أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - توفيق السالمي - مأساة الطرح الديني بين الأسس المتعالية ومأزق النزول الأرضي .















المزيد.....

مأساة الطرح الديني بين الأسس المتعالية ومأزق النزول الأرضي .


توفيق السالمي

الحوار المتمدن-العدد: 4217 - 2013 / 9 / 16 - 15:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة في المنهج
نحاول دائما أن نفهم أطروحات الإسلام السياسي وأن نُفهم فهمنا لغيرنا باحثين في الآن نفسه عن محاولات غيرنا في تفكيكه وفي الإمساك بما هو أساسي فيه حتى يمكننا الحكم له أو عليه . والباحث في قضايا المجتمع عموما وقضايا الفكر والسياسة خصوصا مدعو دائما إلى الحفر عميقا ليبلغ أصول ما هو قائم ،وإلى المقارنات التاريخية الدائمة لكي تتضح الصورة بغيرها من الصور. ضمن هذا التصور المنهجي سأحاول رصد الأسس الفكرية العامة للطرح الديني ومقارنتها بأسس الطرحين الليبرالي والماركسي . وحتى لا نغرق في تفاصيل الأعمال الفقهية والفلسفية فقد اخترت أن أدير هذا البحث على الشعارات العامة التي تختزل لا التصور الفكري للطرح المقصود فحسب بل وترسم معالم سلوكه وممارسته. ولكي نتمكن عقب إنهاء المقال من تمثل صورة مكتملة عن الأطروحات الثلاثة وخاصة أطروحة الإسلام السياسي فإننا سنبدأ بالأطروحتين القائمتين في وجه أطروحة الإسلام السياسي وفي مواجهته.
الطرح الليبرالي
مقدمات تاريخية
يعتبر الطرح الليبرالي من الأطروحات المهضومة الجانب سياسيا وفكريا. ويعود السبب في المخيلة الشعبية العامة وربما في أوساط النخب الفكرية أيضا، إلى التصاق هذا الطرح بحركة الاستعمار على وجه الخصوص. فلقد أصبح الاستعمار مرادفا لليبرالية بل وللعلمانية والتقدم والديمقراطية وغيرها من القيم التي نشأت في أوروبا تخصيصا. لقد التصقت الليبرالية سواء لدى المدافعين عنها أو في المؤسسات الفكرية والسياسية التي حاولت ترسيخها ومأسستها بما انتهت إليه من استعمار الشعوب في الصين واليابان وأفريقيا. ولذلك وجب التنبيه إلى أن الطرح الليبرالي لم يكن في أصل نشأته ما هو عليه اليوم من نزوع نحو المركزية الثقافية والاقتصادية بما هي تكريس فعلي لواقع استعباد الشعوب المضطهدة، وهو ما يناقض أصول الطرح الليبرالي.
لقد نشأ الطرح الليبرالي في مواجهة أهوال القرون الوسطى في أوروبا، وهي قرون عرفت فيها الإنسانية أشكالا رهيبة من سيطرة الخرافة والعسف الاجتماعي والتجرد من الإنسانية. ففي هذه المرحلة من تاريخ البشرية صنعت البشرية المقطعة، وهي آلة لتقطيع أطراف الذات الإنسانية كما اخترعت الانسانية في ذات الوضع المقصلة وهي آلة قطع الرؤوس .. وهي الآلات التي استخدمت بقوة ضد الإنسان من قبل المؤسسات السياسية والدينية والاقتصادية. فالامبراطور والكاهن والإقطاعي استعملوا هذه الالات في إرغام البسطاء على عبادة الامبراطور الروماني ثم على اعتناق الفكر المسيحي ومواجهة الهرطقة كما استعملت هذه الآلات وغيرها في فرض العمل على الأقنان في مقاطعات الإقطاعيين ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد المرعب بل تعداه إلى غيره من أشكال إذلال الذات الإنسانية مثل حرق المتهمات بالسحر ونفي المهرطقين ( الخارجين عن الفهم الرسمي للكنيسة الذي تقرره عادة المجامع الكنسية) ولذلك برزت إلى النور أفكار جديدة في مواجهة العنف والإرهاب المسلطين على الإنسان فكرا وسلوكا وعملا.
الأسس الفكرية للطرح الليبرالي
وكانت هذه الأفكار قد تم تلخيصها في شعار معروف هو : التسامح ،المنطق والإنسانية . لقد دعت الحركات الناشئة إلى ضرورة التعايش بين البشر وتجاوز منطق التفوق والتميز الديني والاجتماعي فكان التسامح هو إحدى المفردات الأساسية المختزلة لهذا التوجه. كما كانت مقررات المجامع الكنسية (تشبه الفتاوى عند المسلمين) التي كانت الكنيسة تلزم الناس بها وتجبرهم على اعتناقها، بل وتلحق بهم العقاب الشديد في حال مخالفتها، مما ضجر الناس منهم أي ضجر. ولذلك رفع شعار المنطق، أي منطق العقل الذي يجب اعتماده في التعامل بين الناس، وصار المنطق هو المفردة الثانية في الشعار الليبرالي قيد التبلور. إن التسامح والمنطق لن يجدا سبيلهما للتحقق في حياة الناس ما لم تحترم الذات الإنسانية بغض الطرف عن فكرها ومعتقدها ومستواها الاجتماعي ولذلك رفعت في الشعار المفردة الثالثة : الإنسانية، وهو ما نجد صداه في شعار الجمهورية الفرنسية التي كانت نتيجة للثورات الفرنسية المتعاقبة ابتداء من 1789 مرورا بكمونة باريس وانتهاء بإسقاط نابليون: حرية، مساواة، إخاء.
نشأ الطرح الليبرالي،إذن، من أوجاع الناس خلال القرون الوسطى في مواجهة الاستبداد الإقطاعي ممثلا في سيطرة السادة النبلاء الذين يملكون الأرض ومن عليها bondsman) ( وفي مواجهة الاستبداد السياسي ممثلا في الأمبراطور كما في مواجهة الاستبداد الديني ممثلا في رجال الكنيسة(clergés) . وكان هذا الطرح أفقا إنسانيا بامتياز إنه التسامح سياسيا والمنطق فكريا والإنسانية اجتماعيا .
انحسار المد الليبرالي
غير أن هذا الطرح قد شهد انحسارا كبيرا رغم حجم الدعاية التي دعمت مقولاته وطورتها فارتقت بها إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والاستقلالات الوطنية للشعوب وحقها في تقرير مصيرها بنفسها، وفقدت شعارات الليبرالية بريقها وذلك بسبب الارتباط التاريخي والسياسي والجغرافي بين الليبرالية وبين حركة الاستعمار. لقد عصفت تجربة الاستعمار بما راكمته التجربة من الإنسانية طوال قرون من أفكار وآراء وانتصار للإنسان فإذا بالدول التي قامت على أسس التنوير تمزق أوصال العالم وتنهب خيرات شعوبه، بل وتستحضر في معاملته قساوة القرون الوسطى. ولذلك سقطت منظومة التفكير الليبرالي على محك ممارسة الليبراليين أنفسهم وانبنت منظومة سياسية وثقافية وفكرية على التناقض بين الشعار من جهة وبين الممارسة من جهة ثانية . لقد استبدلت في لحظة دول التنوير استعمارها المباشر للشعوب باستعمار خفي يرعاه لها عملاء محليين لم يكن على لائحة برامجهم غير قمع شعوبهم وإخضاعها لمنطق رأس المال العالمي وللحاجات الاستراتيجية للامبريالية العالمية.
الطرح الماركسي : التجاوز دائما .
معالجة أزمة الطرح الليبرالي
لأن الطرح الليبرالي البورجوازي طرح محدود الآفاق، عاجز عن الاستجابة لتطلعات البشر الواقعية، إذ لم تنفك الوقائع عن بيان الفارق بين شعاراته وممارسات معتنقيه والمدافعين عنه، فقد كان يجب أن يظهر ما يتجاوزه نحو حلقة أرقى من حلقات الابداع الانساني. فلقد ظل، كما يقول ماركس، :"الإنسان هو غاية الإنسان القصوى" وكان لا بد من التقدم والدفع بالشعار إلى نهايته المنطقية، ولذلك اعتبر ماركس الطبقة العاملة هي الطبقة الثورية إلى النهاية، إذ تدفع بالحلول إلى حدها الأقصى غير مهتمة برومانسيات الشعراء وهدهدات المغنين ولا بتلفيقات البورجوازيين الصغار فضلا عن كبارهم. لقد كان الطرح الليبرالي يراوح في مأزقه وأصبحت قيمه الانسانية العليا مهددة حتى كأن التسامح أو العقل أو الانسانية بما هي قيم إنسانية رفيعة تقف رافعة للاستعمار والهيمنة والغطرسة واستعباد الانسان للانسان. لذلك اقترحت الماركسية حلولا لأزمات الطرح الليبرالي من خلال تجاوزها وإعادة تأسيس جملة القيم الانسانية المهددة بالاضمحلال والاندثار .
الماركسية : الأسس البديلة
رفعت الطبقة العاملة في وجه الشعار الرومانسي البورجوازي الحالم : التسامح شعارا أكثر جرأة وأكثر عمقا وهو شعار : الحرية. لقد كان شعار الحرية شعار كل الواقفين في وجه العسف والاضطهاد، غير أن الالتفاف على جوهره كان ممكنا. فقد رفعته البورجوازية الناشئة في وجه سلطة الإقطاع والكنيسة من أجل حريتها في استغلال قوة عمل الأقنان، ودافعت البورجوازية عن حريتهم فقط من أجل أن تتاح لها فرصة الاستفراد بهم. وتبدو ملامح هذا التطور في شعار الجمهورية الفرنسية : حرية مساواة إخاء الذي تأثر بجملة النضالات العمالية وخاصة كمونة باريس. لقد دفعت الماركسية بشعار التسامح إلى حده الأقصى وهو الحرية وأصبع ضلعا في مثلث بديل للمثلث البورجوازي الليبرالي.
وإذا كان ضروريا دفع التسامح نحو الحرية فقد كان أكثر من ضروري تطوير شعار المنطق، وهو الشعار الذي انتهت إليه تجربة الإنسان في مواجهة اضطهاد الكنيسة وسيف الهرطقة. فالمعروف أن البشر قد واجهوا رعبا كبيرا وهم يرفضون القبول بمقولات غير منطقية يجبرون بمقتضاها على اتباع سلوك غير مبرر مثل حرق المهرطقين ونفيهم وتعذيبهم. ولأن المنطق لا يقبل دائما ومنه المنطق الشكلي الذي يمكن أن يتحول السيء إلى شيء ثمين كقولك : الذهب ثمين لأنه نادر والحصان الأعور نادر فهو ثمين، فقد كان يجب تجاوز هذا المستوى من البرهنة إلى مستوى أعلى. لقد تبنت الماركسية العلم بدلا من المنطق وصار العلم هو الظلع الثاني من مثلث التحرر الانساني.
أما الضلع الثالث من مثلث التحرر الإنساني فقد كان : المساواة. إن الانسانية شعار فضفاض، يمكن تأويله على وجوه متعددة، بل يمكن اختراقه وتوظيفه في غير ما وضع من أجله أصلا،والوقائع التي عاشتها البشرية منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى حدود اليوم تؤكد ذلك. فقد احتلت الشعوب وقتلت باسم نشر الحضارة ثم باسم نشر الديمقراطية. لذلك ارتقت الماركسية بشعار الانسانية الفضفاض الخاوي من المعنى الحقيقي إلى شعار المساواة على قاعدة الملكية العامة لوسائل الانتاج.
واضح إذن أن الماركسية هي خطوة نحو اكتمال انسانية الإنسان وتجاوز جحيم الضرورة في اتجاه ملكوت الحرية. فالطرح الماركسي بما هو : حرية علم ومساواة ينهي فعليا أسباب مأساة الانسان من خلال امتلاك الانسان لحريته في وجه القوى الاجتماعية والدينية المتربصة به؛ ومن خلال اعتماده على العلم بما هو مسار لامتلاك حقيقة الذات الانسانية وحقائق الوجود الطبيعي؛ وأخيرا من خلال إلغاء مصدر الشرور وهو الملكية الخاصة لوسائل الانتاج التي تجعل ضرورة الأغلبية عبيدا للأقلية المالكة.
الطرح الديني
التأخر التاريخي
نقصد بالتأخر التاريخي ظهور الطرح الأصلي قبل بروز القضايا المطروحة للنقاش. فالإسلام من حيث هو الأصل في الطرح الديني عندنا، كما المسيحية واليهودية عند غيرنا من الشعوب، لا يمكن تجاوزه ولا يمكن لللاحق من القراءات الفقهية أن تتخطى الأصول إلا متى أعلنت نفسها تأسيسا جديدا، وهو ما ينعت بالكفر دينيا . لقد ظهر الاسلام قبل نحو 1400 سنة وقدم رؤيته للإنسان والمجتمع وللوجود. ولا يمكن من الناحية التاريخية لي أعناق الحقائق والقيام بإسقاطات وتقديم تأويلات تحكمية للنصوص التأسيسية للإسلام، فما هو ثابت أن الإسلام قد دعا الناس لعبادة الله الواحد الأحد "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات 56) واتباع النبي محمد واعتناق الدين الإسلامي "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه" (آل عمران85) والدين كما هو معروف شهادة وصلاة وصوم وزكاة وحج . فالدين علاقة روحية سهل الإسلام انشاءها بين الفرد وربه وأوجد لها الوسائل التعبدية لتركيزها وتثبيتها. ولم يحسم الإسلام مسائل الحرية والمساواة لأنها من طبيعة ما يحدث بين البشر وليست من قبيل ما يربط الإنسان بربه. غير أن القانون الإنساني الذي هو الشريعة عند المسلمين قد اتخذ لنفسه موقع الله فصارت العلاقة معه هي العلاقة مع الله وصار الخروج عنها كالخروج عن الله عند المدافعين عنها. لذلك فإن التعسف في ربط شعارات الحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها بتعاليم الإسلام هو مثل ربط عن قوانين الحركة في فيزياء انشتاين مع شريعة حمورابي أو مع أسفار العهد القديم . فهو تعسف تاريخي واعتداء على النصوص المقدسة التي يتوجب اتباعها لا جعلها في حالة تبعية لمستحدثات العصر العلمية والفكرية تتغير بتغيرها . لذلك يجد الطرح الديني – لا الدين - نفسه أمام مأزق التأخر التاريخي في التعاطي مع أسس الطرح الليبرالي وفي مأزق أشد أمام الطرح الماركسي.
الثبوتية والعجز عن مواكبة العصر
يتميز الطرح الديني بمرتكزاته الإيمانية ورؤاه التقديسية، فهو طرح سياسي بأدوات دينية. ولأن الدين ثابت لا يتغير بما هو قول ترنسندنتالي متعال لا يخضع لمقتضيات تحول الواقع وتبدله وجريان الزمان وتطور البشر وهي أهم المكونات التي يخضع لها ويتقوم بها أي خطاب لغوي عادي، فإن الطرح الديني بما هو النقل البشري للمغزى الديني إلى حقل السياسة لا يستطيع أن ينفصل عن ثبوتية الأصل فيستحدث المقولات الجديدة ويقترح تنظيما جديدا للمجتمع ويؤسس رؤية مغايرة للإنسان وللوجود وذلك لأن الدين كان قد حسم أمور الإنسان والمجتمع والوجود. وحتى يواكب الطرح الديني مقتضيات وجوده الواقعي بين أناس يعملون ويتعلمون ويأكلون ويتزاوجون... فإنه يضطر إلى إعادة صياغة التفاسير وإلى إضافة التأويلات المختلفة لنصوص تقتطع عادة من سياقاتها النصية والتاريخية بغاية تقريبها من مفردات العصر ولغته، فإذا للديمقراطية المعاصرة أصل في الشورى متناسين أن الشورى كانت ركنا من أركان التنظيم السياسي للقبيلة العربية في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، حيث كان يؤم مجلسها الذي كان يسمى الملأ سادة القوم دون ما يعرف بالقبيل وهم عامة الناس المنتسبين للقبيلة، فلا صلة لذلك الشكل بالمضمون السياسي للديمقراطية المعاصرة. ( أنظر دراسة عبد الحميد حسين أحمد السامرائي – بعض مظاهر التنظيم القبلي في صدر الإسلام ). ولعل دار الندوة في قريش التي كثيرا ما ذكرتها مراجع التاريخ الإسلامي خير دليل على ذلك؛ وإذا بالحرية تعريفا هي العبودية عند البعض؛ وإذا للرق أسباب معينة جعلتها الشريعة مثلما يذكر ذلك أحد الدعاة على موقعه الالكتروني http://almunajjid.com/khotab/1494 . فالطرح الديني بين أقنومين أحدهما يلزمه الوفاء لثبوتية نصية ماضوية والآخر يدعوه إلى الانفتاح على مقولات العصر ومفرداته وهو بين هذا وذاك عاجز عن إيفاء حاجة الإيمان والقداسة وعاجز أيضا عن مواكبة روح العصر وتبني خطواته وانجازاته الفكرية والعلمية.
الأسس المتعالية ومأساة النزول الأرضي
لا يتردد المتدينون أبدا عن التذكير بأنهم إنما هم أمة ما أخرج الله خيرا منها وبأن تجارب الحكم الإسلامي المتجسد في الخلافات المتعاقبة هو خير تنظيم سياسي للمجتمع الإنساني عاشت على وقعه الانسانية على مر تاريخها. فالتعالي الرهيب لدى الأطروحات السياسية الدينية ظاهرة مميزة لكل الدينيين وخاصة الإسلاميين. ويفترض في سياق التعاطي مع ظاهرة الوثوقية المتعالية المنجرة عن الثبوتية واليقينية الصارمة في تفكيرهم أن يلقى المريد ما يريد من حلول لمشاكله اليومية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل إنه يفترض وجودها وإن لم يخبره بها مخبر . فالطرح الديني يوهم الناس عادة بأن الحل في عطاء الله وأن عطاء الله لا يكون بغير طاعته وتنفيذ أوامره. وفي هذا المنعرج ينزلق الخطاب الديني من علياء قداسته نحو مأساته الأرضية فيجد نفسه في مواجهة لا مع الناس الواقعيين شحما ولحما وكدحا يوميا بل إن الطرح الديني لواجد نفسه في مواجهة مع الله نفسه، يكذّبونه بعد أن كذبوا باسمه، فبعد الطاعة والعبادة والولاء والبراء لا تزال أرقام البطالة في تصاعد وأسعار للمواد الاستهلاكية لا ترحم واحتقان شعبي تتوسع دوائره فضلا عن رداءة الأداء السياسي للمتكلمين باسم الطرح الديني.
خلاصة القول إن الطرح لم يقم في الأصل من أجل شعارات الحرية والعقل والمساواة بل على أساس العبودية لله والإذعان للرسول واتباع أولي الأمر من المسلمين وهو المقابل التناظري لشعار الحرية وفي مقابل المنطق أو العقل والعلم فإن الطرح الديني يرفع النص اختزالا لكل المعرفة والعلم ؛ ويأتي ما كتبه الله لك في مقابل مقابل الدعوة إلى المساواة فـ" لا يؤمن عبد حتى يؤمن لالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه" ( حديث رواه الترمذي وصححه الألباني) . وإذا أردنا اختزالا تناظريا للطرحين الليبرالي وجدنا أن ثلاثية الطرح الديني هي : خضوع، نص، تسليم. ووجدنا اللوحة التالية اختزالا لا فقط للمشهد الفكري والسياسي العام بل ولتطور الفكر الإنساني عموما في محاولته تشخيص واقعه واستنباط حلول مشاكله:
الطرح الديني خضوع نص تسليم
الطرح الليبرالي تسامح منطق إنسانية
الطرح الماركسي حرية علم مساواة

لقد تجاوزت الإنسانية البديل السياسي الديني منذ بدايات عصر التنوير، غير أنه يعود اليوم متلحفا بشعارات العصر مخاتلا وعي الناس جارا إياهم نحو مواقع الخضوع والتسليم والاستكانة،بل وإلى مواقع الاقتتال الداخلي تصفية لاحتدام التناقضات الاجتماعية مقدما بذلك جليل الخدمات لمشاريع رأس المال العالمي مساعدا على إعادة صياغة تفوق منظومة رأس المال محليا ودوليا وهيمنتها على الجزء الثري من العالم المسمى العالم الإسلامي. لذلك فإن الطرح الديني يختنق في مأزق التعالي والطهر والورع وهو يرتشف كؤوس الامبريالية الممزوجة بدم الشعوب؛ وينكسر على صلابة واقع المجتمعات وهو يبرر فقرها وبطالة الناس فيها وخصاصتهم وتخلفهم.



#توفيق_السالمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإخوان والعسكر يفسدون الثورة


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف ميناء عسقلان المحتل
- المقاومة الإسلامية بالعراق تقصف قاعدة -نيفاتيم- الصهيونية+في ...
- أبسطي صغارك بأغاني البيبي..ثبتها اليوم تردد قناة طيور الجنة ...
- لولو صارت شرطيه ياولاد .. تردد قناة طيور الجنة 2024 الجديد ع ...
- -المقاومة الإسلامية في العراق-: استهدفنا ميناء عسقلان النفطي ...
- بن غفير يعلن تأسيس أول سرية من اليهود الحريديم في شرطة حرس ا ...
- “ابسطي طفلك” تردد قناة طيور الجنة الجديد على نايل سات وعرب س ...
- سوناك يدعو لحماية الطلاب اليهود بالجامعات ووقف معاداة السامي ...
- هل يتسبّب -الإسلاميون- الأتراك في إنهاء حقبة أردوغان؟!
- -المسلمون في أمريكا-.. كيف تتحدى هذه الصور المفاهيم الخاطئة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - توفيق السالمي - مأساة الطرح الديني بين الأسس المتعالية ومأزق النزول الأرضي .