أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد عثمان محمد - قراءة سودانية للأزمة الوطنية لمساهمات المفكر الماركسي الشهيد -مهدي عامل-















المزيد.....



قراءة سودانية للأزمة الوطنية لمساهمات المفكر الماركسي الشهيد -مهدي عامل-


محمد عثمان محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3600 - 2012 / 1 / 7 - 18:32
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مقدمة:
-1-
مع أنيّ ، الكاتب ، ممن يرون في المقدمات تحرجا بائسا لتبرير ما سيأتي ، أو تحذيرا يقع بعد فوات الأوان ، لما ستقع عليه عينا القاريء الحصيف ، إلا أن المقدمات في ذاتها ضرورة لأن يحدد الكاتب نفسه في إطار معرفي معين ، تجنبا للتعاميم المخلة والإسراف بلا جدوى ، وسعيا منا لوضع "فرشة" تبنى عليها قراءاتنا الآنية واللاحقة .
كسر البداهات..هو هدفنا الرئيس ، إن قراءة السودان ككائن ميثولوجي يقع خارج حركة التاريخ.."فريد عصرو" هذه الذي هو وطن عجيب ، وتعدده فريد ، لا بد من إعادة السودان إلى حقله المعرفي ، داخل حركة التاريخ هنا نقطة البداية ، وهنا يتجلى المنهج العلمي في مهمته النبيلة للنقض ، نقض كل ما هو غير علمي، ولا نبطن في معيتنا من كنانة معرفية ، سوى تراثنا الإنساني المتقدم والماركسية ، كمنهج تحليلي ، ومهما جاملنا وأخضعنا الفكر لمسائل التكتيك والمجاملات الإجتماعية ، فإن الماركسية لا يمكن أن تتحول وتنتبذ ركنا قصيا في متحف الخزف الفكري ، متحف التاريخ وخزانة الأفكار ، فأي منهج نبتغي ، ونحن نود أن نفك تعاقيدا ليست في عناصر الكل السياسي ، بل في الكل الديكارتي ذاته ، وأن نبني قراءتنا على عوامل أساسية ظاهرة وخفية ، وأن نكون علميين لأبعد الدرجات ، وبلا مراءاة ، أن نكون في ذات الوقت ، منحازين ، فما معنى الإلتزام بالمنهج العلمي دون الماركسية ، وما معنى أن نكون ماركسيين بلا إنحياز ؟
أزمة الخطاب وخطاب الأزمة ، رغم التشابه في النية اللغوية إلا أن الفرق شاسع جدا بينهما في البنى الفكرية ، وقد لايعيه الكثير ممن يجرفهم اليمين الرجعي ، أو حتى"المغامرون" في حركة اليسار ، فكلاهما ، جزء من أزمة الخطاب ، الخطاب غير العلمي ، في مواجهة خطاب في سيرورته الثورية يتجلى مدخلا لقراءة الأزمة..فيكون خطابها الطليعي الذي لا يهاب ولا يضمر مبطنا ، وليس كمثل نقيضه يجنح إلى "القول مكبوت القول "..والمعادلة هنا مختلة لا متبادلة ، فخطاب الازمة يهدف إلى حلها ، بقراءتها تفكيكها وتحليلها ، بينما الخطاب المقابل ، في أزمة إذ أنه لا يطرح نفسه بديلا ، لأنه متى ما قبل هذا الدور لغى ابديته وتوقعنه"كونه واقعا" ، وقبل بشروطه التاريخية وبالتالي دخوله حقله المعرفي القابل للنقض والهدم/البناء الجدلي ، فهو دائما مطروح في أوله ضرورة ، ضرورة لا غنى للبشر عنها ، تحول الحزب إلى سلطة طبقية ضيقة ، محروسة بخطاب "التمكين" سرعان ما تتحول الضرورة إلى مقبولية منقوصة ، منزوعة الدسم الفكري ، تجد في قطاعات عديدة من الجماهير التماهي اللازم لتمددها ..وفي سيرورتها لا تنتشر إلا وفق قوانين " تأبيدها" ، بمنطق أن الحزب/السلطة هو الدولة /الكيان بل هو الحياة في ذاتها وبزواله تزول لأنه وفق هذا الخطاب البائس هو الأول ، أو وفق مناهج الإسلام السياسي هو المعبر والناطق بإسم " الأول " الخلقي .
-2-
كيف نجر هذا الخطاب المازوم إلى سوح المنازلة الفكرية التي يتهرب منها ؟ بالنقض. يقول الشهيد مهدي عامل في كتابه في الدولة الطائفية : "أول فعل للنقد اسقاط الحصانة عن النص .ليس من نص مقدس ، ولتكن اللعبة مكشوفة لكن النص يراوغ ، والنقد يراوغ حتى يضع النقدُ النصّ في موقعه ، في حقل الصراع الطبقي.." . وكما أسلفنا فهذه مهمة المنهج العلمي ، والماركسية في تحليلها لما يبطن من الأمور ويضمر ، ولا يكون ذلك بقراءة التاريخ بظاهره ، إن تاريخ الصراع الطبقي في السودان ومنعكساته السياسية /الإجتماعية لا بد أن يقرأ هكذا ، بإستطلاع الأزمة وجوهرها ، لا مظاهرها المتنوعة . فلم تكن الإنقاذ وليد صدفة ولم تكن عملا منبتا قامت به الجبهة الإسلامية القومية في 30 يونيو1989 فحسب..لم تنشأ الأزمة في دارفور في 2003..لم ينفصل الجنوب في 2011..لم يكن غلاء الأسعار فقط لإنفصال الجنوب..ولا يجب وفقا لهذه الأمور ، أن ينشأ خطاب الأزمة ، خطاب التغيير ، فقط لمثل هكذا حوادث ولا لأن ربيعا عربيا ما هل بالمنطقة فلا بد من لحاق الركب..الثورة السياسية كمدخل للتغيير الإجتماعي يجب أن يتجاوز الطرح البلاغي المعمم والذي يحاكي في خطّيته شعارات على شاكلة " الإسلام هو الحل " ..النظر إلى الحوادث بشكل استاتيكي Static/ Stagnant هو الآفة والطامة الكبرى للفكر "المسيطر" الآن في السودان
وإذا استعرضنا مقولات سنتطرق لها في قادم النقاش ، لأركان هذا النظام ، من ناحية ومعارضيه سواء المخمليين -على كثرتهم- والثوريين -على قلتهم- ، فإن هذا الإيراد لا نهدف منه للحشو والتذكرة ، بل لإيراد نمط يأخذ "تنمذجه" شكلا واقعيا ، في الطرق على منطق "التأبيد" سباحة خارج التاريخ ..فإن كان الشهيد مهدي عامل وجه صارم نقده الملتزم ، نحو فكرة الخطاب الطائفي بلبنان المبني على قداسة فكرة "التعدد" كمبرر للمحاصصة الطائفية ، وبنينان نقده على النقد لهذا الخطاب ، فإن ذات المهمة بإختلاف الخصوصيات والمحددات ، لا بد بالبدء بالتصدي لها لمن اصطفوا بصف الخطاب الثوري ، هدما لأبدية الكيان السلطوي والأصول الإسلاموعروبية التي يسوقها عرابو النظام بنية عقلية جديدة بقبول ما يسمى بـ"الجمهورية الثانية ".
-3-
"..والحرب حربان:حرب لخصمك ، وحرب عليه ، وما كان للحرب يوما منطق واحد ، وما كان لها جبهة واحدة.." ، الوقوف على خط النار في جبهة الأفكار تقتضي منا أول ما تقتضي التمايز النظري عن الجبهات الأخرى ، فالإنزلاق -ولو غير الواعي - إلى مواقع فكر الخصم ولو بدواعي نقضه هو مذمة يقترفها العديد من المفكرين والكتاب في بلادنا ، فكأنك ها هنا تتملك أدوات لإصلاح دراجة نارية ، وتود إصلاح عطب بسيارة كبيرة ، فلن يفيد هذا بشيء غير عنتٍ ، للكاتِب والقَاريء، وللوَطن جميعاً . المدخلات الفكرية العلمية هي التي تخرج بمخرجات علمية ، إن أي نقاش ذو طابع إنزلاقي لفكر الخصم ، المحصن لمصالحه الطبقية ، أو نقد الأفكار بأدوات غير المنهج العلمي فإن هذا النقاش بقدر ماصدر من التقدميين ، وتحديدا الشيوعيين فإنه ليس علميا،ماديا،على الإطلاق..وبقدر ماعبروا عن أنفسهم في ظل هذا النقد بصورة علمية فإنهم- وبإمتياز- لم يكونوا شيوعيين !

1.أيّ فِكْرٍ مُسَيطِر ؟
يقولون : القوة تكمن في عقل الضعيف لا في عضلات القوي ، إن لم تكن هذه المقولة صحيحة على إطلاقها ، إلا أنها وبشكل كبير تعكس الدور الذي يمكن أن تلعبه البروبوغاندا في تشكيل البنى العقلية في المجتمعات ، بينما تتولى "عضلات القوي " تكسير وتفتيت أي معارضة من قبل البنى السابقة في مواجهتها ..وهي مواجهة مركبة : الفكر الثوري يستلهم شرعيته من حركة الجماهير وهي دليله السياسي الواقعي ، يتحول في مواجهة سلطة متعسفة ، و في ذات الوقت تصطف قطاعات شعبية ضده تتماهى بوعي زائف مع أيدلوجيا السلطة ومصالح طبقية مختلفة عن مصالحها ! فما الذي يحدد / يرسم ملامح هذه العلاقة بين الجماهير والسلطة ، إذا طرحنا "ضرورة" التناقض الطبقي بينهما ؟
إبتداء ، هل يعني " التناقض" الطبقي ، كملمح من ملامح الصراع الطبقي ، أنه مرادف ، أو مقترن بـ"النضال الطبقي"؟ لا أرى ذلك ، إن التناقضات نمط إجتماعي ، في أي مجتمع تطور من المشاعية ، وبدأت فيه العلاقات الإنسانية تنحو فيه منحى جديدا ..منحى وجود طبقات حاكمة ومحكومة..التقسيم الإجتماعي للعمل ..كلها خلقت حدود وفواصل تذوب وتظهر بإختلاف المجتمعات ..فإن كان عصر الثورة الإجتماعية هو عصر الطبقة الوسطى بإمتياز وتحالفها مع البروليتاريا ، فإن عصر الثورة التقنية وسقوط فرضية الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية بتجذر العولمة الإستهلاكية ، لخلق مجتمعات لا منتجة ، في جنوب الأرض ، وبكل الأزمات الإقتصادية في هذا العصر ، فإن الفوارق الإجتماعية تزداد حدة بين من يملكون ومن لا يملكون. وفي كل المواقع تختلف صور التعبير عن " السخط" و" الرفض" ..الصراع الطبقي حقيقة..لكن النضال الطبقي فعل سياسي في المقام الأول مرتبط بوجود أجسام وتنظيمات تقدمية تتملك خطابا ثوريا ، تعبر عن المصالح الإجتماعية للكادحين (كمفهوم أشمل من للبروليتاريا).إن هناك أنساق معيارية متمايزة في بناء المؤسسات والمجتمعات ، وفي ذلك ، لنصطحب في قراءتنا لمهدي عامل ، علامة بارزة أخرى في التراث البشري وهو يوجين هابرماس ، ينطلق هابرماس من طرح يستحق النظر في هذه النقطة : أن لأنساق تطور المجتمعات والعلاقات الإجتماعية منطقا خاصا في التطور متميزا عن الشكل " الكلاسيكي" الذي كانت تطرحه أوليَات الماركسية حول دور البناء الإقتصادي التحتي في تشكيل البناء الفوقي ( رغم علمية الديالكتيك كجوهر الماركسية ، إلى أن العديد من الكلاسيكيين والمغامرين على حد سواء أفرغوا الديالكتيك من علميته واختزلوه في شكل بائس ميكانيكي ، لايسمن ولا يغني من جوع ).يرى هابرماس في نظرته حول " العقل التواصلي " أنّ ان العقلانية التواصلية التي ينادي بها، تنظم عملية التفاعل بينالناس وتشكل فهم الجماعة لذاتها،ويتجلى هذا النوع من العقلانية في المجالينالأخلاقي والسياسي . ويقيم هابرماس العقلانية الأداتية التواصلية على أساس
فهمه لطبيعة النشاط الإنساني . فبينما فهم مارآس الممارسة الإنسانية البراآكسيس) على انها عمل فقط، فهم هابرماس ذلك على انه عمل وتفاعل في الوقت نفسه . والفرق بين الفهمين كبير جدا، فمقولة العمل تحدد علاقة الإنسان بالمادة والعالم الخارجي، بينما مقولة التفاعل تحدد طبيعة علاقة الناس بعضهم ببعض. إذا إعتمدنا هذه القراءة مدخلا ( وصحة تحديد المداخل هي خيارات تتعلق بقناعات الكاتب ) ، لمعرفة الطبيعة الطبقية للفكر المسيطر للسودان والذي هو ليس بالضرورة فكر السلطة ، فالسلطة الحاكمة في السودان كسلطة شمولية تعبر عن تحالف الرأسمالية الطفيلية ، والجيش في مصالح إجتماعية معينة تتلاقى فيها بعض قوى اليمين وتتغلف بغطاء ديني وقبلي ، هو نظام لا عقلاني ، وبالتالي هو كيان غير مفكر ، في سياق قراءة العملية التفكيرية كعملية عقلانية وفق رؤى الحداثة المرتبطة بـ"الأنسنة " لكن التحالف بشكله الواسع سواء في الحكومة والمعارضة وأشباه المواقف المعتادة من أشباه الرجال المعتادين يشكل عظم الظهر للفكر المسيطر ، فكر اليمين الرجعي والتخلف في بلادنا ..والذي كما حذرنا في أول النقاش ، ألا نعتقل الأحداث التاريخية خارج سياقها ، فالفكر المسيطر هذا لم يأت بدبابة الإنقلاب الإسلاموي ، بل كان مبكرا ، ودشن باكورته مع فجر الإستقلال " السياسي" من الإستعمار البريطاني ..ولا بد من ربط تطور ونمو هذا الفكر من كنفه " الإستعماري" مرورا بمهادنته الشموليات كلما كان هواها "يمينا" رجعيا ، خلوصا إلى الهدنة /المعارضة المخملية مع السلطة الحالية ، والتي وصلت حين كتابة هذا النقاش إلى المشاركة في السلطة في ظل تصاعد الخطاب الثوري والمطالب بالتغيير .
ظلت القوى السياسية المعبرة عن الحركة الطائفية : الأمة والإتحادي ، ومنذ إستقلال السودان معبرة عن مصالح طبقية وإجتماعية ، كلما تناقضت كانت المشاكسة سبيلا ، يؤئد حركة الديمقراطية ، ويقف عقبة كؤود أمام إنجاز أهداف التغيير سواء في أكتوبر 1964 ، أو مارس أبريل 1985 . ولنبدأ بسرعة لا تخل بالعلمية ولا بالإلتزام ، في هدم بداهات أولى :
(1) تسود مقولات وسط عدد من متوسطي التثقيف والتثاقف ، أن السودان لم ينل إستقلاله بالسلاح ،أي بالنضال ، وحينا يبخسون الأمر بأن السودان استقل "مبكرا "..في حركة التاريخ حين تقرأ بإستمراريتها حركيا ، فإن " المبكر" و" المتأخر" مقاييس ظرفية ، فالرغبة لا تصنع الأحداث ، وبالتالي تحليل العواطف لن يفيد ، ماذا يفيد إذن ؟ أن نقرأ العوامل التي صنعت الأحداث ، أن تعرف نوع الشجرة ، وطبيعة الأرض ، وكمية الماء التي تحتاج إليه هي عوامل تفيد في معرفة الثمر ، لكن مجرد مراى الشجرة لن يكشف لنا أية حال حقيقتها ، وإن تصادفت ، فستكون معرفة لا علمية ( إن كان هنالك معرفة من ذلك القبيل ) . هناك عدد من التوثيقات للحركة الوطنية بالسودان ، قد تكون منصفة أو غير منصفة ، لكن بشكل عام ، هناك اتفاق أن طبيعة العمل السياسي في السودان في ظل الإستعمار البريطاني كانت قابلة للتصنيف إلى صنفين:
(ا) حركة سياسية ولدت في كنف الإستعمار ، بتحول الطوائف ، أو للدقة قيادتها ، إلى تشكيل أحزاب سياسية ذات علاقة بدرجة أو بأخرى بالتكوين الطائفي ، نشأ الحزب الإتحادي برعاية المستعمر ..وهنا يورد غالب المؤرخين وصف " النكاية" و"المكايدة" السياسية في مواجهة حزب الأمة وطائفة الأنصار ، هذه المناورة البائسة من التحليل الطبقي لتكون الحركة الإتحادية برعاية قادة الختمية السادة المراغنة ساهم بشكل أصيل في تراكمات العقل البدهي السوداني الواجب التفتيت / البناء ، لم يكن في ظني أن عقل المستعمر البريطاني به سذاجة تجعله يضع خططه من باب " المكايدات" ، إن تشكل الحركة الإتحادية كحركة سياسية ينطبق عليه ذات قانون النمو لتحول قيادة طائفة الأنصار لتشكيل حزب الأمة ، نمو الرأسمال ، وبالتالي تعدد الإحتياجات والمصالح في ظل مشاركة في إدارة العملية الإنتاجية ..إستمرارية هذه المشاركة كانت تتطلب التطور من نمط إنتاج معين سائد في تلك الفترة ( شبه إقطاعي في رأيي وليس إقطاعي كامل ، إذ أرى أن دخول الإستعمار أدى لنقل التطور الطبيعي للمجتمعات السوداني من شبه الإقطاع إلى الرأسمالية بشكلها الإستعماري )، والتطور في نمط الإنتاج نحو الرأسمالية يعني تغير أدوات الإنتاج ، مساحة كبيرة من الأراضي ، وبالتالي لا يمكن أن يتم كل هذا دون الموافقة أو رضا السلطة البريطانية ، وفي هذا الصدد يورد د.صفوت فانوس في مقاله " دور بريطانيا في قيام وتطور الأحزاب السياسية ":شرعت الحكومة البريطانية في عملية تنمية اقتصادية رأسمالية في أواسط السودان، وذلك بغرض جعل السودان مكتفيا ذاتيا من الناحية الاقتصادية، ولضمان تزويد مصانع الغزل والنسيج البريطانية بالقطن. وصاحبت تلك التنمية الرأسمالية – كما يحدث دائما- تطور في جوانب متعددة شملت إنشاء خط للسكة الحديد وموانئ وطرق معبدة ومصادر للطاقة ومؤسسات تعليمية. تفضي التنمية الاقتصادية دوما إلى تفاوت (تفاضل) طبقي، وأهم طبقتين في المجتمعات الرأسمالية هما الطبقة المالكة للثروة، والطبقة العاملة، وبين الطبقتين توجد قوى اجتماعية أخرى مثل البيروقراطيين والمهنيين.عادة ما يقوم النظام الرأسمالي في مراحل تطوره الأولي بالتعايش والعمل مع الأنظمة غير الرأسمالية التي سبقته. بيد أن الأمر الهام الذي ينبغي تذكره هو أنه ما أن تثبت الرأسمالية أقدامها، وتنمو وتكبر في وسط المجتمع حتى تفرض القطاعات الرأسمالية قوانين حركة التغيير الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي على قطاعات ما قبل الرأسمالية، وتتوسع على حسابها...وهذا هو ما حدث في السودان."
بالظبط هذا هو التفاعل الذي نتحدث عنه ، والذي يغيب عمدا في القراءات غير العلمية وتداريه في عناد ، هذا الظرف ساهم في خلق الشروط التاريخية لتكون طبقة متماسكة من البورجوازية أقوى مما كان عليه الأمر قديما ( نشوء البورجوازية في ظل الرخاء الإقتصادي بمملكة الفونج)، البورجوازية التي شكلت ضرورات توسعها الإقتصادي بتراكم رأس المال النقدي والبضاعي ، عاملا أساسيا في التطور والمضي في طريق النمو الرأسمالي الإستعماري ، وبذلك بنيت اللبنة الأولى لنشوء وتمدد هذا " الفكر المسيطر ".إذن الأمر بعيد كل البعض عن النكاية ، تشكل الحركة الإتحادية كحركة مناوئة ، هي "صفة" سياسية ذات ملمح استراتيجي من سياسات الإستعمار ، تهدف إلى ضبط " التوازن" و "التناقضات" بين البورجوازية الناشئة في طلائع الطائفتين .كما أوضح الإقتباس أعلاه ، بأن تفرض الإدارة الإستعمارية قوانينها الرأسمالية بتتبيع عجلة الإنتاج " الوطني" إلى مصدر للإمبراطورية " التي لا تغيب عنها الشمس " ، والمحافظة على معدل نمو يسمح أول ما يسمح ، بديمومة الوجود الإستعماري ، وتركيز مواقع " التخلف " ، في مواجهة مواقع " التقدم " التي ما لبثت أن نشأت في الطبقات الوسطى من المهنيين والحرفيين والمتعلمين ، معبرة عن مصالحها في حركة تقدمية " معادية للإستعمار " ومنادية بالتحرر الوطني..فبذات المنهجية " الفطيرة" في التحليل التاريخي غير السابر لغور التحولات الطبقية ، فيمكن تصنيف تكونات أجسام منظمة بمثل هذه الإتجاهات ، بأنها أيضا "مكاواة" - بالعامية - أو ربما مجرد ردة فعل ، وهو إتجاه تحديدا يدعمه " الفكر المسيطر " ، بجعل الأفكار المناقضة له تنحدر من نسله بإعتباره " الأول" و" الأبدي" ، وكل ما هو خارجه ، فهو تمظهر أو تنمذج له ، ولو بشكل مقابل ..فتجد كثيرا من الأفكار المناقضة والمعبرة عن نفسها في تيارات سياسية معارضة ( إذا تحدثنا عن فترة الإنقاذ) ، فهي ترفض النظام لا من حيث شروط تكونه ، بل من حيث التناقض في " المصالح" ، وفي ذلك دلالة كبرى على توحد المنهج والمشرب لتيارات اليمين الرجعي في السودان ، وما الإنقاذ إلا أثر جانبي متى ما تفلت تتم معالجته بالشراكة مع الطائفية ، ومهادنة الإستعمار والإمبريالية .
ولضرورات ، ترتبط باطارية هذا النقاش ، لا يمكننا الغوص بتعمق في قراءة تاريخية علمية ، مسهبة ، في تطور المجتمعات البشرية في السودان ، حيث أننا نسعى لضبط السقف التاريخي لتطور " الفكر المسيطر "، من حيث تكون السودان بحدوده الجغرافية والسياسية في ظل الفترة الإستعمارية وحتى بعد إنفصال جنوب السودان . والقراءة لتمدد هذا الفكر يسوقنا لا محالة ، إلى اللغة ، كوعاء معبر عن السياقات التاريخية والإجتماعية لأي مجتمع ، فاللغة هي لسان الشعوب ، لا من حيث التراكيب الأبجدية ، بل البنى العقلية التي بنيت عليها اللغة ، فبمجيء الإنقاذ اتسع فقه التبرير ليشكل له قاموسا لغويا منفردا ، من حيث تبرير "الضرورات" ، فقه من الحيل المفتولة من لحى علماء السلطان ..فعندما تصير "الرشوة" و"الفساد" في عرف هذا القاموس " تساهيل" و"مشايات"، يعكس هذا الأمر تحول الفساد من سلوك سلطوي مرتبط بطبيعة جهاز الدولة ، إلى سلوك مجتمعي مركب ، إيجابا( وإن كان لا إيجاب في الموضوع) بممارسة السلوك ، سلبا بعدم رفضه وشجبه ..اللغة أيضا ليست كائنا جامدا ، وتطور الشعوب يقرأ من تراثها الأدبي والفكري ، لنقف قليلا عند هذه النقطة.
يقسم النقاد تطور الإتجاهات الفكرية بالمدارس الشعرية فيما يتعلق بموضوع " الهوية" بالسودان ( وليس الهوية السودانية فهذه العبارة خاطلة إذ أن طرحها بهذا الشكل يعكس لحد ما حسم موضوع هوية واحدة ، مرتبطة بالسودان ، تذهب إلى "السودان" السياسي ذو المشارب الإسلاموعروبية ، لا "السودانوية" كمفهوم مجتمعي لا إحالي ) إلى ثلاث إتجاهات رئيسة:
الإتجاه الأول ، وهو الإتجاه الناح إلى تأصيل الإنتماء العربي الأصيل ، بعامل اللغة ، إلى الثقافة العربية ، بإعتباره لغة التخاطب وهي بالتالي معبر الهوية.. قامت هذه المدرسة في أدبياتها على ما كتبه عبد الرحمن الضرير في أوائل القرن العشرين في كتابه العربية في السودان، بدافع إثبات عروبة السودان دون الالتفات البتة إلى العناصر غير العربية التي تشكل قوام الأطراف في الشرق والغرب، الشمال والجنوب ـ هذا الأخير خاصة ـ فكأنها غير موجودة [أحمد عبد الرحيم نصر، 1985: 15]. وتبعه في ذلك محمد عبد الرحيم في كتابه نفثات اليراع في الأدب والتاريخ والاجتماع، حيث دافع عن عروبة السودان وعن إسلاميته، ولعل أهم سبب في إنحسارها بشكل واضح ، هو ظهور تيار مساوم ، مفاوض ، وهو الإتجاه الثاني في الطرح الأدبي لإشكال الهوية
الإتجاه الثاني ، هو إتجاه تأثر بالأول إذ نمى وفق شروطه التاريخية ، وخلق معارضته ونقضه وفق ذات الشروط لا خارجها ، يوازن بين الإنتماء العربي والأفريقي ، وهي ما عرفت بمدرسة " الغابة والصحراء" إن صحت تسميتها وظيفيا بمدرسة ، إذ أن الكتابة وفق شروط هذا الإتجاه لم يكن وليدة منتدى فكري أو سياسي أو ميثاق متعارف عليه ، بل تحققت في ظلها الكتابات وقام النقاد بوضعها في هذا التصنيف . من رواد هذه المدرسة: النور عثمان أبكر ، محمد عبد الحي ، ومحمد المكي إبراهيم . من أكثر الأعمال المعبرة عن هذا الإتجاه هو نص " العودة إلى سنار " بكل ما يحمله ذلك من استدعاء لنموذج طرح كـ"تصاهر" دوما ، لا " تعايش" ، أي إختفاء ثقافات ، وبروز إتجاه واحد أصيل يظهر ضمنا حينا وصراحة أحيانا: النموذج الإسلاموعروبي ذاته ، وإن تسامح مع أفريقيانيته ، التي ربما تقرأ في هذا الصدد كـ"شيزرفرينيا" حادة للأنا السوداني ، أو كما عبر الشاعر محمد المهدي المجذوب بأننا قوم : " نصلي بلسان ونغني وبلسان " . وفي ذات الصدد يقول ي قصيدته (انطلاقة) والتي ألفها بمدينة واو 1954م [ محمد المهدي المجذوب، 1982: 20]:
فليتِي في الزنوج ولـي ربـابٌ تميـلُ به خطاي وتستقيــمُ
أُجشِّمه فيجفلُ وهـــو يشكـو كما يشكو من الحُمَةِ السليـم
وفي حِقْـوَيَّ من خـرزٍ حـزامٌ وفي صَدُغَيّ من وَدَعٍ نظيـم
وأجتـرع المريسةَ فـي الحواني وأهْــذِرُ لا أُلام ولا ألــوم
طليـقٌ لا تقيـّدني قريـــشٌ بأحساب الكــرام ولا تميـم
وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السُّكْرِ والطّربِ الغَشوم

الإتجاه الثالث ، وهو على ضعفه النسبي ، كان في الموقع المناقض ، وجد في ظروف التغيير السياسي بثورة أكتوبر 1964 مدخلا حيويا لطرح مشروع تغيير إجتماعي فيما يتعلق بالهوية ، إتجاه عبر عن نفسه في مجموعات مثل " أباداماك " أو " طلائع الهدهد" وهي اتجاهات أدبية إبداعية إرتبطت بالتزامها بحركة اليسار ، والحزب الشيوعي السوداني بشكل خاص ، إذ يشير إسم " أباداماك" ذاك الإله السوداني الأول ، خصوصية أساسية : وجود حضارات لا إسلاموعروبية قبل سنار وبالتالي منع طمس التاريخ وتزييفه . وهذا الإتجاه على تقدميته إلا أن ما ساهم في إضعافه هو إختفائه في ظل المشروع السياسي ، وافتقد استراتيجيته ومدرسانيته ، فتحول الإبداع التقدمي إلى خطاب تكتيكي ، يومي ، ضد السلطة الشمولية ، والدعوة للحرية والديمقراطية وهي قيم نبيلة لا مراء في ذلك، لكن لم يتمدد الخطاب إلى تحسس مواطن العطب الأصيلة ومخاطبة "جذور المشكلة "
صعود خطاب الأنا الإسلاموعروبية وبالتالي الآخر غير المنتمي ، الهامش ، الجغرافي والسياسي ، كان ملمحا أساسيا نهضت عليه السلطة الطبقية للجبهة الإسلامية في إنقلابها المشئوم . وبما أن الفكر المسيطر ، لا يملك أي أطروحات تجاه قضايا الهامش ، الآخر المنبوذ ، فإن اللغة تشكل ميكانيزما أساسيا في ترسيخ هذا النبذ مجتمعيا أي أن الإقصاء هنا مركب : إقصاء السلطة ، وإقصاء اللغة .فهم هذه العلاقة مدخل أساسي للنقض ، وهدم بداهات " الآخر" ، إنطلاقا من إشكالات الهوية التي ورغم كثرة التناول لها ، فإن تناولها لم يتجاوز الحقل الأكاديمي وبالتالي المساهمة في ترسيخ عقلية سيكولاستيكية"مدرسانية" ، أو يكون النقاش مرتبطا بالخطاب السياسي التكتيكي ، فهي مهمة الفكر المناقض من حيث موقعه ، أن ينطلق في المسافة التي يجري فيها الحوار المعرفي ، في نقاش مستفيض حول : علاقات الهامش والمركز ، أي المناهج أربأ بنا من فتنة " النخبة" وضلال " البداهة " ، كيف يمكن لنا من إعادة تأمل الجسد الوطني ، في ظل مشروع إستقطابي- استيعابي ، لهذا الخطاب المأزوم ؟ كيف يمكن حل شفرة الآخر ودمجه في الأنا السودانوي الواحد الذي لايحيل الإنتماء الوطني إلى حقول أخرى هروبا من محك السؤال الوطني الأهم : من هو السوداني ؟
البداهة الثالثة: هي السودان ، ذاك الكيان الفريد ، الذي لوحده يشقى ولوحده يفرح ، هو المتعدد ، اللا منفتح على تعدده ، الوطن " السمح" و "الشين "..إن كلا الموقعين ، تبوأ مقاعدهما عنوة ، ولم يتبوأ مقاعد سمع أو عقل ، فكلاهما يتساوى في أنهما يقرأن السودان خارج شروط التاريخ وحركته ، ولا يقرأ في هذه التناقضات البينة سبيلا كي يصل إلى تحديد الأزمة ، وأن يطرح ذاته ، يتوقعن في حقله المعرفي المخصوص القابل للنقد ..إن إعادة الكيان السوداني بكل مكوناته لهذا الحقل ، يعني وضعه في خانة القراءة العلمية والتاريخية ، والتي بالضرورة تجعل الموضوع نسبيا ، يزحزح تابوهات المطلق والأبدي ..وهو ما لايوده الفكر المسيطر . فحين نقرأ تصريحا لمستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان اسماعيل في ندوة يقول فيها " أن الشعب السوداني كان مثل الشحاذين" وليست العبرة في الإساءة ، ولا في الجهل الضارب جذوره في خطل الحديث بأن " الشحاذين" ليسوا ظاهرة منبتة بل هي ناتج أصيل لطبيعة عملية الإنتاج والسياسات الإقتصادية لجهاز الدولة ... لكن مربط الفرس في " كان" التي "تؤبد" النظام الإنقاذي بأن ما قبله " كان" استاتيكي ، لا مستمر ، وايضا لا مقروء ، هو فقط هكذا ماض سيء وإنتهى وبدأ التاريخ المتحرك المستمر منذ 30 يونيو1989 ...ولا أدري إن كان كلام المستشار مبنيا على قراءة رسمية للحزب الحاكم أو هو إجتهاد شخصي ضال ومضلل ، لكن هذه الفترة التاريخية التي قطعا عاصرها وكان على قيد الحياة آنذاك ، بيولوجيا على الأقل وليس فكريا ، فمهما بلغ سوء الأوضاع الإقتصادية فإنه لم يفق أبدا مقدار المعاناة التي يصطرع في نارها شعبنا ، ولا المزالق التي هوينا له يتخبطنا مس الإحباط والفشل . لنقرأ هذا التصريح مع خطاب البشير في القضارف حول الحدود في عيد الحصاد بالعام الفائت وهو يتحدث عن تطبيق الشريعة بأنهم " سيطبقون الشريعة" وسيكون الدستور " إسلاميا" هنا نقطة تناقض ، فإذا كان التصريح الأول يسير في منهجية التأبيد "المستمر" منذ الإنقلاب ، فإن الثاني " تأبيد" منقطع ، أي أن الفترة بعد إتفاقية السلام 2005 وإلى الإنفصال ، هي مقطوعة وغير محسوبة بالنسبة للكيان الإنقاذي الحاكم ، لوجود عامل التكتيك في التنازل عن قضايا معينة تعتبر هي ركن أصيل في مشروعهم " الرسالي" وبالتالي فترة التوقف هذه " ما محسوبة" ! وبالتالي يميل الخطاب المسيطر بشكل عام إلى أن " الأبدية" عنده مرتبطة بـ"الغلبة" ، فلا أحد من إسلامويي " القصر" - تمايزا عن الذين تفاصلوا - يرجع أو يشجع تاريخ ما قبل الإنقلاب ولو كان فيه من جوانب نيرة نسبيا من وجهتهم ، فهو عندهم حينا جزء من الماضي " اللا مستمر" الذي انتهى خطيا بالوصول للسلطة وبدأ زمن جديد ، ومنهم من به أشجان ، فيسترجع ، ولكن هو هنا " انتقائي" عنده الزمن خطوط متوازية يصل نقاط بعينها فيخلق زمانا مختلفا ، مختلقا في ذات الوقت ، وكلاهما يشترك في لا علميته إذ ينشدان التأبيد والبقاء خارج شروط التاريخ / النقض .
إن السلطة ، كمكون يجمع بين القوة الجسدية والعقلية ، تهيمن وخطابها كلما قمع الحرية بقى متوهما وحدته وعلويته ، لذا أول ما يصطرع في حوار المعرفة ، ونسبية الأشياء يصيبه الجزع ، وتراه هناك في صحراء قاحلة منبتا يعاني كلالة الجدب وبلالة الندى وسرعان ما تأتي رياح التغيير تلقيه هشيما منثورا ، هذا ليس محض بلاغة ولا رومانسية ثورية ، بل هي قراءة متأنية لتجربة الشعب السوداني (في ظروف إجتماعية وتاريخية مختلفة) في صرع الأنظمة الشمولية ، بل ومحاججة الأنظمة الديمقراطية وهكذا التاريخ يقرأ "في قهقة التاريخ المتقدم ، عبر الإمكانات المتضاربة ، يحتضر عالم بأكمله ، ويتهيأ للولادة آخر . تتفكك نظم من الفكر الإقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بغير عنف ، تتصدى لجديد ينهض في حشرجة الحاضر وتقاوم في أشكال تتجدد بتجدد ضرورة إنقراضها ، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها مع الموت على موعد يتأجل ، إذن فليدخل الفكر المناضل في صراع يستحث الخطى في طريق الضرورة الضاحكة . فهو اليانع أبدا ، وهو اليقظ الدائم ، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذر . يستبق التجربة بعين النظرية ..يتوثب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمن للنظرية قدرتها على التشامل.."
يموت عالم ، نسجت خيوطه شبكة معقدة من المصالح الطبقية الإجتماعية ، وخلق وعيه ضرورة البقاء ، وتطلب بقاؤه تزييف الوعي، فالنظام القمعي في وجوده مقبول ، من قبل وعي زائف ، وبالتي هو موجود بذاته لا بموضوعه ، وهذا الأمر يتكشف في حركات التظاهر في المنطقة العربية ، شعوب الـ99% تؤيد ، الآن ترفض ، تبدأ بقلة ، ومطالب محدودة سرعان ما يتكشف لها بشكل جلي ، أن مطالبهم المحدودة ،قبول بشروط خلق الأزمة وإعادة إنتاجها ، فيتوصل تفكير الجماهير الوثاب ، إلى ضرورة عناق الحرية ولو كان العناق للمشانق وللرصاص ، ويخلق من هذا الركام ، عالم مشرئب الآفاق ، يبدأ في نسج الخيوط الجديدة ، وفق هوى الأصابع ، والمصالح ، لكن متى ما فارق التغيير السياسي هدفه الإجتماعي الشامل ، ظل التغيير فوقيا ، وظلت ذات المصالح التي تنتج الأزمة موجودة وهو أمر بين في الحالة المصرية الآن ، وهو أمر ، لا بد أن تستصحبه القوى ذات المصلحة في التغيير ، وهو في ذات الوقت من صميم مهام الفكر المناضل حيث يتحد السياسي بالإجتماعي ، ويطرح خطابه لحل الأزمة في عنفوان و أنفة .
2.الَفْكرُ المُنَاضِلْ : أينَ تَقَع المَاْركِسية؟
فالفكر المناضل ليس واحد المسير ، ولا واحد المصب ، لكنه في العام تقدمي ، وفيما يخصنا بالخاص: علمي ماركسي ، وكلاهما يقع كثيره في دائرة الخطاب المأزوم حين ينزلق لمواقع تفكير الخصم ، ويحاول نقده من داخل شروط لعبته ، فيتحول لخطاب انتخابي ، إنتهازي ، مفرط البراغماتية ( فالبراغماتية أداة من ادوات المعرفة) . والماركسية هنا ، هي الماركسية وفق الخطاب الفكري للحزب الشيوعي السوداني ، كملح خاص ، يطعم الحياة العامة ، ويتطعم منها ، ولا يخلق "رغم علات كثيرة" من النموذج "واقعا" ، فالماركسية مثلها مثل أي فكر إنساني تخضع لمحددات الواقع والمنجزات المعرفية ، ولا تنفصل عن القراءة الكليانية للتراث البشري ، وليس لها ان تخلق القطيعة المطلقة مع التاريخ ، فليست الماركسية بداية للفكر المناضل ولا نهاية له ، ومتى ما ادركنا الوظيفة الحقيقية للماركسية السودانية أدركنا موقعها من /في الفكر المناضل.
والماركسية جزء من الفكر السوداني بمكوناته المختلفة : الدينية ، والأفريقية ، أو المستعربة الوافدة (وليس في لفظ الإستعراب خصومة بل هو تدليل الإستفعال أي الإختلاط الآتي في واقع يسبقه ) ، ورغم تأثر كل هذه المكونات جميعا بمشارب أخرى إلا مظاهر الإستقلال نجحت في الظهور مبكرا ، فالإله أباداماك كأول إله محلي ، وظهور ابجدية اللغة المروية والنوبية، والتميز على مستوى الحضارات(نبتة ، كرمة ،سنار،..) . وبالمثل تمايزت الماركسية ، فلم تأتي وافدة غريبة ، بل وجدت لها جذورا في الثقافات السودانية والقيم المجتمعية ، ونشأت في كنف الحركة الوطنية بل وتفاعلت فيها أيما تفاعل( عدد من المراجع يشير إلى وجود شيوعيين وسط حركة اللواء الأبيض ، وأن البطل علي عبد اللطيف كان يستلم منشورات شيوعية مطبوعة باستكوكهولم)ونحن لاندلل لهذا تسولا لوطنية ، فالشيوعيون والتقدميون بوجه عام ، لهم اسهاماتهم في النضال ضد المستعمر قبل ميلاد الحزب الشيوعي ، وعلى الرغم من أن عدد من القراءات التاريخية تشير إلى أن المؤلفات الأولى للماركسية غلبت عليها كتابات ستالين باختزالها المخل إلا أن العقل الجمعي للشيوعيين السودانيين ساهم في تكوين رؤية لمشروع تقدمي واسع ، تجاوز الكتابات و الخطب الجافة والإختزال ، بل أدرك بوعي تام ، دور الجماهير ، وبنى رؤيته للماركسية على هذا الأساس ، فكثير من عضوية الحزب قد تكون ولجت إليه ليس إيمانا بالماركسية ، بل بقيم الديمقراطية والحرية والإشتراكية والتقدم الإجتماعي فيما يختص بحقول الواقع السوداني وهذا إن كان له إيجاب ، فله الآثار السالبة في ضعف البنى الفكرية اللاحقة لتطوير المشروع الوطني الديمقراطية وتوهان الماركسية عن موقعها بين متشبث أعمى بكليتها وشمولها ، وبين متنازل مستكين يود التخلي عنها بذات الكلية .. وإذا تحدثنا عن قضية محورية مثل قضية الديمقراطية فلم يكن العقل الجمعي للشيوعيين السودانيين ثابتا على أمر فيها ، بل تطور "قد طور الشيوعيون نظرية للديمقراطية تكاد ان تكون نظرية كاملة، وتعتبر ثورة فكرية عظيمة وتطورا نوعيا لما كان مطروحا من قبلهم ومن الحركة الشيوعية في المنطقة الافريقية والعربية. وما نحتاجه الآن هو ان نصوغ تلك النظرية بشكلها المتكامل وان نخرجها من بطون وثائق اللجنة المركزية والبيانات الجماهيرية والاحاديث المتفرقة لقادة الحزب لتصبح خطابا ايديولوجيا وبرنامجيا واضحا، حينئذ ستطرح امامنا مهام جديدة اكثر تحديدا" ، والعجز عن الصياغة ، عجز القادرين على التمام ، لكن ليس سببا ذاتيا ، فطبيعة الصراع السياسي في السودان أدخلت الشيوعيين السودانيين في معارك اليومي من السياسة وضنك الحياة ، فتحول الخطاب المتشرف الآفاق الجديدة إلى خطاب يومي ، أقرب لرد الفعل ، من الفعل ، وكل هذا في ظل ضعف حقيقي في الرؤى الفكرية إما لأن هذه الرؤى فوقية ، نخبوية أو لأن قطاعات عريضة ترى الفصل " الواجب" بين السياسي والفكري ، وكلاهما باطل حنِتْرِيبْ.
وفي حَقَل الصِرَاع الأيديُولوجي بالسّودَان ، هُناك فِكرين ، لا يتقابلان بشكل هندسي ميكانيكي ، بل يتداخلان ويتحوران ، نسبة لظروف التناقضات الإجتماعية ، فلا يتناقضان سياسيين : حكومة ومعارضة ، ولا يظهر الإختلاف إلا عندما تطرح قضية التغيير السياسي الإجتماعي الشامل ..هناك جوانب في الأزمة بضرورة الخطاب تتعلق بالماركسية ، كمنهج تحليلي ، وفي ذلك هي تتملك أدوات ليست في أي فكر آخر (وليس في ذلك ايضا إدعاء تفرد وفوقية) لكنه جزء أصيل من البنى الداخلية للخطاب العلمي ، والعطب الذي يصيبه هو بالتألي علاقة جدلية: بين النظرية والتجربة ، الأطروحات والتطبيق الخلاق ، والحزب كعقل جمعي للشيوعيين السودانيين متى ما أصابه العطب فإنه لا يقتصر على الجدران الداخلية بل يتمدد أثره حتى يصل إلى بنية الخطاب ذاته فيأتي مهترئا ، بائسا ، فاقدا لملحه الخاص ، ويفقد أهم ما فيه : علميته وتميزه النظري عن باقي الأطروحات . يجد الماركسيون أنفسهم في مأزق نظري حين يجابهون بأطروحات علمية أخرى خرجت من كنف التحليل العلمي ، أهمها اطروحات " التحليل الثقافي" فيما يتعلق بعلاقات الهامش والمركز ، فيتركز الخطاب المناقض هنا ، لا في المضي قدما في مراجعة القراءات التحليلية في العلاقة المادية الضرورية بين الأزمة وعلاقات الإنتاج ، علاقة جدلية ، تفكك أو تماسك أحد طرفيها يؤثر على الأخرى ، فهجرة قيادات من الطائفية إلى السلطة ليست هجرة جوفاء غير خاضعة للتفسير أو تقرأ في إطار"المكايدات" البحتة ..بل هي من صميم هذه العلاقة ، في تلاقي نقائض السياسة على طاولة المصالح ، التي هي أساسا التمظهر الأساس للوعي الطبقي القائم على البنية الإجتماعية للبورجوازية في السودان والتي وجدت في وقوفها القلق اللا مستقر على خط النار وجبهة الخلاف هزيمة لمشروعها الكبير ، وتغييبا لوجودها الرأسمالي في عملية الإنتاج ، ومتى ما فقدت الطبقة الوعي بوجودها تلاشت أو " تماهت" في مصالح طبقية أخرى ، سرعان ما تبدأ التناقضات بالظهور فيعاد تشكل وعيها مجددا ، ولكن بشكل مختلف . فمثلا كانت لبنة قيام حركة العدل والمساواة في غرب السودان ، قائمة على إرهاصات المفاصلة السياسية بين أنصار السلطة وأنصار الترابي/ الحركة الإسلامية بمفهومها النظري ، وكان د.خليل إبراهيم أحد أركان النظام خصوصا على الجبهة العسكرية الجهادية..ولأن المصالح في الأساس كانت مزيفة بالإنتماء لحركة سياسية ذات خطاب إقصائي البنية ، ذو عمى فكري تجاه قضايا الهامش/الآخر (ترتبط قضية الهامش جذريا وبينويا بطرح الآخر في الخطاب والممارسة ) ثم بتهشمها كان التحول ( لكن وفق مصلحة متماهية أخرى) في إطار إستمراره هو الذاتي في القبول بالطرح الإسلامي دون إهمال جميع المؤثرات الاصيلة ذات الصلة بأزمة دارفور بشكلها الموضوعي التاريخي / الإجتماعي.
وللنظر إلى موقع الماركسية في الفكر المسيطر ، بتطلب هذا نظرة إلى الماركسية ذاتها ، وما علق بها من بداهات ومسلمات في سيرورتها التاريخية ، وكسر البداهات هنا يرتبط ، بتحديد نظرتنا للماركسية : هل هي نظرية إجتماعية مرتبطة بطبقة معينة ، أم هي علم لا تنحصر قراءاته في إطار الطبقة المعينة فحسب ؟ المسألة ليست تمدد أو تقلص الماركسية ، فالماركسية ليست كيانا ماديا ، لكن كما يقول ماركس : الأفكار تصبح قوة مادية عندما تتملكها الجماهير ، وبالتالي التقلص والتمدد مربوط بالوعي الطبقي ، كأساس ينهض عليه العقل الجمعي للشيوعيين تجاه دراسة الواقع وتحليله وهم في ذلك ينال بعضهم إضطراب :في أين ييممون شطرهم ؟ أ نحو الماركسية ، أم نحو الواقع ؟وهم بذلك يطرحون ثنائية مفترضة ويتمادون في سوء الظن إلى طرحها كثنائية لا تتلاقى ولا تتقابل ،أي كأن النظر للماركسية ترف يمنعنا من النظر إلى الواقع ، فهم ينظرون إلى التجريد إلى الماركسية كموضوع مستقل عن كل محددات الواقع وتفاعله مع الصراع الإجتماعي ، إنهم لا يقرأون المعرفة في حقلها البشري ، بل يضربون أسوار الأكاديمية عليها وهذا هو الترف الحقيقي ، المناقض لخطاب الجماهير الشعبية كما يسمي غرامشي (ودور المثقف في ذلك سنتناوله في جانب آخر) ، ولا يمكن كذلك إذا كنا ماركسيين أن ننظر إلى الواقع دون الماركسية كأداة تحليل إجتماعي.. فماهي الأرض التي يقف عليها الماركسي في تحليله؟ أسئلة كثيرة لا نملك الإجابة الشافية عنها كلها ، ولكن لنقل في صدد ذلك أمرا ما: والماركسية إذا تعاملنا معها بالمعرفي فيها وتقاطعاته بالتاريخي ، لا بد تتشكل فيها عدد من الوثوقيات ، فكيف يمكن تجاوز هذه الوثوقيات ؟ بتجاوز الماركسية ككل ، هذا حل مستسهل ممن يودون حرق المراحل والقفز بالزانة فوق عملية التفكير ، وهم بذلك يمارسون أفحش رذائل التفكير ، ضيق الأفق..فكيف إذن يكون يكون المسار نحو التقدم ، يقول أدونيس مقتبسا عن " كانت" : (( ان العصفور الذي يضرب الهواء بجناحيه لكي يطير يتصور أنه لو لم يكن هناك هواء لكان طيرانه أسهل ، والحقيقة أنه لو لم يكن هناك هواء لما استطاع أن يطير )) وقد علق على ذلك محمود أمين العالم بقوله أنه "لا سبيل إلى التقدم والإبداع في فراغ..ولا سبيل إلى النقدم وإلى القطيعة الجدلية الحقيقية إلا من خلال الذاكرة التراثية . فلكي نطير أبعد من الهواء ، ولكي نتجاوزه ، لا نستطيع لك إلا من خلال الهواء وبفضل الهواء وعلى الرغم من الهواء" وبذلك لا يمكن معالجة الأزمة في موقع الماركسية ، من حيث هي ، فكر ثوري إلا من خلال تاريخانيتها ، من خلال حقله الأيدلوجي المخصوص ، في الإطار الذي ندرس فيه الصراع الإجتماعي في بلادنا ، لا بالتجاوز الأعمى الإستهلاكي على غرار خذه أو أرفضه Take it or leave it..فنحن لا نخضع الماركسية أو أي فكر بشري آخر لسرير بروكروست الأسطوري . لنا في هذه النقطة أن نتحدث أيضا عن بداهة واجبة الهدم في تناولنا للفكر الماركسي وأظن أن كثيرين يساقون إليها سوقا ، بقدر من الإرتباك المعرفي والأيدلوجي وفي ذلك يكون افتراضنا قائما على "حسن النوايا " وهي تميمة " تجديد الماركسية " ، وقد كان هناك نقاش كثير كنت طرفا فيه سواء على أرض الواقع ، أو من خلال الإسفير ، لكن كان هناك سؤال محوري تكرر في كل النقاشات بنمط واحد: ماذا نريد أن نجدد؟ وهذا السؤال بقدر ما هو مشروع فهو مفخخ : مفخخ بالتابو ، بالألغام المزروعة في حقل التفكير البشري ، من المغامرين والإستسهاليين ، فهم يريدون التجديد المفضي إلى الإلغاء والحزب الجديد والنظرية الثورية الجديدة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فهناك الألغام التي يزرعها التراثيون ، الذين توقفوا منذ فترة عن التفكير الخلاق ، فهم يفكرون نعم كنشاط ذهني ، لكن وفق سقوفات نظرية معينة ، ولا يستطتيعون الخروج عن القرطميس إياه لأنهم ومن خلال الممارسة الذهنية والعملية قد وضعوا خطوطا ليست للتجاوز وهم بذلك يتساوون من حيث ثنائية التفكير والتكفير= الإقصاء مع كافة الجماعات السلفية والمتطرفة .
ويضعف في السودان المنهج النقدي ، خصوصا عند قراءتنا التاريخ ، فمنهجنا خصوصا لتقاطعاتها/استلابها تجاه منظومة الثقاقة الاسلامية العربية - هي (( قاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة ، بين القوانين الداخلية لعملية الانجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي..)) ، ومن ينحون تجاه حمل لواء تجديد الماركسية من باب طرح نظرية ثورية جديدة هم لا يتصدون في واقع الأمر للقوانين الداخلية التي تطرح وجود أزمة في الماركسية ، بل هناك أمر أكثر أهمية ، في ما يتعلق بتحديد الأزمة: هل هي في الماركسية في بينتها وخطابها ، أم هي أزمة الماركسية ككل ؟ وبالتالي يتطلب الأمر تحولا في النموذج ؟ إن تطور الفكر الإنساني وإعتناقه منذ فترة طويلة الحرية ، والعقلانية وحدة جدلية لنمو تطور العقل في مواجهة التيارات اللا عقلانية لم يعد قابلا لمساحة كبيرة من الوثوقيات والأسبقيات التي تجعل العالم الموضوعي بداهات متكررة ، وظواهر بلا باطن ، وهي رذيلة ضيق الأفق ذاتها والتي تمارس وفق الأيدلوجيا البورجوازية: أيدلوجيا الذات والتي تنحو إلى تفسير التاريخ كحوادث فردية تتعلق بذوات وليس جماعات ، وتخلص إلى النتائج بلا قراءة الأسباب . إن الأزمة في رأيي هي أزمة " في الماركسية" ، جزء من أزمة العقل ، أي التفكير العقلاني في السودان ، فالماركسية لم تنمو في السودان كما أسلفنا مقطوعة نسب ، بل كان هناك ظروف موضوعية لنموها ، لكن هذا النمو كان مشروطا ومسقوفا ، محدودا بحدود إمكانيات تطور العقل الإستراتيجي ، لحساب الفكر"اليومي" التكتيكي ، وتحول أفق الماركسية إلى برنامج سياسي وسط جماهير متوسطة الحال والثقافة ، وقضايا لها ضغطها الآني ، ولا نقرأ في التراث الماركسي - وفق نظر هؤلاء -إلا كل ما يستحق القطيعة دون طرح نظرة شاملة لقراءة الأزمة في شكلها الأشمل " إن إفتقاد هذه النظرة الشمولية يقف حائلا دون تلمس حركة التاريخ . كل النظريات خرجت من رؤية شمولية . ولعل أسطع مثال نظرية كروية الأرض . فلولا رؤية الأرض في إطار حركتها الشاملة مع الكواكب الأخرى لبقيت شيئا مسطحا ثابتا لا حراك فيه ، تشرق عليها الشمس وتغيب عنها." إن طرح وجود أزمة تستوجب الحل هكذا قول يلقى على عواهنه ، إذ أنه لا ينفذ إلى القول طارحا الأمر كمشكلة ، يل يطرحه ضمنا كحل ، على غرار الحل في " الحل" ،ولا يتم قراءة هذا التراث واجب التنقيح في ضوء تاريخيته أي علاقته بالبنية الإجتماعية السابقة التي أنتجته ، أو الظروف التاريخية التي أنتجت بدورها تلك البنية ، ومن الناحية المقابلة قد يشترك التراثيون في نقض مثل هذه الإتجاهات ، لكن في نقضهم هذا يسلكون منحى مرتبكا واجب النقد : فكرة الماركسي الحق ، وهم بذلك يصفعون التاريخ صفعة كبرى ، فكم شهدنا وقرأنا معاركا اصطف فيه الماركسيون على ضفتين متقابلتين ليس في صراع فكري فحسب ، بل بصراع جسدي وصل حد التصفية والإعتقال والنفي ، بين بليخانوف ولينين1917 ،وكاوتسكي ولوكسمبورج 1919 ، والشيوعيون والحزب التوحيدي الماركسي في برشلونة 1936 وغيرها من الأحداث ..وإن كان من طبيعة الفكر الثوري "الحسم" ففي الفكر البشري وفي تطوره التاريخي صوب العقلانية لا مجال للحدود الفاصلة الحادة : لا مجال للمطلق والثبات . وقد تساءل المفكر المجري جورج لوكاش عن هذه " الماركسية الأصيلة" وهو يقول :
" إن الماركسية الأصيلة لا تعني تسليما أعمى بنتائج بحث ماركس ولا تعني الإيمان بنظرية أو بأخرى ولا تأويل كتاب مقدس ، إن الأصالة نسبة للماركسية ترجع على نقيض ذلك المنهج بشكل حصري " .
لا يمكن معالجة الأزمات معزولة بعضها عن بعضها ولا عن طريق منهج تناول أحادي حسب ترتيبات وتقديرات ذاتية ، لا ننظر إلى أزمة الخطاب الثوري وموقع الماركسية فيه ، بمعزل عن الأزمة الوطنية الشاملة ، والتي تطرح خطابها المازوم في مواجهة خطاب تصدره الأزمة ، يتبلور كل يوم ويتطور ، لكنه عاجز أن يطرح خطابه بشكل متماسك لإفتقاده الخطاب العلمي والثوري في بنيته الداخلية .. ومن ثم يضحي الحديث واجبا عن " تأمل القامات" المعرفية استقامة وانحناء ، وهي ليست دعوة بلاغية كدعوات التجديد ، التي لا تطرح ماذا تود أن تجدد وإلى ماذا تود أن تخلص..بل تعني النظر إلى ماركسية الشيوعيين السودانيين في حقلهم المخصوص ، قراءة تاريخية ناقدة تهزم الهتافيات والوثوقيات ، وتنأى عن الطرق الإستهلاكية البورجوازية البنية للحلول
وهو من صميم مهام النقض للفكر المناضل .لنقرأ مهدي عامل على ضوء هذه الأطروحة : " فالنقض هذا هو عملية استخراج الواقع من ظاهر يحجبه . ولا بد في هذه العملية من إنتاج الأدوات النظرية الضرورية لها ، والتي هي منظومة المفاهيم العلمية . هذا ما سيقوم به ابن خلدون في "مقدمته" . ثمة ارتباط ضروري ، إذن، بين تحديد الواقع التاريخي وتحديد العلم التاريخي بمعنى أن بنية هذا الواقع ، الذي هو موضوع معرفة ، هي التي تحدد شكل مقاربته" هكذا لنقرأ الأحداث ، فإذا كنا توقفنا في المقال السابق عند موقف الشيوعيين تجاه قضية الديمقراطية فلا يمكن قراءة أطروحات " الديمقراطية الجديدة" أو " الشعبية" مثلا من حيث ظاهرها أزمة ، في ذاتها ، وللماركسية ككل وبالتالي خلوصا لحلها ، لنلغي الماركسية .. بل بقراءتها ضمن الأسس الإجتماعية والتاريخية التي نهضت عليها هذه الأطروحة ، هكذا يكون المنهج العلمي ولو لم يكن ماركسيا ، وليس بالضرورة بل هو من الخطأ ، أن نضع النتيجة مسبقا بأن القراءة التاريخية للماركسية كفكر ثوري في السودان ، تعني الإلغاء أو التمسك ،بالماركسية ، كدليل أو مرشد حسب صيغة البرنامج الحالي للحزب الشيوعي السوداني (وربما يكون تحديد هذه الصيغة مربوطا بشكل أو بآخر بالتكتيكي وليس الإستراتيجي) فلتنتصر الضرورة العلمية على كل البداهات وبغض النظر عن مخرجات التفكير الناقد ، ما دام العلم خفاق الراية ..هذه هي مهمة النقض في مواجهة الفكر المسيطر . تضع مهام الفكر المناضل في بلورة أطروحات ماركسية حول الأزمة الوطنية مؤثرات عدد من البداهات داخل البنية الفكرية للماركسية ذاتها ، ومتوهمة من قبل التراثيين أو الإستسهاليين في سلوك الدروب الوعرة ، وكلا الطرفين في تعميماته لا ينطلق من مناهج استقراء الحقل السوداني
3 . دور المثقفين
من هو المثقف؟ إن غرامشي لا ينطلق من تعريف المثقف، من التصنيفات والمراتب التي تحددها الرؤيه الأكاديمية الصرفه، والسوسيولوجيه للمثقفين، والتي تعتمد على معايير التخصص الدقيق والتقنيه في التعليم، والمهنه ووظيفتها التكنوقراطية والبيروقراطية، ومستوى المعيشة، ونمط الاستهلاك، وأسلوب الحياة، وعلى معايير سياسية، ونظرة ايديولوجية وثقافية، في إطار تعدد مستويات الانتساب، التي نجدها عند المثقفين، في المجالات المتعددة الاقتصادية والبحث العلمي والتقني، والتعليم والسياسية، والايديولوجيا والثقافة، ضمن إطار التقسيم الاجتماعي السائد. غير أن غرامشي في تحديده لمفهوم المثقف نجده يتخطى جدلياً وتاريخياً المفهوم، الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر الأوروبي، والذي يتسم بالتمييز بين العمل الفكري والذهني، والعمل اليدوي والساعد، بتوجيه "ضربه قاضيه للأفكار المسبقه حول المثقفين بوصفهم طبقة وراثية مغلقه"، حين قال أن كل البشر مثقفون، مستدركاً في الوقت عينه، "ولكن ليس لكل البشر وظيفة المثقفين في المجتمع". والحال هذه، فهو يعتبر كل إنسان يمارس مهنة، وحتى خارج مجال مهنته، إنسان "يمارس نوعاً ما من النشاط الثقافي، أي أنه "فيلسوف" فنان، إنسان متذوق، يشارك في تصوره عن العالم، لديه خط واع لمسلك أخلاقي، ومن ثم فإنه يسهم في دعم أو تعديل تصور ما عن العالم، أي يثير سبلاً جديدة في التفكير" والمثقفين العضويين هم وليدو الطبقات الجديدة ، بينما يظل هناك " مثقفون تقليديون" موجودون تاريخيا بإستمرار ، في كافة مناحي الإنتاج إلا أن هيمنة الطبقات الجديدة تنجح في احتوائهم في إطارها.
وفي السودان ، ظلت سهام من الإتهام للمثقفين بأنهم على الدوام نخبويون وهي نظرة تعميمية أخرى مرتبطة بشدة بالفكر المسيطر الذي حدد مبكرا وظيفة المثقفين داخل إطاره وهيمنته ، وعمل على نشر أفكاره وتمددها لشرعنة وجوده ، لكن ليس بشكل مطلق فقد ساهم في هذا التمدد / الهيمنة القوة العسكرية والأمنية مما جعل دور المثقف ثانويا من جانب السلطة ، وبالضفة الأخرى المقابلة ، كان انزلاق القوى المعارضة بشكلها العام إلى السياسي دون الإجتماعي ، مشابها في ثانوية دور المثقف في طرح الخطاب المعارض المعبر عن المصالح الإجتماعية المناقضة . لكن إذا أخذنا باطروحتنا حول تقاربات التيارات السياسية ودورانها حول فلك الفكر المسيطر وضرورة تمايزها عن الفكر المناضل الثوري الذي ينعقد فيه لواء السياسي بالإجتماعي ، فإن دور المثقف في هذا الصدد ، نظريا أكثر هيمنة وتمددا ، إذ أنه يتخلق من أحشاء هذه الطبقات الكادحة ، ويطرح خطابه ثوريا لا نائحا فقط عن الآم ومعاناة طبقته ، بل ثاقب النظر في طرح البديل وخلق النموذج المعرفي المقابل : الديمقراطية ضد الشمولية ، الإشتراكية ضد الرأسمالية ، والإنسانية ضد الوحشية تحت شعار الحرية العريض . والمثقف المنتمي حزبيا ، يعاني مرتين في إعطاء الحزب شعورا بوجوده وضرورته ، بالإضافة إلى مهامه الشعبية الأخرى فهم قلقون دوما من الثبات والجمود أو المواعين الضيقة فنجدهم يتعارضون كثيرا حتى مع خطوطهم الحزبية ومواقف طبقتهم إذ هم من حيث " عضويتهم" منتمين ومن حيث أنه مثقفون " متقدمين" فينشأ التعارض في مواجهة المواقف الجامدة أو الثابتة . "كما أن الحزب- المثقف الجمعي، والمثقف العضوي لا يتمكنان من تملك نظريتهما الثورية، إلا عبر انتهاج سياسية ثورية قوامها تأمين العلاقة بين النظرية والممارسة، لا في النظرية فقط، وإنما في الممارسة أيضاً، عبر وحدة الفكر والتعاضد الثقافي العضوية، وهذا يتطلب اقامة العلاقة العضوية بين المثقفين العضويين والجماهير الشعبية، بنفس قوة علاقة الوحدة المطلوب تحقيقها بين النظرية والممارسة. وهذه الوحدة لا تكون ممكنة، بل إنها تصبح مشروطة، بالدور الذي يلعبه المثقفون العضويون، وبقدرتهم على أن يجعلوا أنفسهم مفكرين عضويين لتلك الجماهير الشعبية، بالإضافة إلى قدرتهم على تنمية وتطوير وتوحيد المسائل، التي تطرحها الجماهير الشعبية في خضم نشاطها الثوري، عبر خلق كتلة ثقافية واجتماعية ثورية. وهنا تكمن مهمة المثقفين العضويين والحزب، في تحقيق العلاقة الجدلية مع الجماهير الشعبية، وفي مد الجسور بين "الفلسفة العليا" و"الفلسفة السفلى"، حيث أن الماركسية باعتبارها فلسفة عالية، لا يمكن لها أن تظل فلسفة متخصصة موجهة إلى زمر محدودة من أهل الفكر والثقافة، بل إن المطلوب من الفلسفة الماركسية، هو اعداد وتنمية فكر وثقافة أرفع وأعلى من فلسفة الجماهير السفلى البدائية، أي فلسفة الحس العام، لكي تخلق ثقافة جديدة نقدية متماسكة تماسكاً عملياً، أي فلسفة جماهيرية جديدة، أو ماركسية شعبية واقعية وتاريخية تكون في علاقة عضوية بالجماهير الشعبية، وتستهدف النهوض بها نحو تصور أعلى للعالم والحياة.‏ لذا تكون التهمة الثابتة الدامغة أن المثقفين نخبويين ، ومنعزلين عن مجتمعهم ، وفي هذا القول جزء من مغالطة ، فليس من مطالبة لمثقف أن يكون معبرا عن مجتمعه ككل ، لإختلاف المصالح الطبقية والإجتماعية ، والحزب هو جزء من المجتمع ببيئته ومصالحه ، ويظل الصراع الفكري داخله أمرأ طبيعيا ، مهما تغلف في أطروحاته بالسياسي أو التنظيمي على حد سواء ، لذا تظل مشاكل المثقف المناضل مرتبطة بالصراع الإجتماعي العام ، وبالصراع الخاص داخل أروقة المثقف الجمعي-الحزب . ومثلما هو حالنا في تتبعنا لمنهجية التفكير لدى مهدي عامل فلا ننزع من نظرنا لدور المثقف - كاي نقطة أخرى - إنعكاسات الصراع الطبقي على المستويات الأخرى ، فهو يقول :" ن نزع الطابع السياسي عن الصراع الطبقي هو الطابع السياسي الخاص بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة. حين يظهر الصراع الطبقي في شكله الرئيسي كصراع آيديولوجي أو اقتصادي، أي حين يكون المظهر الرئيسي في التناقض السياسي مظهراً غير سياسي، يمكننا القول إن الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة في تطور صراع الطبقات الاجتماعية أي القوة السياسية التي تدفع البنية الاجتماعية إلى البقاء في تطورها داخل الإطار البنيوي الثابت لعلاقات الإنتاج القائمة " ومستويات الصراع هذه قد تظهر منفصلة ومتباعدة فهذا من طبيعة الحركة" الإنتباذية" للصراع الطبقي ، وبالتالي النظر إلى دور المثقف ومن ثم أزمته يتم عبر النظرة الشاملة للصراع الطبقي ، وفي ذات الوقت ننقد خطاب المثقف غير الباصر لمثل هكذا إنعكاسات ..وينبني خطاب المثقف في إطار نقدنا له في حقل الصراع الطبقي بالسودان إلى كارثة تتمثل في تمركزه حول الصراع السياسي ، من ذاته أو من خلال حزبه فهو لا يطرح الصراع الطبقي نقطة أساسية في تفكيره ويحيل تفكيره كما هو الحال في المدرسة البورجوازية في التاريخ إلى الذوات / الأفراد وليس المجتمع ..وهذا بحق حجر الزاوية في نقدنا وتبياننا لأزمة الخطاب بالسودان . ليس هناك مثال في مواجهة من يدعون تناقض المثقف والحزب ، من الشهيد مهدي عامل نفسه فهو كما وصفه أمين العالم في بحثه " نظرية الثورة عند مهدي عامل وأدواتها المعرفية" أنه كان فكر مهدي عامل، لا مجرد ابداع نظري ثوري، بل كان كذلك ممارسة حية فاعلة، في التزامه بحزبه الثوري، الحزب الشيوعي اللبناني، وفي اندماجه بأوسع الجماهير توعية وشحذاً لنضالها الوطني والاجتماعي..وإغتياله لم يكن لذاته إنما كان محاولة لقتل فكر ملتزم وإلتزام فكري ، يتخلص كل هذا في مقولته ذات الدلالات المنيرة " أن يكون المثقف ثوريا أو لا يكون " فلا يتسارع غلى الذهن أن وسم الثورية حكر على حزب أو تنظيم ، فالمثقف اينما كان وفي أزمنة تتعدد كان فاعلا ،سلبا أو إيجابا ، يرفض أو يبرر ، يناقض أو يداهن ، يرتزق أو يزهد ، ففي كل حركاته كانت له فاعلية في شرعنة الوجود أو الهيمنة لفكر مناضل أو لفكر رجعي ، إلا أن لا ثوريته في كل ، تسلب منه وظيفته " الإجتماعية" ويتحول لحارق بخور آخر في دواوين السلطان .
وإضطهاد السلطة للمثقف راجع إلى ثوريته : لأنه يهزمها ويعريها من أسس المنطقية ، ومتى ما فقد النظام أو البنية أي أسس لشرعنة وجودها ، كان لها مع الجماهير وقفة ساخنة تنذر بهلاكها وبفنائها ، ومتى ما غابت عن المثقف ثوريته : غاب الإضطهاد .لم يكن مستغربا ما قامت به السلطة بالسودان منذ إنقلابها في محاربة الفكر والثقافة و الإبداع ، ليس مستبعدا ألا يكون هذا محور نقض قوى اليمين ، إلا أن الطابع العام للقوى الرجعية بالسودان لا ترغب بالطلاق الكاثوليكي مع المثقف فهي تحتاجه وفق حوجتها إلى الهيمنة وشرعنتها ، أما الإسلامويون فأن أكثر ما يفتقدونه الآن هو دور مماثل للمثقفين ، ورغم ذلك ونجد بعض"المثقفين" في مجالات مختلفة خصوصا ذات الصلة بالإبداع في هذه الظروف الحرجة يتجه ونزرافاتا ووحدانا لها : في التطبيل الصريح حينا ، أو بالصمت المخزي في أحيان كثيرة ، وما أكثر الملاحظات التي أقامها د.الباقر العفيف في كتابه"وجوه خلف الحرب" حول مثقفين بعينهم غابوا عن مسرح النقد للسلطة فيما يتعلق بالحرب في غرب السودان وخطابها الإقصائي إلا أشد دلالة على تماهي دور مثقفين مع ايدلوجيا السلطة بوعي أو بغير وعي
والتحام الفكر بالثورة ، أي الحركة الثورية بالنظرية الثورية يطرد من سوحه أي نزق للنخبوية والصفوية ، وهي آفة لاحقت مثقفي اليسار ، وتعممت ، حتى صار الكثير منهم يعتبرونها سمة ومميزا في التحصن بعاجيات اللغة ، أو مظهرية الشكل ، فهما بلغ تراكم قراءاتهم ومعارفهم ، فهي جامدة لا تتفاعل إلا في أضيق محيط ، وهم كنبات الظل لا يتسلقون الجدار في الهجير ولا يكشفون ظهرهم لسياط النقد ، فهم أعداء الجماهير ، وإن طرحوا خطابهم عدوا للسلطة فالأخيرة لا تكترث لهم .دور المثقفين الثوريين في مواجهة السلطة واضح :" بين منطق الثورة ومنطق هذه القيادة غير الثورية تناقضٌ يشل الحركة الثورية ويضعها في أزمة تنعكس في ممارسات سلطوية قمعية ضد قوى الثورة وجماهيرها، وبالتحديد، ضد الطبقة العاملة التي هي، بحزبها الطليعي ونهجها الوطني الصحيح، النقيض الثوري. إنّ الحل الجذري لتلك التناقضات بات يفرض، بضرورة منطقه، ضرورة تغيير تلك القيادة الطبقية لسيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية، واستنهاض حركة ثورية هي، في اتساقها مع مهماتها، من نوع جديد، ولها وحدها القيادة. ومن أولى خصائصها، أن تسعى فيها الطبقة الهيمنية النقيض إلى أن يكون نهجها الطبقي نفسه، في سعيها إلى السلطة، نهج الحركة بكاملها. لا بالقمع، بالممارسة الديمقراطية الثورية."
لئن كان القمع أو الفئوية، في لغة أخرى، أو الاستئثار بالسلطة، أو الانفراد بالقيادة هو الشكل الطبقي الذي يحكم علاقة القوى غير الهيمنية، في وجودها في موقع الهيمنة الطبقية، بأطراف التحالف الطبقي الثوري، وكان، بالتالي ضروريا بضرورة التناقض في أن تحتل تلك القوى هذا الموقع، فإن الديمقراطية، كناظم للعلاقة بين أطراف التحالف إياه، وحق للجميع في الاختلاف، واحترامٍ لهذا الحق وممارسته، أقول إن الديمقراطية هذه هي، بالعكس، الشكل الطبيعي، أعني الضروري، الذي يحكم علاقة الطبقية. ذلك أن علاقة الاتّساق والتلاؤم بينها وبين موقعها هذا هي، بالضبط، الأساس المادي لضرورة الديمقراطية في علاقة القوى الثورية بعضها ببعض. وهي ضمانة تحقق هذه الضرورة." . ومع ملاحظاتنا حول مفاهيم الطبقة العاملة أو الحزب الطليعي ، التي قد نفرد لها مساحة أخرى للنقاش ، إلا أن قراءتنا للسياق التاريخي هنا مهمة في تبيان ملامح مهام المثقفين الثوريين في ظل الخطاب المأزوم والمسيطر .

4 .خلاصة : أفق الصراع :
إلى أين يفضي بنا النقض؟ كما قلنا ، فإن الحرب أبدا ليس لها جبهة واحدة: وهي كما قال مهدي عامل قد تكون أشد وطأة على جبهة الأفكار..إن افكار مهدي عامل وحدها تتفرد ، ليست في تبني أنموذج معرفي ، فمهدي عامل يسخر في عنفوان المثقف الثوري من كل مكرور ومستهلك ، مبتذل ، فالمطلع بدراية لما كتب الشهيد يدرك أنه لم يتوقف عن التفكير في محطة ، لكنه انطلق في الإطار العام إلى " أرقى ما توصل إليه العقل الماركسي" في تلك الظروف التاريخية ألا وهي أنطولوجية ألتوسير : انطلق من هذا الفهم إلى أن يعي أبعاد الصراع الذي يجري في بلاده هادما بداهة طائفيته ، ومدركا لأغوار التحولات الطبقية للبنية الإجتماعية التي أفرزت هذا الصراع كمنعكس للصراع الطبقي . وفي ذلك تتجلى ضرورة الماركسية من حيث علميتها ، ومتى ما فقدت هذا الخطاب فقدت ضرورتها وانتفى دور الشيوعيون وحزبهم - العقل الجمعي- التاريخي في حقل الصراع الطبقي . والنقض عند مهدي ليس عملية ميكانيكية أو تسير بإتجاه واحد ، بل هي عملية جدلية تستصحب في حركتها وحدة الفكر والممارسة ، وتراعي ما يقرز من إنتباذيات حركة الصراع الطبقي في طرح مستويات أخرى للصراع( إثنني ، طائفي ، ديني،..) ، في توخي عدم الإنزلاق لمواقع الفكر الخصم / المسيطر / المهيمن ، فحتى تبني مهدي لأنطولوجيا ألتوسير لم يكن في تبني النموذج المعرفي ، بل في إطاره النقدي ، وهو بذلك يطرح شعارا مهما يستصحبه كل التقدميون في فضاءات نضالهم :ألا ينفصموا عن الصراع الإجتماعي ، مهما جرفتهم السياسة وفكرها اليومي . وهو بالتالي يطالب الماركسيين أن يكونوا علميين ، وليسوا مجرد مغامرين ..ويلتزم أشد الإلتزام بمنهجه : هو الفعل الطبقي، أو الممارسة الطبقية. فهو الرابط والمحرك. وفي العصر الحديث، فإن محور الوجود الاجتماعي هو الممارسة الطبقية البرجوازية والممارسة الطبقية العمالية، برغم تعدد الشرائح والزمر والطبقات، وذلك بحكم علائق الإنتاج الرأسمالية السائدة. ويسود هذا المحور في شتى بقاع المعمورة، حتى في المجتمعات الطرفية، وذلك بفعل الإمبريالية، التي عممت علائق الإنتاج الرأسمالية. وبهذا التركيز على الفعل الطبقي والتأكيد على محوريته يتغلب مهدي على ما يشوب النظام الأنطولوجي الألتوسيري من إغتراب. إذ فيما يعطي ألتوسير الأولوية للبنية والسيرورة الخالية من الذات ويكسبهما فاعلية خاصة بهما، فإن مصدر كل فاعلية لدى مهدي هو الفعل الطبقي والصراع الطبقي، أي البراكسيس الاجتماعي. ولا ينظر مهدي إلى مستويات الوجود الاجتماعي (السياسي، والنظري، والآيديولوجي، والاقتصادي) بمعزل عن حركة الصراع الطبقي، وإنما يعتبر هذه المستويات أبعاداً للفعل الطبقي..هنا النقض يأتي ، تأملا للقامات المعرفية ، ومجابهة جسورة لفكر مسيطر ، في تفكيكه ، بتوضيع تأزيمه بقراءته وفق شروط التاريخ وفق مستويات الصراع الطبقي بلا تزلف أو تكلف فهو يدعوك في قراءته لليقظة الدائمة والإنتباه إلى ما يخطه مثقف يتحد فكره بممارسته ..هذه قراءة لا تدعي أنها سبرت أغوار هذا المنهج الوقاد ، وكذلك لا تلم أو تدعي الشمول فهي تناولت ما يلينا نحن في حقلنا المخصوص ، وليست موقفا ناقدا من حيث صياغتها لمنهج فكري
ليست قراءتنا لمهدي عامل قراءة ذات ، وليست مجرد اقتباسات نملأ بها قراغات القراءة ، إنما هي تحليل لحقل معين ، ارتأينا الغياب المستفز فيه يدعونا ، أن نساهم في ان نعيد تأمل أفكار ثورية جابهت نقيضها جسدا وفكرا : قتلت الرصاصة الجسد وبقي الفكر مناضلا ضد الوجود المكاني المحدود ، فإن كان سمة الفكر البورجوازي النظر إلى الذات وتغييب الجوهر الطبقي الإجتماعي ، فنحن ننظر إلى مهدي وفق حقوله ، ونستدعيه وفق حقولنا بلا استلاب . ونقرأ فكرا مسيطرا طرحنا هدم بداهاته سبيلا لنقضه : إن الصراع في السودان لم ولن يكن صراعا مع الدين أو أي معتقد آخر ، وليس صراعا قبليا أو متعلقا بإشكالات الهوية : إنه صراع طبقي ، لا نداهن في طرحنا هذا مرضاة أي تيار يدعي الحداثة أو يتمسح مسوح التجديد ويرى في مفاهيم الطبقة وصراعاتها ضربا من الجمود ، إنما نستخلص قراءتنا هذه وفق مناهج المدرسة التاريخية بالسودان هذا يدفعنا إلى طرح موقف تجاه السلطة متميز نظريا : فالإنقاذ ليست مغامرة عسكرية ، وليست مجرد حزب شمولي ، أو تيار إسلام سياسي ضل طريقه للسلطة ، فلا مكان للصدفة إلا في وجودها كضرورة ، والضرورة هذه في إطار تنظيرنا ، ترتبط ببناء إجتماعي معين في حقل الصراع الطبقي . التكرار هنا ليس عيبا لغويا بل للتوكيد والدلالة على ما أود إستخلاصه من كم النقاش أعلاه في معالجة أحد أزمات الخطاب ألأ وهو السياسي . يقول مهدي عامل في كتابه “في الدولة الطائفية”: “نفهم هذه الضرورة، في وجه منها، إذا علمنا أن السياسي هو هو الصراع الطبقي، وأنه ليس الدولة، وليس الحقوقي، ولا المؤسسي، إلا من وجهة نظر الطبقة البرجوازية المسيطرة" . فجهاز الدولة ليس إلا مفرزا " إنتباذيا" لحركة الصراع الطبقي في بلادنا الصراع المستمر والذي تخوضه قوى اليمين تصالح في ذلك من تصالح وتوالي من توالي ، وبالتالي من ماركسيتنا لا نعارض جهاز الدولة من حيث هو ، لكن من حيث ارتباطه بالبنية الإجتماعية ، فالصراع كلياني وأشمل ، وهو ما لم ننتبه إليه لن يكون خطابا لحل الأزمة ، بل سيكون خطابا مأزوما وهو يبشر بالتغيير الفوقي على مستوى جهاز الدولة ، وهو تغيير قد تقبل به قوى اليمين الذي ما زالت لا تجد تحقق مصالحها في الإطار الحالي للنظام ، وقد تتوافق معها بعض مصالح الرأسمالية العالمية لأن أي تغيير سياسي شامل يعني مَسْرَحَة قضايا تتعلق بطبيعة البنية الإجتماعية السائدة وتغييرها : تفكيك العلاقات الطبقية الحالية فيما يتعلق بقضايا الهامش وبالتالي تحطيم أي روابط قبلية ، عرقية ، أو طائفية في تلك المناطق لأن ما دفع الهامش إلى هذه العلاقات هو الإغتراب ، ومتى ما زال مصدر هذا الإغتراب بالنقض ، كان الإنتماء هو الرابط وستخلق المشاركة السياسية الفاعلة المساحة المثلى للتنمية المستقرة والمستدامة ، ومتى اختفت علاقات الإستغلال هذه تهدمت المنظومات السياسية التي قامت على هذا الأساس ، ويخلق من أحشاء هذا السقوط ،النقيض / النهضة في بناء الوطن على أساس عقد إجتماعي جديد.
وللثوريين أفق في الصراع ، يستشرفونه ، ويؤمنون عليه لكنهم لا يطرحونه خطا ناهضا على أسس نظرية تتعلق بمناهج النقد لكن خطاب التغيير السائد الآن هو خطاب " الشعب يريد إسقاط النظام" وهو بدلالاته العميقة يطرح واجبين: الإرادة الشعبية ، وإسقاط النظام . ما لم تتجمع القوى الحية ذات المصلحة في التغيير ، ويتبلور وعيها الثوري وفق خطاب التغيير وإلى اين يتجهون لن يكتمل الشطر الثاني من الهتاف ، وما لم يدرك الثوريون واجبات ما بعد إسقاط النظام ، فإن النظام سيستمر لا أبديا ، ولكن وفق شروط حقول الصراع الطبقي فقط بإختلاف اللاعبين ويدرك الجميع في أحداث مضت تضخم الأدوار الخارجية في حماية المصالح الطبقية للسلطة الحالية ، وبالتالي صعوبة المعركة.. وللحزب واجباته إن الحزب الثوري، لا يمكن أن يتخطى جدلياً وثورياً الاطار الاجتماعي والسياسي، القائم على هيمنة الطبقة السائدة، إلا إذا استوعب، وحلّل أن أزمة المجتمع هي في حقيقتها التاريخية، وضمن سياقها السياسي والتاريخي، أزمة هيمنة، في واقع متصارع.‏ هكذا يقول غرامشي . فلا سبيل إلى اكتشاف وجودنا إلا من خلال معرفة أين نقع في الأزمة ، وكذلك بذات المنهج العلمي ، أين نقع في الحل ....

المراجع: كتابات مهدي عامل :
1- في الدولة الطائفية ،
2-علمية الفكر الخلدوني ،
3-في التناقض ،
4-نقد الفكر اليومي
5- حول الثورة السودانية ، د. صدقي كبلو
6- الماركسية في خريطة الفكر السوداني
7-النزعات المادية ..(ج 1) ، حسين مروة
8- الإنتماء والإغتراب ، محمد سعيد القدال



#محمد_عثمان_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- .الَفْكرُ المُنَاضِلْ : أينَ تَقَع المَاْركِسية؟ قراءة في ال ...
- ه.ب.لافكرافت..الرعب الذي(لا إسم له)
- نص ما..!
- بين لينين وماركس:كيف تموت الأفكار وتبعث
- مواقف إستقرائية نحو دراسة للتحولات الطبقية في الدولة السودان ...


المزيد.....




- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...
- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...
- كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة القوة في اعتقال متظاهرين مؤي ...
- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - محمد عثمان محمد - قراءة سودانية للأزمة الوطنية لمساهمات المفكر الماركسي الشهيد -مهدي عامل-