أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عُقبة فالح طه - جينيالوجيا المثقف العربي وعلاقته بالسلطة















المزيد.....



جينيالوجيا المثقف العربي وعلاقته بالسلطة


عُقبة فالح طه

الحوار المتمدن-العدد: 3955 - 2012 / 12 / 28 - 00:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جينيولوجيا المثقف العربي وعلاقته بالسلطة
بحث غير منشور - كتبه: عقبة فالح طه

مقدمة

شهد المجتمع العربي منذ حقبة ما قبل ظهور الإسلام، وحتى اللحظة الراهنة، وكغيره من المجتمعات علاقة جدلية بين المثقف والسلطة، تراوحت ما بين الاحتواء أو التضاد، واتخذت أشكالا متعددة حكمتها نوعية النظام الحاكم أو السلطة القائمة حينا، أو انحكمت هذه العلاقة لنوعية هذا المثقف، أو ذاك المجتمع، وقد ظل التساؤل الأول عن ماهية المثقف ماثلا حتى يومنا هذا.
فحيث يرى (غرامشي) أن كل من يعمل في حقل مرتبط بإنتاج المعرفة، أو بنشرها فهو مثقف. وقد أصبحت قضية المثقفين موضوع دراسة لدى غرامشي مثلا في "دفاتر السجن" ، ويحاول ( غرامشي ) تصنيف المثقفين إلـى مثقفين تقليديين كالمعلمين ورجال الدين والإداريين الذي يواصلون أعمالهم من جيل إلى جيل، ومثقفين عضويين مرتبطين بطبقات أو مؤسسات تجارية تستخدمهم لتنظيم المصالح. في حين يرى سارتر أن المثقف هو الملتزم بقضايا أمته وشعبه.
وابتداء من فترة ما قبل الاسلام، فقد كانت قصيدة الشنفرى (لامية العرب) مثلا، قصيدة تؤسس لبداية بتر للعلاقة بين الفرد وإطاره الاجتماعي، بل واتخاذ التفارق والانبتات عن الجماعة مسلكا، كما تمثل حالة اللانصياع للمشروع الاجتماعي القائم .
لقد كانت النزعة الانفصالية لدى الشنفرى ناتجة عن شعور بالغربة تجاه القيم السائدة في المجتمع، حتى صح فيه القول القائل: " أن الشنفرى هو من ألقى بيان المثقف العربي الأول"، وما عنترة بن شداد ببعيد، حيث أخذ ينظم الشعر الذي زعمت عبس وغيرها من القبائل أن الشعراء أدنى من أن يبدعوا في نظمه، كما أخذ يتدرب على رمي النبال و المبارزة، في وقت لم تعترف فيه قبائل العرب بقدرة العبد إلى على "الحلب والصر"
وأما في صدر الإسلام فقد ظهر المثقف العربي في معركة متجددة، فكان للمعتزلة دور أول في رفض التقليد والاعتماد على العقل، ووصل الأمر بالنظّام إلى رفض الأخذ بالمنقول والمأثور، وإلى الشك بالحديث وآراء المفسرين، وإلى إنكار حجية الإجماع، حتى أنه أنكر أن يكون إعجاز القرآن في نظمه، وأرجعه إلى إخباره عن الغيوب، فيما نشأت الحركة الصوفية في القرن الثالث الهجري على يد البسطامي والحلاج، وقد ظهرت بصيغتها القصوى التي تعتبر الشريعة رمزا لمعنى باطن، أي أن الإسلام بهذا المعنى ليس شريعة بل ديانة قلب.
ومثلما ظهرت في صدر الإسلام القراءة الأيديولوجية للنص الديني والذي يبرر فوزها بالسلطة، حيث تصبح المعرفة سلطة والسلطة معرفة، لتتماهى الحقيقة مع القوة، لكن هذه القراءة تثير قراءات أخرى لذات النص، كما أن الديني والدنيوي يتبادلان المواقع في تفسير النص الديني المؤسس، ولكن على الطرف الآخر هناك تأويلات أخرى للنصوص الدينية تجلت في الصوفية،. حيث تجلت فيها الثنائيات: (الظاهر، الباطن..النص، التأويل..العقل، القلب....) .
وقد تجلت نظرية المحبة الصوفية في أنها لا تغير المفهوم الديني التقليدي للعلاقة بين الله و الإنسان وحسب، وإنما تغير نظرية المعرفة التقليدية القائمة على النقل أو العقل، فالمحبة هي طريق المعرفة، وهذه طريق قائمة على الذوق والاتصال.
فيما يعلن أبو حمزة الخارجي اشتباكه مع بني أمية، وخلفائهم الذين دانت لهم رقاب المسلمين زمنا، معلنا في خطبته الشهيرة:" ثم ولى معاوية بن أبي سفيان، لعين رسول الله وابن لعينه، اتخذ عباد الله خولا، ومال الله دولا،ودينه دغلا، ثم مضى لسبيله فالعنوه لعنة الله، ثم ولى يزيد بن معاوية، يزيد الخمور ويزيد القرود ويزيد الفهود الفاسق في بطنه، المأبون في فرجه..."
ولكن الحقب التاريخية اللاحقة تضمنت مثقفين هللوا للسلطان حتى لو باع مدائنهم، كالشاعر البهاء زهير الذي كان متخصصا في مديح الملك الكامل بائع المدن اسلامية للصليبيينز
ولما جاء عصر النهضة، وكان رفاعة الطهطاوي أحد مبتعثي محمد علي باشا إلى باريس، لعله وزملاءه يساعدون مبتعثهم في بناء الدولة الحديثة التي حلم بتأسيسها في مصر، فقد وقع طهطاوي في حيرة أو (صدمة الحداثة) كما يراها أدونيس، ما دفعه إلى محاولة التوفيق بين المدنية الفرنسية والدين الإسلامي، فراح يبحث عن حداثة تساعد في توطين المدنية الغربية شرط عدم تعارضها مع الدين، ولكن أية توافق، وهو يقول في "تخليص الإبريز " : ومن عقائدهم الشنيعة- يعني الفرنسيين- قولهم: أن عقول حكمائهم وطبائعهم أعظم من عقول الأنبياء، وأذكى منهم".
في حين واجه طه حسين سلطة الجامعة وسلطة الدين الأزهري حين ألف كتابه " في الشعر الجاهلي" ، إلا أنه عاد وخضع (لثقافة السلطة) بعد أن اعتذر للمحكمة عما بدر منه، وأعاد طباعة كتابه باسم " في الأدب الجاهلي" مع إجراء تحويرات عليه، حيث يتهمه الرافعي في كتابه " تحت راية القرآن" بأن طه حسين استعمل أساليب الزنادقة والمستشرقين في كتاباته وأساليبه، مستشهدا بمحاضر محاكمة طه حسين، بأن ما جاء به من شك ديكارتي هو إلحاد وزندقة وهدم للأديان.
وفي ظل الاستعمار الحديث، لم يكن اشتباك المثقف مع السلطة أقل ضراوة، فها هي إيلا شوحط وهي المثقفة العربية اليهودية، تفضح عورة الاستعمار الذي يضع العربي نقيضا لليهودي في إعادة للتموضعات، أو قل هي تموضعات جديدة، في تحدّ للعواقب المدمرة الواقعة على اليهود العرب جراء ثنائية الشرق والغرب في طبعتها الصهيونية الاستشراقية.
وفي حقبة ما بعد الاستعمار كان عزمي بشارة أحد أبرز المثقفين المشتبكين مع السلطة، سلطة الاحتلال والدولة التي هي ضد مواطنيها، لكن عزمي بشارة يقف أيضا في وجه الأنظمة القطرية التي لا تدافع إلا عن حقها في السلطة، ولا يقف عزمي بشارة عند هذا الحد، حيث يرى أن التطور التاريخي منذ العام 1967 وما أضيف إليه من عوامل إقليمية، وتدهور المشروع القومي إلى أيديولوجية تبريرية لأنظمة لا تطرح حققيقة إلا مسألة بقائها في السلطة، وتحاول دفع خصوم القومية العربية إلى إنكار وجود قومية عربية.
كان فيصل دراج في كتابه " بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" من أكثر المتسائلين عن الدور البائس لمنظمة التحرير الفلسطينية، كمؤسسة سلطوية عليا لدى الشعب الفلسطيني، وحيث أنها لم تسهم إلى حد بعيد في إذكاء الروح المقاومة لدى الإنسان الفلسطيني، وكيف أن المركب الفلسطيني ظل طليقا، لا يخاف البحر بقدر ما يخاف النقد، ولا يخشى الغرق بقدر ما يخشى القرار الجماعي وانتقاص السلطة، كما أنه يجوز لنا أن نقول أن بعض المقاومة ثقافة وسياسة معا.
فيما يعلن أدونيس موت المثقف في كتابه " فاتحة لنهايات القرن" .
حيث كان أهم ما يشغل أدونيس كمفكر، هو أن يوضح لنا أن أول ما ينبغي أن يعيد النظر فيه هو المفكر العربي، شاعرا أو رساما أو موسيقيا أو فيلسوفا وكاتبا، خلق المفكرون العرب في السنوات العشرين الأخيرة حياة بابلية بامتياز، حيث جعلوا من أجيالنا آلات استذلوها لنير التقليد الغربي، أو لنير التقليد الرجعي، أو لنير الجهالة، ساعدوا سلبا أو إيجابا بالصمت والكلام، على أن يكون الشعب وثرواته وتراثه في خدمة الحاكم ونظامه، وساهموا في جعل الحزب أعلى من الوطن والشعب، والمذهب السياسي أعلى من الحقيقة والإنسان، ... طوال هذه السنوات العشرين كان كل شيء في نظر المفكرين العرب فائقا مدهشا كاملا عظيما، كأن السنوات عتبة حقيقية لتاريخ المآثر، إنهم يريدون أن يجهلوا حتى أيامنا هذه، وهي تمسح جراحها، وتتكردح تحتها.
أولا: حلقة ما قبل الإسلام : سياسات السيف والقلم

إن أقدم ما وصل إلينا من شعر جاهلي، يؤرخ لحياة العرب في مرحلة ما قبل الإسلام، يحيله الجاحظ إلى مائة وخمسين عاما إلى مائتين، ما يعني أننا بصدد مرحلة تعود إلى خمسة عشر إلى ستة عشر قرنا، كانت القبيلة العربية في تلك المرحلة هي مصدر التشريعات، وهي الحاكمة للأفراد والجماعات، فلا فردية للفرد إلى بحدود ولائه للقبيلة وانصياعه لنواميسها، إلا أن

هذا الأمر لم يمنع من وجود علاقة تناحرية بين الفرد والقبيلة، تمثلت في ظاهرة الصعلكة، والتي كان من أبرز ممثليها:" الشنفرى وعروة ابن الورد والسليك بن السليكة وتأبط شرا وغيرهم ممن أعلنوا خروجهم على ثوابت المجتمع العربي آنذاك، واختطوا لأنفسهم مسلكا حياتيا جديدا رسموه بشعرهم وجسدوه بسيوفهم.
إن المهتم بشعر الصعاليك المنظوم في العصر الجاهلي، يمكنه أن يلحظ سمة التنظير الثوري في شعرهم، فرغم أنه يبدو سطحيا إذا ما نظر إليه بعين القرن العشرين المليء بنظريات اجتماعية موغلة في الارتقاء، إلا أنه قياسا على عصره يظهر لنا إعادة موضع للواقع الاجتماعي المعيش من قبل ناظميه، ومنهم عروة بن الورد الذي يمارس التخطي على أنه سلب واستبقاء في آن معا، تماما كما تمارسه كل نظرية ثورية، حيث يقول:
دعيني للغنى أسعى فإني رأيتُ الناسَ شرهم الفقيرُ
وأبعدهُم وأهونهمْ علـيهِ وإنْ أمسى له حسبٌ وفيرُ
حيث يظهر هذان البيتان طرفي التناقض الاجتماعي، وبحث المثقف عن الذات.وهذا الشنفرى أيضا، حين غاظه قومه لأسباب اختلفت عند الرواة، فهجرهم مستبدلا بهم وحوش البر.
أقيموا بني أمّي صدورَ مطيّكم ْ فإني إلى قومٍ سواكمْ لأميلُ
مظهرا اختلافه الكلي عن قومه، ومعلنا بناء مجتمع جديد من الوحوش الذين فضلهم عن قبيلته، حيث يقول:
ولي دونكمْ أهلونَ سِيدُ عملس ٌ وأرقطُ زهلول وعرفاء ُجيألُ
وأنه اختار أصحابا جددا هم: قلبه الجريء، سيفه وقوسه، حيث يقول:
ثلاثة أصحابٍ: فؤادٌ مشيعٌ وأبيضُ إصليطٌ وصفراءُ عَيطلُ
وهذا يؤسس لمغايرة عما عرفته القبائل من انصياع بنيها لنواميسها، حيث يقول دريد بن الصمّة، مفاخرا بأنه لا ينحرف قيد أنملة عما ترسمه له القبيلة:
وما أنا إلا مِنْ غزية إن غَوَتْ غويتُ وإن ترشدْ غزيةُ أرشدُ

ثانيا: حلقة الإسلام: سياسات العرف والمعرفة والعرفان

لقد احتضن القرن السادس الميلادي ظهور الدين الجديد لدى العرب، حيث أفرز الإسلام ظهور معرفة جديدة مصدرها الوحي، وصار القرآن أساسا لا مراء فيه، فبعد وفاة النبي محمد، أخذ بعض المسلمين ينظر إلى خلافة قريش، فيما رأى آخرون أن في هذا عدم مساواة بين المسلمين، فالخلافة يجب أن تكون لمن هو أحق وأجدر، دون فرق بين مولى وسيد. وظهرت الثورات كثورة الخوارج وثورة القرامطة التي كان لها أهمية تحويلية كبرى، فلم تكن ثورة على مادة المعرفة بذاتها، بقدر ما كانت صورة منهجية للموروث الثقافي، ومنهج جديد، في البحث والمعرفة، ويمكن إيجاز مبادئ ثورة القرامطة في ثلاث: العقل قبل النقل،والحقيقة قبل الشريعة، والإبداع قبل الإتباع.
وأما في صدر الإسلام فقد ظهر تيار ثالث للمعرفة، فكان للمعتزلة دور أول في رفض التقليد والاعتماد على العقل، ووصل الأمر بالنظّام إلى رفض الأخذ بالمنقول والمأثور، وإلى الشك بالحديث وآراء المفسرين.
فيما يعرض ابن خلدون في " المقدمة "وتحت عنوان ( في إبطال الفلسفة وفساد منتجها) ما يعتقده بعض عقلاء النوع الإنساني من أن الوجود كله الحسي وما وراء الحسي تدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها، وبالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأنهم وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل سموه المنطق ، صم يستطرد قائلا: واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقا من ذلك.
أما النفري وخصوصا في " المواقف والمخاطبات"، فإنا نصوصه تمثل قطيعة كتابية، بل وقطيعة ثقافية أيضا، إنه نوع من إعادة النظر جذريا بالثقافة العربية، وبخاصة في جوانبها الدينية الفقهية، ومتضمنات هذه الجوانب، إنه يؤسس لعلاقات مع المجهول، سماء وأرضا، تغايرت العلاقات التي يرسيها التفسير الديني- الفقهي، وتبعا لذلك يؤسس للغة أخرى من أجل التواصل مع هذا المجهول، غير اللغة الدينية الفقهية، وقد رفضت التجربة الصوفية كل التبسيط الذي يقوم عليها المناخ الثقافي السائد، والذي يؤمن بوجود حقيقة واحدة لا سواها، فهناك ما لم يقله الشرع ( الغيب، والمجهول،..)، وارتبطت المعرفة الصوفية بالذات العارفة في تجربتها الخاصة خارج النقل والعقل، فالوصول إلى الباطن المغاير للظاهر لا يتم بنقل ولا بعقل بل بوسائل أخرى منها: ( الحدس والقلب والإشراق والرؤيا..).
لقد تجلى المثقف العربي في صدر الإسلام بشخوص كثر، منهم الحسين بن علي، في وجه سلطة معاوية وبنيه، و بابك الخرمي في وجه الخلفاء العباسيين، و حمدان قرمط كذلك وغيرهم.

لقد حاول الطبري أن يحدد الطبري المعرفة بتحديد التأويل ومجالاته، يقول: " تأويل جميع آي القرآن على وجوه ثلاثة:
1- أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، ( الروح، المصير )
2- والوجه الثاني ما خص الله بعلم تأويله نبيه (ص) ، دون سائر أمته، ( وهذا ما يحتاج إليه الناس ، لكن لا سبيل إليه إلا ببيان الرسول).
3- والثالث ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، ولا توصل إلى علم ذلك إلا من قلبهم" .
لقد حاول ابن طفيل في رسالة "حي بن يقظان" أن يلخص التنازع القائم بين أهل العُرف والمعرفة والعرفان في الوصول إلى (الحقيقة): " فتعلق أبسال بطلب العزلة ورجع القول فيهما لما كان من طباعه من دوام الفكرة وملازمة العبرة الغوص على المعاني"...." وتعلق سلامان بملازمة الجماعة ورجع القول لما كان من طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف "....."فكان حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة" .

ثالثا: حلقة النهضة ومراجعة الحداثة: سياسات النمط والارتداد والإعاقة

حين جاء نابليون بحملته إلى مصر عام 1798، أوقعت حملته صدمة في نفوس العرب عموما والمصريين خصوصا صدمة فرضها المستعمر، وألزمهم بالإجابة عنها، حيث فرضت المرحلة أسئلة ملحة، وقد عبر عن هذه الصدمة رفاعة الطهطاوي في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ، ومحمد عبده في كتابه " الإسلام بين العلم والمدنية" وخير الدين التونسي

وطه حسين الأزهري المنشأ وغيرهم، ممن انبهروا بحداثة الغرب، حيث يوجزها فيصل دراج في كتابه " الحداثة المتقهقرة" قائلا: يتمثل إشكال طه حسين الإنسان المتمرد على التقاليد البائسة، في بحثه الصعب والشائك عن شرعية جديدة تواجه حصار شرعية أخرى مستقرة ومتجذر، ويشكل الانتقال من الواحد الساكن إلى المتعدد المتغير قوام منظوره إلى الحياة والمجتمع والتاريخ، فالاختلاف والتنوع كما في كتابه "حديث الأربعاء" ليس شيئا جديدا، وإنما هو شيء عرفه الإنسان منذ تحضر، ومنذ فكر. لكن أكثر ما يثير الجلبة في مشروع طه حسين هو التشكيك في الشعر الجاهلي، في كتابه " في الشعر الجاهلي" ، والذي حور فيه مؤخرا مضطرا وغير اسمه إلى " في الأدب الجاهلي" ، وتضمن آراء تعد في نظر أدونيس خروجا عن الثابت، واقترابا من الإبداع وبعدا عن الإتباع. وما يؤكد الضجة التي أحدثها فكر طه حسين في كتابه هذا هو زخم الردود التي انبرت للرد على طه حسين وكثرة الكتب التي ألفت حوله منها مثلا: "نقد كتاب الشعر الجاهلي"، لمحمد فريد وجدي، وكتاب " نقض كتاب في الشعر الجاهلي "لمحمد الخضر حسين، و " النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد أحمد الغمراوي، و" الشهاب الراصد" لمحمد لطفي جمعة، و" تحت راية القرآن" لمصطفى صادق الرافعي، و كتاب "مقالات في الشعر الجاهلي "ليوسف اليوسف، و" قضايا الشعر الجاهلي" لعلي العتوم، وكتاب "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية " لناصر الدين الأسد و غيرها . لقد حاول طهطاوي التوفيق بين الثنائيات المتضادة، بعد ذهوله بفرنسا فبرزت ثنائيات التراث والتجديد الشرق والغرب، البرلمان والشورى، هم ونحن... ، ولم تكن فكرته عن الدولة بالرغم من مشاهد باريس، فكرة ليبراليي القرن التاسع عشر، بل كانت الفكرة الإسلامية المأثورة، فللحاكم السلطة التنفيذية المطلقة، إلا أن ممارسته إياها يجب أن يحد منها احترامه للشريعة وحراستها. ويعبر طه حسين – حسب إبراهيم غرايبة- عن مشروعه الثقافي في كتبه الشهيرة: الأدب الجاهلي، والدراسات الإسلامية، ومستقبل الثقافة في مصر مقدما ثلاثة وجوه للمشروع الثقافي، اجتماعي ينحو نحو التطور والاكتمال بحرية الفكر وتاريخيته، ومعالجة التراث بالفصل بين قراءة مستظهرة وقراءة فاعلة، والحداثة الاجتماعية. وقد كان من رواد عصر النهضة ممن سبقوا طه حسين في صراعهم مع السلطة من مثقفين عبد الرحمن الكواكبي، حيث أن الكواكبي حاول في كتابه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" أن يعري نظام السلطان العثماني الذي حكم باسم الدين، يفضح فيه فئة من ألئك المتعاظمين باسم الدين والتي تواسي الأمة قائلة للبؤساء: هذا الظلم والاستبداد الذي نزل بكم هو قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا أسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنّا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل" .

فيما يرى سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق" أن الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده، متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملا وحقيقيا من العبودية للبشر، فقد وضع قطب المجتمع الإسلامي نقيضا للمجتمع الجاهلي وهو أي مجتمع آخر لا يكون الحكم فيه لله" إن الحكم إلا لله" ، حتى لو أقرّ هذا المجتمع بوجود الله وهذا من أهم ما قاده للصراع مع الحكم في مصر وقاد إلى تناقضه مع نظام جمال عبد الناصر وبالتالي سجنه وإعدامه.
رابعا: حلقة الاستعمار: سياسة الصداقة والعداء

لقد شهد عصر الاستعمار الحديث وخصوصا في قرنه الأخير(القرن العشرين)، إعادة لتموضعات المستعمر فبمناسبة الذكرى الخمسمائة لمحاكم التفتيش والخروج من الأندلس، لجأ المنظور الصهيوني إلى تفضيل علاقة اليهود ( السفارديم) مع أوروبا المسيحية، على حساب علاقتهم مع الإسلام العربي، وصور خرائط المسيحيين واليهود ذات التمركز الأوروبي بوصفها خرائط الغرب، وتلك الإسلامية بوصفها خرائط الشرق، فتجاهل حقيقة وجود جاليات يهودية مزدهرة متوافقة في معظم أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الإسلاميين،في زمن طرد اليهود بالذات.
كما أن الانشطار الصريح إلى إسرائيل بوصفها الغرب، وفلسطين بوصفها الشرق، يتجاهل بعض التناقضات الأساسية الكامنة في الخطاب الصهيوني ذاته لأن العودة إلى أصول واقعة في الشرق الأوسط هي فكرة مركزية في الصهيونية.
كما ركز ( يهودا شنهاب) في مجلة " قضايا إسرائيلية " على بحث مسألة إنكار وجود فئة الهوية، والسؤال كيف ولماذا تحولت فئة" اليهود-العرب" ( مقابل اليهود الأوروبيين) إلى فئة مستحيلة في إسرائيل، علما أن الصهيونيين الذين وصلوا إلى الأقطار العربية، بهدف تجنيد اليهود الموجودين فيها للهجرة إلى "إسرائيل" ، وجدوا يهودا آخرين، غير اليهود الذين اعتادوا على رؤيتهم في أوروبا، حيث كتبوا هؤلاء المبعوثون إلى باعثيهم: " إن نمط حياة اليهود هنا هو نمط حياة عربي، وأن اللغة التي يتحدث بها كل يهودي هنا هي اللغة العربية، وأنه ليس بمقدورنا التمييز هنا بين اليهودي والعربي، وهكذا فإن وجود يهود عرب يمثل تهديدا للمشروع الصهيوني.
وهذا يتماهى مع ما طرحته إيلا شوحت عن دور السلطات الصهيونية في طمس هوية اليهود الشرقيين الحقيقية في مقالتها في "الكرمل" في العدد الثاني والخمسين منها.

لقد كان (أمنون راز- كركوتسكين) واحدا من من المثقفين اليهود الشرقيين الذين شكلوا سلطة ثقافية في وجه الثقافة السلطوية الصهيونية، حيث يوضح ( أمنون راز) أنه بدا للجميع أن يهود الشرق أصحاب ماض عظيم، لكنه ماض ورثته يهود أوروبا بالذات، وليس أبناء الشرق الذين بدت ثقافتهم بدائية وبحاجة لإصلاح، في إطار كتابة تاريخ اليهود، لم تحصل هذه التجرية التاريخية على أي مساحة أو قيمة، وبدت كما الشرق بأكمله حضورا يقع خارج التاريخ، حيث بلور الباحثون صورة اليهودية كجزء من الغرب، مبعدين أي بعد بد أنه إسلامي، وعليه فهو تعبير عن عمل أجنبي.
وعليه فإن ( إيلا شوحت) ترى وجود هيمنة أوروبية واضحة في إسرائيل، حيث جاءت هذه الهيمنة نتيجة أقلية عددية واضحة ، أقلية من مصلحتها أن تقلل السمة" الشرقية" لإسرائيل وانتسابها إلى العالم الثالث.
فيما يتساءل ( أمنون راز) أيضا في العدد الحادي والخمسين من مجلة " الكرمل" عن صعوبات تعريف الصهيونية كقومية، حيث من الصعب خلق وعي قومي لدى مجموعات قدمت من أماكن مختلفة ومن ظروف مغايرة، فمصطلح المنفى اليهودي من الناحية التاريخية يشير إلى إلى حقيقة أن اليهود وجدوا في ظل ثقافات مختلفة.
لقد كان سؤال المثقف العربي اليهودي في هذه الحقبة، والذي أجمعت عليه قراءات ( إيلا شوحت، وأمنون راز، وطلال أسد، وجيل النجار وغيرهم من يهود مشارقة)، تساءلوا عن هدف تغييب الصهيونية للهوية العربية لليهود الشرقيين، وتهميش مناهج التعليم في " إسرائيل" لتاريخ وثقافة اليهودي العربي، في سعي واضح لإظهار اليهودي والغربي – الأوروبي وكأنهما رديفان لبعضهما، كما ظهر تساؤلا آخر حول إمكانية اعتبار اليهودية قومية ؟ وهل يصلح الدين كقاعدة قومية؟
أما طلال أسد فيضيف تساؤلات أخرى تمحورت حول تفسير مثقفي الاستعمار أمثال (برنار لويس) حول العمليات الانتحارية، حيث يشير أسد إلى أدب غزير في تفسير دوافع الانتحار الذي يقدم عليه الشباب، فيرى أن التفسيرات تنوعت بين التبرير الديني أو التفسير السيكولوجي أو التفسيرات الاقتصادية المتعلقة بالفقر والأمية وغيرها من العناصر المشابهة. ويجادل في التفسير الذي يقدمه (برنارد لويس) الذي ذهب إلى تفسير العمليات الانتحارية على أنها حصيلة الفشل في عملية التحديث في العالمين العربي والإسلامي، مفندا هذا التفسير بأمثلة مستقاة من عمليات انتحارية جرى تنفيذها في بلدان متقدمة مثل اليابان والولايات المتحدة نفسها. لا ينكر طلال أسد أن تكون الدوافع هي مزيج من الإيمان الفعلي بالقضية التي يتوجه الانتحاري لقتل نفسه من أجلها، بصرف النظر عن صحة الدافع أو لا، ومن الإحباط والعجز عن التغلب على الخصم الذي قد يكون دافعا أساسيا للانتحار، ويعطي مثلا على ذلك العمليات الانتحارية التي ينفذها فلسطينيون ضد المدنيين الإسرائيليين، والتي تشكل ردا على العنف الإسرائيلي غير المحدود، وعلى رفض إسرائيل إعطاء الفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم،يذكّر الكاتب بأن العمليات الانتحارية ليست حديثة العهد أو مرتبطة بالتطرف

الأصولي الحديث، بل تعود إلى زمن سحيق من تاريخ الشعوب منذ عملية شمشون الذي يرى عمله تجسيدا للانتحار، أما في العصر الحديث، فإن اليابانيين المعروفين بـ (الكاميكاز) نفذوا عمليات انتحارية ضد الجيش الأميركي في الحرب العالمية الثانية، ويرى أنها ناجمة عن إستراتيجية يائسة تم ابتداعها نهاية الحرب العالمية الثانية ردا على التفوق العسكري للأميركيين، ومحاولة لتقويض الروح المعنوية للجيش الأميركي. أما (جيل النجار) فيفضح الصهيونية السياسية باعتبارها اسما ثانيا لبداية السامية ونهايتها والتي تعني أن العرب خارج اليهود وأن اليهود خارج أوروبا

خامسا : حلقة ما بعد الاستعمار: سياسات تكريس الاستعمار وتفكيكه

يمثل المفكر العربي عزمي بشارة حالة للتناقض مع السلطة، سلطة الاحتلال، فهو حسب مثقفي (بيندا) في حال تضاد مع الوضع القائم، وبشكل شبه دائم، ويفرض نفسه حسب (بيندا) بشكل دائم، وقد مثل عزمي بشارة حالة لتجربة صارمة مع عدوه مثل بيندا ودرايفوس اللذين مثلا تجارب صارمة للمثقفين الذين اختاروا التعبير عن آرائهم بشجاعة أمام آلة عسكرية معادية . لقد سبق أن تمّت مقاربة محاكمة بشارة بمحاكمة (درايفوس)، وعلى غرار إميل زولا، فقد أطلق بشارة صرخة "إني أتهم"، حيث ظهر الشعار على لافتات كبيرة حملت صورة بشارة. كان (كاستنر) قد ادعى هو الآخر أنه (درايفوس) الإسرائيلي، واستخدم التعبير نفسه-"إني أتهم"- لكن محاكمته عكست جدلا بين تيارين صهيونيين، أما في قضية (درعي) فقد استُخدم الشعار نفسه في الشريط المتلفز الذي أصدره درعي ضد حكاية المؤسسة الصهيونية الحاكمة ذاتها بإسم مجموعتين في المجتمع الإسرائيلي-اليهودي تضررتا منها وهما: الشرقيون والحريديم. في المقابل، فإننا في محاكمة بشارة أمام اتهام أشد لهجة وأكثر تحذيراً،فبشارة يتصدى للروح الجمعية الصهيونية باسم الأقلية الفلسطينية المقصية عن المجتمع الإسرائيلي، وهي روح جماعية معادية للأقلية الفلسطينية، تعرّفها بأنها عدو وتتعامل معها تبعا لذلك،ادعاؤنا المركزي في هذه الدراسة هو أن ما يكمن في لب محاكمة بشارة بصورة جلية هو الشرخ القومي الصهيوني- الفلسطيني، متمثلا بالمواجهة بين الدولة "اليهودية والديمقراطية"كتعريف قانوني- دستوري،وبين شعار "دولة جميع مواطنيها" الذي يمثله عضو الكنيست عزمي بشارة. إن المواجهة بين هاتين المنظومتين الفكريتين تعكس نزاعاً بشأن تقاسم القوه السياسية.

لكن عزمي بشارة يقف أمام الأنظمة القطرية التي لا تدافع إلا عن حقها في السلطة، لا يقف عزمي بشارة عند هذا الحد، إذ يرى أن التطور التاريخي منذ عام 1967 وما أضيف إليه من عوامل إقليمية، وتدهور المشروع القومي إلى أيديولوجية تبريرية لأنظمة لا تطرح إلا مسألة بقائها في السلطة، دفع خصوم القومية العربية إلى إنكار وجود قومية عربية، ثم ضاق الهامش حتى بات كل من يعرف نفسه كعربي في نظرهم قوميا عربيا،وقد أدى انحلال المشاريع القطرية إلى تركيبات سكانية طائفية وعشائرية إلى المطابقة بين العروبة والهوية العربية، فقد بات التشديد على العربية في وجه الطائفية والعشائرية موقفا عروبيا، أن تكون عروبيا يعني في أيامنا أن تتخذ الهوية العربية نقيضا لتسييس الهويات، وهذا يعني وفق مناهضي القومية العربية أن كل عربي عروبي.
أما فيصل دراج في كتابه " بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" فإنه يرى أن الثقافة السلطوية الفلسطينية تكونت في جدل الموضوع – الرمز، الذي يكتسح فيه الرمز الموضوع ويلغيه، وعوضا عن أن يوضح الموضوع الرمز ويوطده، فإن الرمز في الثقافة السلطوية الفلسطينية غطى على المشخصات جميعها، محولا الترميز إلى أيديولوجيا تقليدية لا تعلن الوقائع إلا لتحجبها، وفي جدل الحجب والإعلان عاش المخزن الثقافي الفلسطيني دورته المزدهرة، ملبيا رغبات السلطة، ومبررا مقاصد المثقف، تجلب السلطة المثقف إلى مخزنها الشخصي، الذي هو مخزن الثورة، ويلبي المثقف النداء بالذهاب إلى مخزن الثورة الذي هو ملكية خاصة، لقيادة مأخوذة بالملكية الخاصة .
كما يعمد درّاج إلى تناول مجموعة غير قليلة من المثقفين والأدباء الفلسطينيين بالتحليل، منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمود درويش وسميح القاسم، وإميل حبيبي، وغسان كتفاني، وناجي العلي، وغيرهم، حيث يرى دراج أن إميل حبيبي لا يطرح في تقلباته قضية سياسية، وإنما يطرح أسئلة تمس موضوعة المعرفة، وأخلاقية الكتابة ن حيث تبدو العلاقة بين الموضوعين جائرة، كما أن حبيبي، ففي عالم الاحتلال الذي يقلب الوقائع، يكون على من احتلت أرضه أن يقلب المنطق ليظل على قيد الحياة، وأن يمارس لعبة مؤسية، مرجعها ذاكرة مرهقة، ومتوترة، تدرك الذاكرة أن صاحبها ضحية، وتعي أن مقاومة الاحتلال شرط ملازم للاحتلال ونتيجة له، غير أنها تدركن في شروط الاحتلال المأساوية، أن الضحية لن

تستمر في مقاومة الاحتلال، إلا إذا ارتضت باستمرار شكل الضحية، وتكون الذاكرة في هذه الشروط مراوغة وماكرة وخادعة .
سادسا: موت المثقف: سياسات العودة إلى الأصل

يعاود أدونيس كمثقف إعادة طرح الأسئلة ذاتها، أسئلة المثقف العربي في كل زمان ومكان، هل أعيش في نسيج زماني خالص؟ هل المكان عندي جسر؟ هل هو إصلاح لفظي وحسب، هل الأرض عندي لكي أزرعها وأستمتع بخيراتها وحسب، وليست جزءا حيا من جسدي وبعدا من أبعاده.. هل أنا نموذج المهاجر؟
لكن أهم ما يشغل أدونيس كمفكر، هو أن يوضح لنا أن أول ما ينبغي أن يعيد النظر فيه هو المفكر العربي، شاعرا أو رساما أو موسيقيا أو فيلسوفا وكاتبا، خلق المفكرون العرب في السنوات العشرين الأخيرة حياة بابلية بامتياز، حيث جعلوا من أجيالنا آلات استذلوها لنير التقليد الغربي، أو لنير التقليد الرجعي، أو لنير الجهالة، ساعدوا سلبا أو إيجابا بالصمت والكلام، على أن يكون الشعب وثرواته وتراثه في خدمة الحاكم ونظامه، وساهموا في جعل الحزب أعلى من الوطن والشعب، والمذهب السياسي أعلى من الحقيقة والإنسان، ... طوال هذه السنوات العشرين كان كل شيء في نظر المفكرين العرب فائقا مدهشا كاملا عظيما، كأن السنوات عتبة حقيقية لتاريخ المآثر، إنهم يريدون أن يجهلوا حتى أيامنا هذه، وهي تمسح جراحها، وتتكردح تحتها.
كما أن (Jennings Jeremy) وزميلها ( Anthony Kemp-Welch ) يريان أيضا أن هناك القليل من المفكرين والمؤرخين الذين يستطيعون تعريف من هو المثقف وما دوره،حتى عندما تكون لدينا هوائيات حساسة تخبرنا عندما
نتقابل مع شخص سواء هو أو هي من هذا النوع.

خلاصة القول

رغم اختلاف أسئلة المثقف وتنوعها منذ حقبة ما قبل الإسلام وحتى يومنا هذا، إلا أن هناك قاسما مشتركا يجمعها، حيث أن السلطة أيا كانت، تحاول عبر العصور احتواء المثقف، وتقويض سلطته، فسلطة الثقافة ليست أقل من ثقافة السلطة، حسب طبيعة المجتمع الذي انتمى إليه المثقف، وحسب القضية التي أملتها الثقافة القائمة، فبينما تمرد الشنفرى على سلطة القبيلة التي تفوقت عليها الوحوش في أخلاقها من حيث حفظها للسر:
هم الرهط لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جر يخذل

لقد خرج عنترة بن شداد على نواميس القبيلة التي لا تجيز زواج الأسود من الحرائر البيض، ولا تشاركه في حروبها، ولا تثق بقدرته على نظم الشعر، وتنظر إليه نظرة ازدراء، وقد استطاع عنترة ابن شداد أن ينسف نظريات القبيلة التي مثلت سلطة اجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمع العربي آنذاك، بل وجع غيره من الموصوفين بالعبيد يعيدون النظر في واقعهم من جديد، يقول عنترة معتدّا بشجاعته وفروسيته، بل وعفة نفسه أيضا وترفعه عن المهانة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمـــــــــــي
يخبرك من شهد الوقيعة أننــــــــــــــي أغشى الوغى وأعف عند المغنم
فيما جاء سؤال الخوارج، لماذا التمييز بين المسلمين؟ ولماذاحصر الخلافة في قبيلة دون غيرها؟ ومثلهم القرامطة، فيما شكك المثقف الصوفي في الاعتماد على العقل أو النقل للوصول إلى الحقيقة، معتمدا على القلب والذوق والحالة الإشراقية الصوفية بديلا للعرف والمعرفة العقلية والنقلية.
وجاء تساؤل الطهطاوي: كيف بنا أن نصلح دنيانا دون أن نفسد ديننا؟ وتساءل طه حسين عن مستقبل الثقافة في مصر في كتابه الذي حمل هذا الاسم " مستقبل الثقافة في مصر" ، فيما حاول المثقفون من اليهود العرب: ( جيل أنيجار، وطلال أسد و إيلا شوحت تفنيد دعاوى الصهيونية بأنها حركة لكل اليهود، وإثبات أن "إسرائيل" دولة قامت لتثنع شعبا فإذا بها تصنع شعبين، وأن المواطنين فيها درجات، أما العمليات الانتحارية فليست صنيعة الثقافة الإسلامية كما يحلو للمستشرق (برنار لويس) أن يصورها، كما أنها ليست ناجمة عن التردي الاقتصادي، أو التخلف الحداثي، فقد وقعت عمليات انتحارية في أكثر البلدان حداثة كاليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
فيما أبرز إدوارد سعيد في كتابه " الآلهة التي تفشل دائما" صور المثقف كما عرضها (غرامشي) في كتابه " دفاتر السجن" ، وتمحورت أسئلة فيصل دراج عن الدور الذي الذي اطلعت به منظمة التحرير الفلسطينية تجاه المثقفين، معتبرا أنها أصبحت مخزنا للمثقفين الذين تماهوا معها رغم بؤسها، حيث تجلت أطروحات دراج هذه في كتابه " بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" ، وتساءل عزمي بشارة في كتابه " أن تكون عروبيا في أيامنا" عن معنى القومية العربية وكيف حاربتها الأنظمة القطرية لأنها تهدد الكرسي التي لا تؤمن تلك الأنظمة إلا بها، وكيف أن هذه السلطات القطرية بذلت الغالي والنفيس لتشكيك القوى القومية في القومية . فيما عمد أسعد غانم ومهند مصطفى في كتابهما " الفلسطينيون في إسرائيل: سياسات الأقلية الأصلية في الدولة الإثنية" إلى تعرية خطاب الاندماج " الإسرائيلي" الذي يهدف إلى محاولة احتواء الفلسطينيين في الداخل، ولا يشمل أية مساواة جماعية لهم مع اليهود، ويرفض الاعتراف بالأقلية العربية كأقلية قومية، ويصر على معاملتهم كطوائف متفرقة.

المراجع:

1) ابن خلدون، عبد الرحمن. المقدمة. بيروت: دار القلم، 1981.
2) أدونيس( علي أحمد سعيد). الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والإتباع عند العرب. بيروت: دار العودة، 1979، ط2.
3) أدونيس( علي أجمد سعيد). الصوفية و السوريالية. بيروت: دار الساقي( د.ت)، ط3.
4) أدونيس( علي أحمد سعيد). فاتحة لنهايات القرن. بيروت: دار الآداب، 1980.
5) أسد، طلال. عن التفجيرات الانتحارية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2008.
6) بشارة: عزمي. أن تكون عروبيا في أيامنا. رام الله: مواطن- المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2009.
7) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر. البيان والتبيين. ج2، بيروت: دار الكتب العلمية. (د.ت.).
8) جامعة بير زيت: دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية. الفكر العربي الحديث والمعاصر 332. 1996.
9) جامعة بير زيت: دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية. الدراسات الثقافية 231. 1987 .
10) حوراني ألبرت. الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939). (ترجمة كريم عزقول). بيروت: دار النهار، 1968.
11) دراج، فيصل. بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية. بيروت: دار الآداب، 1996.
12) دراج، فيصل. الحداثة المتقهقرة: طه حسين وأدونيس. رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية – مواطن، 2005، ط1.
13) الرافعي. مصطفى صادق. تحت راية القرآن. بيروت: المكتبة العصرية، 2002.
14) سعيد، إدوارد. الآلهة التي تفشل دائما. (ترجمة حسام خضور)، بيروت: التكوين للطباعة والنشر، 2003.
15) سعيد، إدوارد. صور المثقف. (ترجمة غسان غصن)، 1993 .
16) الشنفرى. لامية العرب. بيروت: مكتبة الحياة، 1985.
17) شنهاب، يهودا. " اليهود- العرب: حول سيرة الإنكار، وإنكار السيرة وما بينهما" . قضايا إسرائيلية، عدد 27، تشرين ثانٍ/2007.
18) شوحت، إيلا. " كولومبوس، فلسطين، واليهود العرب: نحو مقاربة علائقية لهوية المجموعة" الكرمل، عدد 52،1997 ،ص 39.
19) ) شوحت، إيلا. " اليهود الشرقيون في إسرائيل : الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها اليهود" . مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد 36، خريف 1998.
20) الطهطاوي، رفاعة رافع. تخليص الإبريز في تلخيص باريز. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.
21) غانم، أسعد ومهند مصطفى. في إسرائيل: سياسات الأقلية الأصلية في الدولة الإثنية. رام الله: مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2009.
22) الفاخوري، حنا. تاريخ الأدب العربي. بيروت: المطبعة البولسية، 1984.
23) 23) كركوتسكين، أمنون راز. " الاستشراق، علوم اليهودية والمجتمع الإسرائيلي". الكرمل ، عدد58، شتاء1999 .
24) كركوتسكين، أمنون راز. " متدينون وعلمانيون في إسرائيل: الصهيونية، الثيولوجيا وازدواجية القومية". الكرمل ، عدد51، ربيع 1997، ص 208.
25) الكواكبي، عبد الرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. حلب: دار الشرق العربي ، 1957.
26)نمر، سلطاني وأريج صباغ-خوري. مقاومة الهيمنة: محاكمة عزمي بشارة . حيفا: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية،(سلسلة دراسات مدى) ، تشرين أول 2003.
27) اليوسف، يوسف. مقالات في الشعر الجاهلي. رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية ( سلسلة كتاب القراءة للجميع 6)، 2001.
وكذلك موقع صفحات سورية بتاريخ12/10/ 2008
http://www.alsafahat.net/blog/?p=5896
1) Look: Semites: Race, Religion, Literature (2008)The Jew, the Arab: An Interview with Gil Anidjar : http://lib-server.birzeit.edu/scripts/minysa.dll/4490/1/0?SEARCH.
http://mada-research.org/?LanguageId
1) Jennings, Jeremy & Anthony Kemp-Welch(eds.),”Intellectuals in Politics: from the Dreyfus Affair to Salman Rushdie “ ,Routledge:LONDON,1997,(271).



#عُقبة_فالح_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وحدة وحدة وطنية ..إسلام ومسيحيّة: -شعار مشبوه-


المزيد.....




- ترامب يفشل في إيداع سند كفالة بـ464 مليون دولار في قضية تضخي ...
- سوريا: هجوم إسرائيلي جوي على نقاط عسكرية بريف دمشق
- الجيش الأميركي يعلن تدمير صواريخ ومسيرات تابعة للحوثيين
- مسلسل يثير غضب الشارع الكويتي.. وبيان رسمي من وزارة الإعلام ...
- جميع الإصابات -مباشرة-..-حزب الله- اللبناني ينشر ملخص عمليات ...
- أحمد الطيبي: حياة الأسير مروان البرغوثي في خطر..(فيديو)
- -بوليتيكو-: شي جين بينغ سيقوم بأول زيارة له لفرنسا بعد -كوفي ...
- كيم جونغ أون يشرف بشكل شخصي على تدريب رماية باستخدام منصات ص ...
- دمشق: دفاعاتنا الجوية تصدت لعدوان إسرائيلي استهدف ريف دمشق
- هبوط اضطراري لطائرة مسيرة أمريكية في بولندا بعد فقدان الاتصا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عُقبة فالح طه - جينيالوجيا المثقف العربي وعلاقته بالسلطة