أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - بيار روسيه - اليسار التايلاندي والحزب الشيوعي التايلاندي: السنوات العشر الحاسمة ، 1973 إلى 1982















المزيد.....



اليسار التايلاندي والحزب الشيوعي التايلاندي: السنوات العشر الحاسمة ، 1973 إلى 1982


بيار روسيه

الحوار المتمدن-العدد: 3932 - 2012 / 12 / 5 - 23:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    




بيار روسيه



ُنشر النص التالي، أول ما نٌشر، في العام 1983 بمؤلف مشترك [*] أشرفت عليه لجنة التضامن مع الشعب التايلاندي CSPT، التي كان بيار روسيه أحد أعضائها. أثناء السنوات العشر المعنية، زار بيار روسيه تايلاند مرارا عديدة، والتقى هناك (وكذا بأوربا) مناضلات ومناضلين كُثر من اليسار التايلاندي ومن الحزب الشيوعي التايلاندي. استفاد التحليل التالي من علاقات التضامن التي أسفرت عنها تلك اللقاءات.





محتوى

. 1973-1978: سنوات الأمل

.1979-1982. سنوات الأزمة

.فشل لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية CCPDF .

غياب الديمقراطية في الحزب الشيوعي التايلاندي: عامل أساسي من عوامل الأزمة

.تحليل المجتمع التايلاندي والإستراتيجية الشاملة

.المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي التايلاندي: الفرصة الأخيرة المُضيّعة..

وعود وتحديات

بلد تقاليد

.صعود الشرائح الاجتماعية الجديدة

.التطور في القرى

.إخفاق الحزب الشيوعي التايلاندي

يضم اليسار التايلاندي تيارات عديدة. لكنه كان حتى الآن ممثلا في المقام الأول من قبل الحزب الشيوعي التايلاندي، الأكثر عددا و الأشد انسجاما من كل الأحزاب المنسبة إلى الاشتراكية. مع ذلك يشهد الحزب الشيوعي التايلاندي حاليا أزمة بالغة الخطورة، تضع حتى مستقبله موضع تساؤل. و يجتاز اليسار التايلاندي بمجمله مرحلة عصيبة من إعادة توجيه وإعادة تنظيم. إن المرتكزات الإيديولوجية، ومشاكل التوجه الاستراتيجي، والخيارات التكتيكية، وأشكال التنظيم، وسياسة الجبهة الموحدة، وطبيعة العلاقات بالحركات الاجتماعية والديمقراطية الجماهيرية، وأشكال التحالف والتضامن الدولية، كلها أمور موضوع نقاش وتفكير ، تحت تأثير الأحداث الصادمة.

نشهد اليوم سنوات مفصلية. سيكون اليسار التايلاندي مستقبلا مختلفا جدا عما كان سابقا. لعل هذا هو اليقين الوحيد!

لا ترتسم السمات الأساسية لوجه الاشتراكية والشيوعية الجديد بتايلاند إلا تدريجيا، وعلى نحو غير ثابت للغاية ومن ثمة مانع لكل مجازفة بعرض توقعات مشكوك فيها. و يستدعي تحليل مسار التوجهات الجديدة الجارية السعي لفهم الأسباب العميقة للأزمة الراهنة: أسبابها العميقة و قبل كل شيء حجمها وخطورتها. إن خيبات اليوم بقدر آمال أمس. مع هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية في الهند الصينية (التامة في العام 1975)، وبروز الحركة الشعبية على المشهد السياسي الوطني (سنوات 1973-1976)، شهدت القوى الثورية بتايلاند تطورا سريعا. ولأول مرة، كان الحزب الشيوعي التايلاندي وغيره من الأحزاب اليسارية تبدو قادرة حقا على خوض نضال من أجل الاستيلاء على السلطة. وفي الواقع، وحتئذ، غالبا ما كان قمع شرس يجبر الأحزاب التقدمية على البقاء في وضع هامشي. كان الانتصار آنذاك يلوح في الأفق، وفي تلك اللحظة بالضبط انفجرت أزمة اليسار التايلاندي، وألقت بالقوى الثورية في وضع دفاعي صعب.

يمكن إلى حد بعيد تفسير هذا الانحطاط المباغت للحزب الشيوعي وقوى حرب الغوار، بعد مرحلة صعود سريع، بطريقة رد الحزب الشيوعي على تطور الوضع الإقليمي (تفاقم التناقضات بين أنظمة الصين وفيتنام وكمبوديا)، وعلى الوضع الداخلي (مستلزمات النضال الجديدة). تعرضت الحركة الشيوعية التايلاندية لأزمة قبل تمكن الحكومة والجيش النظامي من توجيه ضربات قاسية لها. لم ُتمن بهزيمة من قوة متفوقة عليها، بل أضعفها فقدُ عدد كبير من حلفائها الإقليميين (الأحزاب والأنظمة بالمنطقة الهند الصينية)، وتطورات الدبلوماسية الصينية (الانفتاح على الغرب). و قد نسفتها انقسامات داخلية عميقة حول كيفية مواصلة النضال الثوري. ومن هنا حجم المراجعات الحالية.

1973-1978: سنوات الأمل

يمثل العام 1973 سنة مفصلية في تاريخ اليسار التايلاندي. بات مأزق الولايات المتحدة الأمريكية بالهند الصينية جليا مع توقيع اتفاقات باريس بشأن فيتنام. وباتت هيبة الولايات المتحدة الأمريكية- الدولة «الحامية»- و سلطتها موضوع طعن على نطاق واسع. وأصبح عبء الوجود الأمريكي في مملكة تايلاند ،المستعملة «حاملة طائرات أرضية» وقاعدة خلفية لاسترخاء الجنود المشاركين في حرب الهند الصينية، أمرا لا يطاق لدى كثيرين. و احتدت التوترات الاجتماعية في البلد، سواء بالمدن (بدءا من بانكوك، وهي مدينة مترامية الأطراف) أو في القرى حيث ساءت أكثر ظروف الفلاحين الفقراء.

في هذا الوضع المحتقن كان اعتقال مناضلين ديمقراطيين (كانوا يطالبون بسن دستور) سببا في تفجير الوضع في تشرين الأول/أكتوبر من العام 1973. نزلت الحركة الطلابية، ثم سواد الشعب بالعاصمة، إلى الشوارع. وبوجه القمع تحولت التظاهرة الضخمة تدريجيا إلى هياج شعبي. اضطر الملك، الذي ظل إلى حد بعيد سلطة معنوية مسلما بها، إلى نفي الطغاة الثلاث آنذاك خارج البلد، أي الجنرالين برابات (Prapat) وثانوم (Thanom )، والعقيد نارونغ (Narong). هكذا أُنزل الضغط الشعبي الهزيمة، لأول مرة بتاريخ تايلاند، بديكتاتورية عسكرية.

ويمكن تقسيم فترة تعزز القوى الثورية السريع، الذي أعقب انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر من العام 1973، إلى ثلاث مراحل:

1973-1974: بدأت الحركة بما هي نضال ضد الدكتاتورية ومن أجل الديمقراطية، واتخذت طابعا اجتماعيا أكثر فأكثر وضوحا. و شارك الطلاب بنشاط في تنظيم النقابات العمالية، وذهبوا إلى القرى لتلقين الفلاحين حقوقهم، و أسهموا في تطوير جمعيات فلاحين، لاسيما بشمال البلد حيث الفيدرالية الجديدة لفلاحي تايلاند منغرسة جيدا. و تضاعف عدد إضرابات العمال و وفود الفلاحين بالعاصمة.

شارك مناضلو الحزب الشيوعي التايلاندي والحزب الاشتراكي فرديا في معارك تشرين الأول/أكتوبر 1973. كما انخرطوا في تنشيط الحركات الشعبية. كانت هيبة الحزب الشيوعي التايلاندي كبيرة، وبوجه أخص لدى الطلاب الذين استحسنوا مثابرته، وتفانيه وإخلاصه للشعب، ولكن معرفتهم به كانت في آخر المطاف سيئة جدا. في الواقع، كان الحزب الشيوعي التايلاندي، بصفته منظمة جماعية، قليل الحضور آنذاك في الكفاحات الكبرى. كانت هذه بوجه عام بقيادة مناضلين ومجموعات (مثل مجموعة النضال من أجل الديمقراطية أو فيدرالية الطلاب المستقلين بتايلاند) قد يتعاطفوا مع الحزب الشيوعي التايلاندي لكنهم بوجه عام ليسوا أعضاء فيه.

ولفترة من الوقت، عمل الملك والحكومة الجديدة والإدارة على ترك الأوضاع تجري على حالها، إذ لا يصلح لشيء مواجهة موجة المد النضالي الصاعد من الأعماق من أجل الديمقراطية السياسية والاجتماعية! وسرعان ما باتت التوترات الطبقية أوضح. و اتسعت حركة الفلاحين و تنظمت بشكل أفضل من أجل تطبيق إصلاحات زراعية قررتها الحكومة تحت ضغط الأحداث.

1975-1976: تلاشى إجماع الواجهة التالي لانتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 1973 تحت التأثير المزدوج للنضالات الاجتماعية بمملكة تايلاند وانتصار القوى الشيوعية بالهند الصينية. خشيت العائلة الملكية تجذر النضالات، ولم تنظر بعين الرضى إلى إلغاء المَلكية في لاووس، البلد المجاور. و بالمقابل كسب الحزب الشيوعي التايلاندي، الذي كان يقود عددا كبيرا من قوى حرب الغوار، مواقع خلفية جديدة (لاسيما في لاووس وكمبوديا).

وفي البلد نفسه، شكل إضراب عمال مقاولة النسيج هارا جينز (من صيف عام 1975 إلى آذار/مارس عام 1976)، رمزا للدينامية النشيطة التي خلقها تحالف العمال والفلاحين و الطلاب الجاري في نضالات محلية عديدة. خاضت عاملات شابات إضرابا، وبالرغم من ضغط العائلات، و احتلن بدعم من الطلاب مصنعهن، وقمن بإعادة تسيير الإنتاج تحت رقابتهن، وأنشأن مكتبة، وفتحن نقاشات سياسية أكثر فأكثر، وأرسلن ملابس تضامنا مع فلاحي مناطق الشمال المعرضين لموجة برد... لم يحدث ذلك قط من قبل في تايلاند!

كان تقاطب ثنائي، سياسي واجتماعي، يترسخ أكثر فأكثر مع صعود توترات جديدة وأشكال عنف جديدة. وفيما كانت النضالات مستمرة، كانت الرجعية تنظم نفسها، و «القوات النظامية» تستعيد المبادرة. و جشعت الإدارة والجيش تكاثر النزاعات الفئوية وسط الحركة الطلابية (لا سميا تأليب تلاميذ التعليم التقني ضد الطلاب). و استأجر مالكو الأراضي مسلحين بقصد اغتيال أطر منظمات الفلاحين، فجرى اغتيال زهاء أربعين من قادة فيدرالية الفلاحين بتايلاند، واحدا تلو الآخر، بل قتل أحدهم أثناء جنازة آخر! و تشكلت حركات يمين متطرف بدعم مباشر من فصائل الجيش والقصر وقطاعات البوليس... منها حركة كراتان دينغ Kratin Daeng (الجاموس البري الأحمر)، وناوابون Nawapon (الكشافة القرويون). و مارست تهديدا دائما على جميع تظاهرات الشوارع (أُلقيت قنابل على المواكب السلمية، و ُهوجمت فرق حراسة الإضرابات...).

تقلصت جدا حرية نضال الحركات التقدمية. كما أسهم خطر انقلاب عسكري في شل قوى اليسار، التي أجبرت على تجميد نشاطها فيما كانت الرجعية تنظم نفسها على نحو أكثر فأكثر عدوانية، أو على المجازفة، في حالة الدعوة إلى التعبئة، للتعرض لاستفزاز دموي زاد من خطورته أن السكان، الذين ملوا العنف المتواصل، انفصلوا عن الطلاب الذين كانوا يحظون بالاحترام والترحيب حتى الأمس القريب.

بعد بضع عمليات اغتيال ومحاولات اغتيال، التحق قادة طلاب وعمال في بانكوك ببؤر حرب الغوار التابعة للحزب الشيوعي، متخوفين من تغير الوضع السياسي ومن التهديدات بالقتل. وهم سيكسان براسيركول Seksan Prasertkul (قائد طلابي ونقابي)، ووينغ Weng (طالب في الطب)، وبردي بونسو Pridi Boonseu وبرازيت شايو Prasit Chayoo (قائدان نقابيان في قطاع النسيج)، ووثيردبوم جايدي Therdpoom Jaidee (قائد نقابي في قطاع الفنادق)، وشيرانام Chiranam (قائدة طلابية، رفيقة سيكسان)... وسرعان ما التحق بهم آلاف المناضلين الآخرين، إذ مذاك كان انقلاب تشرين الأول/أكتوبر في حالة تَكَوُّنٍ.

1976-1978: تشرين الأول/أكتوبر عام 1976. بعد ثلاث سنوات من الانتفاضة الشعبية عام 1973، استولى الجيش على السلطة بانقلاب دموي: هاجمت عناصر من البوليس والجيش، والقوات شبه العسكرية ومليشيات اليمين المتطرف، الطلاب المتجمعين في حرم جامعة ثاماسات Thammassat. واقترفت مجزرة ستهز صورها المتلفزة البلد كله. مئات القتلى، وآلاف الاعتقالات. بعد ذلك سيتم إرساء نظام «متشدد» مناهض للشيوعية، وهو نظام الوزير الأول ثانين Thanin. إنها نهاية آمال تحقيق ثورة ديمقراطية.

لكن ذلك لم يكن نهاية اليسار، إذ التحق آلاف الطلاب بمواقع مناضلي حرب الغوار، تفاديا للاعتقال أو الموت أولا، ثم لمواصلة النضال، تحدوهم رغبة الانتقام لرفاقهم المقتولين بلا دفاع في جامعة ثامسات. كانوا طلابا لكن أيضا عمالا و فلاحين. هكذا ازداد الجيش الشعبي لتحرير تايلاند (APLT) قوة. وفي العام 1978، في أوج قوته، ضم حسب تقديرات الحكومة بين 12000 و14000 جنديا. إنه فعلا رقم كبير.

ليست القوة العددية للحزب الشيوعي التايلاندي والجيش الشعبي لتحرير تايلاند ما تعزز وحسب، بل كذلك التأثير السياسي لقيادة الحزب الشيوعي بفعل الانقلاب. كانت تلك القيادة عاجزة عن توجيه من كانوا فاعلين في الحركات الاحتجاجية الضخمة، لكن بؤر مناضلي حرب الغوار باتت ملاذا وحيدا لمناضلي العمل الشرعي المطاردين. واضطرت أحزاب اليسار الشرعية، هي أيضا، إلى العمل السري والالتحاق ببؤر حرب الغوار: الجبهة الاشتراكية الموحدة (FSU)، وبوجه خاص حزب الاشتراكي التايلاندي (PST).

جرى تكميم الحركة الاجتماعية في المواقع «البيضاء» (التي تسيطر عليها القوات الحكومية) و تفكيكها أحيانا، وضعُفت دوما من جراء مغادرة عدد كبير من الأطر التي يمنعها انكشافها من البقاء رغم القمع. لكن انضمام مناضلين غالبا ما كانوا معروفين ومتحدرين من نضالات العمال أو الفلاحين إلى الحزب الشيوعي التايلاندي، أو إلى الجيش الشعبي لتحرير تايلاند، أو إلى الجبهة الموحدة الجديدة، وانتقال الوسط الطلابي الى صف الثورة، شكلا توسيعا هاما للقاعدة الاجتماعية للحركة الشيوعية بتايلاند.

إن تشكيل لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية (المعروفة في الخارج بالحروف الانجليزية CCPDF) يبين دينامية هكذا تجميع للقوى الاجتماعية والسياسية. نجد بجانب الحزب الشيوعي التايلاندي –تحت قيادته في الواقع - ، ممثلي حزب الاشتراكي التايلاندي (مثل بوونين ووتونغ Boonien Wotong ونوبورن Noporn)، وممثلي الحزب الاشتراكي الموحد FSU (تونغباك Tongpak )، وممثلي الحركة النقابية العمالية (مثل ثيردبوم جايدي Therdpoom Jaidee وبرازيت شايو Prasit Chayoo)، وممثلي فيدرالية الفلاحين بتايلاند. كان رئيس لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية عضوا بالحزب الشيوعي التايلاندي (أودوم سيزووان Udom Sisuwan). لكن سكرتيره كان قائدا طلابيا، ضمن الأكثر شهرة مع سيكسان: وهو ثيريوت بونمي Thirayut Boonmie. ومع نمو قوى حرب الغوار، كان خلق لجنة التنسيق (التي كانت كل مكوناتها تقر بضرورة الكفاح المسلح)، عام 1977، تعبيرا عن قدرة اليسار التايلاندي على التصدي لاستيلاء الجيش العنيف على البلد.

1979-1982. سنوات الأزمة

انقلب الوضع على نحو مفاجئ في سنتي 1979-1980، إذ فقد الحزب الشيوعي التايلاندي الكثير من نقاط ارتكازه الخارجية. وأقدم عدد متزايد من المناضلين على مغادرة مناطق حرب الغوار للعودة إلى المدن. انتقلت المبادرة إلى الجهة الأخرى. وفي سنتي 1981-1982، واصلت أزمة اليسار بتايلاند احتدادها. وبدأت التناقضات التي تقوض جهاز الحزب الشيوعي التايلاندي نفسه تبرز علانية مع انعقاد مؤتمر الحزب الرابع. و على الأرجح غادر أكثر من نصف مناضلي حرب الغوار الأدغال. و تطورت حدة النقاشات السياسية وسط اليسار التايلاندي على نحو غير مسبوق. و بات كل شيء موضع سؤال ونقاش. وببطء أصبحت ترتسم معالم البدائل. ماذا جرى إذا؟

يتمثل السبب الأول، الأكثر جلاء و مباشرة، لارتباك المناضلين الثوريين بتايلاند في انفجار الأزمة بين الصين والهند الصينية. وكان لتصاعد النزاعات السياسية، ثم العسكرية، بين أنظمة فيتنام و كمبوديا والصين، مضاعفات عميقة في تايلاند. ومع تدفق اللاجئين القادمين من بلدان الهند الصينية الثلاث، أثار اندلاع المواجهات العسكرية بين «البلدان الاشتراكية الشقيقة» جملة مسائل إيديولوجية وسياسية. و بفعل التكوين الماوي والموالي للصين للحزب الشيوعي التايلاندي، ومعظم اليسار التايلاندي، وتأييد أوساط اجتماعية عديدة في تايلاند للصين، وحجم التناقضات التاريخية بين فيتنام ومملكة تايلاند، والتدخل العسكري لقوات هانوي في كمبوديا.... أي جملة أسباب عديدة، استشعرت الأغلبية العظمى من مناضلي تايلاند في البداية تضامنا مع الخمير الحمر ضد فيتنام.

لكن توجه قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي، بوجه الأزمة بين الصين والهند الصينية، سرعان ما أثار تساؤلات جسيمة لدى مناضلي حرب الغوار و في الحركة بالمناطق الحضرية. في الواقع، حظي الحزب الشيوعي التايلاندي والجيش الشعبي لتحرير تايلاند، خلال مدة طويلة، بدعم من الصين وفيتنام ولاووس وكمبوديا. و كانت المساعدات المادية الصينية تمر عبر لاووس وفيتنام. و كانت أطر عديدة بالحزب الشيوعي التايلاندي تستقر فترة طويلة بالصين حيث تتلقى تكوينا سياسيا (وكذلك، طبعا، تداريب عسكرية وطبية). وكان آخرون يتجهون إلى فيتنام ويستفيدون فيه من تكوين طبي وعسكري (أفضل أطر الحزب الشيوعي التايلاندي العسكرية كانت على ما يبدو تتخرج من مدارس حرب الغوار في فيتنام ذات التجربة الأكثر راهنية وغنى من مثيلتها بالصين). لكن قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي كانت حريصة على أن يكون التدريب المقدم في هذا البلد الأخير، «تقنيا» محضا، إذ منعت على مناضلي الحزب أي نقاشات سياسية مع الفيتناميين (و على هؤلاء تنظيم دورات تكوين سياسي كما الأمر في الصين).

وبدءا من العام 1975، كان الحزب الشيوعي التايلاندي والجيش الشعبي لتحرير تايلاند يستفيدان من قواعد خلفية هامة، مجاورة للحدود التايلاندية، في مأمن من العمليات الحكومية، خاصة في لاووس و أيضا في كمبوديا. يسّر ذلك كثيرا عمليات حرب الغوار في شمال البلد و شماله الشرقي. و أمكن للجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية أن تستقر في لاووس. وباتت المساعدات متعدد الأشكال الموجهة للحزب الشيوعي التايلاندي (أسلحة وذخيرة وأدوية وأرز ومرافق النقل) تصل بسهولة أكبر.

ومع ذلك، سرعان ما برزت التوترات الأولى المنذرة بالقطيعة بين الحزب الشيوعي التايلاندي والحزب الشيوعي الفيتنامي. إذ اقترح هذا الأخير، منذ العام 1975، زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية الموجهة للحزب الشيوعي التايلاندي (تشمل وفق مصادر تايلاندية جنودا) قادمة من فيتنام ولاووس. كان المقصود آنذاك الإفادة من اندحار الولايات المتحدة الأمريكية بالهند الصينية لحفز النضالات الثورية بتايلاند، بالأقل في الشمال الشرقي والشمال. وتكررت مثل تلك العروض، الموجة للقيادة الوطنية للحزب الشيوعي التايلاندي و للقيادات الإقليمية على السواء ، حتى العام 1978. لكن الحزب الشيوعي التايلاندي كان يرفض تلك المقترحات. و ما زال صعبا اليوم معرفة تفاصيل ما ُقدم آنذاك من مقترحات وما جرى من مفاوضات. لكن قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي كانت تستعمل تلك العروض الفيتنامية واللاووسية كي تفسر للمناضلين التايلانديين أن الحزب الفيتنامي يسعى لفرض هيمنته على الحركة الثورية بتايلاند. يبدو أن الجانب الفيتنامي كان مقتنعا بأن رفض الحزب الشيوعي التايلاندي يعبر عن رغبة بكين تفادي امتداد الثورة بالمنطقة، ومن ثمة تبعية القيادة التايلاندية سياسيا للصين.

و كان المشكل أخطر، بنظر هانوي، بقدر ما أن تايلاند كان تُستعمل قاعدة ارتكاز للامبريالية، الساعية لعزل أنظمة الهند الصينية، وبقدر ما أن التوترات السياسية العسكرية مع بنوم بنه (عاصمة كمبوديا) وبكين كانت تتفاقم بسرعة بدءا من متم العام 1976. وفي العام 1978، باتت التسويات مستحيلة، إذ اندلعت، في متم العام 1978 ومطلع العام 1979، النزاعات العسكرية بين الصين والهند الصينية. وكان الحزب الشيوعي التايلاندي مجبرا على الاختيار بين حلفائه السابقين، إذ لا يمكنه أن يدعم في الآن ذاته الخمير الحمر والفيتناميين، الذين باتوا متحاربين. حافظ الحزب الشيوعي التايلاندي على تحالفه مع بكين والخمير الحمر وندد بفيتنام، واعتبرها عميل «الاشتراكية-الامبريالية» في جنوب شرق آسيا، بشكل سري أولا، عبر قنواته التنظيمية، ثم علانية، في تموز/يوليو عام 1979، عبر إذاعة صوت الشعب التايلاندي (راديو الحزب الشيوعي التايلاندي الذي يبث من يونان بالصين).

ومن جانبه، أعلن فام فان دونغ Pham Van Dong، بصفته وزيرا أولا لفيتنام، في أيلول/سبتمبر عام 1978، أثناء زيارة لبانكوك، وقف جميع المساعدات الممنوحة للحزب الشيوعي التايلاندي. وفي الواقع، في أوائل العام 1979، تم إغلاق جميع معسكرات الحزب الشيوعي التايلاندي ولجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية في لاووس، و طرد المناضلين التايلانديين نحو تايلاند أو الصين. باتت القطيعة تامة. كانت عواقب ذلك كله خطيرة على الحزب الشيوعي التايلاندي، وكانت من بين أسباب إقدام المناضلين التايلانديين على مساءلة التقدير السياسي لقيادتهم.

ورغم أن الغالبية العظمى من مناضلي الحزب الشيوعي التايلاندي كانت معارضة لتدخل فيتنام في كمبوديا، كان عدد كبير منهم واعيا الأهمية العملية لتلك الأحداث بالنسبة لما يمارسون من نضال. ومن هنا السؤال الملح: ألم يكن ممكنا تلافي تلك القطيعة بين الحركة الثورية بتايلاند وبين الحزبين الشيوعيين بلاووس وفيتنام؟ وهل اعتبرت قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي، بقبولها تلك القطيعة، مصالح نضال الشعب التايلاندي، أو مستلزمات سياسة الصين في جنوب شرق آسيا ؟

و شهرا بعد آخر، تعاظمت تلك الأسئلة. إذ سرعان ما تطورت الدبلوماسية الصينية، بتقارب الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية و مع اليابان، وبدعم بكين لاتحاد دول جنوب شرق آسيا (المعروف اختصارا باسم آسيان بالإنجليزية ASEAN ‏) (هو اتحاد يضم إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند)، و بالجهود الرامية إلى تشكيل جبهة ضد فيتنام، و بتحسين العلاقات بين حكومتي الصين وتايلاند. و توقفت إذاعة الحزب الشيوعي التايلاندي بالصين نهائيا عن البث بعد بضعة أيام من نشر بيان إعلان القطيعة مع هانوي والتنديد بفيتنام المعتبرة بلدا غازيا يهدد تايلاند. وكان توقف راديو صوت الشعب التايلاندي، أداة التواصل السياسي الرئيسة للمناضلين بتايلاند، بمثابة دليل حسن نية بيكين تجاه بانكوك. علاوة على ذلك، شرعت قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي تدعو المناضلين للتأهب لمقاومة الاجتياح الفيتنامي للبلد، المحتم بنظرها.

وتنامت البلبلة في صفوف الحزب الشيوعي التايلاندي والجيش الشعبي لتحرير تايلاند عندما راجت أخبار متضاربة حول إمكان فتح مفاوضات بين قيادة الحزب وبين الحكومة لوقف إطلاق النار. نفت قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي أن تكون بادرت إلى فتح تلك المفاوضات، لكنها لم تنكر إمكانها. وفي صفوف مناضلي حرب الغوار، استحضر بإلحاح موضوع الجبهة الموحدة ضد لليابان التي طرحها الحزب الشيوعي الصيني بعد اجتياح القوات اليابانية للصين عام 1937. و تلقت وحدات من الجيش الشعبي لتحرير تايلاند توجيهات بالاتصال بضباط في الجيش الحكومي للنظر في تشكيل مقاومة مشتركة من الأمة المهددة.

غير أن الغزو الفيتنامي، المحذر منه غالبا، لم يحصل. وتدريجيا، بات المناضلون اليساريون بتايلاند يدركون هول مأساة سكان كمبوديا في ظل حكم الخمير الحمر. لا سيما أن قوى الجيش الشعبي لتحرير تايلاند في منطقة الشمال الشرقي كابدت تجربة صادمة. فمن معسكرات بأراض كمبودية، نظمت قبل العام 1979 عمليات بالأراضي التايلاندية مشتركة مع عناصر من الخمير الحمر. هكذا تمكنت عمليا من معاينة «الراديكالية» الدموية لرفاقها الكمبوديين. علاوة على ذلك، نهج قسم من الجهاز المحلي للحزب الشيوعي التايلاندي سياسة «بولبوتية» بترحيل قسري لقرى تايلاندية عديدة إلى الجانب الآخر من الحدود مع كمبوديا. ولما احتدت أكثر النزاعات بين فيتنام والخمير الحمر، سعت كامبدويا إلى تسوية مؤقتة مع بانكوك، على حساب حلفائها في الحزب الشيوعي التايلاندي. ثم بعد تدخل فيتنام في كمبوديا، وجه جيش حكومة تايلاند ضد الجيش الشعبي لتحرير تايلاند أسلحة صينية بعثتها بكين إلى قوات الخمير الحمر، المرابطة آنذاك على الحدود التايلاندية. وفي الواقع باتت بانكوك تحصل على إتاوات من المساعدات العسكرية الموجة للجبهة المضادة لفيتنام.

فشل لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية: أية سياسة للجبهة الموحدة؟

ساور عدد متعاظم من مناضلي الحزب الشيوعي التايلاندي وجيش الشعبي لتحرير تايلاند شك في صواب سياسة قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي بصدد الهند الصينية، وفي صلابة التحالفات الدولية لتلك القيادة (مع بكين والخمير الحمر). واضطروا في الآن ذاته إلى التساؤل حول سياسة الجبهة الموحدة التي نادت بها القيادة. فقد أَجبر الحزب الشيوعي التايلاندي لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية على تبني مواقفه الخاصة حول الأزمة بين الصين والهند الصينية. بل، لما اختارت قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي الصمت علانية، ألقي باسم سْرِي أنثابانتي Sri Inthapanti، الناطق الرسمي للجنة التنسيق للقوى الديمقراطية والوطنية، من راديو صوت الشعب التايلاندي، الخطاب المعادي للفيتنام في تموز/يوليو عام 1979.

والحال، أن أعضاء في لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية كانوا يعارضون ذاك التوجه، مثل بوونين ووتونغ Boonien Wotong، أحد قادة الحزب الاشتراكي التايلاندي. وفي الواقع، وجهت الأزمة بين الصين والهند الصينية وتداعياتها في تايلاند ضربة قاصمة للجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية. اتضح أنه لم يكن لدى لجنة التنسيق هذه سياسة محددة، ولا تنظيم خاص. لم تكن سوى لجنة «في القمة»، بدون جسم موحدة في القاعدة، وبدون إمكان استقطاب مباشر للمناضلين، وبدون قاعدة مادية، ولا راديو ولا وسائل تعبير خاصة. لقد كان خاضعة سياسيا وعمليا لمشيئة الحزب الشيوعي التايلاندي.

لما تم طرد لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية من لاووس (و إغلاق معسكرات الحزب الشيوعي التايلاندي)، بقي بعض أعضائها في لاووس. واتجه آخرون إلى كونمين Kunming (بالصين الجنوبية) أو عادوا إلى تايلاند. و حاول ثيرايوت بوونيمي، من قادة الحركة الطلابية سابقا، الذي أصبح سكرتير لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية، إصلاح لجنة التنسيق، لكي تنهج سياسة وحدوية حقيقية، وتكون حركة وحدوية فعلية، وتنفذ سياسة خاصة، وتمتلك هياكلها القاعدية الخاصة وقواها المسلحة الخاصة. و بوجه تماطل قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي إزاء مقترحات ثيرايوت بوونيمي، عاد في آخر المطاف إلى بانكوك قبل أن يرحل إلى أوربا، لاستكمال دراسته. غادر أعضاء لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية واحدا تلو الآخر الصين أو الأدغال نحو بانكوك، أو أوربا أو لاووس.

مثلت مغادرة آخر رموز الحزب الاشتراكي - مثل كيسينغ سوكساي Kaiseng Suksai - الصين، بعد مدة طويلة من الوفاء للتحالف مع الحزب الشيوعي التايلاندي، نهاية سياسة «الجبهة الموحدة» بالشكل الذي دعت إليه قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي. لم يتم قط حل لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية رسميا، بل أفرغت من محتواها كليا. و تمسك بخيالها مناضلون حريصون على الحفاظ على انفتاح وحدوي، وقيادة الحزب الشيوعي التايلاندي الحريصة على المظاهر، إلى أن أقدم أودوم سيسوان Udom Sisuwan ، رئيس لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية، وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي التايلاندي، على تسليم نفسه إلى السلطات في أيلول/سبتمبر عام 1982.

لم يكن هذا أول إجهاض «جبهة موحدة» (أو «لجنة تنسيق») شكلتها قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي. لكن فشل لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية كان أخطر بكثير، لأن سياسة موحدة كانت ممكنة تلك المرة بفضل مشاركة الحزب الاشتراكي التايلاندي وعناصر متحدرة من مختلف المجموعات الطلابية أو من الحركات الجماهيرية. لذا فتح إفلاس لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية مجالا واسعا من التفكير النقدي داخل اليسار بتايلاند.

غياب الديمقراطية في الحزب الشيوعي التايلاندي: عامل أساسي من عوامل الأزمة

إِن غادر أعضاء لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية هذه الهيئة، فلأنهم أدركوا عجزهم عن الفعل في توجهها، وعن تغيير قرارات الحزب الشيوعي التايلاندي المتعلقة بهم، وعن التأثير في مجرى النضالات لأنهم لم يخلقوا بَعد عام 1976 منظمات مستقلة، ربما لأن وضعهم لم يكن يسمح، ولكن أيضا لأن أعضاء عديدين في حزب الاشتراكي التايلاندي كانوا يرون في الحزب الشيوعي التايلاندي قيادتهم الطبيعية.

ولأسباب مماثلة، قرر في آخر المطاف عدد كبير من أعضاء الحزب و الجيش الشعبي لتحرير تايلاند الجدد مغادرة الأدغال. رفع المكتب السياسي للحزب الشيوعي التايلاندي الصمت إلى مقام منهج في القيادة. و كانت قلة قليلة من الوثائق تتداول في الحزب الشيوعي التايلاندي. وكانت «التوجيهات» النادرة الموقعة غالبا باسم «المركز » تشير على نحو غامض إلى «خط» اللحظة بتعابير عامة جدا حتى أنه يتعذر تقريبا مناقشتها. كان تنسيب أعضاء «الجيل الجديد» إلى الحزب موضوع رقابة شديدة، ما وضع معظم العناصر الناقدة خارج الحزب، في الجيش الشعبي لتحرير تايلاند. وكانت الحواجز العمودية، التي يفرضها جزئيا العمل السري، تمنع ربط العلاقات والمبادلات «الأفقية». ولم تكن الوثائق الناقدة، المحررة في معسكر حرب الغوار، تصل سوى إلى القيادة... التي كانت في الغالب تمتنع عن الرد. وبفعل العزلة في الأدغال، و قلة الصلة مع السكان، ظل الطلاب، الذين انخرطوا بالآلاف في الكفاح المسلح عام 1976، عاجزين. فغادروا مواقعهم محبطين واحدا تلو الآخر، مجموعة تلو أخرى. بعضهم بسرعة فائقة، مثل بوسونغ بونسانونغ Boosong Bonsanong - أحد قادة الطلاب سابقا- وبعض آخر متأخرا مثل سيكسان براسرتكول Seksan Prasertkul الذي لم يلتحق ببانكوك سوى في العام 1981.

كان غياب الديمقراطية في الحزب الشيوعي التايلاندي، و في الجيش الشعبي لتحرير تايلاند، و الحركة الثورية التايلاندية عامة، عاملا أساسيا في أزمة اليسار التايلاندي: كان المناضلون النقديون أمام خيارين : إما الصمت أو «التصويت بأقدامهم» بالعودة إلى المدن أو القرى.

وكان وقع غياب الديمقراطية أشد بقدر ما أن الخلافات لم تقتصر المسائل العالمية (طبيعة الاتحاد السوفياتي وسياسة الصين) أو الإقليمية (أزمة الهند الصينية)، بل شملت التوجهات المطبقة في تايلاند ذاتها من قبل قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي.

اندلع الخلاف الأول بصدد الأهمية التي يؤخذ بها النضال في المدن قياسا بنظيره في القرى. فبعد تبني الخط الماوي، خط «القرية تطوق المدينة»، عملت قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي على حصر نشاط شبكاتها المدينية كله تقريبا في دعم بؤر حرب الغوار، أي جمع المال و الدواء و اللباس، و المعلومات، وربط صلات مختلف المناطق، و تأمين سكن المناضلين المتنقلين، الخ. و لم يكن النضال بالمدن موضوع تفكير خاص، إذ لا شيء عن دور المدن الاستراتيجي في النضال من أجل السلطة، الخ. هذا ما يفسر تخلي الحزب الشيوعي التايلاندي عن إعادة بناء قيادة ممركزة منظمة لتدخل مجمل مناضليه في منطقة بانكوك فيما كانت النضالات الاجتماعية تتخذ حجما غير مسبوق. أثناء سنوات 1970، كانت شبكات الحزب الشيوعي التايلاندي في بانكوك مرتبطة مباشرة بمواقع حرب الغوار (أو بالمركز)، و مستقلة عن بعضها البعض. يتأتى في هذه الظروف إدراك أن الحزب الشيوعي التايلاندي لم يكن، رغم نشاط أعضائه، يمد الحركة الطلابية والعمالية خلال سنوات 1973-1976 بقيادة سياسية و لا قاعدة تنظيمية.

أدت وحشية الانقلاب المباغث في تشرين الأول/أكتوبر عام 1979 إلى طمس ذاك النقاش مؤقتا، إذ كانت مهمة اللحظة تعزيز الكفاح المسلح بالمناطق القروية. لكن منذ العام 1977، أفسح تطور سياسة الحكومة مجالا جديدا لتدخل ديمقراطي في المدن. واستعادت الحركة النقابية أنشطتها. وفرضت بانكوك من جديد نفسها كمركز سياسي يهم البلد برمته. بدا الأمر جليا بوجه خاص لحظة فشل انقلاب حركة تركيا الفتاة، يوم 1 نيسان/أبريل عام 1981. و كان عجز الحزب الشيوعي التايلاندي عن التدخل في الساحة الوطنية بما هو قوة سياسية مستقلة والتأثير في الأحداث الجارية بالعاصمة، وصمت قيادة الحزب عن الدروس الواجب استخلاصها من الأزمة التي تهز الجيش والسلطة، ومواصلة الخط التقليدي المرجح للنضال العسكري في أطراف البلد... أمورا ستعيد النقاشات حول غياب توجه كفيل بتطوير العمل النضالي في المناطق الحضرية، وتعزيز المعركة الديمقراطية في المدن، ورسم إطار لسياسة جبهة موحدة لا غنى عنها مع قطاعات اجتماعية أو سياسية مختلفة...

لكن خط قيادة الحزب الشيوعي غير مقتصر على مسألة «تطويق القرى للمدن». إذ أن مناطق الجبال و الأدغال موضوع اهتمام أكبر مما يولى للمناطق القروية الآهلة بالسكان. «الأدغال تقود القرية»، كان هذا هو الشعار. عمل الحزب الشيوعي التايلاندي على تجميع القسم الأعظم من قواته في منظمة حرب الغوار (الجيش الشعبي لتحرير تايلاند)، أي في الغابات حيث يقضي جنود جيش التحرير معظم وقتهم. فمن معسكرات الغابات سعى الحزب إلى تنظيم سكان القرى.

حققت تلك السياسة بعض النجاح مدة، لكن حدودها برزت في سنوات 1970، فحرب الغوار في الأدغال لا تتيح إطارا لتطوير نضالات الفلاحين في المناطق «البيضاء» (حيث تسيطر الحكومة) في سنوات 1974-1976. وهنا كذلك سيعطي انقلاب تشرين الأول/أكتوبر عام 1976 مصداقية لقيادة الحزب الشيوعي التايلاندي. لكن منذ العام 1977، لما سعى الطلاب، لاسيما شمال البلد، إلى فتح «مواقع جديدة» للإنغراس، في مناطق أكثر مركزة وأكثر قربا من السهول الآهلة بالسكان، وفقا لشعار «الغابة تقود القرية»، واجهوا مصاعب لا تقهر.

صعوبات منها ذات طبيعة عسكرية، إذ بوسع الجيش تطويقهم بسهولة أكثر مما في الجبال النائية، ومنها السياسية، حيث لا تتيح الإقامة في الغابات تنظيم سكان القرى، وقلما يبدي الفلاحون حماسا للانضمام إليهم في الغابات. وعلى نحو تجريبي، اضطر بعض الطلاب إلى تعديل توجه الحزب الرسمي بالاستفادة من دروس عملهم مع فيدرالية الفلاحين بتايلاند، قبل انقلاب العام 1976، فاستقروا بالقرى و ساعدوا الفلاحين على تنظيم أنفسهم. لم تعد القوات العسكرية المرابطة في الغابات تقوم في هذا السياق سوى بدور دعم وحماية. وجري معظم نشاط الانغراس والقيادة مباشرة في مناطق السكان القرويين: «القرية تقود الأدغال»! لكن القيادة المركزية للحزب الشيوعي التايلاندي رفضت في آخر المطاف رفضا باتا ما استخلص المناضلون أثناء عملهم في المراكز الحضرية والقروية من مقترحات وملاحظات وانتقادات ودروس. في الجوهر، لم يتغير الخط والنقاشات كانت غائبة.

تحليل المجتمع التايلاندي والإستراتيجية الإجمالية

انتهى الأمر بمناضلين كُثر من الحزب الشيوعي، ومن اليسار التايلاندي،بسرعة لدى بعض و ببطء لدى آخرين، إلى انتقاد وجهي الإستراتيجية التقليدية لقيادة الحزب الشيوعي التايلاندي أي صيغة «القرى تطوق المدن، و الأدغال تقود القرى». كما جرى الطعن في الإطار العالمي لتلك الإستراتيجية بفعل تطور الدبلوماسية الصينية والأزمة بين الصين والهند الصينية، وساد شعور افتقاد الحركة الثورية التايلاندية إلى إستراتيجية إجمالية.

أفضت الخلافات حول العمل الجماهيري في القرى، وحول درجة الاهتمام بالمراكز الحضرية، إلى نقد الطابع العسكروي لتوجه الحزب الشيوعي التايلاندي. يجب إذن إعادة تقدير دور الكفاح المسلح وحرب الغوار بالأدغال بحسب الخيارات الإستراتيجية الجديدة، و اعتبارا للوضع الحقيقي القائم بالبلد. و قادت التجربة العملية عددا كبيرا من المناضلين إلى التشكيك في تحديد قيادتهم لــ«الأعداء الرئيسيين». إذ أن«العدو الفيتنامي» لم يغزُ البلد كما كان متوقعا. وبالعكس سببت أشكال الانفتاح، التي باشرتها قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي إزاء الجيش الحكومي، البلبلة في صفوف مناضلي الجيش الشعبي لتحرير تايلاند ، وكذا في الشمال الشرقي. ومن جهة أخرى، لم تقدم قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي تحليلا معمقا لبنية المجتمع التايلاندي الاقتصادية والاجتماعية. و لم تضع برنامجا زراعيا متطورا، متكيفا مع الأوضاع الإقليمية المتفاوتة و مراعيا لتطور علاقات الإنتاج والتبادل الرأسمالية في البلد برمته. بل اكتفت بالتذكير بالتعريف التقليدي للمجتمع التايلاندي، المعتبر«شبه استعماري، وشبه إقطاعي»، وهو تعريف يظل صحيحا بنظر قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي بالرغم من التحولات الجارية.

هكذا أفضى نقد توجهات قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي إلى نقاشين عامين، أولٌ حول طبيعة المجتمع التايلاندي (نقاش بوجه خاص حول عواقب تغلغل الرأسمالية بالقرى وبالاقتصاد الوطني)، وثان حول الإستراتيجية طويلة الأمد لدى الحركة الثورية التايلاندية (نقاش بوجه خاص حول تمفصل العمل الجماهيري و النضال السياسي و الكفاح المسلح، وكذا تمفصل العمل بالقرى و بالحواضر).

منذ مطلع سنوات 1960، كانت الصين قطب المرجعية الوحيد للمناضلين التايلانديين. وكانت السياسية الدولية لبكين هي سياسة الحزب الشيوعي التايلاندي. وكان تكوين المناضلين الفكري يجري بقراءة مؤلفات ماو (المختارة). وكانت قيادة الحزب تعيش جزئيا في الصين. و الحزب الشيوعي التايلاندي يبدو تابعا لجاره الأكبر سياسيا وإيديولوجيا وماديا. أما الماركسية عامة، فقد جرت، على نحو طبيعي، مماثلتها بالماوية دون سواها، و أساسا بالنظرية الماوية لسنوات 1960، والثورة الثقافية لسنوات 1966 إلى1969.

والحال أن إعادة النظر في توجهات قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي تعمقت في ضوء تطور الوضع بالصين بالذات، حيث استمرار الصراعات بين الفصائل بقمة الحزب الشيوعي الصيني بعد الثورة الثقافية (وفاة لين بياو Lin Biao ، المنافس على تقلد السلطة، وصعود دينغ سياو بينغ Deng Xiaoping ، الذي يعتبر «خروتشوف الصيني الثاني»، واعتقال عصابة الأربعة، ضمنهم زوجة ماو، بعد وفاة هذا الأخير عام 1976، وإبعاد هواكو فينغ Hua Guofeng ، «رجل الثقة»...)، و تطور الدبلوماسية الصينية من معادة الامبريالية إلى موالاة الغرب إلى حد كبير – ثم تخليها عن حلبة الإيديولوجيا بمواجهة الاتحاد السوفياتي، المعتبر سابقا «تحريفيا»، والاكتفاء بسياسة دولة، ونقد الحكام الجدد في بكين الصريح لنهج ماو تسي تونغ بدءا من منتصف سنوات الخمسينات... كانت تجربة صادمة للمناضلين التايلانديين. كانت تلك نهاية «النماذج» الاجتماعية والسياسية والإديولوجية، فكل ما كان يُشاد به أمس بات اليوم موضوع انتقاد.

مؤتمر الحزب الشيوعي التايلاندي الرابع: الفرصة الأخيرة الضائعة...

كانت أزمة الحزب الشيوعي التايلاندي مستفحلة لما عقد - أخيرا- مؤتمره الرابع، بعد عشرين عاما من المؤتمر الثالث. وينبغي الإشارة أيضا أنه لم يكن اجتماع هيئة مندوبين وطنية واحدة. فباسم هشاشة الوضع العسكري، قررت قيادة الحزب تنظيم ثلاث اجتماعات إقليمية متزامنة نسبيا و متصلة لاسلكيا - من آذار/مارس إلى أيار/مايو 1982.

كان فعلا مؤتمر الفرصة الأخيرة، إذ كان الحزب الشيوعي التايلاندي يفقد القسم الأكبر من قواه الحية وسقطت هيبته إلى أدنى مستوى.

و بالنظر لظروف تحضير هذا المؤتمر ومداولاته، تعذر أن تكون نقاشات الجوهر غنية للغاية. لكن، طالبت أغلبية صغيرة بإصلاح لتوجه الحزب واشتغاله، ما فاجأ على الأرجح القيادة المركزية. وصوتت منطقة الشمال الشرقي ومناطق الشمال الجديدة ومنظمة بانكوك، ضد منطقتي الشمال والجنوب وضد القيادة المركزية. و رجحت كفتهم بالقليل.

تناول التصويت بعض المسائل الإيديولوجية الكبرى. فاُستبدل تعبير «شبه رأسمالي» بصيغة «شبه إقطاعي». و استبدل التوجه التقليدي بصيغ توازن بين الأهمية الإستراتيجية للمدن وللقرى، وبين الكفاح المسلح والنضال السياسي (صيغ أقرب من تلك المستعملة لدى الفيتناميين). و جرى حذف نعث «تحريفي» من قاموس الحزب. ُقدم تحليل وضع الاتحاد السوفياتي على نحو غامض، وأعلن المؤتمر استعداده للتحالف مع كل المجموعات «المحايدة» (غير الموالية كثيرا لموسكو أو لبكين). وطالب بضرورة تقليص التوترات السياسية بين الأحزاب الشيوعية بمنطقة الهند الصينية. أما فكر ماو تسي تونغ، فقد وُضع موضع تساؤل، دون تحديد دقيق لوضعه الجديد.

بدا إذن أن «المصلحين» سجلوا نقطا هامة في مؤتمر اللحظات الأخيرة هذا. بيد أن الأصوات لا تمثل تيارا متجانسا، بل أقسام تكتلات ذات توجهات متباينة ( قد تتعاون عناصر مؤيدة للقيادة الصينية الحالية وأخرى ذات «نزعة وطنية»، على سبيل المثال، من أجل أن إنزال ماو تسي تونغ من عرشه الإيديولوجي). وكانت الأيام التالية للمؤتمر مريرة بالنسبة «للمصلحين»، إذ بقيت القيادة الجديدة في الواقع تحت تحكم التكتلات المهيمنة (على الأرجح التكتل الملتف حول ويرات Wirat ، المعروف بولائه للصينيين، و الماسك بزمام الجهاز المركزي). ولم تحظ مناطق أساسية بالنسبة «للمصلحين» بممثلين في اللجنة المركزية. و خففت البيانات الرسمية لقيادة الحزب الشيوعي التايلاندي بصدد المؤتمر نبرة المقررات المصادق عليها، و لزمت الصمت إزاء ما برز من نقاشات و خلافات.

و في أعقاب مؤتمر المغبونين هذا، وقعت ارتدادات مذهلة، منها انسحاب أودوم سيسوان Udom Sisuwan (عضو المكتب السياسي)، و وينغ Weng ، ثيدا Thida (من تكتل «استمرار لجنة تنسيق القوى الديمقراطية والوطنية ») وأقدمت مجموعات من مناضلي حرب الغوار على مفاوضات بقصد استسلام جماعي، لاسيما في منطقة الشمال الشرقي. وفي بعض المناطق الجنوبية، بوجه خاص، قاومت قوات الحزب الشيوعي التايلاندي العسكرية رياح الأزمة. لكن على المستوى الوطني، باتت منظمة حرب الغوار تتفكك.

بدلا من تهدئة النزاعات القائمة في جهاز الحزب، فاقمها المؤتمر الرابع. وبدلا من استعادة الثقة في قدرة الحزب على إصلاح ذاته، انتهى الأمر بالمؤتمر الرابع إلى إحباط معنويات «المصلحين» الأكثر حماسا.

وغادر آلاف المناضلين، من العام 1979 إلى العام 1982، صفوف الجيش الشعبي لتحرير تايلاند والحزب الشيوعي التايلاندي. لكن مجموعات صغيرة، وحدها، تمكنت من البقاء منظمة بعد مغادرة الحزب. كانت وراء ذلك أسباب سياسية (البلبلة الإيديولوجية وضعف العمل الجماهيري)، وتنظيمية (فعالية التقسيم العمودي في الحزب، وانعزال معسكرات حرب الغوار في الأدغال). لكن ثمة أيضا أسباب مالية.

في الجوهر، كان أعضاء الحزب والجيش المقيمين في الأدغال يعتمدون (فيما يخص المال، والأرز، و الذخيرة، و السلاح)، على عمليات التوزيع المنظمة من أعلى إلى أسفل تحت إشراف القيادة. ويحول ضعف العمل الجماهيري البالغ، و فقر السكان المدقع، دون دعم مادي لمنظمة حرب غوار من قبيل الجيش الشعبي لتحرير تايلاند. وهكذا، كان الانشقاق يعني الحرمان من وسائل البقاء المادية. فلم تصمد مجموعات صغيرة كثيرة بوجه تلك المحنة، و اضطر كل فرد للمغادرة بحثا عن عمل وعن أسرته. كيف يمكن في هذه الظروف الحفاظ على منظمة في حالة نشاط؟ أثبت سلاح الغذاء خطورته بوجه أشكال المعارضة الناشئة وسط حزب الأدغال. لكن يلزم بالمقابل الإشارة إلى أنه لم تحدث أية تصفية جسدية، وهذه ظاهرة لافتة للنظر في منظمة حرب غوار أصابتها الأزمة و التفكك، مع أن النزاعات في المعسكرات أوشكت مرارا عديدة على نهاية سيئة.

استأنف عدد من الطلاب، بعد مغادرة منظمة حرب الغوار، نشاطهم في أحزاب «الطبقة السياسية» التقليدية، المرتبطة بالمصالح الصناعية والمصرفية الحديثة، مدافعين عن برنامج إصلاح اجتماعي وسياسي: حزب العمل الاجتماعي بقيادة كوكريت براموج Kukrit Pramoj ، أو الحزب الجديد بقيادة الجنرال كريانغساك Kriangsak. و اتجه بعضهم صوب الحزب الاشتراكي الديمقراطي، المعاد تأسيسه بشكل قانوني بعد تحول الحزب الاشتراكي التايلاندي إلى السرية. لكن يبدو أن هذا الحزب لم يتمكن من الحفاظ في صفوفه على العناصر الأساسية من الجيل المناضل في سنوات السبعينيات.

تأسس الحزب الوطني للعمل عام 1982، واستقطب عددا من الأطر السابقة في القطاع الطلابي وفي العمل النقابي العائدة من الأدغال. يسعى هذا الحزب إلى أن يكون ناطقا يتيح للعمال إسماع صوتهم لأول مرة في المشهد السياسي التايلاندي المقتصر على النخب. حفز تأسيسه نقابيون في نقابة مؤتمر العمل بتايلاند LCT ممثلون بوجه خاص لنقابة سكك الحديد والذين ظفروا تلك السنة بقيادة الاتحاد النقابي في صراع تكتلات ضار.

مع ذلك، يبدو أن معظم مناضلي اليسار اعتبروا هذا الحزب في المقام الأول أداة تكتلات في الجيش غايتها التدخل في الحركة النقابية واستغلالها لأهدافها الخاصة. يوجد بالفعل في الحزب الوطني للعمل تأثير الجنود الديمقراطيين وعضو سابق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التايلاندي.

ركز آخرون من «العائدين من الأدغال» جهودهم على نشر صحف سياسية (شرعية)، تشمل في الآن ذاته المستجدات ونقاشات عميقة حول تجربتهم النضالية. وبالموازاة تشكلت «مجموعات دراسية» لدى الطلاب، الحريصين غالبا على أسبقية عمل فكري مديد. فقد فتحت أزمة الحزب الشيوعي التايلاندي نقاشا إيديولوجيا عريضا في اليسار التايلاندي، وحفزت بذل مجهود فكري سياسي لم يسبقه نظير. انصب النقد على الماوية، و على الماركسية ذاتها.

أخضع طلاب سابقون الماركسية للمساءلة. و انكب مناضلون كُثر على التيارات الماركسية العالمية غير الماوية، دارسين، لأول مرة في الغالب، لينين وروزا لوكسمبورغ وغرامشي وتروتسكي ومؤلفات ماركسيين معاصرين. كان النقاش الإيديولوجي غنيا –إذ أتاح لليسار بتايلاند تناول جملة مسائل كان يجهلها حتى ذلك الحين- و مشوشا، لأن جميع المسائل تطرح دفعة واحدة. «أي اشتراكية نريد؟»: اشتراكية وديمقراطية... تساؤل جديد على الأوساط التقدمية بتايلاند التي تواجه اليوم إخفاق الحزب الشيوعي التايلاندي، ونهاية «النموذج» الصيني، وأزمة منطقة الهند الصينية.

هذا النقاش الإجمالي هام للغاية لمستقبل اليسار التايلاندي. لكن لا ينبغي أن يخفي واقع أن الأجيال الجديدة من طلاب الجامعات أقل تسُّيسا بكثير من أجيال سنوات السبعينيات، واليسار الذي كان حتى الآونة الأخيرة يهيمن على معظم منظمات الطلاب الجماهيرية، يفقد تدريجيا الأغلبية في انتخابات الجامعات.

مع تراجع الحركة الثورية وأزمتها، حظي العمل الاجتماعي والدفاع عن الديمقراطية بأهمية متجددة لدى المناضلين التواقين إلى عمل ملموس لصالح قطاعات السكان المحرومة. تشكلت جمعيات جديدة «للعمل التطوعي»، موجهة إلى مدن الصفيح، وإلى وضع الأطفال، وإلى سكان القرى، الخ. وظهرت «تعاونيات» عديدة في القرى. وأقدمت هذه الجمعيات الخاصة بالدفاع عن الديمقراطية أو بالعمل الاجتماعي التطوعي، على تنسيق أنشطتها على نحو أكثر تنظيما.

وعود وتحديات

ليس من السهل دائما متابعة الصراعات السياسية الدائرة في الأوساط الحكومية والبرلمانية بتايلاند. فالتحالفات بين الأحزاب وتكتلات الجيش وممثلي العائلة الملكية غير ثابتة. ويبدو أن فهم رهانات المصالح القائمة يستلزم معاشرة الجنرالات –وهذا صحيح إلى حد كبير. إن الكتل التي تتشكل وتتفكك وفق الظروف، نادرا ما تستجيب لبرامج تنمية ولخيارات سياسية دائمة، لأن وزن المصالح الخاصة ثقيل جدا في الحياة السياسية العامة.

مع ذلك، تعبر تقلبات الحياة السياسية بتايلاند عن مشاكل أساسية. فالمجتمع التايلاندي في عز التحول، ما يثير توترات عميقة وتغيرات عديدة في المملكة. خلال العشرين سنة الماضية، كانت التحولات الاقتصادية كبيرة. و تبدلت العلاقات الاجتماعية –حتى بالقرى- وتطورت العقليات من جراء ذلك، ولو على نحو أبطء. غير أن نظام السلطة لم يتغير كثيرا قياسا بحالته في مطلع سنوات الستينيات. مازال يهيمن عليه ثالوث العائلة الملكية والجيش والبيروقراطية الإدارية. و ترى قطاعات عديدة من البرجوازية ضرورة «تحديث» النظام مرة أخرى. وتظهر خيارات متباينة جزئيا حول سبل هذا التحديث وحجمه. لكن أصحاب المصالح القائمة يدافعون عن مواقفهم الخاصة، مستفيدين من وزن التقاليد.

بلد تقاليد

إن ثقل التقاليد في المجال السياسي والإيديولوجي كبير بوجه خاص بتايلاند. أما شرعية النظام، المجسدة دوما في العائلة الملكية، فلم ُتحطـّم قط بالغزو الاستعماري أو بالانتفاضة الشعبية. ولم تتعرض قوة الجيش، الذي دخل مجال السياسة قبل خمسين عاما، للاهتزاز سوى عام 1973 بفعل انتفاضة بانكوك، وبعدها بفعل الخلافات الداخلية. يحظى مجموع الموظفي ذوي الزي الرسمي بمكانة سامية لدى السكان، وامتدت سلطة البيروقراطية الإدارية إلى جميع أنحاء البلد مع تطور شبكة الطرقات. و تتميز تايلاند ثقافيا بتجانس أقوى من غيرها، بفضل بوذية ثيرافادا Theravada –دين الدولة- وزراعة الأرز المسقية. وهنا أيضا، عزز توسع شبكة الاتصالات وجود النظام المركزي والقصر في الأقاليم. يدرك أعضاء العائلة الملكية ذلك جيدا، إذ يزورون بانتظام القرى الأكثر بعدا، على متن طائرات الهليكوبتر، ينزلون من السماء حاملين الهدايا والوعود. وتبقى إيديولوجية النظام قائمة على شعار: «الملك، الوطن، الدين».

كما تتمتع السلطة القائمة تقليديا –سواء بالبلد أو بالقرية أو في حزب- بنظام ثقافي يسند لكل واحد وضعا تراتبيا محددا بالأصل الاجتماعي و القرابة و العمر. ثمة قلة من الأفراد المتساويين في تايلاند، لكن ثمة عدد كبير الرؤساء و المرؤوسين، و كبار المرتبة و صغارها. على كل واحد أن يعرف بدقة بالغة تاريخ ولادته، إذ يمكن لفرق يوم واحد أو ساعة واحدة أن يحدث فرقا في تحديد الوضع الخاص بشخصين. و تكرس اللغة التايلاندية ذلك التسلسل التراتبي السائد في القوانين والأوضاع. و تتغير الألفاظ والصيغ حسب مخاطبة رئيس لمرؤوس، وكبير مرتبة لصغيرها، و العكس بالعكس. ويحظى ذِكر الشخصية الملكية بقاموس خاص. و التحكم الاجتماعي في سلوك الأفراد بتايلاند أقل قوة مما في بلدان مثل الصين حيث المجموعة أعلى قيمة من الفرد. لكن الطفل يتعلم في وقت مبكر جدا كيف يحدد مكانته الخاصة، وعلى كل فرد أن يتقبل وضعه الخاص. فلا يمكنه أن يفعل ما يشاء نسبيا سوى وفق تلك الشروط.

كما يتعزز هذا الاحترام للسلطة القائمة بفعل كون الشأن السياسي غريبا عن جماهير السكان ثقافيا. إنه مجال خاص بالنخب. وليست تقلبات الحياة السياسية مواضيع حاضرة في نقاشات العوام اليومية. وعند وجود علاقات بين الفرد (أو العائلة) وحزب، غالبا ما تندرج في الشبكات التقليدية للرعاية والتبعية الشخصية إزاء الأعيان والمالكين.

من المفهوم في هذا السياق، أن «الكتلة» المهيمنة في السلطة تبقى مؤلفة من ثالوث العائلة الملكية والجيش والبيروقراطية الإدارية. لكن هذا لا يعني تجانس هذه «الكتلة». فقد حدثت توترات بالغة بين الأركان العامة والقصر بخاصة، لما فرض الجيش تحكمه على قسم كبير من جهاز الدولة. وحتى في الجيش، تنشب نزاعات شديدة. وتمزق صراعات خفية العائلة الملكية. لكن تلك القوى الثلاثة هي المتحكمة قبل غيرها في الشؤون العامة.

صعود شرائح اجتماعية جديدة

تطورت البرجوازية الصينية التايلاندية، كما شهدنا، بتأثير متبادل مع نظام السلطة هذا، متحالفة مع تكتلات من الجيش، ومرتكزة على البيروقراطية، ومؤمّنة لنفسها فضل القصر. لكن قطاعات هامة من البرجوازية التايلاندية تسعى اليوم إلى مطابقة سلطتها السياسية المباشرة مع قوتها الاقتصادية. و تتمرد على الإكراهات التي تفرضها في المجال الاقتصادي الإدارة المولعة بركام الورق والوثائق واللجان و اللجينات. وتندد بما يخلقه كل ذلك من كوابح للاستثمارات الخارجية. وتنتقد عجز زهاء 70 مقاولة تابعة للدولة، وريثة سياسة تقوية القطاع المؤمم التي أعقبت الحرب العالمية (وحدها خدمات الكهرباء، وشركة الطيران التايلاندي العالمي وبنك تايلاند معروفة «بمهنيتها»). وتدعو مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى ترشيد ذاك القطاع العام، بما في ذلك بيع قسم من المقاولات المعنية إلى القطاع الخاص. كما تبدي أوساط عالم الأعمال البنكية والصناعية قلقها من تنامي قوة العائلة الملكية اقتصاديا، مستغلة مكانتها في السلطة لبسط نفوذها أكثر في قطاعات حديثة مثل قطاع الطاقة الواعد بوجه خاص(مع اكتشاف الغاز الطبيعي في خليج تايلاند).

تعبر النزاعات السياسية التي اندلعت مطلع العام 1983 بصدد مسألة تطبيق الدستور عن هذه التوترات الناشئة عن التفاوت القائم اليوم في تايلاند بين نظام السلطة المفيد للقوى التقليدية وبين التطورات الاقتصادية المعاصرة التي أدت إلى بزوغ فئات اجتماعية مالكة جديدة. الأحزاب الكبرى حاضرة بالفعل في الحكومة، لكنها بعيدة عن التحكم باللعبة السياسية. و تسعى قطاعات في عالم الأعمال إلى منحها دورا أكبر و تهميش دور الجيش. إنها تدفع إلى تطبيق القوانين الدستورية الانتقالية التي تجنح إلى تشكيل نظام برلماني فعلي.

يستلزم هذا التحول إلى نظام برلماني إجراء تغيرات عديدة. يلزم أن يكون دور مجلس الشيوخ محدودا، وينبغي إسقاط حق الضباط بالترشح للانتخابات وممارسة وظائف حكومية. يجب تقليص عدد الأحزاب، و بوجه خاص وقف تكاثر أحزاب صغيرة يرأسها وجهاء محليون يشجعون تعزيز المحسوبية والزبونية وثقل المصالح الخاصة. كما يجب تغيير الأحزاب الكبرى ذاتها، إذ غالبا ما تتحكم بها جزئيا ثروات خاصة. باتت تلك الأحزاب اليوم (مثل حزب العمل الاجتماعي) مسرحا لصراعات داخلية. يجب الحد من السلطة السياسية للعائلة الملكية مرة أخرى. ويلزم تغيير قواعد سلوك النخب. ويجب تحسين صورة رجل السياسة والمنتخَب أمام السكان، إذ بلغت درجة بالغة من السوء وتدنت قياسا بصورة الموظف. يجب الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي بالرغم من برنامج ترشيد اقتصادي من شأنه أن يلحق ضررا بالغا بأشد الفئات فقرا. يجري الحديث بإلحاح عن ضرورة إجراء زيادة كبيرة في أسعار الخدمات العامة، إنه في الواقع أحد شروط زيادة القروض الدولية التي يمنحها صندوق النقد الدولي.

من غير المؤكد أن تتيح موازين القوى بين مختلف قطاعات الطبقات المالكة إحداث هكذا تغيير عميق في النظام السياسي. وإن حظوظ قيام ديمقراطية برلمانية حقيقية ومتينة حظوظ ضئيلة بتايلاند في المرحلة القادمة. تنتهي الصراعات الجارية حاليا بتسويات متتالية. لكن التوترات حادة لدرجة بروزها في السنوات الأخيرة على نحو علني وعنيف، مزعزعة التوازنات التقليدية، كما يتضح من التطورات الجارية في الجيش. وفي نيسان/أبريل عام 1981، أظهرت بالفعل محاولة الانقلاب التي قادتها مجموعة «تركيا الفتاة» أن قطاعات دالة من هيئة الضباط تطعن بقوة في آليات الترقية بالأقدمية وفي مكانة العائلة الملكية. مذاك برز على نحو علني تيار «إصلاحي عسكري» (الجنود الديمقراطيون)، ما شكل حدثا غير مسبوق في تاريخ الجيش. ومع أن قوى هذا التيار ضئيلة، كان قادرا على التأثير إيديولوجيا في قيادة الجيش العليا. ولما هدد الجنرال أثيت Athit ، الرجل القوي بقيادة الجيش، في مطلع العام 1983، الأحزاب الكبرى بانقلاب عسكري إن هي طعنت في بعض بنود الدستور، فقد فعل ذلك باسم الديمقراطية.

إن الديمقراطية، حسب هذا التكتل في الجيش، مسألة جدية لدرجة عدم تركها للأحزاب السياسية، المعبرة عن المصالح الخاصة لأوساط عالم الأعمال. ويرى أنه يجب الحفاظ على مكانة الجيش في مجلس الشيوخ وفي الحكومة لأن السير نحو الديمقراطية يتطلب قيادة قوية ممثلة للمصلحة العامة، أي قيادة جيش «مستنير». والحال أنه إذا كانت للجنود الديمقراطيين سمعة حصولهم على تكوين إيديولوجي يساري (من أحد القادة السابقين في الحزب الشيوعي التايلاندي «منقلب» بعد اعتقاله)، فالأمر و لا شك غير ذلك بالنسبة الجنرال أثيت والموالين له. فالصعود السريع لهذا الجنرال، بعد فشل الانقلاب العسكري لمجموعة تركيا الفتاة، تم بحفز من الملكة، المعروفة بتوجهات ضئيلة الطابع التقدمي. و تعبر عن نفسها اليوم شعبوية يمينية في صفوف الجيش وفي المشهد السياسي (بخاصة مع شخصية وزير الداخلية الأسبق، ساماك Samak، القريب هو أيضا من الملكة). أيا كان طابعه الغوغائي الجلي، فإن وجود هذا الخطاب الشعبوي اليميني ذاته في الأوساط التقليدية في السلطة يبرز إلى أي حد تُستشعر الحاجة إلى إصلاح للجهاز السياسي.

الديمقراطية بإصلاح دستوري ضد الجيش، والديمقراطية بإصلاحات عسكرية ضد الأحزاب السياسية وأوساط عالم الأعمال: هكذا يشهد استعمال موضوع الديمقراطية أيضا على التأثير الدائم للتعبئات الشعبية لسنوات 1973-1976 وما أثارت من آمال تغيير. ويدل على حاجة مختلف التكتلات المتصارعة على السلطة إلى الاستناد إلى شرعية شعبية فعالة. والحال أنه إذا كان موضوع الديمقراطية حاضرا خلال الانقلاب العسكري لعام 1932، الذي أقام نظام الملكية الدستورية، فإنه في الحقيقة لم ينفذ قط إلى أعماق البلد، حتى سنوات السبعينات. وعلاوة على احترام السلطة القائمة و مكانة كل فرد، تشجع الثقافة التايلاندية العلاقات غير الصدامية. وبسبب ما يستتبعه النقاش – هذا العنصر الأساسي من عناصر الديمقراطية- من تعبير مفتوح عن التناقضات، يُنظر إليه كمس بهذا المثل الأعلى من الانسجام والتوازن في العلاقات الشخصية والاجتماعية. وحتى مع الأصدقاء، قد يصعب التعبير بوضوح عن الخلاف. النزاعات السياسية غير لائقة، وليست من شيم التايلانديين. وقد تمكنت الحكومات مدة طويلة من استغلال تلك السمات الثقافية.

بعد الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 في بانكوك، ومع النهوض الاجتماعي للفلاحين، كان الطلاب يتجهون إلى القرى لنشر دعوة الديمقراطية. لكن، بعد انقلاب تشرين عام 1976 الدامي الذي وضع حدا لتلك السنوات الصاخبة، تمكنت القيم التقليدية من الغلبة.

التطور في القرى

بالرغم من هذه العودة الجلية إلى الوضع الطبيعي، فإن الأسس الاجتماعية للنظام القديم غير سليمة بصورة لا رجعة فيها. وهذا واضح في بانكوك، لكن صحيح أيضا في القرى. كان نظام السلطة التقليدي يرتكز على علاقات معممة قائمة على الزبونية والمحسوبية. ولم يكن استغلال الفلاحين ناجما عن التحكم بالأرض (التي كانت لا تزال وفيرة)، بل عن التحكم بالناس، أي علاقة التبعية الشخصية. لكن، رغم أن هذه العلاقات قائمة على الاستغلال، فإنها كانت تستتبع أيضا واجب حماية المالك لـلشخص «الزبون»، و إن كان فلاحا. كانت العلاقة الشخصية القائمة تتيح في كثير من الحالات اعتبار الوضع الحقيقي في تحديد نسبة الاستغلال. و كانت متطلبات الموظفين، أو الأعيان أو المالكين تتقلص بوجه عام في حالة جني محاصيل سيئة.

كان للتطور السكاني والاقتصادي انعكاسات عميقة على طبيعة العلاقات الاجتماعية في العالم القروي. وكما أشرنا سابقا، غدت الأرض نادرة، وباتت الاستدانة تمثل مشكلة كبيرة للفلاحين التايلانديين. ومن جهة أخرى، أدى تنامي الطابع التسويقي للزراعة في تايلاند إلى تغيير كامل في الآليات الاجتماعية بالقرى. وهذا جلي بشكل خاص في منطقة السهول الوسطى. برزت شريحة من ملاكي الأراضي مزارعة بالوكالة: يمتلكون الأراضي، ويؤجرونها للفلاحين، لكنهم يقطنون في العاصمة. و لا يتزايد عدد الفلاحين الصغار المكترين للأرض وحسب، بل تختفي العلاقة الشخصية بين المنتج والمالك. وغالبا ما أصبحت معدلات أسعار إيجار الأراضي ثابتة، لا علاقة لها بنجاح المحصول الزراعي أو فشله. يجب أحيانا دفع مبلغ الإيجار حتى قبل جني المحصول، ما يحمي المالك من كل خطر.

من قبل، كان للفلاح رد فعل على الظروف الصعبة جدا، وذلك باستصلاح أراض أخرى، وحتى بالعمل لحسابه في أرض بوّرها جاره. لم يعد ذلك ممكنا إلا في بعض المناطق، وذلك باحتلال غابات، ومحميات حكومية، ما يثير نزاعات متتالية بين القرويين المحتلين والدولة. علاوة على ذلك، تقلصت نسبة المحميات الغابوية بسبب استغلال الخشب المفرط من أجل التصدير، وهو استغلال شجعه فساد الموظفين.

يبدو أن الأشكال التقليدية لروابط التعاون بين الجيران و الأقارب مازالت مستمرة في شمال البلد وشماله الشرقي. وغالبا ما تفككت في السهول الوسطى. والفقير مهدد بالبقاء وحده. من الصعب للغاية على الفلاح أن يتحول إلى عامل في إنتاج غير زراعي، مثل العمل في ورش آجور صغير، أو في صناعة المواد الغذائية، الخ. يلزم في الواقع في جميع الحالات استثمار رأسمال أولي، عادة ما يتجاوز إمكانات عائلة فقيرة، مهما كان صغيرا جدا. و الاقتراض محفوف بالمخاطر، إذ بسهولة تتحول الاستدانة إلى دوامة يتعذر الخروج منها. يتزايد عدد «المهن الصغيرة» (البيع بالمزاد العلني، الخ)، لكن عادة ما يكون دخل تلك الأنشطة منخفضا جدا.

لا ُتعرض أعمال مأجورة مستقرة في قطاع الزراعة ولا في المدن بأعداد كافية لتكون منافذ للفلاحين المستدينين أو معدومي الأرض. تطور العمل المأجور في السهول الوسطى، لكن أجوره تظل متدنية جدا. و تستقطب بانكوك أكثر فأكثر اليد العاملة، سواء بمناسبة الهجرة الموسمية (خارج فترات الزرع والحصاد) أو بمناسبة الهجرة القروية الدائمة. وتبدو هذه اليد العاملة المهاجرة مندمجة في نظام عمل مأجور غير مستقر، أكثر مما في «المهن الصغيرة» بالقطاع «غير المهيكل».

كان الفلاح التايلاندي يعيش ضمن شبكة علاقات اجتماعية وعائلية مستقرة في بلد غني نسبيا حيث كانت «الأسماك في البرك المائية والأرز في الحقول». واليوم انتهى ذاك الاستقرار. تتفكك العلاقات الاجتماعية السابقة ولو بتفاوت حسب المناطق. ويشعر الفلاح بانعدام الأمان و زوال الاستقرار. و يتمايز الفلاحون ، إذ بوسع الفلاح الغني الاستفادة وحده من الإمكانات التي يتيحها تطور زراعة تسويقية.

جلي أن تقاليد فلاحي تايلاند الثقافية لم تختف، حتى خلال بضعة عقود من الاضطرابات الاقتصادية الاجتماعية. لكن وعيهم يتطور، كما تشهد نضالات الفلاحين في سنوات 1974-1976 وما تمخض عنها: وفود القرويين إلى بانكوك ومطالبة الحكومة بتطبيق قوانين الإصلاح الزراعي في الأقاليم. تهشمت جزئيا الخصوصية القروية وفرضت ضرورة النضال نفسها تدريجيا.

فشل الحزب الشيوعي التايلاندي

يتعين على جميع القوى السياسية أن تأخذ بالحسبان هذه التحولات الجارية في العلاقات الاجتماعية وفي وعي الفلاحين بالعالم القروي. مازالت علاقات التبعية والحماية قائمة، لكنها تقتصر أكثر فأكثر على زبونية فظة: ابتزاز وشراء الأصوات خلال الحملات الانتخابية. كان أول المعنيين بالتحولات في قرى التايلاند هو الحزب الشيوعي ذاته. كان مستقبله متوقفا على قدرته على توسيع قاعدته الجماهيرية في القرى وخلق قاعدة جماهيرية حقيقية في المناطق الحضرية، و بالتالي على فهم متطلبات السكان الجديدة ومشاكلهم الجديدة. وربما هنا يكون فشل قيادة الحزب الشيوعي التايلاندي أكثر وضوحا.

كان الحزب الشيوعي التايلاندي في الأصل حزبا مدينيا وصينيا، لكنه أجبر على النضال في أطراف البلد بسبب القمع الوحشي لأواخر سنوات الخمسينات. فكان حزبا هامشيا اجتماعيا. و عليه أن يعيد بناء قواه وتوسيعها في غياب نضالات اقتصادية أو وطنية واسعة. لم يعد بوسعه مواصلة قيادة حركات ديمقراطية ومعادية للامبريالية كما فعل في المدن في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد فقد القسم الكبير من قاعدته النقابية العمالية. وعلى الصعيد العالمي، كانت القطيعة بين الصين والاتحاد السوفياتي ناجزة في العام 1960.

ومن المفهوم في هذه الظروف، أن المناضلين اعتبروا اختيار الصين ضد الاتحاد السوفياتي واعتماد إستراتيجية تطويق المدن بالقرى بمثابة رد فعل مشروع على الأحكام العرفية في البلد وليس سياسة مستوردة ، فرضت على واقع تايلاندي بشكل اعتباطي. وخلال المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي –المنعقد ببانكوك عام 1961- تم تبني مبدأ الكفاح المسلح في القرى. و فرضت قيادة «ماوية» نفسها على رأس الحزب في صراع تكتلات ضد من تعارضوا ذاك التوجه الجديد.

يتمتع الحزب الشيوعي التايلاندي بتجربة معينة في تنظيم المناطق القروية وفي العمل السري تعود إلى عهد مقاومة الاحتلال الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية. ذلك صحيح في الجنوب (حيث يبدو أن للحزب الشيوعي التايلاندي وحداته المسلحة الرئيسية) وفي الشمال الشرقي للبلد. و أتاح له قمع الحكومة للقبائل الجبلية شمال البلد الظفر بقاعدة جديدة في أقاصي الحدود مع لاووس. وفي العام 1965، أجبرت قوات الحكومة الحزب الشيوعي التايلاندي على شن الكفاح المسلح بالفعل، على الأرجح أسرع مما كان يأمل.

وخلافا لقوات التحرير المسلحة بالصين وفيتنام، كان الجيش الشعبي لتحرير تايلاند منظمة حرب غوار في الأدغال. إذ لم ينشأ الجيش الشعبي لتحرير تايلاند في انتفاضات شعبية. و سيحدد هذا بدرجة كبيرة، بالسياق الوطني لتلك الفترة، طبيعة العلاقات بين الحزب الشيوعي التايلاندي وقاعدته بالمناطق القروية. كان يتدخل في المقام الأول بما هو قوة لحماية الشعب، تضمن الدفاع عن السكان القرويين أو القبائل ضد أخطار خارجية أساسا (انتهاكات وتجاوزات يقترفها الجيش والموظفون والعصابات واللصوص...).

اكتسب الحزب الشيوعي التايلاندي ثقة الفلاحين. وتميز مناضلوه بالتفاني والإخلاص، وعدم تصرفهم كما تفعل قوات الجيش الحكومي، وبمنح مساعدات طبية. وكان بوسعه أحيانا بعث أطفال إلى الصين بقصد الدراسة، المتعذرة بتايلاند. لم يكن تعبير «خدمة الشعب» شعارا فارغا من المضمون! لكن ذلك جعل الحزب الشيوعي التايلاندي ينخرط لاإراديا في شبكة العلاقات الاجتماعية التقليدية.

كان الهروب نحو الغابات لا يزال شكلَ التمرد المألوف أكثر بتايلاند، و شائعا أكثر من المقاومة الجماعية في عين المكان ومن النضال الجماهيري. وتمثل الغابات أيضا ملجأ من له مشكلة ما مع القضاء أو الجيش. وكان هؤلاء الفلاحون يلتحقون بمناضلي حرب الغوار التابعين للحزب. و مقابلا لما كان يؤمـّن من عون وحماية، كان الحزب الشيوعي التايلاندي يحظى بدين اعتراف معنوي. وكان يفرض نفسه بما هو سيد كريم [في إطار علاقات متسمة بالزبونية]، وسيد غير مستغِل، بوجه أسياد تقليديين: ضباط وموظفون وأعيان... و يشكل مناضلو حرب الغوار قوة معادية للحكومة، القوة الوحيدة التي تعارض على نحو منسجم هيمنة الجيش والسلطات القائمة. إنهم يمثلون قوة شعبية. لكن الحزب الشيوعي التايلاندي والجيش الشعبي لتحرير تايلاند ليسا مع ذلك أدوات ثورة اجتماعية، إذ يتطلب الأمر الفعل من داخل السكان القرويين بهدف تغيير العلاقات الاجتماعية، ومن داخل المجتمع الوطني لتنسيق نضالات العمال والفلاحين.

ربما لم يكن ذلك ممكنا بعدُ في مطلع سنوات الستينات. وكان بلا شك ممكنا في مطلع سنوات السبعينات. لكنه كان يستلزم تغييرا جذريا في أساليب النضال، وفي التوجهات والشعارات، و حتى في اشتغال الحزب. وكان نجاح الحزب الشيوعي في قيادة النضالات المطلبية والديمقراطية في سنوات 1973-1976 يستدعي مغادرة الأدغال، والتحول إلى حزب منغرس مباشرة بين السكان على صعيد وطني. كان عليه الانخراط في إطار اجتماعي جديد، متسم باندلاع النضالات الطبقية الحديثة. أدرك ذلك كثير من شباب الحزب على نحو ملتبس، فيما ظلت قيادته حبيسة إطار فعلها و تحالفاتها مع بيكين.

تشهد تايلاند تحولا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. مازالت القيم القديمة متغلغلة بعمق بين السكان بينما باتت قيم جديدة تفرض نفسها. و أصبحت العلاقات الاجتماعية غير مستقرة. و أدى توطد برجوازية تايلاندية حديثة وانفجار تعبئات جماهيرية إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية. وظهرت فجوة كبيرة بين نظام السلطة الموروث من الماضي القريب وبين موازين القوى الاقتصادية القائمة بين مختلف تكتلات الطبقات المهيمنة. و بات دور الجيش في الدولة موضوع إعادة نظر. لكن الأحزاب الكبرى تعوزها المقدرة على تنفيذ إصلاحاتها الاجتماعية والسياسية. أما اليسار الثوري التقليدي، فلم يتمكن من فهم الإطار الجديد للنضال الوطني في سنوات السبعينات أو التحرر من تأثير بيكين. ولذلك لم يستطع مد الحركات الاجتماعية الجديد بمنظور و بديل لأزمة النظام السياسية.

النظام القديم، المعزز بالتقاليد الثقافية والقوي بضعف خصومه، يبقى قائما بقوة. لكن عليه أن يساوم. فهو مجبر على تحديث نفسه، لكنه عاجز عن تجاوز ثقل النزعة المحافظة البيرقراطية والعسكرية والملكية.

تجتاز تايلاند مرحلة انتقالية طويلة، يؤدي فيها فعل ميزان القوى المتناقضة إلى انحصارات عديدة وجملة أزمات متعاقبة، صغيرة وكبيرة. وقد تفضي تلك التوترات مستقبلا إلى تجدد النضالات الشعبية و إلى مرحلة جديدة من الصراعات المفتوحة مماثلة لتلك التي شهدتها سنوات السبعينات.

بيار روسيه

مطلع العام 1983

تعريب : المناضل-ة




*جيمس بورنيت James Burnet وجون غيلفو Jean Guilvout ، «تايلاند»، دار النشر كلارتالا، باريس عام 1983. هذا المؤلف المشترك كتبه مناضلو لجنة التضامن مع الشعب التايلاندي (CSPT). ارتأى الناشر، لدواعي تجارية، ألا يحمل الكتاب سوى توقيع اثنين منهم. كتب بيار روسيه الفصل الثاني («أرز وفقر»)، والفصل 6 («أين وصل اليسار التايلاندي؟») والفصل 11 («وعود وتحديات». الفصلان 6 و11 أُعيد نشرهما في هذا المقال.)



#بيار_روسيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شروط نزعة أممية جديدة


المزيد.....




- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - بيار روسيه - اليسار التايلاندي والحزب الشيوعي التايلاندي: السنوات العشر الحاسمة ، 1973 إلى 1982