أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضوى فرغلي - الرغبة من الباب الخلفي















المزيد.....

الرغبة من الباب الخلفي


رضوى فرغلي

الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 17 - 13:41
المحور: الادب والفن
    


الرغبة من الباب الخلفي

نظرتُ في صمت.........
أتأمل بشرتها.. بيضاء رائقة يزداد جمالها داخل بلوزتها المصبوغة بلون أحلام وردية مفقودة، شفتان غليظتان تلونهما رغبة جامحة، عينان تخبئان بحذر تاريخاً سرياً. تجلس أمامي مكتفة الذراعين كأنها تحاصر جسداً أنهكته الشهوة. بادلتني نظرة متنمرة، وبصوت آت من سفر بعيد قطعت الصمت:

- معاكِ سيجارة؟!

أمام نظرتي الحيادية، حاولت التعالي على ارتباك قليل وأكملت: بلاش سيجارة ممكن أي حاجة تظبط الدماغ وتوقف الصداع .. ثم أطلقت ضحكة فارغة تكسرت أمام صمتي الطويل. منذ البداية أدرك أنني أمام حالة فريدة استجمعت لها قوة نفسية خاصة وأرجأت كل الأدوات التقليدية التي استخدمتها مع حالات سابقة. تعلمتُ أن الصمت قد يستفز في الآخر رغبة في الانهيار والوقوع في شرك الاستدعاء العميق أكثر من أي محاولة للاستجواب السطحي.

ارتبكتْ أكثر. تحركتْ عيناها يمينا ويسارا كأنهما تبحثان عن مأوى تخبئان فيه أسرارها الصغيرة. تفرك يديها في عصبية واضحة. شفتاها تتحركان تلقائيا كأنها تبتسم ابتسامة صماء. صدرها يعلو ويهبط، وصوت أنفاسها يهمس في المكان. فجأة وقفت وأشارت إلي بسبابتها اليمنى وقالت باستعلاء مصطنع:

- أنا عملت كل حاجة لكن حافظت على شرفي.

قلتُ لها باقتضاب وابتسامة خافتة:
- اقعدي.
تفحصت وجهي قليلاً واستطردت بصوت يقاوم الانهزام:
- تعرفي يا أبلة، أنا بنت ناس.. وأخويا مهندس وعايش بره. وأنا كنت في مدرسة وكان نفسي أكون مهندسة زيه بس معرفتش. القاضي الظالم حكم علي خمس سنين إيداع، بس أنا هخرج وهتجوز لأني حلوة وبنت بنوت وألف راجل يتمناني، بذمتك مش الجواز أحسن من العيشة هنا والضرب والشتيمة الوسخة عمال على بطال؟!

تركتها تتدفق في الكلام بحماس، تتخفف من عبء الصمت، وتتحرر من لعنة التجاهل. تحكي عن أسرتها فتمر سريعاً على أحداث تبدو لي مهمة ولكني أرجأت الأسئلة إلى وقت آخر. تقطب حاجبيها، وتنتابها حركة عصبية لاإرادية في خدها الأيسر. في عينيها لمحة حزن عابرة وهي تقفز بحديثها على علاقتها بأبيها كأنها تتخطى حاجزا كبيرا. تُبدل الحديث بسرعة وبطريقة فصامية إلى زوجة أبيها "مرة مراة أبويا قالت لي لما شفتها بتسرق من جيبه: اللي ميوعاش لنفسه الزمن يفرمه". كأنها تضغط على مواضع الألم أكثر من كونها تسرد قصتها.

ارتحتُ قليلا لهذا القُرب، وتلك الرغبة في الحكي، فقررت أن أنهي الجلسة في ذروتها على أن أعاود الحديث معها بعد تناول الغداء. بالأمس تذكرت رغبتها في أن تأكل "كبدة اسكندراني"، نظام المؤسسة لا يخضع للرغبات. طعام متواضع حسب جدول أسبوعي صارم، ومشرفات يجهزن الطعام بروح مستنفرة من تلك الفئة، يعتبرنها "حثالة" المجتمع. مومسات فرطن في أنفسهن ولم يحفظن شرف العائلة المقدس والمجتمع الطاهر النقي!

كان علي أن أسهر لأجهز وجبة تكفي لخمسة أشخاص هي وزميلاتها في الغرفة وأنا، ثم أشتري بعض العصائر الطبيعية والفاكهة.

صرختْ كالأطفال حين رأت الطعام، أنهكت خدي الأيمن بالقبلات.. نادت على زميلاتها في الغرفة في سرية تامة، حتى لا تهجم علينا بقية فتيات المؤسسة. تَشاركنا الأكل والعصير والضحكات الطفولية والنكات الإباحية. تبرعت إحداهن بالرقص على أغنية "يا بنت السلطان" لأحمد عدوية. كانت لحظات ساحرة رغم خشونة الواقع. فتيات تتفجر منهن الوقاحة والبراءة في آن.

اختفت دقائق ثم عادت تسبقها رائحة سيجارة حصلت عليها من إحدى المشرفات. لديها أشياؤها الصغيرة التي تشتريها لها صديقة قديمة في زياراتها المتقطعة، تستخدمها طُعما للمشرفات حتى تحصل على السجائر، أو فيلم "كيميا" وهو "سيم" خاص تطلقه وزميلاتها على الأفلام الإباحية. وبهذه الحيلة تستقبل وترسل خطابات غرامية. حيلٌ أخيرة للبقاء، وشعرة وهم تربطهن بالعالم الخارجي.

قلت لها لنستكمل حديثنا حتى أستطيع العودة إلى منزلي قبل العاشرة مساء. بدت أكثر تلقائية ورغبة في الحديث، وإن لم تخف حركاتها اللاإرادية قلقا كامنا. تعبث بأثر جرح أو حرق عميق تحاول في كل مرة مداراته بشعرها المصبوغ باللون الأصفر. قاطعتها بشكل مفاجئ:

- إيه الجرح اللي في وشك ده؟

بتوتر وغضب مكتوم تشير إلى أسفل الأذن اليسرى وتقول: واحد ابن كلب طفى سيجارته في وشي.. بعد ما خلص معايا حرقني.. لكن أنا شايلة شوية فلوس مع واحدة صاحبتي لما أخرج هعمل عملية تجميل فيها، ولو لقيتها طمعت في الفلوس أو اتقبض عليها هبيع الخاتم ده وخلاص.

أشارت إلى خاتم فخم تلبسه في إصبع الإبهام الأيمن وقالت: الخاتم ده سوليتير أصلي، أشتراه لي واحد خليجي غني قوي عشان ليلة واحدة، هو الحاجة الوحيدة اللي قدرت أخبيها من البوليس لأنه بياخد مننا كل حاجة يلاقيها معانا، إحنا (......) من الرجالة وهم ياخدوا عالجاهز.

تعجبني نظرتها المتمردة، وصوتها الثوري المهزوم، وحركة حاجبها الأيمن، وشفتيها المتذمرتين، وشجاعة اكتسبتها من سطوة جسدها، خصوصاً مؤخرتها المستديرة التي تعتبرها "رأس مالها" وتفاخر بها زميلاتها دائماً. ذات مرة سمعتها تقول لإحداهن حين ضايقتها: أنا الوحيدة فيكم اللي لسة بختم ربنا، لكن إنتي خلاص راحت عليكِ.
اليوم ذكرتُها بهذا الموقف كطريقة لاستدراجها في الكلام، فضحكت وشرحت لي كيف تتعرف على زبائنها وتفهم بغريزتها طبيعتهم حين تطرح عليهم سؤالا اكتسبته بعد خبرة عام ونصف: "عادي ولا صحراوي؟"، فتفرز منهم من يفضل "الصحراوي" لأنهم يدفعون أكثر، ويحافظون على معادلتها السحرية في الحياة.

تملؤني الدهشة من هذه الفتاة صعبة المراس. ليلى ابنة السادسة عشر تعلمت الدرس مبكراً، عرفت كيف تحتفظ لنفسها بجواز مرور سحري إلى عالم مشوه. احترفت الحياة الرمادية من طريق خلفي. فطنت أنها حين تدير ظهرها لبعض الرجال وتمنحهم صمتها، يغدقون عليها من المال والذهب ما يكفيها لبدء حياة جديدة تحتفظ لها بوجه عذري وجسد لن تُكتشف صفقاته السرية.

ـ سرحتِ في إيه يا أبله.. اللي واخد عقلك!

أفقتُ على ضحكتها الماكرة. عيناها ذابلتان يسكنهما بريق أنثوي، وابتسامة شبقة تعلو شفتيها وهي تروي لي باستمتاع كبير عن أول قصة حب وقعت فيها كأنها تستعيد ذاتها التي توارت خلف جدار الرغبة.

ـ تعرفي يا أبله مش هتصدقي لو قلت لك عمري ما خليت زبون يبوسني في شفايفي، عارفة ليه؟ لأن "مُسعد" بس اللي كنت بحب إنه يبوسني، مع إنه معملش معايا جنس، بس أنا وعدته إن محدش أبدا يبوسني غيره.. كان كل يوم يعطيني نص جنيه أصرف منه على نفسي وكنا ناويين.............

صمتت وارتسمت على وجهها ابتسامة رائقة وذهبت بعينيها بعيدا كأنها تسبح بخيالها في ذكرى عميقة.



#رضوى_فرغلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رضوى فرغلي - الرغبة من الباب الخلفي