أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة















المزيد.....


يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 4178 - 2013 / 8 / 8 - 01:53
المحور: الادب والفن
    




(مدخل سيميائي لرواية "رجال وثيران")


سعيد بودبوز

تقوم رواية "رجال وثيران"[1]، ليوسف إدريس، على شبكة رمزية ذات ملامح قنبلية وأبعاد انفجارية مؤسَّسة، في عمق النص، على طبيعة الصراع التيمي الدائر بين البشر والبقر. في بداية قراءتنا لهذه الرواية نجد أنفسنا أمام حلبة يتصارع فيها الشبان مع الثيران، ولكن سرعان ما يتدرج بنا النص نحو استنتاج أعم في ذلك، وهو "صراع بين النوع البشري والنوع البقري" بكل ما لهذه الجملة من دلالات. وهنا تنتهي قراءتنا الأفقية للنص (من بداية الحكاية إلى نهايتها)، ونبدأ قراءةً عمودية (من سطح النص إلى قاعه).
"يتحدث السارد عن مصارعة الثيران في إسبانيا، موظفاً لذلك بطلاً اسمه أنطونيو. هذا الذي تحمس له وتعاطف معه السارد والجمهور بشكل غير عادي، لكن دون أن يعرف عنه السارد شيئا من قبل. تحمس له الجميع طوال المصارعة، وهذا ما لم يبدوه تجاه المصارعين الآخرين. انتصر انطونيو على الثور الأول انتصاراً مشرفاً، لكن المصارع الثاني لم يحقق ما حققه الأول من نجاح، أما المصارع الثالث فقد فشل بشكل مخزٍ. بذلك انتهى الشوط الأول، ثم بدأ الشوط الثاني، حيث تقرر أن يقوم أنطونيو بمصارعة الثور الثاني من جديد، لكن رغم كل ما أبداه من بطولة منقطعة النظير هذه المرة، إلا أن الثور انتصر عليه (مزقه تمزيقاً) وانتهى به الشوط الثاني في المستشفى، حيث قال الأطباء بأنه علمياً سيموت. وعلى كل حال، أصبح أنطونيو في عداد الأموات."
تلكم هي الأحداث التي تشكل المادة السردية الخام للنص، ومنها ينطلق السارد في نسج خطابه متغلغلا في مساءلة الظروف والثقافة التي تحيط بهذه المصارعة وأبعادها وانعكاس مقدمتها البقرية على نتائجها البشرية. أنطونيو هو رمز للقيم الإيجابية التي ينتصر لها الجمهور في ظاهر النص، وبذلك فهو لم ينتصر على الثور الأول فحسب، بل انتصر أيضا على مصارع الثور الثاني والثالث، حيث تحمس الجمهور في هاتين المصارعتين للبقر ضد البشر، وذلك بدافع القيم البطولية وأخلاق الفروسية التي يجسدها أنطونيو بين المصارعين. لكي يحاكي القنبلة، يخضع النص لثلاث مراحل، وهي؛ التركيب، الضغط والتفجير.

تركيب:
في مرحلة التركيب يحتشد الجمهور على مدرجات الحلبة، وتنصهر ذواتهم كلها في ذات أنطونيو المصارع. فالمرحلة الأولى تتمثل في اندماج مجموعة من البشر في ذات وجدانية واحدة، أما المرحلة الثانية فهي تتمثل في ضغط النسخة المنحرفة من هذه المجموعة في موضوع بقري واحد كثيف مركز ومضغوط. حين نقرأ النص، لا نجد فيه ما يشير إلى لحظة انفجار هذه القنبلة فحسب، بل يجعلنا أولا نستمتع بالكيفية التي صُنعت بها. لنفكك هذه القنبلة بهدوء إلى مختلف العناصر التي تكونت منها، وإلى المراحل التي مر بها ذلكم التركيب. النسخة البشرية لهذه القنبلة توقفت عند مرحلة التركيب. أما النسخة البقرية فهي تتجاوز ذلك إلى مرحلة ضغط هائلة. ولعل التحليل العميق للنص يوصلنا إلى تعليل انتصار البقر على البشر بتوقف الكتلة البشرية عند مرحلة التركيب، بينما تجاوزت القنبلة البقرية إلى مرحلة الضغط والتكثيف. النسخة البشرية تم تفكيكها (تفجيرها) معنويا في نهاية المطاف، أما النسخة البقرية فقد تم تفجيرها بدنيا (ورمزيا). ولا شك أن طاقة التدمير التي يخلفها التفجير تفوق بكثير ما يمكن أن يخلفه التفكيك. تبدأ مرحلة التركيب حيث يتحدث السارد عن تعلقه المفاجئ (غير المبرر) بأنطونيو:"وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون الأحزان البريئة يرغمك أيضاً، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه- ومهما كانت سنه. ولو كنت أصغر منه- بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير."[2]. فانطلاقاً من هذا المقطع يؤسس ويؤثث السارد لمرحلة التركيب (الانصهار)، ولقد أسهب في الحديث عن هذا النوع من الاندماج والانصهار، لكن تفاديا للإطالة، ارتأينا الاقتصار على أخذ أمثلة محددة فقط، إذ يمكن الرجوع إلى النص. لنلقي نظرة على مثال آخر وهو قول السارد متحدثا عن وجه أنطونيو:
"وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقع، وحده الذي حين تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة "الفيستا" والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن حتماً عن وجوده وينقص"[3]. هذا يبين لنا طبيعة الاندماج (الانصهار) الوجداني بين السارد وبطله أنطونيو، فلنأخذ مثالا على اندماج ذوات الجمهور بأكمله، حيث يقول السارد: "هذا الشيء الذي ربطني به من أول دقيقة ودفعني من أول دقيقة أيضاً كي أتابعه وأقلق عليه وعلى مصيره، ها هو ذا تثبت صحته ويثبت أني كنت على حق. ها هي الخيوط، ثلاثون ألف خيط تمتد من ثلاثين ألف نفس وتربطهم به، ها هو الإحساس الذي كنت أحسه وحدي يشاركني فيه آلاف، آلافهم جميعاً"[4].
نحن إذن أمام بطل انصهرت فيه ذوات ثلاثين ألف شخص، وهم جمهور الحلبة. اندمجوا في ذاته من خلال إحساسهم الإنساني الإيجابي، لأنه ببساطة، لا يخوض صراعاً مع ثور معين، بل يخوض معركة حاسمة بين البشر والبقر. إن هذا الإحساس الإيجابي تجاه أنطونيو يطفو على سطح النص قبل وبعد انتصاره على الثور الأول. هنا ينبغي أن نسجل المظهر الثقافي (الحضاري) لهذا الجمهور، لأننا سننزل بالقارئ إلى قاع النص، حيث نقارن بين هذا المظهر (الثقافي/الحضاري) والمبطن (الغريزي/البدائي) بعد انهزام أنطونيو أمام الثور الثاني كما سيأتي لاحقاً.

ضغط:
إن مرحلة الضغط تنتقل بالنص من نسخته البشرية إلى نسخته البقرية، وهو انتقال، في العمق، من طور اللطافة إلى طور الكثافة، أي من مستوى العقل الذي يمثله البشر إلى مستوى العضل الذي يمثله البقر. في وصفه للثور يقول السارد: "كتلة الحياة الهائجة السوداء تلك، المركزة المضغوطة في هذا الحجم الثوري المحدود، هذا الجبار الطاغي الواثق بنفسه وقوته ثقة كقوته عمياء"[5]. نلاحظ أن مرحلة التركيب (البشري) سادت فيها لغة إيحائية، أما مرحلة الضغط البقري، فلقد سادت فيها لغة تقريرية تفسر لنا قوة الثور بمدى انضغاط الكثافة العضلية فيه وخلوه من اللطافة العقلية. فهذه القوة عمياء، لأن الرأس الذي يتصرف فيها لا يحمل عقلا، بل يحمل قرنين وكفى. "ما كاد يلوح أحد المصارعين بعباءته من آخر الحلبة حتى بدا وكأن الثور ركبه ألف عفريت"[6].
كأن ذوات الجمهور المنصهرة في ذات أنطونيو تقابلها ذوات العفاريت المنصهرة في ذات الثور. لكن الذوات (البشرية)، التي تركبت منها شخصية أنطونيو، تحتمل الحضارة (الثقافة)، أما العفاريت، فلا تعبر إلا عن الهمجية (الغريزة). فها نحن إذن أمام صراع عمودي، بين الثقافة والغريزة، يوازي الصراع الأفقي القائم بين أنطونيو والثور !. لقد ركبه ألف عفريت، فأصبح الثور مثقلا كثيفا مضغوطا، فماذا نتوقع منه بعد ذلك؟ يجيبنا السارد: "اندفع لا يجري وإنما يثور لا يقيم وزنا لشيء وليس له إلا طريقة واحدة للتعبير عن قوة الحياة المحشودة داخله في تضاغط هائل..إلا أن ينطح بقرنيه"[7].
ولكن يبدو أن هذا الثور المركب (في نسخته البشرية) و المضغوط (في نسخته البقرية) لم يعد مثل باقي الثيران، وإلا فلا معنى لما ركبه من العفاريت، ولا معنى لما نتحدث عنه من التركيب والضغط والتفجير. هنا يقول السارد:"وقرناه ليسا كقرني ثيراننا المستأنسة بارزين إلى الجانبين، إنما هما قرنان رفيعان كأسياخ الحديد"[8]. إذا كان الثور قد بلغ هذه الدرجة من الكثافة (والضغط)، فهذا يعني أنه يجب ألا يُشار، في الحديث عنه، إلى ما يقتضي بعض التجزؤ والمرونة، لأن التضاغط يقوي التوحد، بخلاف التفكك الذي يؤثث التعدد. إذن، لاحظ كيف يجتمع الثور، مصارعاً خصمه، في حديث السارد الذي واصل وصفه لقرنيه قائلاً:"وهو لا ينطح بهما أو برأسه أو باستعمال عضلات رقبته..إنه ينطح بكل جسده"[9].
وهذا يدل على أن الثور، بعد أن ركبه قطيع من العفاريت، وانضغط فيه مما زاده وحشية على وحشيته، أصبح من الكثافة بحيث لم يعد بارعاً في استخدام "جزء" من بدنه دون الباقي؛ فلو لم تركبه العفاريت مثلاً، ما وصل إلى هذه الدرجة من التعبير عن كثافة العضل ! وكذلك أنطونيو؛ لو لم يركبه 30 ألف متفرج، ما وصل إلى تلك الدرجة من لطافة العقل !.

تفجير:
إن تفكيك المركب عادة لا يكون عسيراً مثل تفكيك المضغوط. حتى إذا كان لابد من الانفجار، فإن تفجير المركب لا يكون مدمراً مثل تفجير المضغوط. فهذا بالضبط ما تحقق في رواية "رجال وثيران"، بشكل مدهش، حيث أن تفجير البقر (المضغوط رمزياً) أحدث تخريباً في الحلبة لا يقل عن إزهاق روح أنطونيو !. أما تفجير البشر (المركب رمزياً)، فلقد خلف أثراً معنوياً لا يتجاوز فضح القائمين على تنظيم تلك المصارعة كما سيأتي لاحقاً!. لقد تمكن الثور الثاني من قتل البطل، "وسقطت قلوب ودقت أرجل وأغمي على كبار. والخوف الأكبر، الخوف الذي كان يرهبه الجميع منذ أول لحظة، ذلك العقاب القابع في مكان خفي من الأرينا، ثمة إحساس جامح شامل أنه أخيرا وقع، أخيرا انقض وبمخالبه العزرائيلية يضرب ويطعن أعز مخلوق. ألف ألف انفعال يجمعها كلها شعور عارم جارف"[10].
مرة أخرى يشير السارد إلى انصهار الجمهور في ذات البطل، وأن الثور لم ينتصر على أنطونيو فحسب، بل انتصر على جميع الحاضرين بشكل أو بآخر. لقد كان السارد شديد الخوف على أنطونيو، إذ يقول:"لم يكن ما كنت أحسه من هلع ليختلف كثيراً لو أن المطعون كان ابني أو أخي أو أبي"[11]. هنا نجد أنفسنا أمام توكيد رمزي جاد على أن الصراع الذي خاضه أنطونيو، إنما هو صراع بين البشر و البقر بكل ما ترمز إليه "البشرية" من حضارة وثقافة، وكل ما ترمز إليه "البقرية" من بدائية وغريزية. "وبأقوى ما أستطيعه من هلع أحقد على عدو الميتادور وعدوي وعدو كل من في الساحة وعدو البشر..القوة القاهرة العمياء"[12].
هذه القوة البدائية العمياء تتحول إلى قنبلة نووية على ما يبدو، فـ"لا يهم أن يكون ما أمامه صخرة أو حديداً أو إنساناً دقيقاً حساساً بينه وبين هذه الحياة الشرسة الخرساء العمياء ملايين السنين من التطور والترقي"[13]. لقد انتبه الثور (رمزياً) إلى أنه لا يخوض صراعاً أفقياً (في مسار الزمن النصي) بين البقرية والبشرية فحسب، بل يخوض صراعاً عمودياً (عبر شبكة رمزية) بين البدائية والحضارة. ولذلك فلا ينبغي أن يكتفي بقتل أنطونيو، بل يجب أن يقتل فيه "ملايين السنين من التطور والترقي" !. ما إن قام أنطونيو بطعن الثور، حتى حدثت كارثة. "لم يكن في حسبان أحد، كأنما ضغط السيف بطرفه على زر التفجير، كأنما الطعنة فتحت أبواب مخازن طاقة كامنة هائلة لا تفتح إلا على كلمة السر تلك، كأنما الغدر الذي تمت به استدعى للوجود وحشية الوحش وأجداده وسلالته أجمعين"[14].
ها هو الثور ينتبه من حيث يشعر أو لا يشعر (السارد) بأنه في معركة فاصلة، هو الآخر، بين البقر والبشر، وأنه عليه ألا يستسلم بسهولة لسيف أنطونيو، لأن في ذلك هزيمة للكثافة أمام اللطافة، هزيمة للعضل أمام العقل، هزيمة للبدائية أمام الحضارة، هزيمة للغريزة أمام الثقافة ! . بعد أن ضرب الثور ضربته القاضية، نلاحظ أن فوهة الخطاب انقلبت نحو الصف البشري (دون البقري) لتحمل (بعضـ) ـه مسؤولية ما تعرض له أنطونيو من وحشية، مما يدل على الاستياء الشديد من انتصار التثوير على التنوير. فها هو السارد يصوب ترسانة لومه إلى الجمهور، إذ يقول على لسان أحد محبي أنطونيو في المستشفى، وهو رجل سكران: "أتصدق أن هؤلاء الناس الذين يجيئون من كل مكان إلى الأرينا يأتون لكي يروا الرجل ذا السيف يقتل الثور الأعزل؟ إنها كذبة كذبة. إنهم يأتون على أمل أن يقتل الثور المتوحش الرجل ذا السيف، وحبذا لو حدث القتل أمامهم، إنهم لا يجاهرون برغبة كهذه لأنها تبدو شاذة كريهة غير لائقة بالرجل المتحضر، ولكنها وأقسم لك الرغبة الكامنة في صدورهم."[15].
لقد طفح الكيل إذن، فبعد هذه المسافة النصية التي قطعناها، منذ بداية النص إلى حيث نوشك على نهايته، بدأت حقيقة هذا الجمهور تنجلي أمامنا. الآن، وليس قبل الآن، بدأت تنجلي، لماذا؟ لأن بنية النص تحاكي البنية النفسية لهذا الجمهور. فكأن هذه النقطة النصية (التي أعلن فيها الرجل السكران عن تلك الرغبة الغريزية البدائية) تحاكي أعمق نقطة في النفس البشرية، وهي تلك النقطة التي تترسب فيها بقايا البدائية والدوافع الغريزية العمياء التي لا يمكن للبشر أن يجسدها على سطح النص (بدايته)، ولذلك جسدها الثور !. إن هذا الأخير قد انطلق من أعمق نقطة في النص إلى سطحه. وهذا يرامز انطلاقه من أعمق نقطة نفسية (الغريزة) إلى أعلاها (الثقافة)، حيث لا يمكنه أن يمارس نشاطه البقري من خلال نسخته البشرية، وإنما يجب أن يظهر على صورته البقرية !.
النتيجة أن الصراع الذي خاضه أنطونيو ضد الثور، في القسم الأول من النص، انتقل، في القسم الأخير منه، إلى صراع سوسيولوجي بين البدائية والحضارة. فالطرف الذي يمثل البدائية والغريزة، هذه المرة، هو الجمهور، أما الطرف الذي يمثل الحضارة والثقافة فهو الرجل السكران والسارد كما سنوضح بعد قليل. حين نصل إلى الفصل الأخير من الرواية، نحس بأن النص يستدعينا إلى العمق وإجراء قراء عمودية لبنيته العميقة التي يأتي فيها الثور رمزا للغريزة والبدائية التي كان على ظاهر النص (المظهر الحضاري والثقافي للجمهور) أن يحاربها، ولكنه فشل على ما يبدو، لذلك لم يعد أمام الرجل السكران، الذي أحب أنطونيو، إلا أن يبكي ويطلب من السارد أن يذيع ما رآه في تلك الحلبة (أي طلب منه أن يفضح المؤامرة الوحشية التي تقف وراء كواليس حلبة المصارعة).
لاحظ أن هذه "الرغبة" (الكامنة في صدورهم) البدائية تنتمي إلى عالم الصمت، بينما التحمس لفوز الرجل على الثور ينتمي إلى عالم الصوت. بعبارة أخرى: إن الثقافة (الحضارة) تقع في الجزء العلوي للنفس البشرية، بحيث يمكن التعبير عنها بالصوت (علناً) لأنها مقبولة، أما الغريزة (البدائية) فهي تقع في الجزء السفلي لتلك النفس، ويمكن التعبير عنها (فقط) بالصمت (سراً)، لأنها مرفوضة. إذن، يأتي البقر (الصامت) في (أعلى) النص (= شخصية الجمهور) ليعبر، بأفعاله المرفوضة، عما لا يستطيع البشر (الصائت) أن يعبر عنه بأقواله المقبولة ! انظر الصيغة التالية:

على سطح النص (وعــي): مصارعة بين البـشــر والبـــــقر
-;- -;- -;-
فـي عمــق النص (لاوعي): مصارعة بين الثـقافــة والغريزة
-;- -;-
ســـوسيـــولـــوجـــــــــياً: مصارعة بين الحضارة والبدائية


إن الانفجار البقري نتج عنه تدمير بدني للمركب البشري (قتل أنطونيو)، أما الانفجار البشري فقد نتج عنه تدمير معنوي للمركب الاستبقاري (القائمين على تنظيم تلك المصارعة). ليقارن القارئ ذلك مع ما تحدثنا عنه من "التركيب والضغط". نحن ندرك، بالعين المجردة، أن الثور قام بتدمير أنطونيو، لكنا نحتاج إلى قراءة مجهرية كي ندرك علاقة ذلك بالتدمير المعنوي الذي نفذه السارد بإيعاز من الرجل السكران في المستشفى. هذا لأن النص، في النهاية، لا ينتصر لمشروع البدائية والاستبقار، بل ينتصر لمشروع الحضارة والازدهار. وهذا يعني أنه ينتصر للعقل ضد العضل، فلذلك ترك النصر البدني للبقر، واكتفى بالنصر المعنوي للبشر. فحين ننتهي من قراءة النص، ينكشف طلسم اللعبة الرمزية أمامنا أكثر، إذ يتبين لنا بأن انتصار الثور على أنطونيو، في الواقع، ما هو إلا رمز لانتصار العضل على العقل، انتصار البدائية على الحضارة، انتصار الغريزة على الثقافة في ميدان الكثافة العضلية. وأنه يجب على السارد أن يحدث انفجاراً مضاداً (روائياً) في ميدان اللطافة العقلية (الثقافة)، وإليك كيف حدث ذلك :
لكي نفهم النص جيداً في أبعاده الأربعة (البداية-النهاية/السطح-العمق)، من الأفضل أن نبدأ استخراج الحكاية من نهايته، وليس من البداية، ففي الفصل الأخير من الرواية، يتبين لنا بأن القوة الوجدانية التي بموجبها تحمس وتعاطف وانتصر السارد لأنطونيو حد الإحساس بالأبوة نحوه، إنما هي قوة استعارها من أحد محبي أنطونيو، وهو رجل سكران (كما أسلفنا) وجده في المستشفى، حيث كان يرقد أنطونيو في انتظار الموت من جراء التمزيق الذي لحقه على قرني الثور. يقول السارد على لسان ذلك الرجل السكران الذي أسهب في الإعراب عن حبه لأنطونيو: "لقد انفردت طويلا بالكلام مع أني لا أريد الكلام، أريد البكاء ! ولكني في حاجة لمعجزة كي أستطيع فقد تعلمت ألا أبكي، ولهذا أسكر. ولهذا أنا سكران وأريد أن أسكر أكثر، أريد أن أبكي على هيئة أن أشرب، فأنطونيو كان أعزهم، لقد رأيته وسنه خمسة عشر عاماً، وكان صغيراً ومن أول لحظة كابني ولكنهم اختاروه هذه المرة ليقتلوه."[16].
فهذا المقطع يوضح لنا بأن التحمس الشديد من السارد للبطل إنما هو ترجمة (تلبية) لما لمح وصرح به ذلك الرجل السكران الذي طلب منه قائلا: "اذكر كل ما تراه هنا ولا تنسه فأنت الشاهد..شاهدي..لقد كنت أحب هذا الولد أنطونيو..كان ابني الذي لم أخلفه..وكنت أعرف أنه سيموت. إن الكثرة منهم تعيش ولكن الشجاع الحق هو الذي يموت"[17]. إذن، فإن هذه الرواية ما هي إلا تلبية رمزية لرغبة الرجل السكران الذي أحب أنطونيو حد التبني، وهو الحب الذي انتقل إلى سارده، بل انتقل إلى ما لا يقل عن 30 ألف شخص من جمهور الحلبة !. وهنا ندرك ملامح التركيب الوجداني للذوات الذي شهده النص قبل الكارثة، أي أن ذات السارد انصهرت مع شخصية الرجل السكران من جهة، و شخصية أنطونيو من جهة أخرى، دون أن ننسى الاندماج (الانصهار) بين شخصية الرجل السكران وشخصية أنطونيو الذي أحبه بشدة.
نعم، لقد طلب الرجل السكران من السارد أن "يذكر كل ما رآه في الحلبة من المناكر البقرية المرتكبة ضد المظاهر البشرية" وإذن، فلقد طلب منه أن يقوم بانفجار بشري (حضاري/ثقافي) مضاد، وتلكم هي الرسالة التي تسعى رواية "رجال وثيران" إلى تبليغها !. إن لسان حال السارد يقول للرجل السكران: "لبيك أيها الرجل الإنساني المخلص الذي التجأتَ إلى السكر هرباً من هذا الواقع المُستبقََر الذي تسيطر عليه مجموعة من الغرائز المتاجرة بأرواح الرجال من أجل استقطاب السياح وملء الجيوب الجشعة. لبيك أيها الرجل الذي أسكره حبه الشديد لأنطونيو (رمز البشرية/الحضارة/الثقافة) المحكوم عليه بالإعدام (استبقاراً حتى الموت) أمام الغرائز الرأسمالية (الثور) التي لا ترحم. لسوف أذيع هذا الخبر..لسوف أفرد له رواية لا تقل عن 130 صفحة بعنوان "رجال وثيران".
***

الهوامش:

[1] يوسف إدريس: رجال وثيران، الأعمال الكاملة (القصص القصيرة 2) مطابع الشروق.
[2]رجال وثيران، ص12.
[3] رجال وثيران، ص 10.
[4] رجال وثيران، ص 104.
[5] رجال وثيران، ص 25.
[6] رجال وثيران، ص 24.
[7] رجال وثيران، ص 24.
[8] رجال وثيران، ص 24.
[9] رجال وثيران، ص 24.
[10] رجال وثيران، ص 120.
[11] رجال وثيران، ص 122.
[12] رجال وثيران، ص 122.
[13] رجال وثيران، ص 24.
[14] رجال وثيران، ص 113.
[15] رجال وثيران، ص140.
[16] رجال وثيران، ص 142.
[17] رجال وثيران، ص 139.
***

[email protected]



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكمة نيتشه بين الجبل والعقل (1)
- حوار مع الشاعرة لطيفة الشابي
- الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة