرفية، والثقافية، بل تجاوز ذلك إلى أنماط وسلوكيات تستحوذ على مظاهر التدين الشعبي، ويتجسد ذلك في محاربة ما هو موروث تاريخيا من عادات وتقاليد وأعراف تحدد خصوصياتنا المحلية، وطرق استلهامنا لكل ما هو جماعي ومشترك، ومتوحد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الدول الغربية الحديثة بكل تعقيداتها، وتوازناتها، لن تتوان عن شل هذه الحركات التي تصطدم مع علمانيتها، ومدنيتها، وحضارتها، وذلك على عكس الدول الإسلامية التي تتبنى خيار الدين، وتستند في منظومتها السياسية إلى التراث الفقهي الذي ورثناه عن تاريخنا، وحضارتنا. ولذا، فإننا ما دمنا نعتقد بأن خيار الدين جزء لا يتجزأ عن منظومة استقرار منطقتنا، واستتباب الأمن في أوطاننا، فإن أي تحول معرفي أو فكري لا يستوفي الشروط الموضوعية لهذا الانتقال، سيكون نارا تحرق الأخضر، واليابس، وتهدم كل العلاقات والروابط التي تربطنا بالإنسان، والوطن، والكون. ومن هنا يصير الجهد الفردي المترع بالسمات النفسية المريضة خروجا معرفيا عن السير العام للأمة، وتغريدا خارج سرب الحقائق الملتزمة بالخصوصيات المحلية المعتمدة على ما هو تاريخي، وما هو مجتمعي، وما هو دولي. بل الأغرب أن انسياقنا وراء هذه الدعوات الطفيلية، لن نجني منه إلا خسارا، وهلاكا، وبوارا، وربما، ولا محالة سيؤخرنا عن مسايرة سرعة سفينة الحضارة، وسيدفع بنا إلى مزيد من الحروب التي توقد أجران ما هو ديني، أو طائفي، أو إثني، أو عرقي، أو لغوي.
وفي اعتباري الشخصي، فإن قراءتي لداعش سألخصها في جمل آتية:
الأولى: إن حركة داعش لم تخرج في سياقاتها عن الصراع التاريخي الذي طال كثيرا من فترات التاريخ الإسلامي، وصال بجبروته في أرواح الأبرياء من أتباع الفرق الفقهية، والكلامية، (كما ذكرنا في كتابنا التشكلات الكلامية والفقهية في الشمال الأفريقي) لكن من المغالطة الفكرية أن نعتبرها ناشئة من رحم الخوارج بالمعنى الإصطلاحي، إلا إذا قلنا بأن الخوارج (بالمعنى اللغوي) فئة خرجت عن إجماع أوطانها، وبلدانها، على اعتبار الإجماع مناطا فكريا وثقافيا في المنظومة السنية. ومن ثم، فإن داعش تمتح من المعين الذي اجترعت منه الفرق الإسلامية جرعة سم حولتها إلى فئة حاقدة على المجتمع، ومركباته البشرية. ولعلنا إذا نظرنا وبحيادية إلى الأشواق والأتواق التي تعلنها داعش، وهو إقامة "الخلافة الإسلامية"، بكل إكراهاتها، وإسقاطاتها، فإننا سنلمس عن قرب تلك الروابط المشتركة بينها وبين الفرق الإسلامية التي استباحت الدماء احتياطا للمذهب، أو للعرق، لا التزاما بقضايا الدين، والوطن، والأمة، وإن اختلف الزمان، ولم يتخلف المكان. ففي المكان نفسه أهريقت دماء ضد الأنظمة القائمة بدعوى حماية الدين، والشريعة، وفي المكان عينه تقام المحازر ضد أبرياء عزل لا يملكون سوى العراء المفتوح على قسوة عتاة الوحوش الآدمية، بل لا رأي لهم في الصراع الدائر بين القوى الكبرى في المنطقة، ولا أمل لهم فيما ستنتجه تلك الحروب من دمار، وخراب، قد يشل قوة أوطانهم، ومقدراته، ومواهبه، وطاقاته. والأغرب في حركة داعش أنها تحارب عدوا وهميا لا حدود له، ولا رسم له. فمن هو.؟ هل هو النظام السوري.؟ أم النظام العراقي.؟ أم الإنسان العربي بعاداته، وخصوصياته.؟ لو تحدد العدو في نظر الدواعش، لكان الخطر هينا، ويسيرا، لكن ما تقوم به من إحراق، وتدمير، وقتل، وسلب، واغتصاب، لا رافد له من ورائه، ولا غاية له في أهدافه، إلا إذا وقفنا عند مفهوم الخلافة الإسلامية، والدولة الإسلامية، وما صاحب هذا الإعلان من همجية رعناء، استطالت على الإنسان الموجوءة عزيمته المشلولة، مع غض النظر عن دينه، وعرقه، ولغته. وهنا يمكن لنا تفسير هذا الحلم الميتافيزيقي الطوباوي الذي لن تتحقق لحظته الهاربة في ظل الظروف الراهنة، لعدم إمكانية رجوع التاريخ إلى الوراء، لكي يكون عقلا مدبرا كما كان في السابق، ولاستحالة التطاول على مكتسبات الإنسان في حقوقه التي ناضل من أجلها بطرق أخلاقية، وإنسانية، ثم صارت مع الزمن جزءا لا يتجزأ من قانون حقوق الإنسان التي أقرتها أمم الكون، واعترفت بها، وناضلت من أجل ترسيخها وتأكيدها في المجتمعات البشرية، ولو تفاوتت الإرادات في تطبيقها، وتحيينها.
الثانية: إذا كانت الدواعش تتغذى من فتات الصراع المحتد بين الفرق الإسلامية، فإن الخلل القائم في بنية العقل الفقهي السلفي، لن يؤدي (مع انكفاء المؤسسات الدينية على منابذة العقل الفقهي التجديدي، والتزامها بالحدود النفسية والاجتماعية لمحيطها) إلى فهم صيرورة تلك العلاقة القائمة بين الدين، والإنسان، أو بين الدين، والتاريخ، على اعتبار التاريخ جُماع الانتاجات البشرية في كل المجالات الحياتية، والإنسانية، أو على اعتبار التاريخ شاهد حق على الإرادات التي خدمت الإنسان، أو دمرته، وفق معايير ومقاييس تحدد ماهية تلك الصلة الروحية فيما بين الله، والإنسان، وفيما بين الإنسان، والوجود، والحياة، والكون، والطبيعة. ومن ثم، فإن عدم فهم هذه الوشيجة الروحية بين الحقيقة وظلها، وتجلياتها، لن يمنحنا تصورا حقيقيا يحدد لنا ما هو الله.؟ وما هو الإنسان.؟ وما هو دور كل واحد منهما في الوجود.؟ وإلى أين تنتهي هذه العلاقة.؟ وهل الدين على اعتباره كلمة الله، قد وجد في حياة الإنسان لإراحته من متاعب السؤال الفطري، وإعادته إلى مبادئ تحجز إنسانيته عن الانحراف في مجاله النفسي، والاجتماعي.؟ أم وجد لإخماد حس الإنسان، وإحجام دوره، وإعطائه صبغة فوقية تنمطه وفق تصورات بُدائية تئد طاقاته، ومواهبه، وتهدر كرامته، وحريته.؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يدفع بنا إلى سؤال آخر: هل الإنسان وجد ليشارك بين العائلة البشرية بدوره الذي يخدم به بناء مستقبل رغيد وخصيب يسعد فيه الفرد والجماعة بخيرات الأرض، ومنتجاتها، ومنتخباتها.؟ أم وجد لكي يكون سيف الله الذي يفري أوداج المخالفين، والمعارضين.؟ إننا إذا افترضنا أحد الإجابات عن هذين السؤالين، فإننا سنعثر على أس تلك الهمجية التي تشربها عقول فئام مهدورة، أخفقت في فهم الذات، والفكر، وأوغلت في الهروب من المجتمع الذي لم يستجب لأحلامهم المكبوتة وراء سمات نفسية متشددة، تعبر عنها تلك السوداوية الداكنة في مسار سلوكيات تلتزم العدوان، والعنف، والغلو، ابتغاء لسدة الكراسي المستبطنة لروافد نفسية واجتماعية تتضخم انكساراتها مع الهزائم التي تطال في مجتمعاتنا العربية جملة من الميادين الحياتية المهمة. وهكذا، فإن تأهيل شباب الأمة، وتحصينه بالمعرفة الدقيقة، وتمتيعه بمساحات من الحرية، والكرامة، سيؤدي باللزوم إلى إيجاد مناخ مشاع للتلاقي، والتلاقح، في إطار ما هو مشترك، وجماعي، على غرار ما هو فردي مرتبط بالمجال النفسي والاجتماعي للفرد المسلم.
الثالثة: إن الخلل في البنية الوظيفية للعقل المسلم المفرغ من محتواه المعرفي، والفكري، والمسطح في وعيه للأحداث المتموجة في محيطه النفسي، والاجتماعي، لاسيما مع ظهور أنماط من السلوكيات المنحرفة في مجال التدين الشعبي، سيؤدي بنا إلى عدم التمييز بين ما هو إلهي، وما هو بشري، أو بين ما هو مطلق، وما هو مقيد، أو بين ما هو ديني، وما هو سياسي. ولا محالة إن لم نسع إلى التفريق بين الثابت، والمتحول، فإن ذلك سينتج عنه هوس الاستعلاء باسم الإله، والاستفراد بالحقيقة. وذلك ما سيؤدي بنا -ومع الاصطدام بحركة التاريخ السريعة- إلى الانفصام بين العقيدة، والسلوك. ومن ثم، لن يكون سبيل هؤلاء البله الذين لا يفرقون بين الحقيقة وأعراضها إلا محاولات فرض نمط عقدي، وسلوكي، على اعتباره مرادا لله، ثم إضفاء الشرعية على تلك الأعمال الوحشية التي تفرض خيارا وسياقا معينا، ولو أدى ذلك إلى براكين الدم المهداة للإله المحنط في عقول هؤلاء المتشددين، والمتنطعين. ولا شك أن وأد الحقيقة المطلقة، وقتل الإنسان، ونهب المعبد، ومسخ المحراب، لن يعيدنا إلى زمن التنوير، والتحرير، بل سيبعدنا بمسافات عما اكتسبناه تاريخيا، وحضاريا، وما زال معشوقا لكل الأرواح الطاهرة على هذا الكوكب البسيط.
الرابعة: ليس من نتائج الانكفاء على الذات الموسومة بسمات نفسية منحرفة، ومتعصبة، ومتشنجة، عدم التمييز بين المقامات الإلهية والبشرية فقط، بل تعدت ذلك إلى فرض صياغة تعتبر النهائية لكل العلاقات التي تربط الإنسان بالأنا، أو بالغير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا الاعتقاد الرافض لكل ما هو خارج عن محيط الذات المعلولة بالانفصال بين ما هو ماض، وما هو حاضر، سيؤثر سلبا في العلاقة التي تربط الإنسان بعالمه الخارجي، لاسيما حين تلتبس العقول المسطحة بالظواهر التي لا تجسد نوعية هذه الثقافة المتشنجة، بل تصطدم مع تياراتها الممتزجة بإفرازات الحركة الدينية، والفلسفية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية. وذلك مما يسهل على أدعياء الحق الإلهي اغتصاب العقول بأفكار تنبذ الآخر، وتكرهه، وترفضه، وتقتله، بل سيؤدي ذلك إلى رفض الأديان والحضارات الأخرى. ومن هنا، فإن هذه النزعة العدوانية قد تطورت –وباندفاعية- في تحويل الصراع من الآخر –الغرب الكافر كما في زعمهم- إلى الفرق الدينية المخالفة لعقيدة الفرقة الناجية، واستعملت في ذلك مفردات التبديع، والتفسيق، والتشهير، والتقتيل. وهذا ما يحدث مع أتباع المذاهب الإسلامية الكبرى، بل نالت هذه الحناجر المسمومة حتى الطوائف الروحية التي تتبنى خيار الإسلام الناعم البسيط.
الخامسة: إن رفض الآخر المتشكل خارج الذات المتشددة، هو استلهام لمغبة التحجر الذي استحوذ على حلم قديم ترسخه في واقعنا المعاصر بعض الأدبيات المتفرقة في التراث الإسلامي، والمفصولة عن سياقاتها ومحاضنها المعرفية، والفكرية. ولذا تحاول داعش أن تكون لسانا ناطقا باسم هذا الحلم الذي يبدو خلاصا من ضغطة الأحداث المعقدة في علاقاتنا مع ذواتنا، أو مع محيطنا. ومن ثم، فإن داعش، لن يكون مصيرها إلا ما نال كل الفرق الإسلامية التي حفرت بجرائمها خندقها، وقبرها، ثم ارتمت ببن أحضانه بعد عجزها عن اللحاق بركب الحضارة المتشكل تاريخها بقوة لا إرادة فيها للمغلوب. بل لا أمل في انبعاث داعش من هذه المحرقة التي وقعت فيها بإرادة تختزن مصائر البدايات، والنهايات، مهما طال الزمن أو قصر. إلا أن استعجال النتائج المنفصلة عن سنن التاريخ، قد يدفع بكثير من الغيورين على عرض هذه الأمة إلى خوض معارك وهمية، يُظن فيها أنها حاسمة، وفاصلة، وهي في حد ذاتها لن تغير من واقع الحقائق شيئا، ولن تفسر ما هو مخبوء في عين الحقائق التي تدبر بغير إراداتنا. وما دمنا نؤمن بنواميس التغيير، فإن داعش لن تستمر طويلا، لكونها لا تؤمن بلغة العقل، والفكر، ولا تبحث عن ذاتها بين ذوات الآخرين، بل انعزلت بفضل تحقق وهمها الحالم عن العالم، وصارت تقود حربا ضروسا ضد المخالفين، مهما كانت صلتهم قوية أو ضعيفة بما يتورم داخل الوضع من تعقيدات محلية، وإقليمية، ودولية. والأدهى أن داعش ستكون بقوة ما غولا يستعمل في التخويف، والترهيب، طمعا في تحقيق مكاسب سياسية يحددها الأقوى للأضعف. وهكذا، فإن فهم داعش، لن يتم في خضم هذه المظاهر التي تعبر عنها المجازر الرهيبة، بل هناك سؤال وجيه يمكن صياغته عند كل مثقف عضوي ملتزم. من خلق داعش.؟ ستظهر آراء كثيرة تفسر هذه الظاهرة، بغية السبق في إظهار فهم هذه المركب المعقد. وذلك ديدن بعض الكتاب الذين يزعمون أنهم يكتشفون كل الحقائق المكتومة. لكن هل ما يقال هو الحقيقة.؟ إذا قلنا بأحد الآراء المتداولة، فمن هو المستفيد من صيرورة داعش.؟ لو قلنا طائفة معينة، فقد أخطأنا وجانبنا الصواب، لأن داعش، لن تكون إلا خلية نمل في وسط نار، ومهما التزمت المكان البارد، فإن سرعة النيران ستخنقها، وستلتهمها، ولكن متى ذلك.؟ وبيد من.؟ هناك آراء متناقضة، لكن ما تفيده سيرة التاريخ القديم، والحديث، لن يخرج داعش عما وصلت إليه الفرق الإسلامية المغالية. وذلك وعد مبروم بين طيات الأحداث، وسواء في ذلك قرب نهايتها من بدايتها، أو بعده منها. فهو أمر محتم، لاسيما وأن المنطقة بكل مكوناتها المختلفة، لن تسمح بالإبقاء على داعش، إلا إذا أسرت لحلفائها المجهولين بوأد تاريخ المنطقة احتفاظا على مصالح جهات أخرى لها هدف في تحطيم كل البنى الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية بتلك الرقعة الجغرافية. ولا شك أن إرتاء هذا قد يكون مستساغا في محيط، وظرف معين، لكن الجزم به قد تعتوره مخاطر جسيمة، لا بد أن يتحمل وزرها من يمول داعش، ومن يقف إلى جنبها، ومن يدير دفة أحداثها من الوراء.
وفي الحقيقة، فإن داعش قد بينت لنا ثغرات في التراث الفقهي السلفي، وأبرزت لنا احتياجات أخرى يجوز أن نحددها فيما يلي:
أ‌- إن العودة إلى الإسلام الناعم، بآلياته التقليدية، هو نوع من الحماية لهذه الأوطان، ويمكن تسويغ ذلك بأمرين: الأول: أن الإسلام التقليدي كما أصطلح عليه، هو إسلام شعبي منفتح، ومتنوع، لكونه قد استطاع أن يمنح الشخصية العربية تميزا وتفردا في بناء العلاقات الاجتماعية المتسامحة. ولا أدل على ذلك من تأصيل الاجتهادات الفقهية للأعراف والعادات والتقاليد التي تبين لنا قيمة الجماعية، في إطار مقاصدي، مشترك، تتجلى فيه نبوغ العقلية الفقهية في مناطق تسوعت في فهم النصوص الدينية، والتراثية، واستطاعت أن تحدد مناط المصالح المرسلة بما هو جماعي، يحقق التعايش والتساكن السلمي بين أفراد الجماعات المختلفة. ثانيا: أن إسلام المجتمعات في العقل الفقهي المحلي، كان سابقا على أسلمة المؤسسات المحددة بالمتغيرات التي تعتري الجماعة، وذلك ما أكسبنا نوعا من الفقاهة التي تميز بين الإلهي، والبشري، وأترعنا بأنظمة تؤسس للفعل الدنيوي والسياسي في محضن "منطقة الفراغ" التي تبرز عليها كل الاجتهادات الفقهية المحققة للمقاصد الكبرى للشريعة. ولذا، فإن حياطة الالتزام بالدين بهذه البساطة، قد يجعلنا لاهوتيين في علاقتنا مع المطلق، وأصوليين في تحريرنا لوقائع حياتنا. وهذا ما يضمن لنا دينامية المؤسسات الدينية، وتثويرها، وتفجرها بما هو مطلوب دنيا، وأخرى. ولا غرابة إذا رفض غيري هذا الرأي، أو لم يستسغه، لكنه سيبقى رأيا يدعو إلى الاحتفاظ على الخصوصيات المحلية، والاعتداد بالإنسان، والأرض، والتاريخ، والحضارة، في إطار كلي، وروحي، وأخلاقي، تشترك فيه كل القوى المنتجة للخير، والحب، والجمال، مهما اختلفت، وتعددت، وتنوعت. ولا ضمور إذا أخفقنا، ولا غرور إذا نجحنا. فالهدف بداية ونهاية، هو نيل ما في أشواق روحنا من رضوان، وكسب ما في حياتنا من رهان.
ب‌- لا بد من تحرير العقل العربي من معرة التقليد، والانبهار، والانبطاح، وهو ما قامت به مشاريع فكرية كثيرة، لكنها اكتفت بالنخبة المثقفة، والعالمة، وفاتها أن تؤثر في عموم الطبقات الأمية "العامية"، وذلك ما قامت به أبواق أخرى، نضجت ثمرتها في أوطاننا العربية، ثم بسقت فروعها، وكان مذاقها مرا في اختلال موازين الإدراك، والوعي، والفهم. ولولا ذلك الفراغ المتروك للأصوات الناعقة باسم الدعوة إلى الله، لما شعرنا بغربة ما هو تراث محلي مترع باستخراجات واستنباطات كانت محل قبول عند الخاصة، والعامة. ومن هنا، فإن مفهوم الصحوة، وما تابعه في سيرته من مظاهر غزت قيمنا المجتمعية، ما هو إلا انسلاخ من قديم لم يصن بعناية إلى سلوكيات مستوردة من هنا، ومن هناك، وهي في حد ذاتها لا تعبر عن ذاتها، فضلا عن أن تكون بديلا عما هو موروث في تاريخنا، وحضارتنا.
ت‌- التخفيف من هالة نظرية المؤامرة التي حبرتها أقلام إسلامية استحثاثا لهمم المسلمين من أجل مواجهة العدو المغتصب، أو المفترض، وذلك ما يجعلنا نراجع ذاتنا الجماعية، لكي نتعرف على مواطن الخلل، والزلل. وما دمنا لم نقم بذلك في وضعنا الراهن، فإننا سنعيش متوهمين هزيمتنا من خارج قلاعنا، لا من داخلها المترع بأوهام تستحوذ علينا في مسايرة الآخر فلسفة، وحضارة.
ث‌- إحياء قيم الوطنية الحقة، والإحساس بالروح، والمادة، والزمن، والحياة، والجغرافيا، والتاريخ، واللغة، والثقافة، والحضارة، والإنسان. لاسيما في صورها المعبرة عن الحركة البشرية المنسجمة مع دائرة الفعل الإيجابي المحدد بنتائجه، لا بمبادئه. وكل هذا يحبب أن يكون بنسب متوازنة، ومتوائمة، حتى لا يغلب علينا خطاب مستعل بحقيقة من هذه الحقائق. وإلا، فإننا سنتحول مرة أخرى –في أي عملية قراءة، أو مراجعة- إلى التطرف الديني، والطائفية، والإثنية، والعرقية، بل إلى غيرها من الأمراض التي تهتك عرض الإنسان العربي بين أمواج عالم يختزل الإنسان في ماديته لا في روحيته. وهي في الحقيقة أصنام تعبد من دون الحقيقة التي ترى مصدر الوجود واحدا، وما تكاثر منه فهو وحدة في كثرة.
ج‌- تحديد ما تريده الشعوب العربية من أوطانها، وأذواقها. فهل تتترجى واقعا إنسانيا يسعد فيه الإنسان بحقيقته.؟ أم تتغيى نمطا فكريا ساذجا، لا يبني لها حصنا، ولا يرفع لها عمادا.؟
ح‌- دعم كل مشاريع الاستنارة التي تسعى إلى التعريف بواقع الأمة، وخصائصها، وتوابثها، وإلجام كل المظاهر التي تنتشر كالسرطان في أوطاننا العربية، بدءا من السلوكيات التي تنزاح نحو اليمين، أو اليسار، اختزالا لتاريخ مناطقنا المختلفة بين أشكال مغالية في الاعتداد بالأفكار المجوفة، والمسطحة. وذلك ما يعيه كل غيور يلمس تغير لبدة التدين المؤسس على البساطة، والقناعة، والعفة، واستحالته إلى فراغات لا تفضي إلا الى التورم الباطني، والتقيح الظاهري.
وأخيرا، إن داعش لن تزول إلا إذا نتهت مهمتها، وتلك مهمة صعبة، تختلط فيها النيات باختلاف الأهداف، وسواء شعرت بذلك، أو لم تشعر، وسواء كانت حركة اجتماعية تضم بين صفوفها أولئك المخطوفين من واقعهم المادي المنهوك، أو كانت خنجرا مدسوسا في عنق منطقة لا تقبل بهذا الوافد الذي تعاديه، وتعانده، ومهما يكن واقع هذه الفجوة التي ظهرت فيها الأفكار المتطرفة، فإن داعش لن تكون الصورة الجلية للإسلام، ولا للمسلمين، فضلا عن أن تكون معبرة عن تراثنا، وتاريخنا، وحضارتنا. ولعل ما يطمئنني من غايات مستحسنة في ذهني، هو ما يطمئن كثيرا ممن يشهدون هذه المجازر الرهيبة، وهو يعتقد بنهاية كل متجبر، ومتغطرس، لا يؤمن بالقيم الإنسانية، ولا يرضى بها بديلا عن الذاتية المريضة، والحقيرة.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تأملات في خلفية داعش