أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - الهوية/ الهويات وكتابة التاريخ















المزيد.....



الهوية/ الهويات وكتابة التاريخ


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 4161 - 2013 / 7 / 22 - 17:43
المحور: الادب والفن
    


الهوية/ الهويات وكتابة التاريخ
ماري-أود شاريه
جامعة ليموچ، فرنسا
ترجمة: خليل كلفت
مراجعة: ريشار چاكمون
من محاضرات المؤتمر الدولى "كتابة التاريخ بين الأدب والتارخ"
المنعقد فى جامعة القاهرة 4-6 ديسمبر 2004
بالتعاون بين كلية الآداب بجامعة القاهرة والمركز الفرنسى للثقافة والتعاون

مشاهدة وشهادة
نديم جورسيل و خوان جويتيسولو
فى حرب البوسنة (1991- 1995)

[] إشارات المترجم
() إشارات المؤلف

فى 1862، كتب الأخوان جونكور les Goncourt فى ال جريدة Journal [1]: "التاريخ رواية حدثت؛ الرواية تاريخ كان يمكن أن يحدث". ويقوم نديم جورسيل Nedim Gürsel فى "سَرْد"ه Récit: العودة إلى البلقان Retour dans les Balkans وخوان جويتيسولو Juan Goytisolo فى حالة الحصار Etat de Siège بتجديد هذه الأطروحة للأخوين جونكور. وكانا كلاهما شاهدين على تدمير وحصار سراييڤ-;-و، المدينة الكوزموپوليتانية التى تتشابك فيها الثقافة الشرقية والثقافة الغربية. وقد وجد نديم جورسيل، الكاتب التركى، ملاذه فى پاريس، وهرب خ. جويتيسولو من نظام الچنرال فرانكو ووزع حياته بين پاريس ومراكش؛ هرب الأول من العالم العربى فى حين التحق به الثانى. ويقدم ن. جورسيل تحقيقا صحفيا un reportage ، "استدلالا استعاديًّا" une «rétrodiction» [2]، ويدعو إلى اتباع المسار التاريخى: تاريخ سراييڤ-;-و مندرج فى تاريخ البلقان غير أن هذا التاريخ يتشكل عبر إحالات أدبية من الناحية الجوهرية. ويفضل خ. جويتيسولو القصة fiction ويسائلها: دافعا إياها إلى عتبة المعقول l’intelligible [3]، ويقود إلى التاريخ. وكلاهما يطرحان المسألة الجوهرية التى تمثل موضوع هذا المؤتمر. وهذان العملان، اللذان قد يبدوان فى البداية غريبين، تتمثل نقطة اتصالهما فى مجاز الشاهد témoin. وبالفعل فإن كلا العمليْن يقدمان مسارا un parcours مقلوبا: ن. جورسيل ينطلق من الواقعى réel ليلتقى بالقصة fiction، وينطلق خ. جويتيسولو من القصة ليلتقى بالواقعى.
كيف يجدد هذا الوضع للشاهد التفكير فى كتابة التاريخ؟
والحقيقة أن الوضع السوسيو- خطابى socio-discursive، للمؤلفيْن اللذين يُنَصِّبان نفسيهما شاهديْن ومعلِّميْن، يُحمِّل القارئ حتى دور شاهد، ناقلا على هذا النحو التعرف reconnaissance (على القصة وعلى التاريخ، الاكتشاف anagnoresis [4] بالمعنى الأرسطى) من داخل الكتابة إلى الخارج؛ غير أن هذا الوضع يقوم، بصورة متوازية، بإجبار القارئ على أن يتحمل دورا آخر، هو دور المحقق. وتسمح حالة المحقق هذه بالعثور على بقايا ( آثار) traces للتاريخ فى القصة: سواء جرى التفكير فى هذا التاريخ على أنه فكّ لشفرة ماضٍ وإعادة بنائه، أو جرى التفكير فيه على أنه بناء للمستقبل. وفى الأدب يكون المبدأ هو الاكتشاف anagnoresis، وفى التاريخ يكون ما سماه كارلو چينزبورج Carlo Ginzburg (Ginzburg, 1989) "نموذج القنص" paradigme cynégétique [5]:
غير أن هذا "التحقيق" للتاريخ يمرّ هو ذاته بشخصيات- شهود، تضعف هوياتهم، تاركة لقارئ العالم الفعلى العناية بإعادة هويتهم الشخصية، ومن خلالهم، هوية أمة، وهوية ثقافة، وهوية شعب، وهوية مؤلف. وحيثما أحال التاريخ إلى قراءة جُذيْرية radicelle [6] لهذه الهوية، تطرح عليه القصة قراءة ريزومية rhizomatique [7]. وتُدْخل هذه الأطروحة قراءة التاريخ فى مسار إپيستمولوچى جديد، يجرى تقديمه بصورة غير مباشرة فى العمليْن. وعلى هذا النحو يقوم المؤلفان، واضعين وجها لوجه الحقائق التاريخية والقصة، باستقراء مفارقة: خلق الواقع الفعلى عبر تدميره. وبالتالى يحدث تنقيح نوعى: لا تعود كتابة التاريخ كتابة "بين" التدوين التاريخى historiographie والقصة fiction، أى تذبذبا أو ترددا، بل كتابة تأريخية [منتمية إلى التدوين التاريخي] historiographique وقصصية fictionnelle، تتمثل ديناميته الأساسية فى لعبة تناصية.

هوية/هويات الشهود والتحقيق التاريخى

وإنما بمفهوم العمل الخاص بكل منهما يرتبط أولا الدور السوسيو- خطابى للمؤلفيْن. ومن جهة، يدعو نديم جورسيل إلى قراءة "سَرْد" هو سَرْد رحلاته فى البلقان، ولكن بطريقة استعادية rétrospective، حيث يتعلق الأمر ب "عودة". غير أن هذا الاستدلال الاستعادى rétrodiction الشخصى يجب أيضا فهمه بطريقة مجازية: إنه هذه العودة للذاكرة عبر فعل الكتابة ذاتها. وهو بهذا يُخضع "سرد"ه لنظام صدق تجربته. ومن الجهة الأخرى، يختار خوان جويتيسولو لفظة fiction ["قصة"] وفى الحال يوطد عمله داخل نطاق عدم يقين الحقيقة، إلى الحد الذى يلعب فيه، حتى قبل الصفحات الأولى للرواية، على معايير هذه الحقيقة، من خلال أبيات شعر لويس سيرانودا Luis Ceranuda ("عند كل شاعر تتكلم عدة أصوات./ أصْغُوا إلى جوقتها الهارمونية،/ حيث ذلك [الصوت] الذى نظن أنه السائد/ ليس سوى صوت بين أصوات"،(Goytisolo, 1995) والإهداء "إلى سكان سراييڤ-;-و" و "إلى مثقفيها وكتابها، شرف وضمير أوروپا". وهنا أيضا يوضح جويتيسولو، بطريقة مجازية، أنه إذا كانت قصة "الكاتب" يجرى الهبوط بها إلى صوت "ثانوى"، فإن الحقيقة، الصوت السائد فى الرأى (المعتقد) doxa la، الذى ينظم الواقعى réel وحقيقة هذا الواقعى، لن تفلت من الارتياب، كما يوضح أن القصة، بصورة متبادلة، تكسب فى الواقع. وعلى هذا النحو، يطمس المؤلف معالم الحدود بين histoire [التاريخ] (الحقيقى والفعلى) للعالم الذى عاش فيه وhistoire [القصة] (السرد القصصى). وعلى هذا النحو فإن الكتابة تُنَحِّى مقولات الحقيقى والزائف، والواقعى والقصة، فى سبيل تجاوزها فى سياق البحث عن الحقيقة.
وهذا البحث هو ما يطرحه پيدراج ماتڤ-;-ييڤ-;-تش Pedrag Matvejevitch فى مقدمته لكتاب جورسيل. وهو يحدد مشروع هذا الأخير باعتباره مشروع شهادة على أحداث التاريخ "الراسخة فى ذاكرتنا عن طريق كتب مدرسية ومُثبَّتة فى الأذهان بضربات الهراوات" (Gürsel, 1997: 7)، شهادة تطلق الصوت الفريد ـ والثانوى ـ للكاتب، مُغَطًًّى بضجة ضربات "عالم الخيال l imaginaire [8] الأوروپى وكليشيهاته"(Gürsel: 8) . ويتصور ماتڤ-;-ييڤ-;-تش "مشاهدة نديم جورسيل"، كما يدل عنوان المقدمة، شاهد عيان لتاريخ آخذ فى الحدوث وتجاوزات التاريخ الآخر، وهو التاريخ الذى كُتِبَ بالفعل؛ مشاهدة بدون صنعة وبدون ادعاء: "الكاتب، الذى يلاحظ ويصغى، يُدْرِك أن المعاناة البشرية لا يمكن تلخيصها. وهو لا يحاول أن يلخصها" (Gürsel: 10). كما أن الاضطلاع على هذا النحو بوضع الشاهد يعنى إعلان أن الحقيقة، كما يوضح چيورچيو أجامبين Giorgio agamben، "غير قابلة للاختزال إلى العناصر الواقعية المكونة لها" (Agamben, 2003: 10) بحيث لا يمكن أن تستغنى كتابة التاريخ عن القصة لأن القصة مكون من مكونات كتابة التاريخ.
وبالتالى فإن جويتيسولو مثل جورسيل superstes [شاهدان حقيقيان] لأنهما عاشا شيئا مهمًّا لكنهما أيضا testis [شاهدان كطرف ثالث] (1) إذ إنهما يقدمان نفسهما كطرف ثالث بين طرفيْن: يُهدى جويتيسولو كتابه إلى سكان سراييڤ-;-و، ضحايا الشوڤ-;-ينية القومية عند ميلوسيڤ-;-يتس Milosevic، ويُهدى جورسيل كتابه إلى "الذين يرقدون فى البلقان" وإلى "كل الأصدقاء الذين يعيشون هناك"، إلى الموتى وإلى الأحياء، إلى كل أولئك الذين كانوا ذات يوم ضحايا العنف. غير أنهما فى نفس اللحظة التى يختار فيها كل منهما "طرفه"، يعيدان تركيز اهتمامهما، كما فعل پريمو ليڤ-;-ى Primo Levi قبلهما، على هذه "السلسلة الطويلة من الصلات التى تربط الضحية/ الضحايا بالجلادين". وبقدر كونهما superstes [شاهدين حقيقيين]، يكتبان شهادتهما: ألم يؤكد ن. جورسيل ذاته: "الشهيد وجد مكانا فى سراييڤ-;-و، كنت شاهدا على هذا"(2)؟
وبقدر كونهما testis [شاهدين كطرف ثالث]، فإنهما يدعوان القارئ إلى اتباعهما، كل حسب أسلوب ونبرة مختلفيْن، على طريق التفكير النقدى. وبالتالى فإنما كمعلميْن يقدم هذان المؤلفان فيما بعد نفسيهما: القارئ هو الذى يجب أن يشاهد. ويبقى تحديد معنى هذه المشاهدة.
كذلك يبدأ جويتيسولو قصته بمجموعة ثيمات la thématique الرؤية. وبالفعل تبين "الرؤية الشتوية hivernale"، عنوان الفصل الأول، أن المشاهدة سيكون عليها أن تتحقق فى آن معا بالمعنى الأول ل "ذلك الذى يرى نفسه" وبالمعنى المجازى ل "ذلك الذى يتخيل نفسه" أىْ ما بين شيئيْن: الواقع/ القصة. غير أن الأمر لا يتعلق، على كل حال، بالاختيار ـ والمؤلف لا يسمح لنا بهذا ـ حيث إن هذه الرؤية، لكى تكون كاملة، يجب أن تتحقق بكليتها. وعندئذ نفهم أن مجموعة ثيمات المشاهدة، المنسوجة على طول النص، تكون إما مجموعة ثيمات رؤية لا تتحقق إلا عبر الموشور المشوِّه لقطعة پلاستيك (3)، أو مجموعة ثيمات اختزلها ثقب أو اختزلها الإبهام(4). وهى تركز انتباه القارئ لوهلة أولى على ذلك الذى يشاهِد، ولكن، لوهلة ثانية، وبطريقة تتسم بانقلاب مفاجئ فى الاتجاه، إنما نحو هذا الانفتاح على الخارج يجرى توجيه الانتباه. توجد إذن إستراتيجية بنية داخل بنية une mise en abîme تسمح بوضع القارئ فى وضع ذلك الذى يشاهِد regarde، فى وضع الشاهد témoin. وهذا الوضع يعززه الاستعمال، فى الفصل الأول، للضمير الشخصى il "هو"، ضمير اللاشخص la non personne وفقا ل بينڤ-;-ينيست Benveniste، مما يسمح باللعب على هذا النحو بالابهام النحوى الذى يميزه: il"هو"، إذا كان يعنى فى المحل الأول ذلك الذى يشاهد، بواسطة نظراته، يصير ذلك الخاص بشاهد العيان فى المحل الثانى: القارئ. ومن جهة أخرى، يقوم جويتيسولو بتدريب القارئ بحيث يقلب الوقف العنيف للمشاهدة (5)، فى نهاية الفصل، وضع القارئ- الشاهد فيصير القارئ- الشاهد الذى يسعى إلى أن يرى الجانب الآخر، أن ينظر إلى خارج مجال الكاميرا الذى خلقه الانفجار و ـ لكى يرى من جديد ـ سيكون عليه القيام بإعادة بناء تاريخ العلامات التى تركها. وإذ يصير فعالا، ومشاركا، يتحول الشاهد إلى المحقق، غير أن هذا الوضع الجديد ليس سوى الوجه الآخر لنفس العملة. وإذا كان دور القارئ- الشاهد- المحقق فى حالة الحصار يعلنه المؤلف بوضوح، فإنه يغدو من الأصعب استخلاصه فى العودة إلى البلقان. وبالفعل، توجد فى إنتاج نديم جورسيل علامات مختلفة تسمح بالتوصل إلى هذا الدور نفسه للقارئ. أولا، المخاطبات المباشرة للقارئ تجعل منه المحقق للخطاب الجدالى (6) الذى ينشره المؤلف. وبعد هذا، عندما يعلن كاتب المقدمة أن "جورسيل يأتى إلى هنا لكى يرى، ويسمع، و، فى نهاية المطاف، لكى يشاهد، ليس ليعطى دروسا للضحايا أو للتظاهر بتقمص شخصيتهم" (Gürsel: 10)، يجب أن نفهم أن هدفه يوجد فى موضع آخر وأنه موجَّه إلى قرائه. وأخيرا فإن القارئ، كشاهد لملاحظاته الشخصية حول الصراع البوسنى، وشاهد لفواصله القصصية، وشاهد لسروده التاريخية حول مقدونيا، وشاهد لتاريخه الشخصى الذى يندمج فيه، يجب أن يبحث عن بقايا التربية التى يسعى، بصورة ضمنية، إلى المشاركة فيها. غير أنه هنا أيضا، لكى يكون الدرس مفهوما، يتناوله بطريقة تعليمية تنتج عن الاستقراء. ولكن ألا يعنى هذا، بالفعل، إعادة وضع الشاهد إلى وضع المحقق للفكر.
وعلى كل حال فإذا كان المؤلف يقوم بتنصيب نفسه كمحقق وإذا كان يضع قارئه فى هذا الدور نفسه، فإن هذا يعنى أن كتابة التاريخ تحدث على المستوى المزدوج للكتابة بالمعنى الدقيق والقراءة، الكتابة من الدرجة الثانية. ومن الشاهد إلى المحقق ومن المحقق إلى المؤرخ، لا توجد سوى خطوة، خطوة البحث عن البقايا. وإذا كان يجب على القارئ فى عمل جويتيسولو أن يبحث عن تلك البقايا للتاريخ عبر تلك البقايا للقصة، فإنه فى عمل نديم جورسيل، يجب أيضا أن يُبْدِى النقد تجاه التاريخ ذاته. ولهذا، ينبغى أن يتلاعب القارئ بداخل الكتابة وبخارجها. وفى المحل الأول فإن هذا التعرف هو الذى لا غنى عنه وهو الذى يميز هذا الوجه الآخر للشاهد، أى المحقق.
وبالفعل، يواصل جويتيسولو، فى حالة الحصار، بعيدا عن ترك القارئ لنفسه، مصاحبته خطوة خطوة. وعلى هذا النحو فإنه، ومنذ الفصل الأول "تقرير القائد*(I) " (Goytisolo: 19)، يعزز أيضا عدم التمييز بين القصة والواقع، إذ يعزو إلى كلمة "rapport" ("علاقة") تجميع وإعادة بناء الوقائع التى حدثت للقائد ولكن مضيفا نجمة تحيل إلى ملاحظة توضح أن "مُعِدّ" هذا التقرير ليس "القائد"، كما يجعلنا العنوان نفترض، بل "مُقدِّم ("بكباشى")" un lieutenant-colonel، حلت محل رتبته والحرفيْن الاستهلاليَّيْن من اسمه تلك الخاصة ب "قائد" مجهول، بالتأكيد من أجل طمس معالم المسارات" (Goytisolo: 19). وهذه اللعبة الداخلية فى القصة تبين بوضوح عَقْد القراءة الذى جرى ترسيخه: الواقعى le réel يمكن أن يكون قصصيا fictif ولكن على العكس فإن القصصى (ربما) يمكن أن يكون واقعيا. على أن هذا العقد رمزى لكتابة التاريخ: القارئ، بوصفه المحقق، ومراقب منحدرات التزلج، يجب أن يبحث عبر بقايا التاريخ عن تلك التى تسمح له بأن يقود بنجاح التحقيق القصصى، وبقيامه بهذا يغدو هو مَنْ يصنع التاريخ/ التاريخ l H/histoire. غير أنه عند جويتيسولو، ودائما عن طريق إستراتيچية بنية داخل بنية la mise en abîme، تكون الشخصيتان النموذجيتان للشاهد/ المحقق هى المطهِّر- النبى défécateur-prophète والصحفى، أحدهما يبحث فى الأحداث المعاصرة عن "البراهين الجديدة" (Goytisolo: 19)على صحة نبوءته، والآخر يسير فى اتجاه التيار ويتبع مبدأ "الاستدلال الاستعادى" rétroduction المميز أيضا لعمل المؤرخ. وفى هذا التعرف على وقائع الماضى ـ أو وقائع الحاضر التى ستكون ماضيا أو مستقبلا، حيث لا يكون المستقبل هو نفسه، وفقا لشروح ريكور Ricœur فى الزمن والسرد Temps et Récit، سوى ماضٍ سوف يأتى ـ يمكن التعرف فى آن معا على المبدأ الأدبى المتمثل فى الاكتشاف anagnoresis الأرسطى (Aristote, Poètique: IV et X) أو التعرف فى المسقبل بجانب الكشف، وجانب "نموذج القنص" cynégétique أو "القياس" indiciaire عند كارلو چينزبورج (Ginzburg 1999: 149) أو التعرف على العودة. ويكون القارئ هو أيضا الباحث عن بقايا، فى العودة إلى البلقان، غير أن هذا إنما يبدأ عبر تنظيم السرد ذاته: دروس التاريخ التى تذهب من ساراييڤ-;-و إلى مقدونيا تصل إلى سالونيكا التى تجمع فى حد ذاتها مجموع الصراعات فى البلقان. وبالتالى فإن هذه "العودة" هى بلا جدال عودة إلى التاريخ بغرض أن نتعلم ما علمه إياه كابوسه المتمثل فى "حرب بلقانية ثالثة": منطق الاختلاف والتكرار. ولكن، إنما على وجه الدقة انطلاقا من التكرار يمكن "أن نعرف" الاختلاف أىْ ما ينتمى بصورة خاصة إلى الصراع البوسنى بالمقارنة بالصراع المقدونى غير أنه إنما أيضا بالتعرف على خطة مماثلة يكون بالإمكان أن يتحقق الكابوس المتمثل فى حرب ثالثة.
ومبدأ التعرف هذا، بالاستفادة من الاختلاف والتكرار، واللعب على منهج القياس بالمؤشرات indiciaire للبقايا، مشترك فى آن معا بين كتابة القصة والتدوين التاريخى. غير أنه، بالنسبة لنا، يتمثل رهان هذا المبدأ فى إمكانية التفكير فى كتابة التاريخ متجاوزين النظرية المنطقية للقضايا l apophantique [9] المتضمَّن (المضمَر) فى الانفصال بين التدوين التاريخى والقصة. ولكن قبل التحديد النوعى لهذه الهوية لكتابة التاريخ، ينبغى أولا أن نوضح كيف أن التاريخ والقصة يبنيان، ويفككان، ويعيدان بناء الهويات.

صوت/ أصوات الهوية والتاريخ:
شيزوفرينيا الكتابة أم الترحُّل nomadisme الأدبى؟

وإشكالية الهوية هذه أساسية فى حالة الحصار إلى حد أن الفصلين الأولين: "فرضية حول خ. ج. J. G." و "بن سيدى أبو المكارم" يهتمان باكتشاف وإعادة بناء هويتيْن، يمكن أن تكونا هوية واحدة وحيدة. ونلتقى هنا بطابع ميتاخطابى métadiscursif للاقتباس من سيرنودا ونفس المبدأ المتعلق بالبناء المتماثل للقارئ كما يقترحه جوتيسولو. وبالفعل فإن كل التحقيق المتماثل الذى يجرى تطويره فى القصة ليس ممكنا إلا فى سياق فقدان ضرورى لبناء/ إعادة بناء الهوية. وتُفَرِّق الفرضيتان المرتبطتان بهوية خ. ج. J. G. دروب الحسم غير أنه فى هذه الهوية التى "تشعِّب" bifurque فإن التشعُّب bifurcation على وجه التحديد هو الذى يمثل الهوية. وعلى هذا النحو فإن القائد المسئول عن التحقيق، وهو قرين فى الهوية للقارئ فى القصة، يجد نفسه فى مواجهة هويته الخاصة. غير أنه، عن طريق جهد للتذكر سمح بسدّ "ثغرات" تاريخه الشخصى، ينجح فى إعادة بناء نفسه كفرد. لكن قراءة "كارنيهات خ. ج. J. G." والألم المرتبط بها، هما اللذان يجعلانه يتعرف على نفسه كآخر فى داخله هو نفسه. وفى داخل القصة ذاتها تتوزع القصة الشخصية للقائد: وأثناء تحقيقه بشأن اختفاء جثة بالحرفيْن الأوليْن "خ. ج." J. G.، ينتهى إلى التحقيق بشأن نفسه وهذا التحقيق يقوده إلى العالم الخارجى (ولكن بداخل القصة intrafictionnel) وإلى أجهزته التى كانت أداة لها: "سأكفّ عن أن أكون الشخصية الموجودة فى سرد كتبه شخص آخر" (Goytisolo: 160)، سرد ليس أكثر ولا أقل من التاريخ الذى ينتمى إليه، التاريخ الذى يختلط بالنسبة لنا، نحن القراء، مع القصة. وبصورة موازية فإن "خ. ج." ("J. G.") يمكن أن يكونا الحرفيْن الأوليْن من اسم المؤلف كما أن الوقائع التى تُرْوَى فى العالم الفعلى للقائد تحيل إلى عناصر بيوجرافية للمؤلف. وعلى كل حال، فإن مجموع الفرضيات التى صاغها عمل التحقيق يواجه مختلف شخصيات القصة، هذه الشخصيات التى يبدو أنها ليست إلا تجليات للمؤلف الذى يبنى بنفسه هويته بواسطة القصة. وتستكشف هذه الهوية بطريقة أخلاقية الاحتمالات المختلفة لمواجهة حدث. وعلى هذا النحو فإن الضمير الشخصى "il" ("هو") فى الفصل الأول يدخل فى تفكير حول حالة الجثة المجهولة anonymat، وهذه الهوية التى ترثها الجثث فى زمن الحرب يجرى منحها كهوية للجثث. والحالة المجهولة anonymat لهذه الجثة، التى تحاصرها من كل جانب مختلف الفرضيات، تضع القارئ فى حالة حصار. ومهاجَما على هذا النحو، يبحث بنفسه، إنْ لم يكن عن هويته فعلى الأقل عن غاية مشاركته فى التحقيق. وهذه المشاركة هى ذاتها التى تسمح بفهم النفس كآخر والتصرف "من أجل الكرامة"، كما يبين القائد: "يرغمنى احتياجى إلى المقتضى الأخلاقى على الاشتراك "من أجل الكرامة" (Goytisolo: 160). على أن هذا الانحياز parti pris من جانب القارئ ليس أكثر من انحياز التحقيق الأول غير أنه يتسم بطابع الإنكار. وبالتالى فإنه يغدو قادرا على فهم أن جوهر القصة إنما كان يتمثل فى التلاعب به بهدف أن يعانى بنفسه الحصار ويكون فى النهاية in fine، معنيًّا بالتاريخ.
والمسار عند جورسيل مماثل غير أن من الأسهل تتبعه. أولا لأنه لا يلعب داخل السرد على هويته الخاصة. وثانيا لأن أداءه الخاص بالذاكرة الشخصية مكتوب بِبُعْدٍ نقدى يبرز مختلف "الشروط" conditionnements المرتبطة ببناء شخصيته. ودون أن يرفضها يُنَدِّد بها باعتبارها عناصر مثيرة لكراهية شخصية تتضخم على مستوى جماعى: "كانت الحرب قضية المتعصبين الذين تربوا فى سياق ميثولوچيا عدوانية منذ سنوات" (Gürsel: 35). وهذه الميثولوچيا العدوانية ليست شيئا آخر سوى المحصلة لنفاقٍ وتلفيق: "يغيظنى أن أكتشف اليوم فى رواية سورتيريون Sortirion بعض الحقائق التى حجبها التاريخ الرسمى لبلادى" (Gürsel: 143). وهذا التأكيد مثير بالقدر الذى تمَّحِى به الحدود التى نفترضها بين التدوين التاريخى والقصة. وهذا الضِّيق لدى نديم جورسيل هو أيضا الضِّيق الذى يلقاه القارئ الذى يجرى نقله من مكان إلى آخر دون سفر سوى السفر الذى تقوم به ذاكرة لا تتبع سوى انعطافات مودة حميمة صارت كأنها خارجية بالنسبة إليها. وعبر المطالبة بهوية مترحلة nomade وأدبية، فإن الهويات الخاصة بشعب، بأمة، بثقافة، هى التى تخلق نفسها. والتعبيران "قتل الذاكرة" mémoricide و "قتل المدن" urbicide [10] يشهدان على هذه الهوية التى تستمر تحت الخرائب، تماما كما يروى الهيكل المحروق لمكتبة سراييڤ-;-و على نفسه فقط سيرة المدينة، لأنه "ليس فقط مبنًى مّا تم تدميره، بل الهوية ذاتها لشعب البوسنة المسلم" (Gürsel: 22). على أنه هنا يكمن الخطر، حيث "الثابت الوحيد فى تاريخ البلقان هو حقا الذى لم يندمل مطلقا" (Gürsel:103) أىْ تمزُّق الهوية على مستوى الجماعة.
وبالتالى فإن الشخصيات، المدن، الشعوب، الأمم، تمثل جميعا هوية التمزق هذه المرتبطة بالجذور، فى و عن طريق أنسابها أو فروعها. ويبحث كل فرد عن شرعيته فى أن يكون وهذا البحث، كما يشرح لنا جورسيل وجويتيسولو، هو مصدر الحرب والدمار. أيضا، فى مواجهة هذه المعاينة لإقصاء الآخر، يقترحان بديلا. ويدقق جورسيل موضحا أنه لا يتمثل فى "البحث عن جذوره" إذْ "لماذا ينبغى أن تكون للإنسان جذور مثل شجرة؟ إن له حقا قدمين. إذن، يمكنه أن يرحل إلى حيث يشاء" (Gürsel: 86). وفى مواجهة حياة مستقرة أوضح التاريخ عقباتها، يطالب بهويته التى هى هوية "المجتث الحقيقى من الجذور"، هوية "المترحل nomade الذى يمضى من مدينة إلى مدينة ومن باب إلى باب" والتى تسمح بامتلاك "هذا الإحساس بالاجتثاث من الجذور [....] هذا الإحساس لدى المرء بأنه ليس فى أىّ مكان مع أنه فى الوقت نفسه فى مكان ما" (Gürsel:77)، الإحساس الذى يسمح بعدم رفض الآخر بل يسمح دائما بإحساس المرء بأنه هو الآخر ذاته، بأنه دائما "مجتث من إقليمه" déterritorialisé. وحياة المترحل nomade، وفقا لديلوز Deleuze، "فاصل intermezzo" (Deleuze-Guattari, 1987: 470) وهى بهذا المعنى تطرح خروجا إلى حياة الإنسان المستقر الذى "له علاقة بالأرض بتوسُّط شئ آخر، نظام الملكية..." (Ibid. 473)، وهذا الشئ الآخر هو الذى يمثل مصدر الصراع لأنه يمثل إمكانية لإضفاء شرعية على هويته. غير أن هذه الأطروحة لا تفلت هى ذاتها من الخطر الذى تطرحه حياة الاستقرار لأن هذا "الإحساس بالاجتثاث من الجذور" إنما هو ميراث، ميراث "انتمائه إلى أسرة مرحَّلة من البلقان". كذلك فإن جورسيل، فى الوقت الذى يمتدح فيه بُعْدا جديدا فى طريقة تصوُّر الهوية، لا يفلت هو ذاته من عقبة حياة الاستقرار. وهذه العقبة، يوضحها جويتيسولو أيضا، غير أن عمله فى هذه النقطة يجرى تفكيكه (dé)construite فى نفس اللحظة التى يقول فيها القائد إنه سيتصرف "بكرامة" مسوِّيا "بصورة نهائية حسابه مع عدوه اللدود، أو سيخرج هناك من جلده" (Goytisolo: 161)، وهو يسمح بأن تحل محل فكرة الهوية- الجذور فكرة هوية- ريزومية حيث يكون قتل الآخر وقتل النفس سيان: إنه إلغاء العلاقة بالآخر. وإنما على وجه التحديد عن طريق هذه العلاقة يكون من الممكن تعلُّم الهوية، مع إنقاذ الطابع الفريد لعلاقته، بدون إقصاء الآخر الذى يشكل جزءًا لا يتجزأ من ال "أنا" الذى يبنى نفسه ـ سواء أكان "أنا" أمة، أو شعب، أو شخصية ـ من هذه الهوية التى هى دائما فى حالة صيرورة.
والواقع أن جورسيل وكذلك جويتيسولو يكتبان إلى "n-1" ("ن- 1") (Deleuze- Guattari, 1987: 31) بحيث يأخذان فى اعتبارهما مختلف الأبعاد، ومختلف الهويات، والتاريخ، والقصة، وينسجان نصا ريزوميًّا، أىْ مبنيًّا وفقا لتوجيهات مؤثرة تفضى فيها مسألة الهوية والبعد الأونطولوچى إلى إعادة النظر فى إپيستيمولوچيا التاريخ.
هذه النصوص الريزومية هى كذلك من نواح عديدة ولكن بصورة خاصة لأنها تربط "أىّ نقطة مع أىّ نقطة أخرى، و [لأن] كل سمة من سماتها لا تحيل بالضرورة إلى سمات ذات طبيعة واحدة" (Deleuze- Guattari, 1987: 31)، نقاط راسخة فى الذاكرة الفردية أو الجمعية يبين المؤلفان عناصر قوة العقبة التى تشكلانها، نقاط راسخة فى الأدب أو فى التاريخ. وبالصقل على هذا النحو ل "الفضاء المخدَّد" الذى يمثله كل نوع معرفى، فإنها تعيد رسم إيپيستيمية l épistémé [11] التاريخ أىْ هويته، عن طريق ردّ ذات مبدأ هذه الكتابة إلى "n-1" ("ن- 1"). فالمسألة لا تعود مسألة العثور داخل نطاق الواقعى réel على أنساب وشرعية التاريخ بل بإنقاذ الفرادة التاريخية ـ عن طريق عملية "أقلمة territorialisation – لا أقلمة déterritorialisation - إعادة أقلمة reterritorialisation " (Deleuze- Guattari, 1987) (7) ـ من النص- الريزوم texte- rhizome، وتفعل هذه العملية فعلها عند جويتيسولو عندما لا يعطى هذا الأخير سوى الحروف الأولى لأماكن عامة (8) للحرب. وبالتالى فإن "الفندق H. I." لا يصير مكانا قصصيا إلا بجهد الكتابة (= لا أقلمة déterritorialisation) ولا يصير من جديد فندق هوليداى إنّ l hôtel Holiday Inn إلا بفعل القراءة (= إعادة أقلمةreterritorialisation )، حيث تتوافق الأقلمة territorialisation مع مرجعية العالم الواقعى. والواقعى le réel لا يبنى نفسه إذن إلا لأنه خاضع لنظام للتدمير. غير أن جهد القراءة يكون هو ذاته من نوع النص الريزومى إلى حد أنه يكون خاضعا لاختبار الزمن. والأمر المهم ليس فعل بناء المرجعية بقدر ما هو السرد المرتبط بها. وطابع احتمال الصدق والكذب apophantique المرتبط بكتابة التاريخ مدفوع على هذا النحو عند جويتيسولو إلى البُعْد الأونطولوچى وإذا كان ريكور يقترح مفهوم représentance (Ricœur, 2000: 369) للدلالة على هذه النقطة الخاصة بتمفصل l articclation إپيستيمولوچيا وأنطولوچيا التاريخ، فإنه يسمح لنا أيضا بالاعتقاد بأن الأنطولوچيا يمكن أن تكون معيارا إپيستيمولوچيا للتاريخ. ومن هنا، يمثل اختبار الزمن الذى تخضع له تجربة قراءة القصة مكونا من مكونات كتابة التاريخ. وبالفعل فإن الإحالات التناصية العديدة هى التى ترسم، فى العودة إلى البلقان، "خريطة" (9) لكتابة التاريخ: استشهادات أدبية ذات طابع نبوئى بحكم قراءتها الراهنة، أقوال منقولة عن شهود مباشرين للحرب البلقانية، مجموعات الأساطير التى تقوم عليها المعتقدات التاريخية، والقصص الشخصية التى يمكن أن تكون بمثابة أمثولات على عمليات إضفاء الطابع الميثولوچى والأيديولوچى هذه؛ إن كتابة التاريخ كتابة "مترحِّلة" nomade ليست "فاصلا" intermezzo بالمعنى الذى تتخذ مكانها فيه فى "الفضاء المصقول" المرسوم بالنقاط التى تمثلها هذه الإحالات التناصية المختلفة بل بالمعنى الذى تكون فيه صلتها مع غيرها، مع المتناصات intertextes، نابعة من "خط سيرها الداخلى": إنها تخترع "فضاءً مثقوبا" يجعلها تتصل فى وقت واحد مع هويتها- جذرها identité-racine ـ كتابة التاريخ كما يقترحها ميشيل دو سيرتو Michel de Certeau (Certeau, 1975): الأرشفة، الفهم/ التفسير، التمثيل التاريخى/ الحقيقة ـ والهوية- الريزوم الخاصة بها، كتابة التاريخ، بمزلقها الأنطولوچى، كما تتكشف عن طريق التناص.
هاتان النظرتان اللتان تستندان إلى الصراع البوسنى واللتان تحاولان تفسيره، نظرتان لكاتبين منفيِّيْن، مترحلين nomades رغم أنفهما، كاتبىْ حكايات ومؤلفىْ خرافات يخلقان الواقعى من خلال تفكيكه غير أن سرديْهما يحملان إلينا تفكيرا عميقا حول كتابة التاريخ، حول هويتها، بوساطة تفكير حول هوية لشخصية ما أو حول هويته الخاصة (جورسيل)، هوية لشخصية لا يمكن أن تكون المؤلف ذاته، هوية فى حالة بناء دائم، وحتى من صُنْع التحقيق الذى يجريه القارئ (جويتيسولو). وما يتضح بطريقة غير مباشرة هو أيضا التفكير حول هوية شعب، أمة، مرتبطين بجذور يطالبان بها لإضفاء الشرعية على وجودهما. ويحتوى هذا البُعْد الأنطولوچى فى حد ذاته على مسار جديد لكتابة التاريخ: حيث التفكير فى الكائن أساسى لمشكلة إضفاء الشرعية، إنها، كمحصلة، أساسية لمشكلة الحرب وكتابة التاريخ. وعلى هذا النحو ففى مواجهة استبداد ملكية الأرض، يتبنى مؤلفانا المجتثان من الجذور رؤية ريزومية لهذه الهوية المميزة لكتابتهما للتاريخ. وواقع أن مطالبة القصة تمثل تحديا للصدق لا يُلغى قصدهما قول الحقيقة لأن التاريخ ذاته خاضع لحكم الباطل. وربما كان هذا لأن المنفى والانغماس فى ثقافة مختلفة سمح لهما بتعريف نفسيهما من خلال "عملية إضفاء الطابع الفردى" singularisation هذه التى يتحدث عنها فيليكس جاتارى Félix Guattari ـ لأن تأكيد المرء لهويته، وفقا لريكور "لا يمكن أن تكون له صورة أخرى سوى السرد، لأن تعريف المرء بنفسه يعنى فى نهاية المطاف أن يروى عن نفسه" ـ إلى حد أنهما ينجحان بسرديهما فى أن يتركا لنا بقايا ميتاخطاب métadiscours لكتابة التاريخ تسمح لنا بتجاوز عقبة التذبذب الذى يتمثل منشؤه (!) فى رؤية جُذيْرية للأنواع الأدبية.

إشارات المترجم:

[1] أىْ: جريدة الأخوين جونكور le Journal des Goncourts ـ
[2] rétrodiction استنتاج أوضاع فى الماضى من الملاحظة الراهنة وهو عكس prédiction أىْ: التنبؤ بالمستقبل.
[3] أىْ المدرك بالعقل والفهم والذهن والذكاء فقط وليس بالحواس ويقابل المحسوس.
[4] anagnoresis حدوث أو حلّ الحبكة فى التراچيديا بوجه خاص عندما تكتشف الشخصية الرئيسية هويتها الحقيقية أو الهوية الحقيقية لشخصية أخرى أو تكتشف الطبيعة الحقيقية لموقفها أو وضعها.
[5] النموذج الأصلى لنموذج القنص paradigme cynégétique عند كارلو چينزبورج Carlo Ginzburg هو القناص chasseur الذى يطارد حيوانات الصيد [الطرائد] وهو أول من روى وقصَّ وحكى أما فيما يتعلق بالنموذج الآخر نموذج القياس indiciaire (نموذج القياس، والأرقام، والبيانات، والمؤشرات، والدلائل، والخبرة التقنية، والخبرة الجنائية، والطب، والتحليل النفسى، والفيلولوچيا، واللغويات، والعلوم الطبيعية، والقانون، والسياسة، والعلوم الإنسانية) فإن الأطباء هم الفاعلون الرئيسيون المسئولون عن (والموجهون ل) هذه الميثودولوچيا التفسيرية.
[6] انظر الملاحظة التالية.
[7] الريزوم rhizome وبالتالى الريزومى rhizomatique والجُذَيْر وبالتالى الجذيرى radicelle مفاهيم ذات أصل بيولوچى عند دولوز Deleuze وجاتارى Guattari؛ ولأن الريزوم (أو: الريزومة) نظام بيولوچى بلا مركز يُنَمِّى صلات بين مواقع عن طريق الجذيرات فقد كان ملائما ككناية عن النمط الريزومى [أو المترحل] فى التفكير ونموذجه الأمثل شبكات الإنترنت.
[8] عالم الخيال أو: [الخيالي] l imaginaire يعنى نتاج أو عالم ("دنيا") الخيال أى العالم الخيالى فى مقابل العالم الفعلى أو الواقعى أو الحقيقى le réel إلخ..
[9] apophantique فى المنطق الأرسطى نعت لحكم أو قضية يعنى ما يحتمل الصدق والكذب مشتملا بهذا على السلبى apophatique والإيجابى cataphatique، وكاسم l apophantique يعنى النظرية المنطقية للقضايا.
[10] "قتل المدن" urbicide: إشارة إلى إبادة ثقافة المدن المسلمة وبيئتها على أيدى القوميين الصرب أثناء حرب البوسنة.
[11] إيپيستيمية l épistémé: مجموع المعارف والفلسفات والعلوم والنظرات إلى العالم الخاصة بمجموعة اجتماعية أو عصر.

إشارات المؤلف:

(1) للتمييز بين superstes و testis انظر Agamben, 2003, p.17. [يميز چيورچيو أجامبن بين مصطلح superstes وهو الشاهد الحقيقى الذى عاش حدثا من البداية إلى النهاية فصار شاهدها وهو الناجى من الحدث وبين مصطلح testis وهو الشاهد كطرف ثالث مثل الشاهد فى محكمة-المترجم].
(2) Gürsel (Nedim), op. cit., p.44.
(3) "عَبْر الثقب المفتوح فى پلاستيك النافذة [....] كان المسافر يراقب...." (p. 13)؛ "الپلاستيك نصف الشفاف الممتدّ على الزجاج عزله عن العالم الخارجى. اقترب واكتشف الثقب. وعندما ألصق به عينه، استطاع أن يرى كل الفضاء [الخارجى]" (p. 14)، إلخ.
(4) "الضوء المرتعش لشمعات وأحزمة مصابيح الجيب استدعى تشرُّد وضلال الأرواح بالكاد" (p. 13)؛ "كان يوجد ثقب فى الجدار" (p. 20)، إلخ.
(5) "وفجأة، حدث الانفجار" (p. 18). هذه العبارة هى الأخيرة فى الفصل وتشكل وحدها فقرة. ويحملنا طولها على الاعتقاد أن لها أكثر من مجرد دور فى الاقتصاد السردى، وأنه ينبغى بالتالى أن نرى فيها، قبل كل شئ ، لَعِبًا على شفرات الرواية البوليسية.
(6) "لأنه ينبغى بالتالى أن نعرف أن الظلم الذى جرى ارتكابه تجاه المسلمين فى البوسنة وقيام القوميين الصرب بإبادتهم يشجعان على الأصولية الدينية" (p. 39).
(7) "وظيفة اللا أقلمة déterritorialisation: D هى الحركة التى عن طريقها يغادر ‘شخص ما‘ الإقليم. إنها عملية هروب. [....] وأىّ شئ يمكن أن يقوم بوظيفة إعادة الأقلمة reterritorialisation، أىْ ‘يعوض عن‘ الإقليم المفقود؛ ويمكن بالفعل أن نعيد أقلمة أنفسنا على كائن، أو على شئ، أو على كتاب، أو على جهاز، أو على نظام..." (p. 634). ولا حاجة إلى القول إنه ينبغى تغيير وجهة هذا المفهوم على مستوى الكتابة ذاتها التى تشكل بالفعل نوعا من اللا أقلمة.
(8) "أماكن عامة" بالمعنى المزدوج ل "الأماكن الواقعية الفعلية réels، الموتيفات المتكررة لتمثيل حرب البوسنة" وبالتالى ك "موضوعات معتادة" topoi لكتابة التدوين التاريخى والكتابة القصصية.
(9) أستعير من دولوز Deleuze و جاتارى Guattari العبارات الموضوعة بين علامات تنصيص وهى واردة فى عملهما: « traité de nomadologie » dans Mille Plateaux.

ببليوجرافيا

Œuvres étudiées

GOYTISOLO (Juan), Etat de Siège, Paris, Fayard, 1999. Trad. de l’espagnol par Schulman, A., El Sitio de los sitios, Madrid, Alfaguara, 1995.
GÜ-;-RSEL (Nedim), Retour dans les Balkans, Ottignies, Quorum, « Le point du jour », 1997. Trad. du turc par Türkkan, Z.

Œuvres critiques.


AGAMBEN (Giorgio), Ce qui reste d’Auschwitz. L’archive et le témoin. Homo Sacer III, [1998] Paris, Payot & Rivage Poche, « Petite bibliothèque », 1999, trad. de l’italien par Pierre Alferi.
ARISTOTE, La poétique, trad. Dupont-Roc, R., et Lallot, J., Paris, Le Seuil, 1980.
CERTEAU (Michel de), L’écriture de l’histoire, Paris, Gallimard, « Bibliothèque des histoires », 1975.
DELEUZE (Gilles) et GUATTARI (Félix), Capitalisme et schizophrénie II. Mille Plateaux, Ed. de Minuit, « Critique », 1980.
GINZBURG (Carlo), « Traces » (1979) in Mythes, Emblèmes, Traces. Morphologie et histoire (1986), Paris, Flammarion, 1989.
RICŒUR (Paul), La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris, Le Seuil, « Points essais », 2000.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة الدستور أولا
- الصحف الپاريسية
- مصير الثورة يرتبط بمسارها الفعلى
- لا شيء على الإطلاق
- عرض موجز لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- حديث عن الأوضاع قبل إسقاط مرسى
- ما بعد مرسى بين إسقاط الحكم الإخوانى السلفى وإسقاط النظام
- لا تتركوا الميادين!
- الجريمة النظرية ضد تقسيم البشر إلى فئتيْن
- خطاب مرسى إعلان للحرب الأهلية
- الشارع (1) قصة: روبرت فالزر
- أسطورة الأمن القومى المصرى
- حديث مع الأستاذة راندا إسماعيل عن ترجماتى
- عصبىّ قصة: روبرت فالزر
- سادة وعمال قصة: روبرت فالزر
- هكذا! ظَبَطْتُك قصة: روبرت فالزر
- البنطلونات قصة: روبرت فالزر
- الشعراء قصة: روبرت فالزر
- الآن .... أو فى المشمش!
- رحلة فى منطاد قصة: روبرت فالزر


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - الهوية/ الهويات وكتابة التاريخ