حازم نهار
الحوار المتمدن-العدد: 1229 - 2005 / 6 / 15 - 12:05
المحور:
الادب والفن
د. حازم نهار
كاتب سوري
هاتف: دمشق 6440884
موبايل 094219025
Email: [email protected]
مرت في الخامس عشر من شهر أيار الماضي الذكرى السنوية الثامنة لرحيل سعد الله ونوس ، ففي ذلك اليوم من عام 1997 توقف قلبه عن الخفقان بعد صراع مرير و شرس دام سنين عديدة مع المرض العضال.
لقد أبدى ونوس خلال سنوات الصراع مع المرض ، إصراراً عنيداً على دفع الموت للتراجع إلى حين إنجاز كل ما يمكن إنجازه من طموحات مسرحية و مشاريع فكرية ، مقدما إضافة نوعية للفكر العربي و العالمي بشكل عام ، و للأدب العربي بشكل خاص ، و الذي اغتنى بأروع الإبداعات المسرحية و أكثرها إنسانية و شفافية .
لقد أمضى ونوس حياته يدافع عن قيم الحرية و الديمقراطية و الإنسانية و قضايا العدالة الاجتماعية ، من خلال إيمانه العميق بأهمية دور الثقافة و المثقف النزيه في التصدي لهذه القضايا و الدفاع عنها ، فالثقافة كانت دائماً و أبداً تشكل عنده الجبهة الرئيسية للوقوف بوجه الظلم و الاستغلال في كل مكان ، لأنها - أي الثقافة – قادرة على بلورة المواقف النقدية و تعرية الواقع ، و على اقتراح الأفكار و القيم و المثل التي تجعل من الإنسان في كل لحظة تاريخية أكثر حرية و وعياً وجمالاً . لذلك كان يرى فيها وحدة فكر و عمل ، محورها الهموم الإنسانية و المجتمعية في شتى مستوياتها، مثلما كان يرى في المثقف مسؤولاً عن كرامة العقل و الإنسان .
منذ مسرحياته الأولى لا يفتأ يبحث عن وسائل أنجع لتطوير علاقة مسرحه بالمتفرج ، وكان طريقه لابدّ أن يمرّ بتطوير رؤيته الفكرية لحركة الواقع و التاريخ، التي تجلت بسيطة و جزئية في مسرحياته الأولى ، إلا إنها مثلت المهاد الذي انطلق منه ليطوِّر و يجدِّد و يتمرّس في الكتابة المسرحية .
شكلت مسرحية (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) 1968 نقطة تحول أولى في كتابته المسرحية، و كان واضحا وقتها تأثره بمسرح (بيتر فايس) التسجيلي و مسرح (بيراندللو) الارتجالي و مسرح (بيسكاتور) السياسي ، و قد أراد منها أن يكتب (الكلمة – الفعل) و النضال في جبهة الفن المسرحي ، و كتابة فعل نضالي ضد الهزيمة ، لذلك لم تكن هذه المسرحية مجرد نص مسرحي من نوع جديد ، بل كانت رؤية فكرية لفن المسرح ، و تغييرا للكثير من المفاهيم السائدة في ذلك الوقت حول المسرح العربي .
بعد خيبة أمله إثر عرض "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" يبدأ ونوس رحلة بحث جديدة نحو تحقيق طموحه أو حلمه بمسرح (الكلمة – الفعل) ليتوصل إلى مسرح أكثر تبلوراً و تقدماً ، أطلق عليه اسم "مسرح التسييس" ، و قد ميّز مسرحه هذا عن "المسرح السياسي" الذي يهدف إلى تلقين الرؤية السياسية المسرحية من علٍ أو فرضها ، أو طرحها على الأقل من أعلى خشبة المسرح على جمهور المتفرجين الذي يظل سلبياً إزاء ما يعرض على خشبة المسرح ، أما مسرح "التسييس" فهو المسرح الذي تندمج فيه الخشبة مع الصالة عبر حوار حقيقي حي و مرتجل.
شكل ونوس عبر مسرحه هذا قفزة في المسرح العربي ، راح المسرحيون الآخرون يحاولون استيعابها ، فسعوا في تجاربهم المسرحية لتحقيق ذلك الحوار الحي و المرتجل بين الخشبة و الصالة ، لكن البعض منهم ابتذل مفهوم مسرح (التسييس) و أصبح مكرراً و تقليدياً ، في الوقت الذي كان ونوس يرى فيه أن مشاركة المشاهدين مع الممثلين يجب أن تتم عبر ارتجال حقيقي و صادق ، بحيث يصبح كل عرض تجربة جديدة لا تتكرر ، مثل مباراة في الشطرنج ، أما أهداف "مسرح التسييس" فقد حدّدها بوضوح في البحث عن الحقيقة و تعرية الهزائم و تنمية وعي المتفرج بواقعه الاجتماعي و دفعه للتساؤل و العمل .
بعد ذلك صمت ونوس عشر سنوات من أواخر السبعينات إلى أواخر الثمانينات ، قضاها في التأمل و المراجعة بعد أن وصل في نهاية السبعينات إلى لحظة يأس ، تقوّضت فيها الأحلام ، و بدا له أن المسرح لا يستطيع أن يفعل شيئاً إزاء هذا الواقع المرير ، لكنه خلال رحلة التأمل كان حريصاً على تمعّن الشرط التاريخي ، و على إعادة محاكمة القناعات و الأفكار ، كي يتسنى له اكتشاف نقاط الضعف و القصور و محاولة تداركها.
إن وقفة التأمل و المراجعة تستحق التوقف و التمعّن في مسيرة ونوس المسرحية و الإنسانية على حدّ سواء ، لما تمثله من نزاهة فكرية و حالة راقية على الصعيد الوجداني و الإنساني ، و قد جعلته في النهاية يصل إلى قول جديد و رؤية إبداعية سواء من حيث الموضوعات المسرحية أو من حيث الشكل الفني للعمل المسرحي ، و كانت البداية في مسرحية(الاغتصاب) عام 1989 التي مثلت خطوة انتقالية ، نحو مرحلة جديدة أكثر غنى و خصوبة .
بعد مسرحية (الاغتصاب) توالت أعماله المسرحية، خاصة بعد إصابته بالمرض، فكانت مسرحية (يوم من زماننا) 1993، و مسرحية (منمنمات تاريخية) 1995، و مسرحية (ملحمة السراب) 1995، ومسرحية (بلاد أضيق من الحب) 1996، و هي أحد نصوص كتابه (عن الذاكرة و الموت)، و أخيراً مسرحية (الأيام المخمورة) 1997.
في هذه الأعمال يكتب ونوس معالم مرحلة جديدة ، و لا يقتصر جديده هذا على جانب واحد ، بل يشمل جميع جوانب و حيزات و مستويات العمل المسرحي . إنها مسرحيات جديدة و مدهشة و فريدة في تركيبها الفني و مناخاتها الأخّاذة ، و وقفة صادقة مع الذات ، و مع ثوابته الفنية نفسها ، مع المكبوتات و المحرمات العربية ، و مع الحياة .
في هذه المرحلة يتجاوز ونوس تجربة (بريخت) تجاوزاً عضوياً موصولاً، و تتسع دائرة رؤيته لترى إلى جانب (السياسي) الفردَ في أهوائه و نوازعه و رغباته و أحلامه الشخصية ، لنكون في المحصلة أمام مرحلة إبداعية متقدمة بشكل كبير ، قوامها الرسم المتأني الدقيق للشخصيات ، و تمركز الأحداث حول (أنا) واحدة أو ربما أكثر من (أنا) . هذه (الأنا) : "هي مركز الثقل في المسرحيات الأخيرة بعامة ، حيث لم تعد هذه (الأنا) تعلن عن وجودها و حضورها في خفر ، بل هي الآن ترفع صوتها عالياً " ، لنصبح إزاء حشد من الشخصيات التي تتقاطع و تتقابل و تتشابك أحلامها و نوازعها و رغباتها . من هنا تمثِّل المسرحيات الأخيرة محاولة لإعادة التأمل في مشروع نهضتنا المنكسرة، و حداثتنا المجهضة و المشوهة، من خلال تعميق ساحة الرؤيا لتطاول كل شيء، السياسي و الاجتماعي و الذاتي و الفردي، من خلال رؤية جدلية جسورة في الكشف و التعرية و البحث عن الحقيقة.
حاول ونوس أن يطوِّر نظرته للمسرح و الحياة بشكل دائم ، إذ إن كل مرحلة من مراحل تطوره كانت تستند إلى رؤية جديدة لفن المسرح و لدوره ، بالتناغم مع تطور رؤيته الفكرية و السياسية للفرد و المجتمع و الحياة ، فتصوّره للمسرح ، لا ينفصل عن تصوّره للمجتمع الإنساني ، و قد رأى فيه " ذلك المكان النموذجي ، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي و الوجودي معاً ، أي المكان الذي يتأمل فيه المتفرج الفرد شرطه الإنساني في سياق جماعي ، فينمو انتماؤه إلى الجماعة ، و يتعلّم غنى الحوار و تعدّد مستوياته " ، فالمسرح عنده المرآة التي تضع المتفرج في مواجهة ذاته ، و في مواجهة عالمه ، ليصبح –كما يرى- " ذلك المكان المفتوح للاحتجاج و النقاش ، و الرفض ، وإعادة النظر بأسس المجتمع " ، و مؤكدا على الدوام أنه " لا معنى للمسرح إذا لم يطرح قضايا الإنسان الجوهرية ".
لم ينظر ونوس للمسرح على أنه حلية ثقافية ، لا بد من وجودها في المجتمع كي يبدو هذا المجتمع معاصراً ، بل نظر إليه بصفته حاجة ، هي جزء من حاجات أكبر بالتعريف الاجتماعي للمسرح ، هذا المسرح – الحاجة ، أو المسرح – الحوار ، يتطلب وجوده شروطاً عديدة ينبغي توافرها كي يستمر و يزدهر ، إذ إن الثقافة بعامة و المسرح بخاصة (هما نشاطان شديدا الحساسية) كما يرى ونوس ، و إن ازدهارهما يتطلب تعميم الديمقراطية ، و احترام التعددية ، و كبح النزعة العدوانية لدى الأفراد و الأمم على السواء ، كما يتطلب (وجود السلطة المدنية ، التي تشجع اللقاء ، و تعتبر تمويله ضرورة حيوية) . ومن أهم أولويات السلطة المدنية ، الراغبة و الشاعرة بالمسرح – الحاجة ، هي إشاعة الديمقراطية و تعزيز مظاهر المجتمع المدني ، لأن المسرح هو أحد أبرز الفضاءات الديمقراطية ، حيث الحوار و الاعتراف بالأخر ، المختلف ، ثم حرية الرأي و التعبير ، و أيضاً النقد .
إن المسرح و الثقافة، لا ينموان و يزدهران إلا في تربة الديمقراطية، و حيث تحترم إنسانية الإنسان، فالمسرح كما يقول ونوس " ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب ، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع ، و ضرورة من ضرورات نموه و ازدهاره " . إن العملية جدلية ، فالمسرح (و الثقافة بشكل عام) يجدان حياتهما ضمن مجتمع مدني ، و المجتمع المدني لا يزدهر من دون المسرح و الثقافة ، و مفتاح هذه العملية الجدلية هو الديمقراطية التي تدفع تلك العلاقة المترابطة بين المسرح و الجمهور نحو تجسيد نفسها واقعياً ،هذه العلاقة المترابطة تقوم في مناخ ديمقراطي ،بين جمهور يدفع بالمسرح إلى أعلى ، و مسرح يرقى بجمهوره نحو الأفضل و الأحسن .
من هنا لا بد ( و هذا أهم المخارج للمسرح العربي) من السعي أكثر فأكثر لبحث السبل الكفيلة لتخفيف علاقة المسرح (والمجتمع المدني بشكل عام) بالهيئات الحكومية، و انتزاع حرية التعبير و فرضها و تكريسها واقعاً يخلق مسرحاً جديداً.
#حازم_نهار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟