سعدي عباس العبد
الحوار المتمدن-العدد: 4368 - 2014 / 2 / 17 - 11:30
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة __ كلّهم سيهربون .. __
** كنا معا . كما لو اننا لما نزل نجري منذ مئات السنين . نجري تحت سماء واطئة .. كأننا نطالع اسلافنا المطّمورين تحت ركام هائل من النسيان والتراب .. نلمحهم يمرقون الآن تحت سماء من حديد صدىء ! . . اجري في ليل ينضح بردا لاذعا يحفر في عظامي , انصت لحفيف الريح يمرّ رخيا على اسماعي كفحيح الافاعي .. كنا معا محمولين على اكتاف الريح والخوف . نرى صوب المدى القاتم , كأننا نرى مذ سنين عديدة خلت , متلفّعين بتلك الاسمال التي عبأوا فيها ابداننا قسرا , .. اتقوّس في الظلام , بينما كانت ذاكرتي تخوض في مراتع الطفولة ..تخوض في مجرى من ماض جفّفه العوز .. جعلت انصت لنداء مشوّش يأتي من غور ناء , يتدفق من بقاع تلك الطفولة المقفرة , فيشتد ركضنا معا ..كنا معا نجري بكل ما اوتينا من خوف وحزن .. كان صاحبي يتدفق بالكلام وهويجري , فلم يتسن ليّ ادراك كلامه . كان يعدو مثل حمار هرِم , لم يفصل بيننا سوى حاجز من الموت والفناء . لم اسمع غير جملة طارت في مهبّ الريح : كلّهم ماتوا او سيموتون .. فاستدير برأسي ناحيته فلم اتبيّنه بوضوح كان صاحبي الحمار العجوز غارقا في الظلام أو كأنني ضرير مصاب بالعمى فلم ارَه ... اتخيّل العمق الصحراوي الذي طويناه عبر مسيرتنا العصيبة .. فكّرت بكلّ تلك الساعات الثقيلة المفعمة برائحة الهزيمة والانكسار . الانكسار الذي لما يزل ينمو منذ ثلاثة ايام .. مذ ثلاثة ايام ونحن لم نرَ غير سماء بحجم الخوف والانكسار , لم نطالع سوى الامتداد الصحراوي المرتدّ صوب الملاجىء التي تركناها خلفنا تتلاشى في الريح والمدى المغبر او ربما تهشمّت تحت سماء من البساطيل المفتّتة !.. لا اتذكّر كيف ومضت في ذهني فكرة الفرار من الكتيبة . برقت هكذا ..! دون سابق انذار , بيد اني شعرت على نحو ما , بانّ الجميع , اقصد جنود الكتيبة كانوا مستعدّين للفرار .. لم يفطن ليّ احد وانا اتهيأ مع صاحبي الجندي [ كاكا حمه ] للفرار قبل انّ تحفر الشظايا في لحومنا .. كنت اطالعهم مذعورين يبحثون عن ملاذات آمنة _ حيث لاملاذات هنا في صحراء حفر الباطن _ تقيهم انهيارت الوقت الحرج المتلفع بوشاح من الرعب والقذائف .. كانوا يترقبون بكامل حواسّهم المرعوبة . ينصتون لأدنى نأمة تندّ عن احدهم . كان الوقت يمرّ متلاحقا ينضح رائحة رمادً نفّاذة .. كنت ارى اليهم كأنهم يتأرجحون على حافة هاوية , .. ينتظرون اللأحد وهم يترامقون وجلين . كانت اي إشارة من احدّهم كفيلة بانقاذهم من هول الورطة ..او قصف الطائرات وهي تحرث الملاجىء والجنود .. في خضّم تلك الورطة , لم يكن بوسعنا الانتظار اكثر من ذلك الوقت المتفحم . فجرينا انا وصاحبي عكس اتجاه الحرب ..
كنا لما نزل مفروشين مثل كتلتين تالفتين فوق الرمال لما لمحنا طائرة تحلّق على ارتفاعات بعيدة .. كانت قوّانا تتبدّد بكر الوقت ومروق الطائرات .. هذه هي الليلة الثالة مرّت على فرارنا من الجبهة , مرّت دون انّ تبان ملامح [ شارع السالمي او حفر الباطن ] الشارع المفضي إلى المطلاع .. دون انّ تلوح علامة ما , في ليل الخوف والقصف والتيه , تقود خطواتنا المنّهكة اليها , تقود اقدامنا التي نال منها الورم والانتفخات .. أنموت هنا وسط تلك المتاهة قبل انّ يلوح لعيوننا شارع الموت ؟ هل نفطس هنا وسط الرمال والذكريات ! ؟ أأموت دون انّ ارى امّي للمرة الاخيرة .. كانت اورام قدميّ تنمو متسارعة , فيما كانت يداي ممدودتيّن كشيء فائض .. كنت انصت لأنين صاحبي الذي امسى فاترا يتبدّد في الريح , كأني اسمع لبقايا بكاء شحيح يتدفق من اعماق الطفولة . من تلك الفضاءات البعيدة , فضاءات الازقة وجدران الغرف الرطبة ومن النوافذ الصدئة .. بكاء يتدفق من اغوار اليأس .. كانت الرمال تعبق برائحة رطبة لما رفع صاحبي رأسه , فسمعني اجهش في بكاء لاذع , غارقا في مجرى مر من الجهشات , فمدّ ليّ يده عبر الظلام يربت على كتفي وهو يهتف بنبرة مفعمة بالانين والفجيعة _ : اظن سنفطس هنا ..
كان الوقت يتراجع بقوّة . لما لاحت طلائع الغبشة ولأول مرة اشعر اني بحاجة ماسة لأنّ اطير , احلّق هناك عند فضاء بيتنا وعند فضاءات الدرابين .. كانت قوّة الظلام تتبدّد شيئا فشيئا لما لاح شارع السالمي , .. كنا نحاذي حافة الشارع لما تناهى لاسماعنا صوت سيارة يأتي من بعيد , فسارعنا نلوّح بايدينا في نور الغبشه الشحيح وتحت قنابل مضيئة ينسفح نورها في اوقات متقاربة .. حالما توقفت السيارة , كانت سيارة تنكر بخزان طويل لنقل مياه الشرب . حالما توقفت امتلكتنا بهجة مباغتة وسرعان ما صعدنا جنب السائق الذي قال بنبرة فاترة _ : إلى اين ؟ هتفت بلهجة تشي بالقلق _ : .. اي مكان يكون خارج الصحراء والقصف .. قال _ : سترون في الطريق اعداد غفيرة من الجنود الفارّين من الجبهة .. كلّ يوم وفي مثل هذا الوقت المحهم ينتشرون على جانبيّ الشارع .. منذ اسبوعين وانا اراهم يتدفقون من اعماق الصحراء .. تشكيلات من الانكسار والخوف تطوي الصحراء .. ارهاط متعاقبة , تصوّر حتى الوحدة العسكرية التي انتسب اليها لم يبق فيها سوى رهط من الجنود في طريقهم للفرار .. انا ايضا سالتحق بالفارّين واضاف أأنتما من العاصمة . ؟ قلت _ : كلا .. من مدينتين متباعدتين .. كان نور الغبشة يفكك ظلام الصحراء وينتشر في الاطراف البعيدة , لما ابصرت على جانبيّ السيارة ارهاط من الجنود الفارّين يلوحون بايديّهم للسيارة التي كانت تشق طريقها المحفوف بالقصف الذي شرع يتنامى .............. / انتهت /
#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟