أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الطائي - الرومانتيكية والواقعية في رواية (المخبر السرّي) للكاتب سالم بخشي















المزيد.....

الرومانتيكية والواقعية في رواية (المخبر السرّي) للكاتب سالم بخشي


عدنان الطائي

الحوار المتمدن-العدد: 4444 - 2014 / 5 / 5 - 23:55
المحور: الادب والفن
    


كل شيء في الحياة يصلح للتناول الأدبي مادام موضعا لانفعال الأديب وتأثره ، فالفنان الأصيل يمس الحجر بعصاه السحرية فيحيله إلى فن ينبض بالحياة ، ويكون انفعاله وتأثره بأي كائن ما يكون .. سياسيا كان أو اجتماعيا أو اقتصاديا ، على أن يكون ما يكتبه موجها إلى صالح الإنسان وتطويره سواء كان يستهدف الحياة الواقعية أو الحياة الرومانسية كون الواقعية تتفق مع الرومانسية في تمجيد الحب والحرية ؛ فنجد أن الأدب في الثانية تغرق فيه حالات من الألم والعذاب والوجد وفي الأولى تستجيب لدوافعه في بناء الحياة . هذا ما يقصده الأستاذ الناقد حسب الله يحي في تقريظه لرواية الأستاذ سالم بخشي المندلاوي الموسومة (المخبر السري) بالقول : (من هنا وجدت هذا العمل الروائي ينتمي إلى نفسه قبل انتمائه لبصمات سواه) ؛ فأنني اتفق من أن شخصية المؤلف سالم الإبداعية هي العامل الحقيقي في تطوير روايته هذه عند مقارنتها مع مجموعته القصصية المعنونة (قال الشيخ) وبنفس الوقت لم يفصلها عن شخصيته الفردية التاريخية كانسان في إدراك نتاجها . إذ من الواضح أن اعتبار الشخصيتين منفصلتين عن بعضها تماما أمر خاطئ كما هي الحال في مطابقتها معا بصورة كاملة ، فالعلاقة المتبادلة بين الشخصيتين الإبداعية والخاصة يمكن أن تتخذ أشكالا متنوعة . وليس كل الخاصيات المتأصلة في شخصية الفنان الخاصة سنجد تعبيرها في نتاجه فحسب ، إنما يعمل في الغالب انطلاقا من خطة مسبقة . فقد نضجت هذه الرواية ابتداء مع وجهة نظر آزاد الكردي بالقول : (هل نسيتم بان الأمريكان هم الذين نصبوه سابقا وحكموه في رقابنا ومهدوا السبيل للبعثيين للوصول إلى سدة الحكم) لغرض تصحيح المسار الفكري الوطني الذي جُبل عليه منذ نعومة أظافره على أن يكون من واجب كل فنان شريف أن يناضل ضد الكولونيالية وكل أشكال النفسية الكولونيالية على الرغم من أن عملية التغيير تمت من قبل الأمريكان كما صرّح ثائر بالقول : ( نعم ربما كان لهم دور قذر فيما مضى ، ولكننا لا نستطيع أن ننكر فضلهم الآن في تصحيح الأمور) . كما أن العديد من مميزات الأنا الإبداعية انعكست في هذه الرواية لحماية المشاعر الإنسانية من العقلانية المفرطة والبركماتية كما في ص19 على لسان ثائر: ( وقد وضعنا خطة محكمة للبدء بباكورة أعمالنا الجهادية في قتل الرفيق أبو عروبة المتملق وإنزال القصاص العادل به ضربا بالخناجر في الساعة الثالثة من صباح يوم غدا) ثم يردف بالقول ص20 : (عندما ننتهي من هذا القذر ، نشرع في البحث عن المخبر السري الذي وشي بعمي ووالدي للسلطة ومن ثم نقتص منه) غير أن حقيقة ظاهرة العقلانية المفرطة والبركماتية إذا ما تفردت دون ملاقحتها بالمثل
الملتزمة .. مثل السماء قد توصلنا إلى حالة إحباط كما صورها سعدي الثرثار بالقول : (يا سلام .. وهل تعتقد بأننا سنعثر على هذه الوثائق ببساطة..) ويردف سعدي بالقول مؤكدا على ذلك الإحباط : ( وأنا كذلك يا ثائر الطويل ، أحس بأنني أصغي لاثنين من المجانين ، وقد يلاقي احدنا حتفه من دون أن نحقق شيئا مما تحلمان به) ويختم سعدي تخاذله بتهكم : (وكنا قبل قليل من الوقت نتبجح كرجال عصابات المافيا ونخطط لقتل المجرمين .. وقد فررنا كالصبيان أمام أول مواجهة للخطر) وتأتي صرخة عفاف في ص32 للتعبير عن القلق الأمومي والخوف على ولدها من فكرة الانتقام التي تبناها: (يا لهذا الثار اللعين الذي سيودي بي) لتعطي زخما كبيرا لتطلعات الأم لتفكيك نبرات الانتقام لدى ابنها ثائر في ص34 : (لا تتكلم عن الثأر يا ولدي فالرب الذي اسقط وثن الوشاة والمجرمين هو ذاته الذي سيقتص منهم .. عاجلا أم آجلا) فقد نجحت لحد ما في استمالت ثائر لعواطف الأمومة ، حتى ترجمها في تظاهره بعدم الاكتراث لكلام سعدي الثرثار ص35 بالرغم من إصراره المتكرر في الانتقام لوالده السياسي الشهيد . حينها وقعت شخصيات الرواية داخل شرنقة سيكولوجيتهم المتذبذبة غير المستقرة التي أوصلتهم إلى حالة التذبذب في تحديد من هو الذي قام بالجريمة الشنعاء ؛ مرة يقال أبو عروبة ومرة ثانية نظيرة الحفافة ومرة ثالثة رميها في عالم الغيب بالقول : (صحيح أن هناك الكثير من المخبرين السريين في محلتنا .. لكني لا أظنه من سكنة محلتنا) وانطلاقا من إيمان القاص سالم بمجموع الخاصيات التي كانت ذات يوم تدعى الروح بدلالة تماهيه مع هتافات الشباب في قطاع 9 بشعارات دينية ويندبون الإمام الشهيد محمد باقر الصدر(رحمه الله) وذلك في ص26؛ نتلمس انه أديب واقعي وسمعته متجانسة مع تطلعاته الفكرية ومنسجمة مع سمات لدى البعض الأخر من تناقض بحياته المعتدلة ما كان في كتاباته من صور مفرطة ، تماما كما هو الحال مع الشاعر (بريلات سافارين) الذي كان يكتفي بالقليل من الطعام بينما هو يتغنى بروائع المائدة البهيجة ، وهذا ما وجدته في طروحات الأستاذ سالم في ص26 :
(شرع سعدي يثرثر ويبالغ كعادته ويتكلم عن مغامراته الغرامية (الدونجوانية) ، فلا شك أن الأديب سالم قد استنطق ألشخصيتين ، لأنهما تحمل سمة عصره ، فبالتأكيد نجد تعبير متطلبات مجتمعه الروحية والأيديولوجية والجمالية في روايته هذه التي كونت قالبه السيكولوجي والذهني ، فكان فعلا اقرب إلى روح العصر . إذ استطاع المؤلف أن يزاوج وبنجاح بين فن الرواية الرومانتيكية أي الخيالية التي لها طابع رومانسي حين قال في ص12 : (قبض احدهم على كتفي من الخلف زاعقا وأنا منهمك بالرقص الجماعي) وبنفس النسق يقول في ص14 : (انفتقت كل أحاسيسنا الإنسانية وأذواقنا الجمالية المنسية تلك اللحظة) حتى وصل عنفوان رومانسيته إلى شم رائحة العشب الأخضر الرطب .. وبين فن الرواية الريالستيك أي الرواية الحقيقية (يقصد الواقعية) حين كان يصف مشهد جنود الأمريكان في ساحة الفردوس : ( أهلا بكم في بغداد .. لقد بعثتكم العناية الإلهية لإنقاذنا .. شكرا لكم لإسقاطكم الطاغية .. لولاكم لبقي صدام وأولاده الفاسدون يتحكمون في رقابنا إلى يوم يبعثون) فنجد في الأولى صور البشر كما يجب أن يكونوا لا كما هم في الحقيقة ، وفي الثانية تمثل البشر كما هم بنقائصهم ومعايبهم ومخازيهم ، استنطقها المبدع سالم من خلال تجواله في الطرق والأزقة وهو متزين بزي غيره كما يفعل المخبر السري ، وهي سمة لازمته في سرد الأحداث منذ بداية السرد إلى نهايته ، إذ استطاع أن يرقب حركات الناس في مواقع الأحداث ، ويبقى طول يومه هائما في الطرق والشوارع والمحاليل يرصد انفعالات المتظاهرين مجسدا حماسهم الانفعالي العفوي ويقيد ما يراه ويسمعه ويدرسه مصورا الأحداث بطريقة واقعية وتعزيزه للتعبير عنها بالمنهج الوصفي الاستقرائي والتأليفي حتى وصل الحال به الاهتمام بدقائق الحياة وتفصيلاتها وتصويرها بطريقة واقعية صادقة ، لا رتوش فيها أو مجرد خيال فنطاسي باعتماده العمق السيكولوجي في تحليل
الواقع ، كما نتلمسه من السرد المسهب لمماحكات الأم في الفصل الأول / 2 ؛ نتعايش في الجزء الثالث من الفصل الأول مع عرفانية الكذب والتلوين للعم منخي الادبس الممزوجة بسلوك شائن ورومانسية حالمة عاجزة ليحقق شيء يرطب جفاف رجولته التي هي كخشونة جسده باستعماله (الفياكره) وكما شبهه المؤلف بمسخ فرانكشتاين . مثلما استطاع الأستاذ سالم في الفصل الثاني / 1 أن يخلق قصة خالدة من اضطراب ثائر الطويل في إصراره على تنفيذ ثأره الذي بات مستحيلا كما يبدو من الطروحات البركماتية بالرغم من استجابة أصدقائه أزاد وسعدي وعمه منخي ومسايرتهم لما يصبو إليه ، ألا أن هناك صوت كامن في مخياله اللاواعي يخفف من غلوائه واندفاعه .. صوت أمه الهادر بلجاجة دون انقطاع : (اخشي أن افتقدك كما افتقدت أبيك) ؛ ورائحة حبيبته شيماء التي تسري في عروقه ، ووعود عمه الذاتية في البحث عن الواشي ، واعتمار قلبه بفلسفة القضاء والقدر . وهو في هذه الحالة المأزومة والرؤية الضبابية ، وهو داخل دوامة هوجاء ، لا يهتدي إلى شيء ؛ سوى كيف ينجو من هذا الإعصار، جاءت ساعة الحسم من وسط هدير الأمواج العاتية .. الحسم من خيبة أمله لطالما نبه لها صديقه سعدي الثرثار المنبوذ من قبل أزاد .. الحسم من إنهاء دوره كصائد المخبر السري المختبئ وراء كائنه الاثيري .. الحسم من فشله في عدم قدرته على وضع موازنة عادلة بين حبه لشيماء الذي لا يقبل المشاركة مع احد وبين رغبته في الانتقام الذي أصبح عسيرا .. الحسم من توريط صديق عمره أزاد بهذه التجربة الخائبة .. الحسم من عجزه بالعثور على الوثائق التي ستكشف له ذلك الواشي الذي سبب مقتل والده قاسم وعمه جاسم ... جاء القرار العقلاني والاني ، وهو الهروب إلى الأمام حين قرر ثائر ( وهو في حالة نفسية يرثى لها بسبب قبول شيماء خطبتها من ابن عمها ورفضها لحبيبها ثائر كما وصفها المبدع المندلاوي وصفا دراميا سما بقواعد الأدب الواقعي وحتى الرومانسي بالفصل
الثالث /1) بمرافقة صديقه أزاد لزيارة أربعينية الحسين (ع) الموافق 22/4/2003 . وفي استعراض درامي سوداوي تمكن القاص سالم من وضع نهاية مأساوية غير عادلة بسبب أمراض الجهل والتعصب القبلي بقبولها الزواج من ابن عمها ، حتى دفع ثائر الطويل أن يكون فيلسوفا تفلسف بتحليله الجدلي في ص141:
(لقد انتقمت مني شيماء بأبشع ما يمكن أن تنتقم به امرأة من رجل يحبها . كيف طاوعها قلبها أن تفعل ، لماذا ، ما الذي جرى للعالم ، إنها مجرد صفعة ، هل انطبقت السماء على الأرض لهذه الصفعة لكي تزلزل الأرض تحت قدمي وترمي بي في الهاوية) ثم استدرك بالقول وهو منكسر الكبرياء : (ربما جرحت كبريائها ، نعم .. لكن هل يستوجب جرح كبريائها هذا العقاب الماحق) وبينما هو يبرر قصور رؤيته من تجربته الخائبة تهكما : (اللعنة على الوشاة ، اللعنة على المجرمين ، لولا انشغالي بكشفهم هذه المدة وإهمالي لها ، لما حدث ما حدث ، يا ويلهم مني إذا ما ظفرت بهم ، لقد خربوا حياتي) ؛ وإذا بالعناية الإلهية تحضر المشهد المضبب التي جعلت ثائر منتصرا على معاناته النفسية والجسدية بعد حصوله على الوثائق من أبي نبيل ، ولكن رجع خائبا حزينا وفي حالة ذهول اكتئابي وقلبه يعتصر ألم خيانة عمه منخي ، المخبر السري المتخفي خلف ضحاياه .. أخويه قاسم وجاسم .. سقط منخي الأرض بمدية عفاف متضرجا بدمه الملوث بالرذيلة والخسة الذي امتص رحيقها من ثدي أمه المومس صبيحة .. التي أصبحت كابوسا ، لم يفتأ يراوده في أحلامه ويقض مضجعه كل ليلة ، وجاء وصف المشهد رائعا في الفصل الثالث /3 ، وصف يفوق الخيال . ثم جلس مبدعنا يكتب روايته ويسبك فيها كل ما رآه وسمعه وما صوره في مخياله كمحقق ومخبر سري في آن واحد . وبمعنى آخر أن وصفه بالتخفي والتجوال في الطرق جعله كاتبا واقعيا ، لأنه اعتمد في سرد الرواية على دعامة الملاحظة والتحليل النفسي الراميين إلى تصوير الحياة كما هي بلا مبالغة أو تقصير ، أي الحياة العارية المجردة وما يسمونه بمذهب الحقائق (الريالزم) . ومن هنا انتصرت واقعيته الهادفة (الواقعية الطبيعية) في روايته (المخبر السري) نتيجة تلك المزاوجة بين الرومانتيكية وبين الريالستيكية ونتيجة ما قام عليه من التحليل والثقافة العلميين وبعيدا عن رسم شخصيات روايته رسما فوتغرافيا ، لا يستحث الأذهان ، بل ولّد اهتماما فكريا بمصائر هذه الشخصيات وجعلنا ندرك العلاقة بين المشاهد المصورة وبين تقدم الحياة القائم أو المنشود ، فأصبح نتاجا واقعيا هادفا يناط به الأمل في كفاح ما يعوق تقدمنا بعد التغيير وفي تعميق قيمنا الجديدة في حياتنا الجديدة في ظل الديمقراطية والشفافية واحترام الرأي والرأي الآخر التي نحياها الآن ويأمل كل أديب شريف اطراد تقدمها وتقويم السياسة والاقتصاد والاجتماع وسائر النواحي ، وفي الشمول يهدف إلى خير العراقيين والى خير الإنسانية بشكل عام .
يقتضي الإنصاف أن أقول أولا أن هذه الرواية قد نجحت باعتبارها مسلية وممتعة ، ويرجع الإمتاع فيها إلى براعة الحوار وظرفه ، ويرجع كذلك إلى براعة اختيار عنوان غلاف الرواية مما يجعلني الولوغ فيه من خلال جدلية الشكل والمضمون ، بعد ان لاحظت أن المبدع سالم قد افلح في وضع موازنة عادلة بـيـن الـشـكـل والمضمون ، بين رمزية الغلاف ومضمون الرواية الغني والثري بسرده وتفاصيله التي تلهم القارئ ، فقد ألق في تجسيد عمل المخبر السري بذلك العصفور الهامس بطريقة رومانسية ، مشوقة وجذابة وتتناسب مع من يُريد من نخاطبه .. وهذا جعلني أفكر في الموضوع من زاوية أوسع من منطلق القاعدة التي تقول : (الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة) . ولكن تبقى الحاجة ماسة إلى الشكل الجديد والمضمون الجديد مع بقاء الأصالة قائمة طالما نحن نعيش مرحلة الحداثة ، إذ من البديهي كان من الأجدر اختيار رمزية المخبر السري أكثر سوداوية بدلا من العصفور الوديع باعتبار أن أحداث الرواية مأساوية تجاوزت مبادئ حقوق الإنسان ؛ ولكن لا أريد أن ادخل في مناقشة هذه القضية ، بل اسلم بان المؤلف احدث شكلا جديدا ، لأنه استمد من واقعيته الهادفة المركوزة على الملاقحة بين فن الرواية الخيالية وبين فن الرواية الحقيقية ؛ على الرغم من إننا لا نصدق ما يقال من أن المضمون الجديد يحتاج إلى شكل جديد ، إلا إذا رأينا حقيقة مضمونا جديدا يتطلب الشكل الذي يصب فيه ، وان هذا الشكل يلبي حاجة ملحة لا تتوافر في الشكل التقليدي ، وهذا ما دأب عليه الأستاذ سالم في اختيار شكل الغلاف الذي استبطنه من الحداثة والتقليد : عصفور حالم وآذان
صاغية . باعتقادي أن المضمون الجديد الجيد لا يمكن أن يحمله الشكل التقليدي بحذافيره حملا كاملا ، بل لابد أن هذا المضمون يدفع الأديب صادق الأصالة دفعا إلى إحداث تغيير ما – يصغر أو يكبر – في الشكل التقليدي ، طالما نحن في زمن من الأزمان التي وصفها (اليوت) بأنها أزمان الثورة على الأشكال القائمة ، والسعي في تلمس شكل جديد ، ليكون الأديب في هذه المرحلة أديبا عظيما إذا ما ابتكر فعلا شكلا فنيا جديدا وشق طريقا غير معروف أو مألوف .
إن القراءة النقدية المُتأملة والمحللة للنص الأدبي من الداخل تؤلف روح الدرس النقدي الجديد بعيدا عن السرد العقيم والتعميم الساذج والمصطلحات التي هي اقرب إلى الطلاسم يصعب على المتلقي فك رموزها ، وجدت في رواية
(المخبر السري) أدبا واقعيا وتحليلا جدليا سيكولوجيا وبناء سرديا متماسكا ومهارة نقدية متجانسة للواقع من خلال الإيماء والترميز والتجنيس واستخدام اللغة كوسيلة للبناء لا بمثابة عملة للتخاطب تبعد المتلقي عن متعة فهم الرواية والوصول إلى أهدافها الأساسية ، فهي إيقونة شعرية . ومن هنا يعني أن المبدع المندلاوي لم يحتكم للحكم الذاتي بل للقوانين الموضوعية.. فعبارات الرواية كانت سهلة وواضحة ، إذ عبرت عن عقل رزين واع محولا اللفظة بعلاقاتها المجازية مع المعنى ، وفق جدلية الدال والمدلول ، إلى صورة فنية واضحة تكافأت فيها الحقيقة والمجاز وتعادلت فيها رموز تلك الحقيقة وضرورات ذلك المجاز بمعناه الفني والاجتماعي الواسع . كما استطاع القاص من ترجمة الإحساس أو العاطفة أو الانفعال أو الشعور إلى موضوع ، أي انه لو لم يخرج الإحساس إلى نطاق الموضوعية لما كان للنص تأثير فينا . ومن هنا حصلت الرواية على التفاعل الملموس والواضح جدا بين الحس والفكرة .. بين الخيال والواقع .
وأخيرا أن ما طرحه الأستاذ المندلاوي أكاديميا استطاع الغوص أو الولوج داخل تلك المفاهيم وأقام فيها مما مكنته فلسفيا من تحليل المفاهيم ديالكتيكيا ، فكان جريئا عندما اتكأ على عناصر التاريخ الفني اتكاء رئيسيا مع أنها ليست تاريخية خالصة ، إنما قام بتوظيف التاريخ لاستخلاص رسائل للمجتمع الإنساني المعاصر وبروح نقدية محايدة ، بحيث لا تتوقف منهجيتها للبناء السردي على استرجاع التاريخ فحسب ، بل تمتد لاختراق المستقبل وإستشراقه ومجانسة شخوصه ، ممن لها مخاوف كما هو واضح في ص16 : (تذكرت الآن ، نعم .. ولكن ، أليس الأجدر بنا أن نترك الأمر للقضاء ؟) وممن لها آمال : كما في ص20 : (عندما ننتهي من هذا القذر ، نشرع في البحث عن المخبر السري الذي وشى بعمي ووالدي للسلطة ، ومن ثم نقتص منه) .. أشخاص لها نقاط ضعف ونقاط قوة .. أشخاص لها هدف أو أكثر في الحياة . لم ينكفئ المندلاوي عن التشويق بالعقدة والحل والأغراب في قص الواقع ؛ ولكن الذي حدث حقا انه استطاع أن يخلق قصة خالدة من اضطراب الناس في الحياة العادية بسبب الشعور الجارف باللاجدوى ليحولها إلى فن واقعي لا يسمح بالتطور الحر للذاتية الفنية فحسب ، بل انه أيضا يقرب الفنان بصفته إنسانا كائنا ؛ وبمعنى آخر إن آفاق الأدب والفن المتسعة بشكل هائل تتجلى نفسها في الانتباه الشديد لمختلف أوجه حياة الإنسان . ونستطيع أن نستخلص من كل ذلك أن كاتب رواية المخبر السري استطاع أن يضع آلية جديدة في كيفية بناء الرواية من خلال مصاغات سردية بما يفيد نظاما تحريكيا داخليا يميزها عن الأنماط السردية المماثلة لها ؛ فهو بهذا المعنى لم يغادر الموروث بل استطاع سحبه إلى الحاضر لكي يدفع بهما إلى التماهي بايجابياتهما ليحدث نقلة نوعية في بناء الرواية مستبعدا اهتمامه في عدد الشخوص أو انتقاؤهم ، ولا يهم وجود احتدام درامي أو تسلسل أو عقدة أو استهلال طالما انه أعطى توضيحا مسهبا لها على مستوى التشخيص والانطباع القرائي وضمها إلى المآوى القصصية التشييدية لكي نفهم آليات ومباغي الرواية ، وهذا ما انتهجه سومرست موم الذي لم يعرض عن التشويق بالعقدة والحل والاغراب في قص الواقع ، مع هذا فقد جاءت الرواية مزيج بين الإثارة والخيال ومن هذا التحليل الجدلي لا يعتبر عمل رواية (المخبر السري) استنساخا إيهاميا(illusory) ، بل يعتبر مواصلة لنشاط الحياة الواقعية من خلال الجمع بين الوصف الحسي وبين الوصف الواقعي .



#عدنان_الطائي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرومانتيكية والواقعية في رواية (المخبر السرّي) للكاتب سالم ...


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الطائي - الرومانتيكية والواقعية في رواية (المخبر السرّي) للكاتب سالم بخشي