أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس عمر محمد - خريف الدمى















المزيد.....

خريف الدمى


قيس عمر محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3940 - 2012 / 12 / 13 - 22:35
المحور: الادب والفن
    



وحده الذي يدرك ان المدينة تكبر مثل القمامة دون مساعدة من احد. وان الفراغ وحده الذي يستطيع ان يبتلع عجزه المجنون، دون ان يرتبك... ودون ان يوقظ مساء الأخير.
كلما دخل غرفة المعتمة يسقط بصره المتعب عليها، فيجد جيشا من الغبار يستقر فوقها بينما صوته الشبق يستفز عيني تلك الدمية التي كانت ما تزال تحدق في خوفه المتزايد. عندما يغلق باب الغرفة يشعر انها توزع رائحتها بالتساوي في أرجاء الفراغ السابح في ضوء الغرفة الذي يزخر ببريق مظلم. يعكس الضوء المنبعث من عينيها الحادتين، فيرنو الى الموت والطمأنينة وطول المسيرة التي تمد عنقها نحو الأفول بقسوة.
عندما ينظر اليها يحس انه يهبط بسلم طويل ويقف أمام باب خشبي عتيق رسم عليه ذراعين موشومتين بصقيع قارص... تتوضح الرؤية أكثر فيراها جالسة وقد تورد خداها وهي تهمس له: تقدم ولا تخف... يلمس يديها الاسفنجيتين المكسوتين بصوف ناعم فيشعر أنها ليست دمية بل شخصا يعرفه، وعندما يحاول التذكر يلفه الدوار فيقفل راجعا ويغلق جميع الأبواب ويستلقي على بطنه... ثم ينام، فترقد الظلال من حوله، تستيقظ الدمية وتلوذ بالضوء الساكن لتحدق في ظهره العاري وتبتسم بفرح مضيء يغمر الظلام ويحرر الغرفة من رقادها المتكلس.

***
تتداخل الألوان فينحسر الظلام وتبدأ عيناها بدوران سريع في أرجاء الغرفة. فترقص الغرفة ببريق الحياة. منذ أكثر من سبعة أعوام عاما لم تتحرك من هذا الرف الخشبي. فأحست بان الحياة تدب فيها من جديد فتحرك يديها وساقيها بنشوة. وتحرك رأسها يمينا وشمالا وتنفض الغبار عن جسدها الصوفي. تشعر للوهلة الأولى بان أي حركة تقوم بها هي باهضة الثمن.قفزت بحكة بهلوانية نحو السرير واستقرت عند ساقية العاريتين فوق المسند وبدأت بالتصفيق والغناء. غنت بصوت تغمره الدموع (سأحضر هذه الليلة طفولتي التي لم أرها... وأشتري اوراقا بيضاء وأقلاما ملونة... سأحضر ظلي... واحكي عنك ألاف الأشياء... عن بالوناتك التي لاتطير... وسأرسم وجهي بلون الطفولة المبللة..وأنثر أوراقي تحت المطر... واحكي عنك ألاف الأشياء... وعن الليل الذي تتوحد فيها الجهات دون حياء...) توقفت عن الغناء والتصفيق وأحست ان جسدها الناعم بدأ يضيق بملابسها التي لم تتغير منذ زمن بعيد. وأدركت انه وحيد إلا من ظله المبتل.
قفزت باتجاه الرف الخشبي وجلست في مكانها القديم وأخذت تهز رأسها بحركة نصف دائرية. فتنسحب أشرطة الألوان باتجاه عينيها وتتداخل الأضواء بحركة لولبية. عصية عن الوصف. وتستقر في عينيها الحادتين. فينهمر ظلام كثيف يغمر المكان بسرعة الحرمان عندما يقبل. عندما استيقظ في الصباح وجد نفسه متعبا. نهض من السرير سار نحوها بخطى وئيدة ومثقلة بالهموم. كان يشعر أنه قد كبر لوحده دون مساعدة من أحد، ومد يده ليتحسس ظهره المتحدب فاطرق برأسه نحو الأرض ونظر الى ساقيه المرتجفتين فأيقن ان كل شيء مصيره الشيخوخة. حتى الزمن يتجه نحو الغروب وهو مطمئن... واصل خطاه نحو الرف الذي تجلس فيه الدمية، وقف قبالتها واخذ يفكر فيما جرى ليلة البارحة، فتذكر انه كان منهكا والذي شاهده لم يكن إلا كابوسا مزعجا... لأن الدمى لا تنمو مثل الظلام ولا تشيخ مثل التواريخ...

***
أخذ قلقه يزداد وخوفه يتسع فلم يعد يستطيع ان ينام الأ بعد أرق مقيت يشد أعصابه الذابلة نحوها... عيونه التائهة لم تستطع تحديد حجم الفراغ الذي يربك أحلامه. وسريره لم يحفر رقاده المحموم بنشوة المنتصر. فمجرد النظر الى تلك العينين المشعتين هو احتضار يومي.. في الليل ينهض ويتقرب منها علة يجد فيها شيئا غريبا، في احدى الليالي استيقظ من النوم فوجد الغرفة معبأة بألوان شتى ترقص. وصوت غناء تردد صداه الجدران. نهض من السرير وسار نحوها. امسكها بيديه وتحسسها فوجد جسدها يشع وينبع بدفء غريب. قربها من أذنه فهمست له شيئا عن عجائز اطفأن النور وآثرن الجلوس في ظلام دافئ. ثم سكتت. رفعها باتجاه عينيه وهزها بقوة. لكنها لم تتحرك فألقاها على الأرض بحركة عصبية وسار نحو صندوق حديدي في زاوية الغرفة.. حمل الصندوق ووضعه قرب السرير. فتحه وتناول الدمية ووضعها داخل الصندوق وأغلقه، فغرق الصندوق في برد العتمة.
بعد ذلك استلقى على فراشه وبقي مستيقظا حتى الصباح يفكر فيها منذ متى وهي معه؟ ومن اين جاءت ؟ أسئلة حاول ان يجد أجوبة لها لكنه لم يعرف ماذا يفعل فذلك الدفء الذي ينبعث منها يذكره بفارس ركب حصانه وتاه على سرير النوم وقبل ان يضع أصابعه في كوة الحلم تناثرت أرجاء البيت من حوله واحترقت بصمت مخجل دون ان يشعر بذلك أحد...
أغلق الباب خلفه وأضاء المصباح...اقترب من الصندوق وفتحه ثم أخرجها..كانت مغمضة العينين فحملها ووضعها على الرف الخشبي واخذ يتأملها لاحظ ان جسدها قد كبر وان بطنها قد انتفخ قليلا-فجأة- فتحت عينيها وراحت تحركهما ببطء حولها، مد يده نحو رأسه وشد شعره بقوة ليتأكد انه لا يحلم فشعر بذلك. فراحت تبتسم ببطء، ثم نهضت متكئة على يدها اليمنى واقتربت من نهاية الرف فشعر بان جسده بدأ يرتعش وان العالم كله برؤوس متعددة من الفراغ ويحدق فيه.
تراجع الى الوراء وهو ينظر اليها فأخذت أشرطة الألوان تظهر من جديد وترقص في فراغ الغرفة بفرح وتتداخل الأضواء بحركة محمومة وهي ترنو اليه. فحاول ان يجمع شتات عزلته الطرية دون ان يوقظ مساءه الأخير.

***
عندما استيقظ في الصباح انتبه الى جسدها الذي كبر وملابسها التي بدت ضيقة عليها، وبطنها الذي انتفخ بشكل كبير. كانت تكبر دون ان تحدث صوتا وتوزع نموها عبر الضوء وعبر الرقص المحموم بين أشرطة الألوان وتمد اليه جسور الخوف برهبة عابد وتتركه يضيع امام عينبها فيشعر بنموها يمتد نحوه بسرعة ويضيع له وجها أخر بدل الوجه الضائع دون ان يلاحظ احد ذوبان صراخه. جلس على السرير وأحس انه يسيل تعبا وينفصل عن نفسه ولا يدرك كنه ما يحصل امامه...
انتصف النهار وهو يفكر بحل لهذه الدمية التعيسة. فقرر ان يأخذها الى خارج المنزل ويدسها في التراب، وضعها في كيس اسود وغادر المنزل متوجها الى خارج المدينة... اقترب من العراء وتطلع حوله وبينما هو يراقب المكان، أخذت الدمية تتحرك داخل الكيس وتصدر صوتا يشبه صوت النمل عندما ينوس، فشعر بخوف اكبر وازداد ارتباكه والكيس يتحرك وهو بيده بقوة أكبر... واصل سيره بسرعة وأقدامه ترتطم ببعضها وهو يتطلع حوله بغرابة.
توقف عن السير واخذ يحفر في الأرض، بعد ان القى الكيس على الأرض ازدادت الحركة داخله بعد ان ارتطم بالأرض، فجلس ينحت في الأرض بإصرار، بينما صوتها يشع من داخل الكيس بطيئا.. ومتحشرجا.. عندما انتهى من الحفر اخرجها من الكيس وتطلع اليها وهي تتلوى بين يديه.
وضعها داخل الحفرة وسحب يديه فاستسلمت بدورها له وبدت هادئة ومستكينة وقد نثرت شعرها الأبيض على صدرها المتجعد له فيما يفعله وأثرت ان تغني له (وحدها الكلمات تتكسر في الحلق...والليالي تلحق ببعضها دون جدوى.. وأنت ما زلت تنأى عني) ثم توقفت عن الكلام وأغمضت عينيها باستسلام.
امسك بحفنة من التراب بيده وانحنى بجذعه نحوها وقال لها بصوت هادئ: (الدمية التي تدس الأسئلة في الجيوب ستعود وحيده.. ولن تتكسر الكلمات في حلقها بعد اليوم.. فقد أصبحت وحيدة..اذا كنت تسمعين ذلك). ثم اخذ يهيل عليها التراب حتى سوى الارض وغادر المكان وهو يتلفت حوله، غادر مسرعا الى البيت، ارتقى درجات السلم بخفه وأدار المفتاح في الباب واندس بسلام داخل الغرفة. استعاد أنفاسه المتقطعة وأضاء المصباح..فوجدها امامه تجلس على كرسيه الهزاز. كانت تبدو متعبة وهي تهز نفسها بوقار مؤلم.. وقد كبرت أكثر وتمزقت ملابسها عن جسدها فبدت نصف عارية من الأعلى، جلس قبالتها باستسلام وأخذ ينظر اليها. فمدت يدها تحتها وأخرجت مشطا خشبيا بعد ان أفردت شعرها الأبيض وراحت تمشطه ببطء وهي تهز نفسها والكرسي يرسل صريره العتيق.. فشعر انه امام جدته وهي تمشط شعرها تحت أشعة الشمس وتحكي له عن ذاك الفارس الذي ركب حصانه وتاه على سرير النوم..وعن المدينة التي تكبر مثل القمامة دون مساعدة من أحد..فود لو تحتضنه بذراعيها وتمنى لو تحتضنه بذراعيها وتمنى لو يبكي ويضع وجهه على صدرها المتجعد... نهضت من الكرسي وتقدمت نحوه... نهض هو وسار إليها فتحت له ذراعيها...ألقى بنفسه بين ذراعيها واخذ يبكي بحرقة... فربتت على ظهره بينما كانت الألوان تتداخل بحركة محمومة داخل الغرفة وشعرها الأبيض يتطاير بحركة بطيئة فقالت له يا بني لا تخف فوحدها المراحيض القادرة على احتواء أحلامك فدميتك صارت حصانا آخر يدوس الأرض بحوافره. فتشتعل المسافات تحته فهو دائما يسافر في الليل ويترك خلفه ذكرى قديمة هي ما تبقى منك..
فانتحب بصوت مرتفع وقال : آه يا جدتي...



#قيس_عمر_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس عمر محمد - خريف الدمى